الشكل الخطأ
يمتدُّ بعضٌ من الطرق الكبرى القادمة من لندن والمتجهة شمالًا متوغِّلة بعيدًا في الريف كشَبَحٍ إلى شارع يضيق وتقطعه طرق أخرى، وتتخلَّله فجوات كُبرى في المباني، لكن مع الاحتفاظ بخط المباني؛ فهنا تجد مجموعةً من المتاجر، يَليها حقل أومستراد مسيجان، وفي إثره حانة معروفة، وبعدها ربما مزرعة أو مشتل يبيع منتجاته، ثم منزل خاص كبير، ثم حقل آخر وحانة أخرى، وهكذا دواليك. إنْ سار أي شخصٍ قاطعًا أحد هذه الطرق سيمرُّ بمنزلٍ غالبًا ما سيلفتُ انتباهه، رغم أنه قد لا يستطيع تفسير جاذبيته. إنه منزل عريض منخفض يوازي الطريق، يغلب على طلائه اللَّونان الأبيض والأخضر الفاتح، وله شُرفة وستائر تحجُب الشمس، ومداخل مسقوفة مُغطاة بقِبابٍ غريبة شبيهة بالمظلَّات الخشبية التي نراها في بعض المنازل العتيقة الطراز. وهو في الواقع منزل عتيق الطراز، إنجليزي جدًّا، ويحمل سَمت الضواحي، بالمعنى الثَّري القديم الحسَن لمنطقة كلابام. إلا أن المنزل يبدو كأنه قد بُني في الأساس من أجل الطقس الحار؛ فعندما يُجيل المرء بصرَه في طلائه الأبيض وستائره الحاجِبة للشمس، يخطر له على نحوٍ مُبهم أوشحة الرأس التي تُربط حول القبعات، بل وحتى أشجار النخيل. ولا أعرف سبب هذا الشعور؛ لكن ربما يكون مَن شيَّد هذا المكان شخصًا إنجليزيًّا من أصلٍ هندي.
أرى أن أيَّ شخصٍ يمرُّ بهذا المنزل سينبهر به بشكلٍ لا يُوصف؛ فسيُخالِجه شعور أنه من المنازل التي تُسرد عنها إحدى الحكايات؛ وسيكون مُحقًّا كما ستعرفون بعد قليل. فهذه هي الحكاية؛ حكاية الأمور الغريبة التي حدثَت بالفعل فيه في أسبوع عيد العنصرة في إحدى سنوات القرن التاسع عشر:
كلٌّ من كان يمرُّ بالمنزل يوم الخميس السابق لعيد العنصرة في حوالي الرابعة والنصف مساءً، كان سيُلاحظ الباب الأمامي مفتوحًا، والأب براون، من كنيسة سانت منجو الصغيرة، خارجًا منه يُدخِّن غليونًا كبيرًا في صُحبة صديقٍ فرنسي طويل جدًّا يُدعى فلامبو، والذي كان يُدخِّن سيجارة صغيرة جدًّا. ربما يُهِمُّ هذان الشخصان القارئ وربما لا يُهمَّانه، لكن الواقع أنهما لم يكونا وحدهما، وهو ما يُثير الاهتمام في الأشياء التي ظهرت حين فُتح الباب الأمامي للمنزل ذي اللونَين الأبيض والأخضر. ثمَّة المزيد من الغرائب التي كانت تكتنِف هذا المنزل، والتي يجب وصفُها من البداية، ليس فقط ليفهم القارئ هذه الحكاية المأساوية، لكن حتى يُدرك أيضًا ما كشف عنه انفراج الباب.
كان الشاعر ليونارد كوينتون قد أعدَّ بنفسه بعناية شديدة هذا التأثير؛ ومن المُستبعد أن يكون قد عبَّر عن شخصيته بهذه الدِّقة في أيٍّ من قصائده؛ فقد كان رجلًا عاشقًا للألوان، وبلغَتْ به شهوته للألوان وإشباعها حدَّ تجاهل الشكل، بل حتى حُسن الشكل. وكان هذا ما حوَّل عبقريته بالكامل للفنون الشرقية والخيال؛ لتلك الأبسطة المذهلة أو الأعمال المُوشَّاة المبهرة التي يبدو كأن الألوان كلها قد امتزجَتْ فيها في فوضى موفَّقة، غير مُمثِّلة في ذلك لشيءٍ ولا داعية لشيء. كان قد حاول، ربما دون توفيقٍ فني كامل، ولكن بخيال وإبداع مشهودَين، أن يؤلِّف ملاحم وقصصًا عاطفيةً تعكس صخَب ألوانٍ عنيفة بل وقاسية؛ حكايات عن جنَّات نعيم استوائية حيث الذهب اللامع والنحاس الأحمر حُمرة الدم؛ عن أبطالٍ شرقيين مُعتمرين أغطيةَ رأسٍ ملتفَّة اثنتَي عشرة طبقة يركبون أفيالًا مطلية باللون الأرجواني أو الأخضر الطاووسي؛ وعن جواهر عملاقة يعجز مائة زنجي عن حملها، لكنها مُشتعلة بألسنة لهب عتيقة وغريبة في ألوانها.
بإيجاز (لعرض المسألة من وجهة نظر عامة أكثر)، كان مهتمًّا كثيرًا بجنَّات الشرق، الأسوأ كثيرًا من أغلب هاويات جحيم الغرب؛ وبالملوك الشرقيين، الذين ربما يجوز لنا أن ندعوهم مهووسين؛ وبالجواهر الشرقية التي قد لا يراها أصلية أحد صائغي شارع بوند (إنْ حملها المائة زنجي مُتثاقلين إلى متجره). كان كوينتون عبقريًّا، وإن كان عبقريًّا سوداوي النزعة؛ وقد تبدَّت سَوداوِيَّته في حياته أكثر ممَّا تبدَّت من أعماله. أما مزاجه فقد كان مُعتلًّا ونزقًا، وعانت صحته بشدَّة من تجاربه الشرقية مع الأفيون. اعترضَتْ زوجته، وهي سيدة مليحة ومجتهدة، وبلا شك مكدودة، على الأفيون، لكنها اعترضَتْ أكثر كثيرًا على ناسكٍ هندي حي مُتَّشِح برداءٍ أبيض وأصفر، أصرَّ زوجها على استضافته لعدَّة شهور، ليكون بمثابة فيرجيل الذي سيرشد روحه في طريقها عبر جنَّات الشرق وجحيمه.
