صنادل إسن
رقدتُ أربعة أيامٍ كجذع شجرة في ذاك الفراش في العلية. سكَنَت العاصفة، وحلَّ الدفء، وذاب الثلج. كان الأطفال يلعبون عند أبواب البيوت ويتسامرون حول النيران ليلًا. من المؤكد أنَّ زبانية شتوم كانوا يُحاصرون كل الطرق، ويؤرِّقون حيوات عابري السبيل الأبرياء. ولكن لم يقترب أحد من الكوخ، وأخذَت الحُمى مجراها حتى زالت وأنا مستلقٍ في سلام.
كانت نوبة حادة، لكنها غادرتني في اليوم الخامس، واستلقيتُ واهنًا كهُريرة صغيرة أحدِّق إلى عوارض السقف الخشبية وكُوة السقف الصغيرة. كان مكانًا قديمًا مليئًا بشقوق تُسرِّب إليه تيارات الهواء، لكنَّ صاحبة الكوخ قد كدَّست الكثير من جلود الغزلان والبطانيات على فراشي وأبقتني دافئًا. كانت تأتي إليَّ بين الحين والآخر، وفي إحدى المرات أحضرت إليَّ مشروبًا من أعشاب مُرَّة أنعشني كثيرًا. كان كل ما استطعتُ تناوله صحنًا صغيرًا من عصيدة خفيفة القوام، وبعض الشوكولاتة المصنوعة من الألواح التي كانت في حقيبة ظهري.
استلقيتُ وغفوتُ طوال النهار سامعًا ثرثرةً خافتة بين الأطفال في الأسفل، ومع كل ساعة تمر كنت أستردُّ مزيدًا من عافيتي. فالملاريا تزول من الجسد سريعًا مثلما تُصيبه سريعًا، وتتركه دون أي آثار، وإن كانت هذه واحدة من أشد النوبات التي تعرضتُ لها في حياتي. انشغل رأسي بالتفكير وأنا مُستلق، وشرَدَت أفكاري في مسارات عجيبة. إحدى الأفكار الغريبة التي راودتني أنَّ شتوم، بكلِّ أفعاله، بدا كأنه ذكرى أُلقيَت في غرفةٍ للمهملات في عقلي ببابٍ موصَد عليها. بدا لي أنه ليس مخلوقًا من الحاضر، بل ذكرى قديمة أستطيع تأمُّلها بهدوء. فكرتُ كثيرًا في كتيبتي وهزليةِ وضعي الحالي. كنت أتحسَّن بالفعل كما ترَون؛ لأنني أصبحتُ أصف وضعي بالهزلي لا المأساوي.
لكن كان جُل تفكيري مُنصبًّا على مهمتي. كانت طوال ذاك اليوم الشنيع الذي عشتُه في الثلج تبدو مجرد هزل. وكانت الكلمات الثلاث التي كتبَها هاري بوليفانت على عجلٍ ترقصُ في رأسي رقصة جامحة مجنونة. كانت ماثلة أمامي في هذه اللحظة، لكني كنت أتأملها بهدوء وعقلانية، رغم ضآلتها.
ثم كدتُ أسقط من فوق الفراش. فقد اتَّضح لي أنَّ هذا الرمز يعني فون آينم؛ الاسم الذي سمعته في منزل جاوديان، الاسم الذي نطق به شتوم من خلف يده، الاسم الذي من المُرجح أن يكون «هيلدا» هو الجزء الأول منه. كان ذلك اكتشافًا فارقًا، أول بصيص ضوء حقيقي وجدته. كان هاري بوليفانت يعرف أنَّ اللغز يحمِل في صميمِه رجلًا أو امرأة باسم فون آينم. وكان شتوم قد تحدَّث عن تلك الشخصية نفسها باحترام، وأشار إلى أنها مُرتبطة بالمهمة التي اقترحتُ تنفيذها في إثارة الأفارقة المسلمين. إذا وجدتُ فون آينم فسأقترب كثيرًا من حل اللغز. تُرى ما الكلمة التي همس بها شتوم لجاوديان وأفزعَت ذلك الرجل الفاضل؟ كانت شيئًا على غرار «أونمانتل». إذا استطعت فقط أن أستوضحها، فسأحل اللغز.
