عشرة ملايين دولار … لمن؟!
خَطت «إلهام» إلى داخل قاعة عرض الأفلام، داخل كهف الشَّياطين، فوجدت أن «ريما» و«زبيدة» و«هدى» قد سبقْنَها إلى هناك، فعَلَتْ وجهَها نظرةُ اندهاش، وأخذت مكانها إلى جوار «هدى» وهي تقول: يبدو أن هذه المهمة خاصَّة بالجنس اللطيف فقط من الشَّياطين.
أجابتها «هدى» باسمة: هذا هو ما تبادر إلى ذهني أيضًا، عندما رأيتكِ تخطين إلى القاعة.
بعد لحظاتٍ قصيرةٍ انطفأت الأنوار، وبدأت آلة عرض السينما في العمل، فظهر أولًا الميدانُ الأحمرُ في قلب «موسكو»، ومبنى «الكرملين» الشهير … وظهر بعدها الزعيم السوفييتي السابق «جورباتشوف»، وهو يلقي إحدى خطبه وسط جموعٍ حاشدةٍ أخذت تهتفُ باسمه.
ثم ساد الظلام للحظة، وظهر مبنًى عريض كئيب الشكل تُحيط به الأسوار من الخارج، ويلفه الغموض والرهبة التي ظهرت آثارها على وجوه الأشخاص الداخلين إلى المبنى، وهم يتعرضون لتفتيشٍ دقيقٍ على بوابات الدخول.
همست «زبيدة» تقول كأنها تحدث نفسها: هذا هو مبنى المخابرات «الروسية» دون شك. فأجابتها «ريما» الجالسة بجوارها: لقد كان هذا المبنى يُثير الخوف والرعب في قلوب رجال المخابرات في العالم كله، ولكن أشياء كثيرة قد تغيرت داخل هذا المبنى، بعد تفكك «الاتحاد السوفييتي» وانهيار الشيوعية في العالم.
وظهرت صورة الزعيم الروسي «يلتسين» فوق الشاشة البيضاء، وهو يحيي الجماهير المحتشدة التي وقفت تهتف باسمه … وظهرت طوابير الدبابات التي خرجت لمؤازرته في انقلاب المخابرات الشهير ضده … وتركزت الصورة على وجوه زعماء الانقلاب وهم يُساقون إلى مبنى المخابرات الشهير لاستجوابهم.
وساد الظلام مرة أخرى، ثم تركزت الأضواء على وجهٍ وحيدٍ ملأ كادر الشاشة … وجه امرأة في حوالَي الثلاثين من عمرها.
كانت المرأة جميلةً شقراء … ولكن جمالها كان يُوحي بنوعٍ من القسوة البالغة والإرادة الحديدية … ويطلُّ من العينين جرأةٌ لا حدَّ لها.
وأضيئت الأنوار في القاعة وقد سادها سكونٌ عميق … وصورة المرأة لا تزال مضاءةً على الشاشة … في نفس الوقت كان رقم «صفر» يأخذ مكانه المعتاد الخفي … وقال في صوتٍ رزين: مرحبًا بكُنَّ في قاعة العرض السينمائي … وأرجو أن يكون العرض الذي شاهدتموه، قد أوحى لكُنَّ بالمهمة القادمة … التي ستكون من نصيبكن … وحدَكُن.
قطبت «ريما» حاجبَيها وقالت: إنها مهمةٌ نسائيَّةٌ دون شك … والهدف هو هذه المرأة … أو فلنقل هذه الجاسوسة.
أجابها رقم «صفر» في صوت هادئ: إن استنتاجكِ في محله يا «ريما» … فمهمتكن القادمة هي هذه الجاسوسة «ناتاليا فاسيليفتش» … أعظم جاسوسة في تاريخ المخابرات بأكملها.
تساءلت «إلهام»: وهل لهذه المهمَّة علاقةٌ بتفكُّك «الاتحاد السوفييتي»، وتحوُّله إلى جمهوريات مستقلة، وإقصاء «جورباتشوف» من سلطته؟
أجاب رقم «صفر»: لقد وضعتِ يدكِ على المشكلة بالضبط يا «إلهام».
وصمت رقم «صفر» لحظةً قبل أن يضيف: لقد بدأت المشكلة بعد تفكك «الاتحاد السوفييتي»؛ ففي السابق كنا نتعامل مع كيان موحَّد هو الكيان «السوفييتي»، وكان «السوفييت» متعاونون معنا بقدر ما، وأنتم تعرفون دون شك أن «السوفييت» ساهموا في بعض الأوقات في تسليح عددٍ من الجيوش العربية، وقدموا لنا الخبراء، وهذا ما مكَّنهم من الاطِّلاع على بعض أسرار الجيوش العربية وتسليحها … ولكن تلك الأسرار، وصفقات الأسلحة، كانت تختفي داخل أروقة ودهاليز مبنى المخابرات «السوفييتية»، وتحاط بسريَّة بالغة، ويستحيل على أي إنسان أو جاسوس معادٍ الوصول إليها مهما بلغت مهارته.