من هذا المنزل الحافل بمظاهر الفن خطا الأبُ براون وصديقه خارجَين إلى عتبة الباب؛ وكان يبدو من وجهَيهِما أنهما خرَجا منه مُستشعرَين راحةً كُبرى. كانت معرفة فلامبو بكوينتون قد امتدَّت للأيام الجامحة للدراسة في باريس، وكانا قد جدَّدا أواصر المعرفة في عطلة نهاية أحد الأسابيع؛ لكن بعيدًا عما جرى لفلامبو من تطوُّرات جعلَتْ منه شخصًا أكثر مسئولية مؤخرًا، لم يجد نفسه متوافقًا مع الشاعر الآن؛ فخنْق المرء لنفسه بالأفيون وكتابة أبياتٍ شهوانية قليلة على رقوق، لم تكن فكرته عن الطريقة التي يُسلِّم بها سيد نبيل نفسه للشيطان. حين توقف الاثنان على عتبة الباب، قبل أن ينعطفا إلى الحديقة، انفتحت بوابة الحديقة الأمامية في عنف، وصعد الدرجات متعثرًا من لهفته رجلٌ شابٌّ مُعتمرًا قبعة مستديرة من اللباد في مُؤخر رأسه. كان شابًّا يبدو عليه الاستهتار، يرتدي ربْطة عنق حمراء جميلة لكنها منحرفة عن موضعها تمامًا، كأنه كان قد نام مُرتديًا إيَّاها، وظلَّ يتململ ويطوح هنا وهناك بواحدة من تلك العِصي الصغيرة ذات العُقَد.
ثم قال بأنفاسٍ لاهثة: «من فضلك، أريد أن أرى كوينتون العجوز. لا بدَّ أن أراه. هل رحل؟»
فقال الأب براون وهو يُنظِّف غليونه: «أعتقد أن السيد كوينتون بالداخل، لكنني لا أعلم إن كنتَ تستطيع رؤيته؛ فالطبيب معه الآن.»
دخل الشاب، الذي لم يكن يبدو في تمام وعيِه، البهوَ مُترنحًا؛ وفي نفس اللحظة خرج الطبيب من مكتب كوينتون، مُغلِقًا الباب، وشرع يرتدي قُفازَيه.
قال الطبيب بهدوء: «تريد رؤية السيد كوينتون؟ لا، يؤسفني القول إنه لا يمكنك رؤيته. في الواقع، يُحظَر أن تراه مهما كان السبب. لا يمكن لأحد أن يراه؛ فقد أعطيته للتوِّ دواءه المُنوِّم.»
فقال الشابُّ ذو ربْطة العنق الحمراء، محاولًا التشبُّث بتلابيب معطف الطبيب في استعطاف: «لا، فلتسمعْني يا عزيزي. اسمعْني. إنني مُنهَك تمامًا، فلتُصغِ إليَّ. إنني …»
أجابه الطبيب، مُجبِرًا إيَّاه على التراجع: «لا جدوى من هذا يا سيد أتكينسون. حين تستطيع تبديل آثار العقار، سأبدِّل أنا قراري.» ثم عدَّل وضْع قبعته، وخرج إلى ضوء الشمس مع الاثنين الآخرَين. كان رجلًا قصيرًا غليظ العنق، دمِث الخلق ذا شاربٍ صغير، ويوحي بالجدارة وإن كان عاديًّا لدرجةٍ تفُوق الوصف.
وقف الشابُّ ذو القبعة، الذي لم يبدُ أنه قد حظِي بأي مهارة في التعامُل مع الناس سوى فكرة عامة عن التشبُّث بمعاطفهم، خارجًا أمام الباب، وظلَّ مذهولًا كأنه قُذِف به إلى الخارج حرفيًّا، وأخذ يُراقِب في صمتٍ الثلاثة الآخرين وهم يسيرون معًا مُبتعدِين عبر الحديقة.
أشار الطبيب ضاحكًا: «يا لها من كذبة سديدة وممتازة التي نطقتُ بها للتوِّ. في الواقع لن يأخذ كوينتون المسكين عقاره المُنوِّم قبل نصف ساعة تقريبًا. لكنني لن أدَعَ ذلك الحقير التافِه، الذي لا يريد سوى اقتراض مالٍ لن يُسدده، إن استطاع، يُضايقه. إنه وغْد وضيع، رغم أنه شقيق السيدة كوينتون، وهي من أفضل النساء قاطبةً.»
قال الأب براون: «أجل، إنها سيدة طيبة.»
ثم استطرد الطبيب قائلًا: «لذا أقترِح أن نتجول في أنحاء الحديقة حتى يرحل هذا المخلوق؛ وبعدها سأدخل إلى كوينتون بالدواء. لن يستطيع أتكينسون الدخول، لأنني أوصدتُ الباب.»
فقال فلامبو: «في تلك الحالة يا دكتور هاريس، ربما يكون من الأفضل أن نتجول في الخلْف عند نهاية المُستنبَت. لا يُوجد مدخل إليه من تلك الناحية، لكنه جدير أن نراه، حتى وإن كان من الخارج.»
فقال الطبيب ضاحكًا: «نعم، وسيُمكنني إلقاء نظرة على مريضي؛ فهو يُفضل الاستلقاء على أريكةٍ في آخر المُستنبَت بين كل زهور بنت القنصل الحمراء حُمرة الدم تلك؛ هذا سيُثير فيَّ القشعريرة. لكن ماذا عساك أن تفعل؟»
توقَّفَ الأب براون للحظة، والتَقَط سكِّينًا معقوفًا غريبًا، مطعَّمًا بشكلٍ بديع بالأحجار والمعادن الملونة، كاد يختفي تمامًا في الحشائش الطويلة.
تساءل الأب براون رامقًا إياه بشيءٍ من استنكار: «ما هذا؟»
فقال الدكتور هاريس في غير اكتراث: «أوه، إنه سكين كوينتون على ما أعتقد؛ فلدَيه أنواع كثيرة من التُّحَف الصينية الزهيدة القيمة مُبعثرة في كل مكان. أو ربما يخصُّ ذلك الهندي الوديع الذي يحتفظ به طَوْع بنانه.»
سأله الأب براون، وهو ما زال يُحدق في الخنجر الذي في يده: «أي هندي؟»
قال الطبيب باستخفاف: «أوه، مُشعوِذٌ هنديٌّ ما، مُحتال بالطبع.»
هنا سأله الأب براون، دون أن يرفع بصره: «ألا تؤمن بالسحر؟»
فقال الطبيب: «عجبًا! السحر!»
قال القسُّ بصوتٍ خفيض حالم: «إنه جميل جدًّا، الألوان جميلة جدًّا. لكنه يتَّخِذ الشكل الخطأ.»
فسأله فلامبو مُحدقًا: «لأجل ماذا؟»
«لأجل أيِّ شيء. إنه يتخذ الشكل الخطأ بوجهٍ عام. ألا يُخالجك هذا الشعور أبدًا تجاه الفن الشرقي؟ الألوان جميلة جمالًا خلَّابًا؛ لكن الأشكال رديئة وسيئة، رديئة وسيئة عمدًا. لقد رأيتُ أشياءَ شِريرة في بُساطٍ تركي.»