أظن أنَّ هذا الاكتشاف قد أتم شفائي. على أيِّ حال، كنتُ في مساء اليوم الخامس — الذي كان يوافق الأربعاء ٢٩ ديسمبر — قد تعافيتُ بما يكفي لأنهض من الفراش. وعندما حل الظلام، وصار الوقت متأخرًا بما يضمن عدم قدوم زائرين، نزلت إلى الطابق السفلي واتخذت مقعدًا بجوار النار مُتدثرًا بعباءتي الخضراء.
وبينما كنتُ جالسًا مع المرأة هناك في ضوء النار، والأطفال الثلاثة ذوو الرءوس البيضاء يحدقون إليَّ بعيونٍ دائرية مفتوحة عن آخرها، ويبتسِمون عندما أنظر نحوهم؛ تحدَّثَت إليَّ. كان رَجُلها قد رحل للمشاركة في الحرب على الجبهة الشرقية، وفي آخر مرة تلقَّت خطابًا منه، كان عالقًا في مُستنقع بولندي، ومشتاقًا إلى غابات موطنه الجافة. لم تكن مهتمةً كثيرًا بالصراع الجاري. كان لها بمثابة فعلٍ إلهيٍّ، كصاعقة من السماء، أخذ منها زوجها، وقد يُرمِّلها ويُيتِّم أطفالها قريبًا. لم تكن تعرف شيئًا عن أسبابه وأغراضه، وكانت تحسب الروس أمةً ضخمة من مُتوحشين وثنيِّين لم يعتنقوا المسيحية قط، وسيلتهمون الديار الألمانية إذا لم يوقفهم الرب الكريم والجنود الألمان الشجعان. حاولتُ جاهدًا أن أعرف ما إذا كان لديها أي فكرة عمَّا يجري في الغرب، لكنها لم تكن تعرف أي شيء، باستثناء وجود مشكلة مع فرنسا. أظن أنها لم تكن تعرف دور إنجلترا في الصراع. كانت روحًا طيبة لا تحمل مرارةً تجاه أي أحد، ولا حتى الروس إذا تركوا زوجها سالمًا.
أدركتُ في تلك الليلة حماقة الحرب وجنونها. فعندما رأيت آثار الدمار الهائل الذي تعرَّضَت له بلدة إيبر، وسمعت حكاياتٍ شنيعة عمَّا فعله الألمان، كنتُ أتمنَّى أن أرى أرضهم كلها وقد تُرِكت للخراب والدمار. كنت أرى أننا لا يُمكن أن نُنهي الحرب نهاية لائقة من دون أن نُذيق هؤلاء الهون الهمجيين من نفس كأسهم. لكنَّ كوخ الحطَّاب هذا شفاني من تلك الكوابيس. أصبحتُ مؤيدًا لمعاقبة المُذنِبين والعفو عن الأبرياء. كان واجبنا أن نشكر الرب، ونُبقي أيادينا نظيفة من الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها ألمانيا بدافعٍ من جنونها. فما الفائدة التي قد تعود على قوم مسيحيين من حرق أكواخ صغيرة فقيرة كهذه، وترك جثث الأطفال على جانب الطريق؟ فالقدرة على الضحك والرحمة هما الشيئان الوحيدان اللذان يُميزان الإنسان عن الوحوش.
كان المكان فقيرًا فقرًا مُدقعًا كما قلت. كان جلد وجه المرأة مشدودًا بقوةٍ على عظامه، وكان رقيقًا شفافًا إلى حدٍّ ينمُّ عن سوء التغذية، فخَّمنتُ أنها لم تكن تحصل على الإعانة السخية التي تتحصل عليها زوجات الجنود في إنجلترا. كان يبدو أن الأطفال يحظَون بتغذيةٍ أفضل، لكن ذلك كان بتضحيةٍ من أُمِّهم. بذلت كل ما بوسعي لإدخال البهجة في نفوسهم. قصصتُ عليهم حكاياتٍ طويلة عن أفريقيا والأسود والنمور، وأحضرتُ قطعًا من الخشب ونحتُّ منها ألعابًا. وبفضل براعتي الشديدة في استخدام السكين، نحتُّ مُجسمات أنيقة جدًّا على شكلِ قردٍ وظبيٍ وخرتيت. وذهب الأطفال إلى الفراش وهم يحتضنون تلك الألعاب التي أظنُّ أنها أول ألعاب يحصلون عليها في حياتهم.
