خط النهاية!
يقع الحي اللاتيني فوق ربوة عالية في «باريس» تطل على كثير من أجزائها، وفي الليل يبدو المشهد ساحرًا من أعلى، والأضواء المتلألئة من بعيد، تبدو كما لو كانت نجومًا صغيرة استقرَّت فوق الأرض … ولكن الشخص الذي راح يصعد السلالم المتدرجة لأعلى، لم يكن لديه وقتٌ ليتأمَّل المشهد الساحر أمامه، واقترب من زقاق ضيق، ووقف يلهث في نهايته، ومسح بيده جبهته … كانت لا تزال هناك آثار دماء فوقها، ذلك وقد وشت ملابسه المبتلة أنه حصل على حمام إجباري … وتوقف ذلك الشخص في نهاية الزقاق، وطرق بابًا بطريقة معينة … وسقطت بقعة ضوء على وجهه من فتحة صغيرة في الباب من الداخل كشفت ملامحه … وهتف شخص من الداخل غير مصدق: مسيو «ديفيد يعقوب»؟!
زمجر «ديفيد» قائلًا: افتح أيها الغبي فلا وقت لإضاعته.
وانفتح الباب فقفز «ديفيد» للداخل، وتساءل في صوت لاهث: هل «ناتاليا» بالداخل؟
أجابه الآخر: نعم، وقد تسلمت إخطارًا بتحويل عشرة ملايين دولار إلى حسابها في «سويسرا»، ونوشك أن نتسلم منها الوثائق.
هتف «ديفيد»: رائع … هيا بنا نلحق هذه اللحظة الهامة.
وسرعان ما صعدا السلالم للداخل، وتساءل الشخص الآخر في دهشة ﻟ «ديفيد»: ألم يكن مفترضًا سفرك إلى «مارسيليا» مع الفتيات الأربع لتضليلهن هناك، لحين إتمام الصفقة يا سيدي؟
أجابه «ديفيد» ساخرًا: لقد تغيرت الأمور فجأة بعد أن اكتشفن حقيقة خدعتنا، ولحسن الحظ أن سقطت سيارتي في نهر «السين»، فأمكنني مغادرتها بعد غرقها، والخروج من جانب بعيد في النهر، وأخفاني الظلام عن عيون أولئك الفتيات، وظنن أنني غرقت، فأمكنني العودة إلى هنا في اللحظة المناسبة.
واندفع إلى داخل حجرةٍ واسعةٍ بها عدد من الرجال المسلحين، وقد جلست وسطهن امرأةٌ حسناء في العقد الثالث من عمرها … تطل من عينيها نظرة دهاء حاد … كانت هي «ناتاليا فاسيليفتش».
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه «ناتاليا» وهي تقول: مرحبًا بك يا «ديفيد» … أرجو أن تكون قد نجحت في تنفيذ خطتي.
غمغم «ديفيد»: لقد انكشف كل شيءٍ في اللحظة الأخيرة، ولكني تمكَّنت من الاختفاء وأسرعت إليكِ يا عزيزتي «ناتاليا» … لنحتفل بانتصارنا معًا.
وضاقت عيناه وهو يُضيف: وأرجو ألَّا تتحدثي مرة أخرى لأحدٍ بأنها كانت خطتك … فإن تقريري الذي أعددته لرؤسائي يقول إنني صاحب هذه الخطة … وأنتظر بسببها ترقية ضخمة.
ناتاليا: لا بأس … إن ما يهمني هو النقود فقط … ولا شيء آخر.
ضاقت عينا «ديفيد» وهو يجيبها: وقد حصلت على النقود … الآن فإننا ننتظر أن نحصل على ما يخصنا … فيلم الوثائق السرية.
أطلقت «ناتاليا» ضحكةً قصيرة، وأخرجت من حقيبتها علبة صغيرة، سلمتها إلى «ديفيد» قائلة: إن الميكروفيلم بداخل العلبة.
مد «ديفيد» يده ليلتقط العلبة هاتفًا: هذا رائع … لقد حصلنا على ما نبغي أخيرًا.
ولكن وفي نفس اللحظة، تحطمت نافذة الحجرة، واندفع شخص إلى الداخل في لحظة مباغتة تمامًا، شاهرًا مدفعًا رشاشًا في يده وهو يقول: لا أظن أن هذا الفيلم يخصك!
كانت «إلهام» … وقد ظهرت في لحظةٍ مباغتةٍ تمامًا … وخلفها اندفعت «ريما» و«زبيدة» و«هدى»، وبدا على «ديفيد» كأنما أصابه شلل وهو يحدق في الفتيات الأربع غير مصدق.
وقبل أن تمتد أيدي الحراس إلى أسلحتهم، صوبت «هدى» و«زبيدة» مدفعيهما قائلتين في صوتٍ واحد: إن أقل مقاومة كفيلة بإرسالكم جميعًا إلى الجحيم … والآن ألقوا بأسلحتكم على الأرض. ففعل الحرس ذلك، وقامت الاثنتان بتقييد أيديهم وأرجلهم … ومدَّت «إلهام» يدها لتلتقط علبة الميكروفيلم من يد «ديفيد»، وفي بطءٍ أشعلت عود ثقاب قربته منها.
وصرخ «ديفيد» في جنون: لا … لا تدمري الميكروفيلم.
ولكن ضربة خفيفة من «ريما» ألقته على الأرض دون حَراك، وقامت «ريما» بتقييده أيضًا … وشاهد الجميع النار وهي تلتهم الميكروفيلم وتدمِّره … فقالت «هدى» في هدوء: إن هذا يُنهي المسألة تمامًا.