هنا صاح فلامبو باللغة الفرنسية ضاحكًا: «يا إلهي!»
استأنف الكاهن كلامه، وقد انخفض صوته أكثر فأكثر، وقال: «إنها حروف ورموز بلُغة لا أعرفها؛ لكني أعلم أنها تُمثل كلماتٍ شريرة. والخطوط تنحرف عن قصد، مثل أفاعٍ تتلوَّى من أجل الفرار.»
فقال الطبيب وقد ارتفع صوته بالضحك: «ما الذي تتحدَّث عنه بحقِّ الشيطان؟»
أجابه فلامبو بهدوء، قائلًا: «تغشى الأب أحيانًا هذه الغمامة من الرُّوحانيات، لكن أنبِّهك مُسبقًا أنَّني لم أره قطُّ وقد غَشِيَته تلك الغمامة، إلا وكان شرٌّ ما قريبًا جدًّا.»
قال الطبيب: «أوه، سحقًا!»
صاح الأب براون باسطًا ذراعه بالسكين المعقوف، كأنه ثعبان لامع، وقال: «مهلًا، انظر إليه. ألا ترى أنه يتَّخِذ الشكل الخطأ؟ ألا ترى أن ليس لديه غرَض صريح وواضح. إنه ليس مُدببًا مثل الرمح، ولا يكسح مثل المنجل. إنه لا يبدو كسلاح. إنه يبدو كأداة تعذيب.»
فقال هاريس بمرح: «حسنًا، حيث إنه لا يروق لك كما يبدو، فالأفضل أن يُعاد إلى صاحبه. ألم نصل لنهاية هذا المُستنبَت اللعين بعد؟ إن هذا المنزل يتخذ الشكل الخطأ، إن جاز القول.»
فقال الأب براون، وهو يهزُّ رأسه: «أنت لا تفهم. إن شكل هذا المنزل عجيب، بل مُثير للضحك. لكن ليس ثمة خطأ به.»
وبينما كانوا يتحدثون داروا مع مُنحنى الزجاج الذي أحاط بالمُستنبَت عند نهايته، وهو منحنًى مُتصل؛ فليس به باب ولا نافذة للدخول عند تلك النهاية. إلا أن الزجاج كان شافًّا والشمس كانت لا تزال ساطعة، رغم اقترابها من وقت الغروب؛ ولم يتمكنوا من رؤية الزهور الزاهية بالداخل فحسب، لكن شاهدوا أيضًا جسد الشاعر الهزيل في معطف بُنِّيٍّ من القطيفة وهو مُستلقٍ في وَهَنٍ على الأريكة، وبدا أن النعاس كاد يغلبه وهو يُطالع كتابًا. كان رجلًا شاحبًا نحيفًا ذا شعر كستنائي مُسترسِل ولِحية عند طرف ذقنه كانت بمثابة المُفارقة في وجهه؛ إذ جعلَتْه اللحية يبدو أقلَّ رجولة. كانت هذه السِّمات معروفة لثلاثتهم جميعًا؛ لكن حتى لو لم تكن كذلك، قد يكون ثمَّة شك في أنهم كانوا سينظُرون إلى كوينتون في تلك اللحظة تحديدًا؛ فقد كانت عيونهم مثبَّتة على شيءٍ آخر.
كان يقِف في طريقهم تمامًا، خارج الطرف الدائري للبناء الزجاجي مباشرة، رجلٌ طويلٌ، تدلَّت بُردته البيضاء دون شائبة إلى قدَميه، والْتَمع رأسه ووجهه وعنقه الحاسرة البُنِّية تحت الشمس الغاربة مثل برونزٍ وضَّاح. كان ينظر إلى النائم من خلال الزجاج، وكان جامدًا بلا حراك كالجبل.
صاحَ الأبُ براون، مُتراجعًا وهو يشهَقُ شهقةً كالهسيس: «مَن هذا؟»
فأجابه هاريس مُزمجرًا: «أوه، ليس سوى ذلك الدجَّال الهندي، لكن لا أعلم، بحقِّ الشيطان، ما الذي يفعله هنا.»
فقال فلامبو وهو يَعضُّ على شاربه الأسود: «يبدو وكأنه يُمارس تنويمًا مغناطيسيًّا.»
هنا صاح الطبيب وقال: «لماذا، أيُّها الرفاق غير المُشتغِلين بالطب، تقولون دائمًا التُّرَّهات عن التنويم المغناطيسي؟ هذا يبدو أشبَهَ كثيرًا بسرقة المنازل.»
فقال فلامبو، الذي كان دائمًا يُفضِّل الحركة: «حسنًا، سنُناقِش هذا الأمر، على أي حال.» وفي خطوةٍ واحدة واسعة وصَل إلى المَوضع الذي كان يقِف فيه الهندي. وقال في وقاحةٍ اتَّسمت بالهدوء، وهو ينحني بقامتِه الهائلة، التي فاقت حتى طول الرجل الشرقي:
«مساء الخير يا سيدي. هل تُريد أي شيء؟»
على مهَلٍ شديد، مثل سفينة ضخمة تتَّجِه إلى المرفأ، التفتَ الوجه الأصفر الكبير، ونظر في النهاية من فوق مَنكِبه الأبيض. فأجفلوا حين رأوا أنَّ جفنَيه الصفراوَين كانا مُطبَقين تمامًا، كأنه نائم. أجابهم الوجه بإنجليزيةٍ مُمتازة: «شكرًا، لا أريد شيئًا.» ثُم كرر، وقد انفرج جَفناه نصفَ انفراجة، ليكشف بعضًا من مُقلتَين برَّاقتَين، قائلًا: «لا أريد شيئًا.» ثم فتح عينَيه على اتِّساعهما في تحديق مُفزع، وقال: «لا أريد شيئًا.» ثم مضى مُحدثًا حفيفًا في الحديقة التي أخذ الظلام يداهمها على جناح السرعة.
تمتم الأب براون قائلًا: «المسيحي أكثر تواضعًا. إنه يريد شيئًا.»
وتساءل فلامبو، عاقدًا حاجبَيه السوداوَين وخافضًا صوته: «ماذا عساه كان يفعل؟»
فقال الأب براون: «أودُّ أن أتحدَّث معك فيما بعد.»
كان ضوء الشمس لا يزال موجودًا، لكنه تحوَّل إلى شفقٍ أحمر، بينما أخذت أغلب أشجار الحديقة وشُجيراتها تزداد سوادًا كلما ازداد انحساره. انعطفوا عند نهاية المُستنبَت، وساروا في صمتٍ في الجانب الآخر ليصلوا للباب الأمامي. ويبدو أنهم أثناء سيرهم أفاقوا شيئًا من غفلته، كمن يُفزع طائرًا، في الركن الأبعد بين المكتب والمبنى الرئيسي؛ ومرة أخرى رأوا الفقير الهندي في ردائه الأبيض وهو يخرج من الظلِّ بخفَّة، ويتسلَّل في اتجاه الباب الأمامي. إلا أنه مما أثار دهشتهم أنه لم يكن بمُفرده. ووجدوا أنفسهم وقد توقَّفوا فجأة ومضطرين للتخلص من ارتباكهم لظهور السيدة كوينتون، بشعرِها الذهبي الغزير ووجهها المربع الشاحب، وهي تقترب منهم، خارجةً من الشفَق. بدَتْ مُتجهِّمة قليلًا، لكن في غاية التهذيب.