كان واضحًا لي أنني يجِب أن أرحل في أقرب وقتٍ ممكن. فكان عليَّ مواصلة مهمتي، وفوق ذلك، كنتُ سأظلم المرأة ببقائي. فقد كنت معرَّضًا في أي لحظةٍ لأن يعثروا عليَّ هنا، وحينئذٍ ستواجه المرأة متاعب بسبب إيوائي عندها. سألتُها عمَّا إذا كانت تعرف مكان نهر الدانوب، وفوجئتُ بإجابتها. قالت: «ستصل إليه في غضون ساعة سيرًا على الأقدام. الدرب عبر الغابة يمتدُّ مباشرة إلى العبَّارة.»
غادرت في صباح اليوم التالي بعد الفطور. كانت السماء تُمطر مطرًا خفيفًا، وكنت أشعر بهزال شديد. وقبل رحيلي، منحتُ مُضيفتي وأطفالها جنيهَين ذهبيَّين إنجليزيَّين لكلٍّ منهم. قلت: «هذا ذهب إنجليزي لأنني أُضطر إلى السفر وسط أعدائنا واستخدام عُملاتهم. لكنَّ الذهب قيِّم، وإذا ذهبتِ إلى أي بلدة، فسيُغيرونه لكِ. لكني أنصحك بأن تضعيه في جوربك وألَّا تستخدميه إلا إذا فشلت كل محاولاتك الأخرى للحصول على نقود. يجب أن تُحافظي على منزلك ليبقى قائمًا؛ لأنَّ السلام سيحلُّ يومًا ما، وسيعود رَجُلك من الحرب.»
ثم قبَّلتُ الأطفال وصافحت المرأة، وانطلقت مبتعدًا نحو آخر الرقعة الخالية من الأشجار. صاحوا قائلين: «إلى اللقاء»، ولكن كان من المُستبعَد أن ألقاهم مجددًا أبدًا.
كان الثلج قد تلاشى تمامًا في كل مكان، باستثناء رُقَع صغيرة في المنخفضات العميقة. وكانت الأرض كإسفنجةٍ مُشبعة بالماء، على حين كانت بعض قطرات المطر البارد تنحرِف إلى داخل عينيَّ. وبعد نصف ساعة من المشي المُتثاقل المتواصِل، بدأت الأشجار تتضاءل، وسرعان ما خرجتُ من بينها إلى نتوء دائري من أرضٍ مفتوحة مكسوة بشجيراتٍ قزمة من العرعر. وكان السهل يمتدُّ أمامي، ورأيتُ نهرًا عريضًا فائضًا على بُعد ميل.
جلستُ ونظرت إلى الأفق بكآبة. كانت نشوة اكتشافي الذي توصلتُ إليه في اليوم السابق قد انطفأت. فقد تبيَّن لي أنَّ المعلومة التي اكتشفتُها مصادفةً كانت بلا قيمة؛ لأنني لم أكن أستطيع الاستفادة منها. كان من المُرجح أنَّ تلك المرأة التي تُدعى هيلدا فون آينم، لو كانت موجودة بالفعل وتحمل السر الكبير، تعيش في قصر كبير في برلين، وكان احتمال حصولي على أيِّ شيءٍ منها مستبعدًا كاحتمالِ دعوتي إلى تناول العشاء مع القيصر مثلًا. خطر ببالي أنَّ بلنكيرون ربما يستطيع أن يفعل شيئًا ما، ولكن أين بلنكيرون بحق السماء؟ ارتأيتُ أنَّ السير والتر سيُثمِّن تلك المعلومة، ولكن لم يكن بإمكاني الوصول إلى السير والتر. كان عليَّ أن أمضي قُدمًا إلى القسطنطينية، لأُفلت بذلك ممن يُمسكون بزمام الأمور بالفعل. لكن إذا بقيت، فلن يكون بإمكاني فعل شيء، ولم أكن أستطيع البقاء. كان عليَّ أن أمضي قُدمًا، ولم أكن أعرف سبيلًا إلى ذلك. بدت كل الطُّرق مسدودة أمامي، وكنت عالقًا في حيرة شديدة لم يقع فيها أي إنسان من قبل.