وأشارَت إلى «ديفيد» ساخرةً مضيفة: إن العمل السري لا يصلح للهواة أمثالك أيها الغبي … فقد أتحت لنا الفرصة للوصول إلى مكان تسليم الميكروفيلم بسرعة … وتركناك تغادر ضفة النهر وأنت تظن أنك خدعتنا بغرقك، وتتبعناك إلى هنا في اللحظة المناسبة … ولا أظن أن محاولة استجوابك كانت ستؤدي إلى هذه النتيجة.
والتفتت إلى «إلهام» باسمة وهي تضيف: كانت خطتك رائعة يا «إلهام» … في إغراق سيارة هذا الوغد لتُتيحي له فرصة الهرب … حتى نتتبعه إلى هنا … وقد جازت عليه الخدعة هذه المرة وهو يتخفَّى عند حافة النهر ليراقبنا، ونحن نتظاهر بعضِّ أصابع الندم.
تحركت «ناتاليا» ببطء مغادرة مقعدها وهي تقول ﻟ «إلهام»: إنني أعترف لكِ بالبراعة حقًّا … وقد حصل كلٌّ منا على ما كان يسعى إليه … المال … و«الميكروفيلم» … وبهذا انتهت المطاردة، ولم تعد هناك أية مشكلة … بيني وبينكم على الأقل.
رمقتها «إلهام» بعينين مقطبتين وقالت: هذا صحيح … فليس بيننا عداء شخصي … وبرغم كل ما خططتِه ضدنا للتخلُّص منا، وخيانتك لواجبك، وتعرض أمن بلادنا للخطر، فإن أخلاقنا تمنعنا من إطلاق الرصاص على شخصٍ أعزل.
ناتاليا: هذا رائع … والآن هل تسمحين لي بمغادرة هذا المكان … فقد حان موعد طائرتي المغادرة إلى «سويسرا» … لألحق بالملايين هناك!
تحركت «ناتاليا» لتغادر المكان وفوق شفتيها ابتسامة ماكرة … وغمغمت تقول لنفسها في سخرية: يا لأخلاق هؤلاء الفتيات!
وما كادت تفتح باب المنزل حتى وجدت عددًا من الأشخاص في انتظارها في معاطف ثقيلة أخفت أسلحتهم ووجوههم تنطق بغضبٍ عميق حادٍّ.
تراجعت «ناتاليا» عندما تعرفت على الوجوه المحيطة بها … وغمغمت في ذهول عميق: المخابرات «الروسية»، من الذي دلهم على مكاني؟
وأجابها صوت «إلهام» من الخلف: لقد تركنا أمر عقابك إلى بني قومك … وأظن أنه لن تأخذَهم بكِ رحمةٌ على الإطلاق … وكانت مكالمة صغيرة فيها الكفاية؛ ليلحق بك البعض منهم إلى هنا، بعد أن سعوا خلفك إلى «باريس» أيضًا.
جن جنون «ناتاليا» وصرخت: لا … هذا مستحيل … ودفعت أقرب الأشخاص إليها فأزاحته عن طريقها، واندفعت تعدو بكل قوتها داخل الزقاق الضيق، ومن الوراء صاح أحد زملائها السابقين: توقفي مكانكِ يا «ناتاليا».
ولكنها لم تمتثل للأمر … فانطلقت رصاصة مكتومة من مسدس أحدهم … وترنحت «ناتاليا» ثم تهاوت على الأرض وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.
والتفت الرفيق الذي أطلق الرصاص لزملائه قائلًا: لقد انتهى وأُغلِقَ ملف «ناتاليا» إلى الأبد.
وتحركوا جميعًا مثل الأشباح ليستقلُّوا سيارةً كانت تنتظرهم على مقربة … وتأملت «إلهام» الجاسوسة المسجاة أمامها دون حراك، والتفتت إلى زميلاتها دون أن تفصح ملامحها عن أي مشاعر وقالت لهن: هيا بنا … فلم يعُد هناك ما نفعله في هذا المكان.
وقالت «زبيدة» محتجة: ولكن هؤلاء الجواسيس الأوغاد بالداخل، كانوا يسعون لهلاكنا وشراء أسرار بلادنا، ومن المستحيل أن نتركهم دون عقاب!
أجابتها «إلهام» وابتسامة رائعة تتلاعب فوق شفتيها: يا عزيزتي … إن الجميع يعرفون أننا لا نقتل الأشخاص العزل من السلاح، حتى ولو كانوا أعداءنا … ولكن وسائل العقاب متعددة … فإن نصف هؤلاء الأوغاد بالداخل متهمون بتهمٍ خطيرة أقلها القتل … والنصف الآخر تطارده الشرطة والمخابرات الفرنسية بتهم السطو وخرق القانون والتجسس، هذا بالإضافة إلى أن وكر الدبابير هذا لا شك ممتلئ بالوثائق التي تدينهم جميعًا وتفضح شبكتهم للجاسوسية … وتضمن لكلٍّ منهم تُهمًا تنتهي بالسجن مدى الحياة على أقل تقدير … ومكالمة صغيرة للشرطة «الفرنسية» كفيلة بإنهاء أمر هؤلاء الجواسيس تمامًا … والآن هيا بنا فلم يعد هنا ما نفعله في هذا المكان.
وتحركت «إلهام» وخلفها زميلاتها ليغادرْنَ الحي بأكمله … ولم يفُتهن أن يلقين النظر على مشهد «باريس» الساحر في النظر، ومن أعلى الحي اللاتيني.
كانت «باريس» تبدو كما لو كانت قد استعادت الكثير من إشراقها وبهائها … بعد أن تخلصت من أسوأ نوع من المجرمين، بطريقة لم تخطر على بال أحد … طريقة الشَّياطين.