لم تزد عن أن قالت: «مساء الخير يا دكتور هاريس.»
فأجابها الطبيب الضئيل في ود: «مساء الخير يا سيدة كوينتون. كنتُ ذاهبًا لتوِّي لإعطاء زوجك عقاره المُنوِّم.»
فقالت بصوتٍ واضح: «أجل، أعتقد أن ميعاده قد حان.» وابتسمَتْ لهم، ودخلت المنزل في خطوات سريعة.
عندئذٍ قال الأب براون: «تلك السيدة مُنهكة القوى. إنها من ذلك النوع من النساء الذي يؤدي واجبه طَوال عشرين عامًا، ثم يرتكب شيئًا فظيعًا.»
ولأول مرة نظر الطبيب الضئيل إليه بعَين الاهتمام، وسأله: «هل درستَ الطبَّ من قبل؟»
فأجابه القس: «مثلما يتعيَّن عليكم معرفة شيء عن العقل فضلًا عن معرفتكم بالجسد؛ كذلك علينا معرفة شيء عن الجسد فضلًا عن معرفتنا بالعقل.»
فقال الطبيب: «حسنًا، أعتقد أنني سأذهب وأُعطي كوينتون دواءه.»
كانوا قد داروا مع زاوية الواجهة الأمامية، واقتربوا من الباب الأمامي، وحينما كانوا يقتربون منه رأوا الرجل ذا الرداء الأبيض للمرة الثالثة، كان آتيًا صوبَ الباب الأمامي مباشرة حتى إنه بدا غير معقول على الإطلاق ألَّا يكون قد خرج للتوِّ من المكتب المُقابل له. بيد أنهم كانوا يعرفون أن باب المكتب كان مُوصدًا.
رغم ذلك أسرَّ الأب براون وفلامبو هذه المُفارقة الغريبة في نفسيهما، أما الدكتور هاريس فلم يكن الرجل الذي يُهدِر أفكاره على المستحيل، فسمح للرجل الآسيوي القادر على التواجُد في كل الأماكن بالانسحاب، ثم دلف بخفَّة إلى البَهْو، وهناك وجد شخصًا كان قد نسيه بالفعل؛ إذ كان أتكينسون الأحمق ما زال هناك، يُهَمهِم ويعبَث بالأشياء بعصاه ذات المقبض. تشنَّج وجه الطبيب في اشمئزازٍ وحزم، وهمس في الحال إلى رفيقه: «لا بدَّ أنْ أُوصِدَ الباب مرة أخرى، وإلا دخل هذا الفأر. لكن سأخرج مُجدَّدًا خلال دقيقتَين.»
وبسرعةٍ فتح الباب وأوْصدَه مرة أخرى خلفه، كابحًا اندفاعًا أهوجَ من الشاب ذي القُبعة المُستديرة. ارتمى الشاب بجسده في نفادِ صبرٍ على أحد مقاعد البهو. أخذ فلامبو يتطلع إلى مخطوطة فارسية مُذَهَّبة على الحائط؛ أما الأبُ براون، الذي بدا في حالةٍ من الذهول، فراقَبَ الباب بفتور. وخلال أربع دقائق تقريبًا، فُتِح الباب ثانيةً. لكن أتكينسون كان أسرع هذه المرة؛ فقد اندفع إلى الأمام، وأمسك بالباب مفتوحًا لبُرهة، وصرخ قائلًا: «أوه، يا كوينتون، أريد …»
من الجانب الآخر لغرفة المكتب جاء صوت كوينتون واضحًا، يكسُوه شيءٌ بين التثاؤب وصدح ضحك كليل:
«أوه، أعلم ما تريد. فلتأخذْه، واتركْني في سلام. فإنني أؤلِّف أغنية عن الطواويس.»
قبل أن يُغلق الباب، جاءه نصف جنيه ذهبي طائرًا عبر فُرْجَته؛ فالتقطه أتكينسون، الذي تعثَّر إلى الأمام، في براعةٍ منقطعة النظير.
قال الطبيب: «انتهى الأمر إذن.» وأوصَدَ الباب بعُنف، وقاده للخروج إلى الحديقة.
أضاف قائلًا للأب براون: «الآن يستطيع ليونارد المسكين أن ينعم ببعض السلام. سيظلُّ محبوسًا بالداخل وحدَه تمامًا لساعةٍ أو ساعتَين.»
فأجابه القس: «أجل، وصوتُه كان يبدو مرحًا إلى حدٍّ كافٍ حين تركناه.» ثم أجال بصرَه بجدِّية في أنحاء الحديقة، ورأى أتكينسون بهيئته المُسترخية واقفًا يُجلجل بنصف الجنيه الذهبي في جيبه، وخلفه، في الشفَق الأرجواني، كان الرجل الهندي بهيئته جالسًا مُنتصبًا على أكَمةِ حشائش، مُوَلِّيًا وجهه صوب الشمس الغاربة. ثم قال على حين غِرة: «أين السيدة كوينتون؟!»
قال الطبيب: «لقد صعدت إلى حُجرتها، ها هو ظلُّها على الستار.»
أرسل الأب براون نظرَه إلى أعلى، وأمعن النظر مُقطبًا في الظل المُعتم المُلقى على النافذة المُضاءة بمصباح غازي.
ثم قال: «نعم، هذا هو ظلُّها.» ومشى ياردة أو ياردتَين، وألقى بنفسه على أحد مقاعد الحديقة.
جلس فلامبو بجانبه؛ إلَّا أن الطبيب كان واحدًا من أولئك الأُناس النَّشِطين الذين تدفعهم طبيعتهم للحركة؛ لذا سار مُبتعدًا، وهو يُدخن، في الشفَق، تاركًا الصديقَين معًا.
قال فلامبو بالفرنسية: «أبتاه، ماذا بكَ؟»
ظلَّ الأب براون صامتًا وبلا حراك لنصف دقيقة، ثم قال: «الخُرافة تنافي الدين، لكن ثمَّة شيئًا في أجواء هذا المكان. أظنُّه ذلك الهندي؛ على الأقل، جُزئيًّا.»