كانت حيرتي تلك بسبب أنني كنتُ على قناعة داخلية تامَّة بأنَّ شتوم لن يتركني وشأني. فأنا أعرف معلوماتٍ قد تؤذيهم، بالإضافة إلى أنني جرحت كبرياءه. من المؤكد أنه سيمشِّط الريف كله إلى أن يجدني، ولا شك أنه سيجدني لو أطلتُ الانتظار. ولكن كيف لي أن أعبر الحدود؟ لن ينفعني تصريح المرور الذي أحمِله؛ لأنني كنتُ متيقنًا من أنَّهم أرسلوا رقمَه بالتلغراف إلى كل أقسام الشرطة في ألمانيا منذ وقتٍ طويل، وسأجلب لنفسي المتاعب إذا أبرزته. لكني أيضًا لم أكن أستطيع عبور الحدود بأي قطارٍ بدونه. كنتُ أعرف من دراستي للدليل الإرشادي السياحي أنني حالما أصل إلى النمسا، قد أجد الوضع أقل تشددًا، وأتحرك بسهولةٍ أكبر. ففكرتُ في أن أجرب عبور الحدود من عند تيرول، وفكرتُ في عبورها من عندِ بوهيميا أيضًا. لكنَّ هذين المكانين كانا بعيدين جدًّا، وكانت احتمالات القبض عليَّ في طريقي إلى هناك كثيرة.
كنتُ آنذاك في يوم الخميس الموافق الثلاثين من ديسمبر، أي: اليوم قبل الأخير من السنة. وكان من المفترض أن أكون في القسطنطينية في السابع عشر من يناير. القسطنطينية! كنتُ أحسب نفسي بعيدًا عنها حين كنتُ في برلين، لكنها في تلك اللحظة صارت تبدو بعيدةً بُعد القمر عن الأرض.
لكنَّ ذلك النهر الكبير الكئيب الممتد أمامي كان يؤدي إليها. وبينما كنت أنظر إليه، لفت انتباهي منظرٌ عجيب. فعند الأفق الشرقي البعيد، حيث كانت المياه تنساب حول زاوية أحد التلال، رأيتُ ذيلًا طويلًا من الدخان. تضاءلت ألسنة الدخان حتى تلاشت، وبدا أنها كانت منبعثة من قاربٍ مُتوارٍ تمامًا خلف زاوية التل، لكني استطعت رؤية قاربين ظاهرين آخرين على الأقل. لذا كان من المؤكد أنَّ هذا قطار طويل من صنادل مجرورة بقاطرةٍ بحرية.
نظرتُ ناحية الغرب ورأيتُ موكبًا آخر كهذا يظهر تدريجيًّا. ففي البداية ظهرت باخرة نهرية كبيرة — لا يُمكن أن يقلَّ وزنها عن ألف طن — تلَتها سلسلة من الصنادل. أحصيتها فوجدتُ ما لا يقل عن ستة صنادل بالإضافة إلى القاطرة. كانت تحمل حمولةً ثقيلة، ومن المؤكد أنَّ الجزء الغاطس من جسم تلك الصنادل في الماء كان كبيرًا، لكن عمق النهر الفائض كان كافيًا لاستيعابه وزيادة.