زبيدة: ولكن بعد انهيار «الاتحاد السوفييتي» … تغير الوضع … أليس كذلك؟
أجاب رقم «صفر»: بالضبط … فقد انقسمت المخابرات «السوفييتية» على نفسها وتوزع ولاؤها … وبالطبع فنحن نعلم أن جمهورية «روسيا» هي التي ورثت الجزء الأكبر من الجيش والمخابرات «السوفييتية»، ولكن بعض الثغرات التي ظهرت داخل النظام الجديد، هي التي أحدثت هذه المشكلة، فقد جاءت محاولة الانقلاب ضد «جورباتشوف» من قلب المخابرات «الروسية»، وهو ما أوجد شكوك الحكومة ضد جهاز المخابرات بأكمله، وتم وضع كل أفراده تحت الرقابة … فتكشفت أشياء كثيرة ما كانت لتخطر على البال أبدًا.
ساد صمتٌ عميق بعد كلمات رقم «صفر»، وأنصتت الفتيات الأربع في تركيز تامٍّ، وقد أحسَّت كلٌّ منهن، بخطورة ما سينطق به رقم «صفر» الذي قال بعد لحظة: لقد اكتشف الروس أن بعض المخابرات الأجنبية قد تسلَّلت إلى داخل مبناها الرهيب … وأن أسرارها توشك أن تصبح نهبًا مُباحًا للكثيرين … وتصرف الروس بسرعةٍ ومهارة، فاستطاعوا سدَّ كثيرٍ من الثغرات في مبناهم العتيق … ولكن!
أكملت «إلهام»: لقد حدث تسرُّب بالفعل، في بعض الملفات التي تخص قدرات وأسلحة بعض جيوشنا … أليس كذلك؟!
أجاب رقم «صفر»: هذا هو ما حدث بالضبط … فقد تشتَّتت الجهات المسئولة عن حفظ هذه الملفات، واختفى بعضها، وأشارت أصابع الاتهام ضد «ناتاليا» … خاصة بعد أن كشف التحقيق تورطها مع قادة الانقلاب، وإن لم يكن هناك أي دليل حاسم ضدها، فبدأت العيون الخفية للمخابرات «الروسية» في وضعها تحت المراقبة، بحثًا عن دليل اتهام لها.
زبيدة: ولكنهم بدلًا من ذلك، التقطوا خيطًا آخر.
رقم «صفر»: هذا صحيح؛ فقد أثبتت التحريات والمراقبة الدقيقة، علاقة «ناتاليا» بجهاز مخابرات معادٍ لنا، وأنها توشك على أن تمدَّه بمعلوماتٍ غاية في السرية.
إلهام: إنها أسرار صفقات السلاح العربية … أليس كذلك؟
هتف رقم «صفر»: بالضبط يا «إلهام» … ومن المؤسف أن ذلك جاء متأخرًا … فعندما تنبه «الروس» للغرض الحقيقي ﻟ «ناتاليا»، كانت قد تمكَّنت من سرقة بعض وثائق هذه الأسلحة البالغة السرية، وتصويرها وتهريبها خارج مبنى المخابرات «الروسي»، وبناءً على معلوماتٍ من جانبنا، اكتشفنا ما قامت به «ناتاليا» فأخبرنا «الروس» بما تنويه، فتحركوا للقبض عليها، ولكنها كانت قد أفلتت من القفص للأسف الشديد، واختفت من «روسيا» ومعها أفلام الميكروفيلم التي صورتها.
تساءلت «هدى» في اهتمام: وهل تمت الصفقة بين الجاسوسة والمخابرات المعادية؟
أجاب رقم «صفر»: لا لحسن الحظ؛ فقد كانت «ناتاليا» تُدرك أن خروجها سالمةً من قفص الدُّبِّ «الروسي»، يكمن في احتفاظها بأفلام الوثائق السرية؛ لأنها لو منحتها للجانب الآخر وقبضت ثمنها فقد لا تغادر بلادها حية أبدًا؛ ولهذا احتفظت بها ورفضت التصرف فيها لحين مغادرتها «الاتحاد السوفييتي» بأكمله.
قالت «زبيدة» وعيناها تلمعان: إن هذا معناه أن «ناتاليا» لا تزال في مكانٍ ما … داخل إحدى الجمهوريات «السوفييتية»، ولم تغادرها بعد.
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا … فقد اختفت «ناتاليا» لعدة أسابيع بعد أن تأكدت من اكتشاف أمرها، وانطلاق مئاتٍ من زملائها السابقين لتعقبها والقبض عليها، وهي ليست بالغباء لكي تحاول الهروب من البلاد في الوقت الذي ترصد كل المواني والمطارات تحركها، ويجري فيها البحث عنها، وبحكم خبرتها كانت تعرف أن الأمور ستهدأ حتمًا، ولقد تمكنت من الاختفاء عن العيون كل هذه المدة السابقة، وأخيرًا استطعنا رصد حركتها ومعرفة مكانها. إنها في مدينة «ليننجراد» على الحدود، وهي تستعد للسفر ومغادرة البلاد، خلال أيامٍ قليلة قادمة.