ثُم استغرق في الصمت، وراح يُراقِب ظلَّ الهندي البعيد الذي كان ما زال جالسًا في جمودٍ كما لو كان يُصلِّي. كان يبدو من الوهلة الأولى ساكنًا، لكن حين راقبَه الأب براون لاحظ أنَّ الرجل كان يتمايَل قليلًا جدًّا في حركة إيقاعية، مثلما كانت قِمم الأشجار المظلمة تتمايل تمايُلًا طفيفًا جدًّا في الرياح التي أخذَتْ تتسلل في ممرَّات الحديقة المُعتمة وتقلب الأوراق المتساقطة قليلًا.
أخذ الظلام يغمُر المشهد سريعًا، كما لو كانت ستهبُّ عاصفة، لكن كان ما زال باستطاعتهم رؤية كل الأشخاص في أماكنهم المُختلفة؛ فكان أتكينسون مُستندًا إلى شجرةٍ بوجهٍ خامل؛ وكانت زوجة كوينتون لا تزال عند نافذتها؛ أما الطبيب فكان قد ذهب يتمشَّى حول نهاية المُستنبَت؛ فكان باستطاعتهم رؤية سيجاره مثل سراب، وظلَّ الفقير الهندي جالسًا في جمودٍ لكنه يهتز، بينما بدأت الأشجار فوقه تهتزُّ وكادت أن تَهْدُر. كانت العاصفة آتيةً لا ريب.
استرسل براون في نبرةٍ تحاورية خافتة قائلًا: «حين تحدَّثَ الرجل الهندي إلينا، جاءني شيء شبيه بالرُّؤيا؛ رؤيا له ولعالمه كله، مع أنه لم يقُل سوى الشيء نفسه ثلاث مرَّات. حين قال: «لا أريد شيئًا.» أول مرة، كان المقصود أنه مُحصَّن؛ أن آسيا لا تكشِف عن أسرارها. ثم قال مرة أخرى: «لا أريد شيئًا.» فأدركتُ أنه كان يقصد أنه مُكتفٍ بذاته، مثل كَون أنه لا يحتاج إلى إله، ولا يُقرُّ بأيِّ آثام. وحين قال للمرة الثالثة: «لا أريد شيئًا.» قالها بعينَين لامعتَين. فأدركتُ أنه قصد ما قال حرفيًّا؛ وهو أنه لم يكن لدَيه رغبة في شيء ولا هدف؛ أنه لا يتُوق إلى أيِّ شيء كالنبيذ مثلًا؛ تلك هي الإبادة، ومجرد تدمير كلِّ شيءٍ أو أيِّ شيء …»
سقطتْ قطرتان من المطر؛ ولسببٍ ما جفل فلامبو ونظر لأعلى، كما لو أن هاتَين النقطتين قد لدَغَتاه. في نفس اللحظة، عند نهاية المُستنبَت بدأ الطبيب يجري نحوَهما، صائحًا بشيءٍ وهو يركُض.
حين وصل بينهما مِثل القنبلة تصادَف أن أتكينسون المُضطرِب كان يتَّخذ مُنعطفًا أقرب لمُقدِّمة المنزل؛ فتشبَّث الطبيب بياقته بقبضة مُباغتة، وصاح: «تصرُّفٌ حقير! ما الذي كنتَ تفعله له أيها الكلب؟»
هبَّ القسُّ واقفًا، وتحدَّث بصوتٍ فولاذي مثل جندي لدَيه سلطة القيادة.
صاح القسُّ بهدوء: «دون شِجار، إننا كافون لنُمسك بأي شخصٍ نريد الإمساك به. ما الأمر أيها الطبيب؟»
قال الطبيب وقد صار وجهه شاحبًا تمامًا: «كوينتون ليس على ما يُرام. لا يسَعُني سوى رؤيته من خلال الزُّجاج ولا يروق لي الطريقة التي هو مُستلقٍ بها. لم يكن هكذا حين تركته، على أية حال.»
قال الأب براون في الحال: «هيا نذهب إليه. يمكنك أن تترك السيد أتكينسون وحده، لقد كان تحت ناظري منذ سمِعنا صوت كوينتون.»
قال فلامبو سريعًا: «سوف أنتظر هنا وأراقبه. ادخُلا أنتما لرؤيته.»
أسرع الطبيب والقس إلى حجرة المكتب، وفتحا القُفل ووَلَجا إلى الداخل. حين دخلا كادا يسقُطان على منضدة كبيرة من خشب الماهوجني في المُنتصف اعتاد الشاعر الكتابة عليها؛ فلم يكن ثمة ضوء بالمكان سوى ضوء مِدفأة صغيرة تُرِكَت من أجل العليل. في منتصف هذه المنضدة كان يُوجد ورقة واحدة، يبدو أنها تُركت هناك عن قصد. التَقَط الطبيب الورقة، وألقى عليها نظرة، ثم ناولها إلى الأب براون، وصاح قائلًا: «يا إلهي، انظر!» واندفع إلى الحجرة الزجاجية التي كانت في الجانب الآخر من الحجرة، حيث بدَتِ الزهور المدارية المُخيفة ما زالت مُحتفظة بذكرى أرجوانية من الغروب.
قرأ الأب براون الكلمات ثلاثَ مرَّات قبل أن يضع الورقة. كان مكتوبًا: «سأموت بيديَّ؛ إلا أنني سأموت مقتولًا!» كانت الكلمات بخط ليونارد كوينتون الذي يصعُب للغاية تقليده، كما تصعُب قراءته.
ثُم تقدَّم الأب براون صوبَ المُستنبَت، وهو لا يزال مُمسكًا بالورقة، ليجد صديقَه الطبيب راجعًا بوجهٍ عَلاه اليقين والانهيار. قال هاريس: «لقد فعلَها.»
مَضَيا معًا وسط الجمال الخلَّاب غير العادي لنباتات الصبَّار وزهور الأزاليا ووَجَدا ليونارد كوينتون، الشاعر وكاتب القصص الرومانسية، وقد تدلَّى رأسُه من أريكته وخُصلات شعره الأحمر المُموَّج مُنسدلة على الأرض. كان الخنجر العجيب الذي كانوا قد التقطوه في الحديقة نافذًا في جنبه الأيسر، ويدُه المُرتخية ما زالت مُستقرة على المِقبض.
بالخارج كانت العاصفة قد أتتْ دونما سابق إنذار، كالليل في أشعار كولريدج، وغشِيَت الأمطار الغزيرة الحديقة والسقف الزجاجي. بدا أنَّ الأب براون يدرس الورقة أكثر من الجثة؛ إذ أمسك بها قريبًا من عينَيه؛ وبدا أنه يُحاول قراءتها في ضوء الغسَق. ثم رفعها قُبالة الضوء الخافت، وبينما هو يفعل ذلك، أطلَّ عليهم البرْق للحظة بضوءٍ أبيضَ ناصعٍ حتى إنَّ الورقة بدَت سوداء في مُقابِله.
تبِع ذلك ظلام عَجَّ بهزيم الرعد، وبعد الرعد صاح الأبُ براون في الظلام، قائلًا: «أيها الطبيب، هذه الورَقة تتَّخذ الشكل الخطأ.»