فكرتُ لحظةً، وعندئذٍ أدركتُ ماهية ما كنتُ أنظر إليه. فقد حكى لنا ساندي ذات مرة، في أحد النقاشات التي يخوضها الناس في المستشفى، كيف كان الألمان يمدُّون حملتهم في البلقان بالذخيرة. كانوا مُتيقِّنين تمامًا من سحقِ صربيا من المحاولة الأولى، وكان عليهم إيصال المدافع والقذائف إلى حليفهم التركي العزيز الذي كانت إمداداته الأولى في طريقها إلى النفاد. قال ساندي إنهم أرادوا السيطرة على السكك الحديدية، ولكن كانوا أكثر رغبةً في السيطرة على النهر، وحرصوا على تحقيق ذلك في غضون أسبوع واحد. أخبرنا بأنَّ عددًا لا حصر له من الصنادل التي كانت تُحمَّل بالذخيرة في مصانع ويستفاليا الكبيرة كان ينتقل عبر القنوات من نهر الراين أو نهر إلبه إلى الدانوب. وفور وصول أول صندل إلى تركيا، استقبل الأتراك سيلًا منتظمًا من بقية الصنادل الأخرى بأسرع وتيرةٍ مناسبة، لقُدرتهم على تفريغ الحمولات المحمَّلة على متنها. وقال ساندي إنَّ تلك الصنادل لم تكن تعود فارغة، بل كانت ترجع مُحمَّلة بالقطن التركي واللحم البقري البلغاري والذُّرة الرومانية. لا أعلم من أين جاء ساندي بهذه المعلومات، لكني كنتُ أرى الدليل عليها أمام عينيَّ.
كان منظرًا عجيبًا، وكنتُ أَصِرُّ بأسناني غضبًا من رؤية كل هذه الكميات من الذخائر مُتجهة بكلِّ سلامٍ هكذا إلى العدو. فقد قدَّرتُ أنها ستفتح جحيمًا على فِتياننا المساكين في جاليبولي. ثم خطرت ببالي فكرة وأنا أنظر إلى الصنادل، وراودني معها بصيص ضئيل من الأمل.
كانت الطريقة الوحيدة أمامي للخروج من ألمانيا هي المغادرة مع صُحبةٍ موثوقة إلى حدٍّ يضمن عدم تعرُّضي لأي أسئلة. كان ذلك واضحًا جدًّا. فلو سافرتُ إلى تركيا ضِمن حاشية القيصر مثلًا، فسأكون آمنًا كالرسائل والطرود البريدية، ولكن لو سافرت وحدي، فسأهلكُ لا محالة. كان عليَّ، لكي أستطيع التحرك داخل ألمانيا بلا قيود إن جاز القول، أن أنضم إلى قافلةٍ تحظى بصلاحيات التنقُّل بحُرية. وقد كانت أمامي قافلةٌ كهذه، وهي صنادل إسن.
بدت هذه فكرة مجنونة؛ لأنني خمَّنتُ أنَّ ذخائر الحرب ستكون مُحاطةً بحماية مشددة كحياة الرئيس هيندنبرج نفسه. لكني طمأنتُ نفسي بأنني سأصير في أمانٍ أكبر حالَما أصل إلى تلك القافلة. فإذا كنتَ تبحث عن هاربٍ من التجنيد، لن تُفتش عنه في حانة الكتيبة. وإذا كنت تُلاحق لصًّا، فلن تبحث عنه في سكوتلاند يارد.
كان ذلك منطقًا سليمًا، ولكن كيف يُمكن أن أصعد على متن هذه الصنادل؟ فمن المُرجح أنَّ تلك القوارب البغيضة كانت تقطع مائة ميل كاملة بلا توقف، وبالتأكيد كان شتوم سيجدني قبل وقتٍ طويل من وصولي إلى أيٍّ من محطاتها. وحتى إذا سنحت لي فرصةٌ كهذه، فكيف لي أن أحصل على إذن بالسفرِ معهم؟
حددتُ الخطوة الأولى بوضوح، وهي النزول إلى ضفة النهر في الحال. لذا انطلقتُ ماشيًا بسرعة عبر الحقول الموحلة المبتلة حتى صادفتُ طريقًا، وجدتُ قناتَي الصرف الجانبيتَين فائضتَين بالماء حتى كادتا أن تلتقِيا عند منتصفه. كان الطريق سيئًا جدًّا إلى حدٍّ مَنَحني أملًا في أن يكون عدد المرتحِلين عليه قليلًا. وبينما كنت أمشي متثاقلًا، كان بالي مشغولًا بالتفكير في احتمالية نجاحي في السفر مُختبئًا على متن أحد تلك الصنادل. قلت لنفسي إنني إذا اشتريت طعامًا، فقد أحظى بفرصةٍ لأختبئ آمنًا مُستريحًا في أحد تلك الصنادل. فهم لن يُفرغوا شيئًا من حمولتها إلى أن يبلغوا نهاية رحلتهم.