زبيدة: ولماذا لم تُبلِّغوا «الروس» بذلك يا سيدي؛ ليتم القبض عليها مرة أخرى؟
هز رقم «صفر» رأسه قائلًا: لا أحد يضمن ماذا ستفعل «ناتاليا» إذا أحست أن بني قومها يحاولون القبض عليها مرة ثانية، فقد تتخلص من أفلام الوثائق بمنحها للأعداء وتقبض الثمن الذي حددته … عشرة ملايين دولار، توضع باسمها في أحد بنوك «سويسرا».
قطبت «إلهام» حاجبيها قائلة: إن هذا معناه أنك تفضل تدخلنا لإيقاع الصيد في الشباك.
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا يا «إلهام» … فلن يستطيع أحدٌ أداء هذه المهمة أفضل منا؛ فنحن نتفوَّق على غيرنا في هذه الناحية، فإن الوثائق تخصنا، والقضية قضيتنا، كما أن أفراد الشَّياطين مجهولون بالنسبة لهذه الجاسوسة المحترفة، وهي لن تتوقع مطاردة أربع فتيات لها، وهو ما يوفر لنا عنصر المباغتة.
زبيدة: إنه تفكير صائب يا سيدي.
رقم «صفر»: ولكن المهمة ليست سهلةً بأي حالٍ من الأحوال؛ فهذه الجاسوسة كما أخبرتكن هي أعظم جاسوسة على الإطلاق، ولها مهارة الثعلب في الاختباء والتحايل، وقدرة الحرباء على التلون والتخفي، وهي بارعة في إطلاق الرصاص، ولا تخطئ أيضًا الهدف، كما أنها سريعة التفكير واتخاذ القرارات … ولا يهمها عدد من يسقطون من ضحاياها على الإطلاق.
قال رقم «صفر» العبارة الأخيرة ببطء شديد، كأنه يؤكد على معناها.
فقالت «ريما» محتجة: ولكن مهما كانت مهارة هذه الجاسوسة، فإنها لن تتغلب على أربعة في الجانب المضاد، لا يقِلَّن عنها مهارة.
رقم «صفر»: يحسن بي أن أخبركن أخيرًا أن مهمتكن ليست سهلة، إن قائمة ضحايا «ناتاليا» تزيد على العشرين … نصفهم من أشهر رجال المخابرات في العالم، ونصفهم الآخر من النساء … أكثر الجاسوسية احترافًا … وكلهم ذهبوا في مطاردةٍ خلف «ناتاليا» قاصدين العودة برأسها … فعادوا إلى بلادهم في توابيت!
ساد صمت ثقيل بعد كلمات رقم «صفر» … وقالت «إلهام» في صوت عميق: ولكنها قضيتنا هذه المرة يا سيدي … وهو ما يمنحنا قوةً مضاعفة.
وتساءلت «ريما»: متى تنوي «ناتاليا» مغادرة «ليننجراد» بالضبط، وأية وسيلةٍ ستتخذها لذلك، وما هي وجهتها التالية؟
هز رقم «صفر» رأسه نافيًا وقال: الإجابة عن كل هذه الأسئلة لا نعرفها … لأن عميلنا الوحيد في «ليننجراد» بعد أن اكتشف وجود «ناتاليا» فيها، وأبرق لنا بذلك، عُثِر على جثته داخل شقته وبها طلقة في الرأس، من مسدس كاتم الصوت.
قالت «هدى» في غضب: هذه الذئبة المتوحشة، سوف تدفع الثمن غاليًا.
إلهام: بقي شيء وحيد أود الاستفسار عنه يا سيدي، فهل للأعداء الذين يرغبون في شراء هذه الوثائق من «ناتاليا» وجود في «ليننجراد»؟!
رقم «صفر»: إنه سؤال ذكي يا «إلهام»، وإجابته هي «نعم» … فإنهم هناك كثفوا من تواجدهم بغرض حماية «ناتاليا» من السقوط في أيدي المخابرات «الروسية»، أو أي أعداء محتملين، ولضمان تهريب الوثائق خارج «الاتحاد السوفييتي»، فهم لا يعلمون أين أخفت «ناتاليا» هذه الوثائق … ولم يستطيعوا الحصول عليها إلَّا إذا غادرت آسيا بأكملها حيَّة.
زبيدة: إن هذا يعطي بُعدًا آخر للمهمة … فهي ليست ضد امرأة وحيدة … مهما بلغت مهارتها!
رقم «صفر»: هذا صحيح … فالعدو مزدوج هذه المرة.
وصمت لحظةً قبل أن يُضيف: هل هناك أية تساؤلاتٍ أخرى؟
ترامقت الفتيات الأربع في صمت، فقال رقم «صفر» في لهجة ودودة: أتمنى لكُنَّ التوفيق في هذه المهمة … والآن جهِّزن حقائبكن للسفر … فهناك طائرةٌ مغادرة إلى «روسيا» بعد ساعتين بالضبط.
غادرت «هدى» و«إلهام» و«زبيدة» و«ريما» مقاعدهن، واتجهن إلى باب الخروج … وقد تألقت عيونهن ببريقٍ مدهش … بريق المغامرة.