سأل الدكتور هاريس، مُحدقًا في عبوس: «ماذا تقصد؟»
فأجابَه الأب براون: «إنها ليست مربعة. لقد اقتُطِع حرفُها من الزاوية بعض الشيء. ماذا يعني هذا؟»
قال الطبيب مُتبرِّمًا: «كيف لي أن أعرف، بحقِّ الشيطان؟ هل تعتقد أننا يجب أن ننقل هذا الرجل المسكين؟ إنه جثة هامدة.»
أجابه القس: «لا، يجب أن نتركه راقدًا كما هو ونستدعي الشرطة.» لكنه كان لا يزال آخِذًا في تفحُّص الورقة.
أثناء عودتهما عبر حُجرة المكتب توقَّف الأب براون والتَقط مِقصَّ أظافر صغيرًا. ثم قال بشيءٍ من الارتياح: «آه، هذا ما استخدَمه في الأمر. لكن رغم ذلك …» قال ذلك وعقد حاجبَيه.
قال الطبيب بحزم: «أوه، توقَّف عن العبَث بقصاصة الورق تلك.» ثم قال مُشيرًا إلى كَومةٍ من الأوراق كبيرة القطع التي لم تُستخدَم بعدُ على منضدةٍ أخرى أصغر حجمًا: «كانت هذه إحدى هواياته. كان لدَيه المئات منها. كان يقصُّ كلَّ أوراقه بتلك الطريقة.» مضى الأب براون إليها والتقط ورقة. كانت بنفس الشكل غير المُنتظم.
قال الأب براون: «صحيح، وأرى هنا الحواف التي قُطعت منها.» ثم بدأ عدَّها، مما أثار سُخط زميله.
قال الأب براون بابتسامة اعتذار: «حسنًا. ثلاثٌ وعشرون ورقة مقصوصة واثنتان وعشرون حافةً مقصوصة منها. وحيث إنَّ صبرك نفدَ كما أرى فسوف نَلحق بالآخرين.»
تساءل الدكتور هاريس: «من الذي سيُخبر زوجته؟ هلَّا ذهبتَ وأخبرتها الآن، بينما أُرسِل أحد الخدَم للشرطة؟»
قال الأب براون في عدم اكتراث: «كما تريد.» وخرج إلى باب البَهْو.
وهنا أيضًا وجد أحداثًا مُثيرة، لكن من نَوع أكثر غرابة؛ كانت أحداثًا كشفت عن صديقه الضخم الجثة، فلامبو، وهو يتصرَّف تصرُّفًا لم يَألفْه منذ زمنٍ طويل، بينما كان أتكينسون الوديع لدى العتبة في نهاية الدرجات مُمدَّدًا أرضًا وحذاؤه في الهواء، وقد طارت قُبعته المُستديرة وعصا المشي الخاصة به في اتِّجاهَين مُتقابلَين في الطرقة. كان أتكينسون في آخر المطاف قد ضاق ذرْعًا بحبس فلامبو له كأنَّهُ أبوه، وحاول أن يطرحه أرضًا، وهو الأمر الذي لم يكن يسهُل بتاتًا أن يصنعه مع ملِك عالم الجريمة في باريس، حتى بعد تنازل ذلك الملِك عن عرشِه.
كان فلامبو على وشك الوثوب على عدوُّه والتحفُّظ عليه مرةً أخرى، حين ربَّت القس برفقٍ على كتفه.
قال الأب براون: «فلتتصالَح مع السيد أتكينسون يا صديقي. التمسا العفو أحدكما من الآخر وقولا لبعضكما: «طابت ليلتك، لسنا بحاجةٍ لاحتجازه أكثر من ذلك».» بعد ذلك، حين نهض أتكينسون في شيء من الارتِياب ولمْلَم قُبعته وعصاه ومضى صوبَ بوابة الحديقة، قال الأب براون بلهجةٍ أكثرَ جدية: «أين ذلك الهندي؟»
استدار الثلاثة جميعهم — إذ كان الطبيب قد انضمَّ إليهما — تلقائيًّا ناحية أكَمَة الحشائش المُظلمة بين الأشجار المُهتزَّة التي أضفى عليها الغسَق لونًا أرجوانيًّا، حيث رأوا الرجل ذا البشرة البُنِّية آخر مرةٍ وهو يتمايَل في صلواته الغريبة. لكن الهندي كان قد اختفى.
صاح الطبيب وهو يضرب الأرض بقدمِه: «عليه اللعنة. الآن أيقنتُ أن ذلك الزنجي هو من فعلَها.»
فقال الأب براون في هدوء: «كنتُ أظنُّك لا تؤمِن بالسحر.»
فأجابه الطبيب باستياء: «وما زلتُ غير مؤمن به. كلُّ ما هنالك أنني كرهتُ ذلك الشيطان الأصفر حين ظننتُ أنه ساحر مُزوِّر. وسوف أكرهه أكثر إن أدركتُ أنه ساحر حقيقي.»
قال فلامبو: «حسنًا، لا شيء في هروبه؛ فلم نكن سنستطيع إثبات شيءٍ ضدَّه أو فِعل شيءٍ معه؛ فلا يُمكن للمرء أن يذهب إلى شرطي الدائرة بحكايةٍ عن حالة انتحار تحت تأثير السحر أو بالإيحاء الذاتي.»
في أثناء ذلك كان الأبُ براون قد مضى إلى المنزل، وكان حينئذٍ في طريقه لنقل الخبر لزوجة الرجل الذي قضى نحْبَه.
حين خرج ثانيةً كان باديًا عليه مسحة من الشحوب والأسى، لكن لم يعرف أحدٌ قطُّ ما جرى بينهما في ذلك الحوار، حتى حينما انكشف كلُّ شيء.
فوجئ فلامبو، الذي كان يتحدَّث بهدوءٍ مع الطبيب، حين رأى صديقه يُعاود الظهور أمامه بهذه السرعة؛ لكن براون لم يُلْقِ بالًا، ولم يزِد على أن انتحى بالطبيب جانبًا، وسأله: «لقد استدعيْتَ الشرطة، أليس كذلك؟»
فأجاب هاريس: «بلى، ينبغي أن يكونوا هنا في غضون عشر دقائق.»
قال القسُّ برفق: «هلَّا أسدَيْتَني معروفًا؟ في الحقيقة، أنا أجمع هذه القصص المُثيرة للفضول، التي كثيرًا ما تحتوي، كما في حالة صديقنا الهندي، على عناصر يَستعصي وضعُها في تقريرٍ للشرطة. والآن، أريدك أن تكتُب تقريرًا عن هذه القضية من أجل استخدامي الخاص.» وقال وهو يتطلَّع في وجه الطبيب بجدِّيةٍ وثبات: «إن مهنتك مهنة بارعة. وأحيانًا أعتقد أنك على علمٍ ببعض تفاصيل هذه المسألة التي ارتأيت أنه من غير المناسب ذكرها. ولأن مهنتي بها خصوصية مثل مهنتك، فسأتعامل مع أي شيءٍ تكتبُه لي بسريَّة تامَّة. لكن اكتُب كلَّ شيء.»