وفجأة لاحظتُ أنَّ الباخرة، التي كانت جنبًا إلى جنبٍ معي في تلك اللحظة، بدأت تتحرك نحو الشاطئ، وعندما وصلتُ إلى أعلى رابية غير مرتفعة كثيرًا، رأيتُ عن يساري قريةً ذات مبانٍ متناثرة بها كنيسة ومحطة إنزال صغيرة. كانت البيوت تقع على بُعد ربع ميل من مجرى النهر، وكان بينها طريق مُستقيم محفوف بأشجار الحور.
سرعان ما أصبحت المسألة واضحةً بما لا يدع مجالًا للشك. لقد كان موكب الصنادل يقترب من التوقُّف التام. شقَّت القاطرة الكبيرة طريقها بمُقدمتها نحو الرصيف ورَسَت بجواره، حيث كان عمق المياه كافيًا في هذا الموسم الفيضاني. ثم أشار قائدها إلى الصنادل فبدأت هي الأخرى تُلقي مراسيها، ما دلَّ على وجود رجُلَين على الأقل على متن كلٍّ منها. تحرَّكت بعض الصنادل بوتيرةٍ أبطأ قليلًا من البعض الآخر، وبذلك بدت السلسلة أشبه بقطارٍ ملتوٍ يقف وسط مجرى النهر. أخرجت القاطرة ممرًّا يوصلها بالبر، ورأيتُ من موضعي ستة رجال يُغادرونها حاملين شيئًا على أكتافهم.
كان من المؤكد أنَّ ذلك الشيء الذي يحملونه جثة. لا بد أنَّ أحد أفراد الطاقم قد مات، وأنَّ هذا التوقُّف كان من أجل دفنه. شاهدتُ الموكب يتحرك نحو القرية، وخمنتُ أنهم سيستغرقون بعض الوقت هناك، مع أنهم ربما يكونون قد بَعثوا ببرقيةٍ قبل وصولهم يطلبون فيها حَفر قبرٍ. على أي حال، ارتأيتُ أنهم سيتأخَّرون بما يكفي لأحصل على فرصة.
كنت قد قررتُ اتباع المسار الجريء. كان بلنكيرون قد قال إنَّ غشَّ الألمان مُستحيل، ولكن من الممكن الاحتيال عليهم بالتظاهر الخادع. قررتُ أن أحتال عليهم بأجرأ خدعة. فإذا كان الريف كله يطارد ريتشارد هاناي، فإنَّ ريتشارد هاناي سيتمشى وسط مُطارديه متظاهرًا بأنه صديق لهم. وذلك لأنني تذكرتُ تصريح المرور الذي أعطاني إيَّاه شتوم. فإذا كان لهذا التصريح أي قيمة، فسيكون كافيًا لإقناع ربان السفينة.
كانت هذه خطوة محفوفة بآلاف الأخطار طبعًا. فربما يكون أهالي القرية قد سمعوا عنِّي وأخبروا طاقم السفينة بقصتي. لذا قررت ألَّا أذهب إلى هناك، بل ألتقي بالبحارة وهم عائدون إلى الباخرة. أو ربما يكون الرُّبان قد تلقى تحذيرًا وعرف رقم تصريح المرور الذي أحمله، وعندئذٍ سأقع في قبضة شتوم قريبًا جدًّا. أو ربما يكون الربان رجلًا جاهلًا لم يرَ تصريحًا استخباراتيًّا من قبل ولا يعرف معناه، وسيرفض نقلي بموجبِ الالتزام الحرفي بالتعليمات التي لدَيه. عندئذٍ يمكن أن أنتظر حتى وصول قافلة أخرى.