نظر الطبيب، الذي كان قد ظلَّ مُصغيًا بتمعُّنٍ وقد أمال رأسَه قليلًا جانبًا، في وجه القس للحظة، وقال: «حسنًا.» ثم ذهب إلى غرفة المكتب، وأغلق الباب خلفَه.
قال الأب براون: «فلامبو، يُوجد مقعد طويل هناك أسفل الشرفة، حيث يُمكننا أن نُدخِّن بمنأًى عن المطر. أنت الصديق الوحيد لي في العالم، وأريد التحدُّث معك. أو ربما، أجلسُ صامتًا معك.»
اتَّخَذا مجلسًا مريحًا على مقعد الشرفة؛ وقَبِل الأب براون، خلافًا لعادته، سيجارًا فاخرًا وأخذ يُدخنه دون توقف في صمت، بينما أخذ المطر يرتطِم بسطح الشرفة مُحدِثًا دوِيًّا وطقطقة.
أخيرًا قال الأب براون: «هذه القضية غريبة جدًّا يا صديقي. قضية غريبة جدًّا.»
قال فلامبو، وقد سرى في جسده شيءٌ كالقشعريرة: «أعتقد أنها كانت كذلك.»
فقال الآخر: «أنت تدعوها غريبة، وأنا أدعوها غريبة، ورغم ذلك كلٌّ مِنَّا يقصد أشياء متناقضة كليةً. دائمًا ما يخلِط العقل الحديث بين فِكرتَين مُختلفتَين؛ الغموض بمعنَى ما هو مُدهِش، والغموض بمعنى ما هو مُعقَّد، وهذا ما يشكِّل نصف الصعوبة التي تكتنِف المعجزات؛ فالمعجزة مدهشة، لكنها بسيطة، إنها بسيطة لأنها معجزة، إنها قوة آتية مباشرةً من الرب (أو من الشيطان) بدلًا من أن تأتي بطريقٍ غير مباشر عن طريق الطبيعة أو مشيئة بشر. الآن، أنت تقصد أن هذا الأمر مدهش لأنه مُعْجِز، لأنه سِحر أتى به هندي شرير. ولتفهَم أنني لا أقصد أنه لم يكن رُوحانيًّا أو شيطانيًّا. الرب والشيطان وحدَهما يعلمان ما العوامل المؤثرة المحيطة التي عن طريقها تدخل الخطايا الغريبة في حياة البشر. لكن فيما يخصُّ الوقت الراهن، ما أرمي إليه هو: إن كان هذا سحرًا خالصًا، كما تعتقد، فهو مدهش، لكنه ليس غامضًا، أي؛ ليس مُعقدًا. تتَّسِم المعجزة بأنها غامضة، لكن طريقتها بسيطة. والأسلوب الذي حدث به هذا الأمر لم يكن بسيطًا.»
بدا أن العاصفة التي كانت قد هدأتْ بعض الوقت قد اشتدَّتْ مرة أخرى، وعندها حدث نشاط كثيف بدا وكأنه رعد يفتقر إلى القوة. ترك الأب براون رماد سيجاره يسقط واستأنف حديثه:
«اتَّسمت هذه الحادثة بانحرافٍ وقُبحٍ وتعقيدٍ لا يَمُتُّ بِصِلةٍ لصواعق السماء ولا الجحيم التي تُصيب هدفَها مباشرةً؛ فكما أعرف المسار المُلتوي للحلزون، أُدرِك السُّبل المُعْوَجَّة للإنسان.»
وفي غمضةِ عينٍ أبرقتِ السماء بلونٍ أبيضَ ساطع، ثم أظلمَت ثانيةً، وواصل القس كلامه:
«بين كل هذه الأشياء المُعْوَجَّة، كان الأكثر اعوجاجًا شكل قصاصة الورق تلك، كانت أكثر اعوِجاجًا من الخنجر الذي قتلَه.»
قال فلامبو: «هل تقصد الورقة التي اعترف فيها كوينتون بانتحاره؟»
فأجابه الأب براون: «أقصد الورقة التي كتَبَ فيها كوينتون: «سأموت بيديَّ.» كانت تلك الورقة على الشكل الخطأ يا صديقي؛ شكل خطأ، لم أره من قبل في هذا العالم الشرير.»
قال فلامبو: «كل ما في الأمر أنَّ حافةً من حَوافها كانت مقطوعة، وأعلم أن كل أوراق كوينتون كانت مقطوعة بتلك الطريقة.»
فقال الأب براون: «كانت طريقةً غريبة جدًّا، وسيئة جدًّا، على ذوقي وحِسِّي. اسمع يا فلامبو، ربما كان كوينتون هذا، تغمَّده الربُّ برحمته، شخصًا كريهًا بعض الشيء في بعض النواحي، لكنه كان فنانًا بحق، في استخدامه للقلم الرصاص وكذلك القلم الحِبر. كان خطه، رغم صعوبة قراءته، جريئًا وجميلًا. لا أستطيع إثبات ما أقوله؛ ولا أستطيع إثبات أيِّ شيء. لكنني أقول لك باقتناع تامٍّ إنه لا يمكن أبدًا أن يكون هو من قطع تلك القصاصة الصغيرة الحقيرة من الورقة. لو كان أراد قصَّ الورق بغرَض تنسيقه، أو تجميعه، لكان قصَّه بالمِقص على نحوٍ مختلف تمامًا. هل تذكر الشكل؟ كان شكلًا رديئًا، كان شكلًا خطأً، مثل هذا. أتذْكُر؟»
ولوَّحَ بسيجاره المُشتعل أمامه في الظلام، راسمًا مربعات غير منتظمة بسرعة شديدة، حتى بدا لفلامبو أنه يراها فعلًا على هيئة حروف مُبهَمة مشتعلة في الظلام؛ مُبهمة على مِثال ما تحدَّث عنه صديقه، يَستعصي فكُّ رموزها، لكن لا يمكن أن يكون لها معنًى طيب.
بينما كان القس يضع السيجار في فمه مرة أخرى، ويرجع بظهره للخلف، مُحدقًا في السقف، قال فلامبو: «لكن لنفترض أن شخصًا آخر استخدم المِقص بالفعل؛ فلماذا سيجعل شخصٌ آخر، بقصه القصاصات من الورق الكبير القطع، كوينتون يُقْدِم على الانتحار؟»
كان الأب براون ما زال مُسنِدًا ظهره للوراء ومُحدقًا في السقف، لكنه أخرج سيجارَه من فمه وقال: «لم يُقدِم كوينتون على الانتحار مُطلقًا.»