كنتُ قد حلقتُ لحيتي وهذبت مظهري بعض الشيء قبل أن أغادر الكوخ. اعتزمتُ أن أترقَّب خروج الرجال من الكنيسة، وأن أنتظر على تلك البقعة من الطريق السريع المُستقيم التي كان طولها ربع ميل. خمنتُ أنَّ الربان سيكون معهم بالتأكيد. ولاحظتُ بسرورٍ أنَّ القرية كانت تبدو خاوية جدًّا. كنت أحمل تصوراتٍ شخصية عن البافاريين أنهم رجال مقاتلون، ولكن لا بد أن أقول، بحُكم ملاحظاتي، إنَّ قلة قليلة منهم قد بقوا في ديارهم.
استغرقَتِ الجنازة ساعات. لا بد أنهم اضطُرُّوا إلى حفر القبر؛ إذ ظللتُ منتظرًا بالقرب من الطريق وسط أجمةٍ من أشجار الكرز، بقدمَين غائصتَين بعمق بوصتَين في الوحل والماء، حتى شعرت بالبرد واخترق عظامي. دعوت الرب ألَّا تعاودني الحُمى؛ لأنني لم أبرح الفراش إلا منذ يومٍ واحد فقط. لم يكن متبقيًا في حقيبتي سوى القليل جدًّا من التبغ، لكني أشعلتُ غليونًا لنفسي، وأكلت واحدة من كعكات الشوكولاتة الثلاث التي كنت لا أزال أحملها.
وأخيرًا، وبعد منتصف النهار بوقتٍ طويل، رأيت أفراد طاقم الباخرة عائدين. كانوا سائرين اثنين اثنين، وشكرت الرب حين لم أرَ أحدًا من أهل القرية معهم. مشيتُ نحو الطريق واتجهت إلى أعلاه حتى لاقيتُ طليعة الموكب، رافعًا رأسي لأقصى ما أستطيع.
سألتهم: «أين ربانكم؟» فرفع أحد الرجال إبهامه بسرعةٍ وأشار به إلى الخلف من فوق كتفِه. كان الآخرون يرتدون قمصانًا ثقيلة من الصوف وقبعات محبوكة، ولكن كان يوجَد رجل في المؤخرة يرتدي زيًّا عسكريًّا.
كان رجلًا قصيرًا عريضًا ذا وجهٍ مُحمَّلٍ بتأثيرات الطقس السيئ، وعينٍ مهمومة.
قلت له وأنا آمُلُ أن تكون نبرتي مزيجًا حكيمًا ما بين السلطوية والاسترضاء: «هل لي أن أحادثك على انفراد أيها السيد الربان؟»
أومأ لرفيقه، فمضى وتركنا وحدَنا.
سألني بشيءٍ من نفاد الصبر: «ماذا تريد؟»
قدمتُ له تصريح المرور الذي كنتُ أحمله. اتَّضح، والحمدُ للرب، أنه قد رأى شيئًا كهذا من قبل؛ إذ اكتسى وجهه في الحال بتلك النظرة الغريبة التي دائمًا ما ترتسِم على وجه شخصٍ ذي سلطة حين يقابل شخصًا ذا سلطة مِثله. تفحص التصريح عن كثب، ثم رفع عينَيه.
قال: «ماذا بعدُ يا سيدي؟ لقد رأيت أوراق اعتمادك الآن. ماذا يُمكنني أن أفعل لك؟»
سألته قائلًا: «أظن أنك مُتجه إلى القسطنطينية؟»
رد قائلًا: «القوارب ستصل إلى روسجق فقط. وهناك ستُنقَل الحمولة إلى السكة الحديدية.»
«ومتى ستصلون إلى روسجق؟»
«في غضون عشرة أيام، إذا لم نتعرَّض لحوادث. ولكن دعنا نقول اثني عشر يومًا على سبيل الاحتياط.»
قلت: «أريد مُرافقتكم. فمهنتي، أيها السيد الربان، أحيانًا ما تُحتِّم عليَّ السفر عبر مساراتٍ أخرى غير المسار الشائع. هذه رغبتي الآن. فأنا من حقي الاستعانة بفرعٍ آخر من مؤسسات حكومة بلدنا لمُساعدتي. وهذا هو سبب طلبي.»
كان واضحًا جدًّا أنَّ ذلك لم يُعجبه.
قال: «يجب أن أُرسل برقية بخصوص ذلك. فلديَّ تعليمات بألَّا أسمح لأي شخصٍ باستقلال الباخرة، ولا حتى رجل مثلك. آسف يا سيدي، ولكن يجب أن أحصل على تصريح أولًا قبل أن أُلبِّي رغبتك. وفوق ذلك، فزورقي ليس مجهزًا لذلك. من الأفضل أن تنتظر الدفعة التالية وتطلب من درايزر أن يُقلَّك. لقد فقدتُ والتر اليوم. كان مريضًا حين ركب معنا — بمرضٍ في القلب — ولم يقتنع بأخذ استراحة. ومات الليلة الماضية.»
سألته: «أهو الذي كنتم تدفنونه؟»
«بالضبط. كان رجلًا طيبًا وابن عم زوجتي، والآن لم يعُد عندي مهندس. بل مجرد صبيٍّ أحمق من هامبورج. أتيتُ للتوِّ من إرسال برقية إلى مُلاك زورقي لأطلب رجلًا جديدًا، ولكن حتى لو جاء بأسرع قطار، فربما لن يلحق بنا قبل فيينا أو حتى بودابست.»
رأيتُ بارقة الأمل أخيرًا.
قلت: «سنذهب معًا، وألغِ هذه البرقية. فأنا مُهندس يا سيادة الربان، وسيُسعدني أن أعتني بمراجلك إلى أن نبلغ روسجق.»
نظر إليَّ بارتياب.
قلت: «أنا صادق فيما أقول. قبل الحرب كنتُ مهندسًا في دامارلاند. كان التعدين تخصُّصي، لكني تلقيتُ تدريبًا عامًّا جيدًا، وأعرف ما يكفي لتسيير زورق نهري. اطمئن. أعدك بأنني سأعمل بكلِّ كدٍّ نظير ركوبي معك.»
زالت نظرة الارتياب من وجهه، وعندئذٍ بدا وجهه الحقيقي، وجه بحَّار ألماني شمالي صادق ودود.
صاح قائلًا: «إذن هيا تعالَ باسم الرب، وسنعقد صفقة. سألغي البرقية. صحيح أنني أحتاج إلى تصريح من الحكومة لأُقِلَّ راكبًا، لكني لا أحتاج إلى تصريح لتعيين مهندس جديد.»
أرسل أحد مساعديه إلى القرية مجددًا ليلغي برقيته. وجدتُ نفسي على متن الزورق في غضون عشر دقائق، وبعد عشر دقائق أخرى كنَّا في منتصف النهر، وكانت الصنادل المقطورة تصطفُّ خلفنا ببطء. كانوا يُعِدون لي قهوة في القَمرة، وبينما كنت أنتظرها، أخذتُ منظار الربان وتفحصت المكان الذي غادرتُه في القرية.
رأيتُ أشياء غريبة. فعند أول طريق صادفته بعد خروجي من الكوخ، وجدتُ أشخاصًا يركبون دراجات يتحركون بسرعة. كان يبدو أنهم يرتدون زيًّا عسكريًّا. وعلى الطريق الموازي التالي، الذي كان ممتدًّا عبر القرية، رأيت راكبي دراجات آخَرين. ولاحظتُ أيضًا وجود عدة أشخاص يبدو أنهم كانوا يمشِّطون الحقول المتداخلة.
اتضح لي عندئذٍ أنَّ أفراد الطوق الأمني الذي فرضه شتوم قد بدءوا البحث عني أخيرًا، وشكرتُ حظي على أن لا أحد من أهل القرية قد رآني. لقد أفلتُّ في الوقت المناسب لأنَّ شتوم كان سيجدني في غضون نصف ساعة فقط لو بقيت في القرية.