حدَّق فيه فلامبو وصاح: «أفٍّ، سُحقًا للأمر كله، فلماذا إذن أقرَّ بالانتحار؟»
مال القسُّ للأمام مرة أخرى، واستند بمِرفقيه إلى رُكبتَيه، ونظر إلى الأرض، وقال بصوتٍ منخفض مميز: «لم يُقر بالانتحار قط.»
ألقى فلامبو سيجاره، وقال: «هل تقصد أنَّ الرسالة زُوِّرَت؟»
قال الأب براون: «لا، من المؤكد أن كوينتون كتبَها.»
فقال فلامبو، الذي استبدَّ به الغضب: «حسنًا، ها قد قلت؛ كتب كوينتون: «سأموت بيديَّ.» بيدِه على ورقةٍ خالية.»
فقال الأب براون بهدوء: «ذات شكلٍ خطأ.»
صاح فلامبو: «آه، اللعنة على الشكل! ما علاقة الشكل بالأمر؟»
قال براون مُستطرِدًا دون أن يتحرك: «كان يُوجَد ثلاثٌ وعشرون ورقة مقصوصة، واثنتان وعشرون قصاصة فقط. ومن ثَمَّ، فلا بدَّ أنَّ إحدى القصاصات قد أُتْلِفَت، وقد تكون القصاصة المأخوذة من الورقة المكتوبة. هل يُوحي لك هذا بأيِّ شيء؟»
أشرق وجه فلامبو، وقال: «ثمَّة شيء آخر كتبه كوينتون، كلمات أخرى: «سيقولون لكم إنَّني سأموت بيديَّ.» أو «لا تصدقوا أني …»»
قال صديقه: «لقد اقتربتَ من الحل، لكنَّ عرْض القصاصة يصل بالكاد إلى نصف بوصة؛ فلم يكن بها مساحة لكلمة واحدة، ناهيك عن خمس. هل يمكنك أن تُفكر في أيِّ شيءٍ لا يكاد حجمه يزيد عن فاصلة استلزم على الرجل الذي تتأجَّج النار في قلبه أن يقتطِعه ويكون دليلًا ضدَّه؟»
قال فلامبو أخيرًا: «لا يمكنني أن أُفكر في شيء.»
قال القس: «ماذا عن علامات اقتباس؟» ثم رمى بسيجاره بعيدًا في الظلام فبدا كأنه نيزك.
حارَ الرجل الآخر جوابًا، فقال الأب براون وكأنه يعود إلى ذِكر النقاط الأساسية:
«كان ليونارد كوينتون مُؤلِّف روايات رومانسية، وكان يكتُب رواية رومانسية شرقية عن السحر والتنويم المغناطيسي. إنه …»
في هذه اللحظة، انفتح الباب خلفهما سريعًا، وخرج الطبيب مُرتديًا قُبَّعته، ثم وضع مظروفًا كبيرًا في يدَي القس.
وقال: «هذا هو المُستنَد الذي أردتَه، أما أنا فلا بدَّ أن أعود للبيت. طاب مساؤك.»
عزيزي الأب براون، لقد انتصرتَ عليَّ. ومن ناحية أخرى، اللعنة على عينَيك الثاقبتَين جدًّا. هل من الممكن أن يكون، رغم كل شيء، ثمة بعض الصحة في كل تلك الأمور التي تؤمِن بها؟
إنني رجل أومن منذ صباي بالطبيعة وبكلِّ الوظائف والغرائز الطبيعية، سواء سمَّاها البشر أخلاقية أو لا أخلاقية. قبل أن أُصبح طبيبًا بزمن طويل، حين كنتُ طالبًا في المدرسة أحتفظ بالفئران والعناكب، كنتُ أعتقد أن أفضل شيءٍ في العالم أن تكون حيوانًا مُطيعًا. لكنني الآن مصدوم؛ فقد آمنتُ بالطبيعة؛ لكن يبدو وكأن باستطاعة الطبيعة خداع الإنسان. هل من المُمكن أن يكون ثمَّة أي صحة في هرائك؟ إن الكآبة تتسلَّل إليَّ حقًّا.
لقد أحببتُ زوجة كوينتون. ماذا كان الخطأ في ذلك؟ أمرتْني الطبيعة بذلك، والحب هو أساس الحياة، كما أنَّني اعتقدتُ بصدقٍ تام أنها ستكون أكثر سعادة مع حيوان صالح مثلي عن ذلك المجنون الوضيع الذي جعل حياتها عذابًا. ماذا كان الخطأ في ذلك؟ لم أفعل شيئًا سوى مواجهة الحقائق، مثل أي رجل علم. كانت ستُصبح أكثر سعادةً معي.
وفقًا لعقيدتي كان لديَّ مُطلق الحرية لأن أقتُل كوينتون، وهذا أفضل للكُل، حتى له نفسه. لكن بصفتي حيوانًا ذا غرائز سليمة لم تُساورني فكرة أن أُلحِق بنفسي الأذى؛ لذا قررتُ ألا أقدِمَ على الأمر، إلى أن واتتْني فرصة ستجعلني أنجو من العقاب. سنحَتْ لي تلك الفرصة هذا الصباح.
دخلتُ مكتب كوينتون ثلاث مرات، بالتمام، اليوم. حين دخلتُ أول مرة، لم يتحدَّث عن شيءٍ سوى الحكاية الغريبة، التي تحمل اسم «شفاء قديس»، التي كان يكتبها، والتي تدور أحداثها كلها حول ناسكٍ هندي ما جعل كولونيل إنجليزي يقتُل نفسه بالتفكير فيه. وقد أراني الأوراق الأخيرة، بل وقرأ عليَّ الفقرة الأخيرة، التي جاء فيها شيء كهذا: «استطاع غازي ولاية البنجاب، الذي صار مجرد هيكلٍ شاحب، لكنه كان لا يزال ضخمًا، أن يستند إلى كُوعه ويهمس في أذن ابن أخيه: «سأموت بيديَّ، لكنني سأموت مقتولًا!»» وفي صدفةٍ نادرة الحدوث كانت تلك الكلمات الأخيرة مكتوبة في مقدمة صفحةٍ جديدة. تركتُ الحجرة، وخرجتُ إلى الحديقة مُنتشيًا بفرصةٍ مفزعة.
سِرنا حول المنزل؛ وجرى أمران آخران لصالحي. لقد ساورك الشكُّ بشأن الرجل الهندي، ووجدت خنجرًا يمكن أن يكون الهندي يستخدمه على الأرجح. تحيَّنتُ الفرصة لدَسِّه في جيبي ثم عُدْتُ إلى حجرة مكتب كوينتون، وأوصدتُ الباب، وناولته دواءه المُنوم. كان مُعترضًا تمامًا على الرد على أتكينسون، لكنني حثثتُه على الرد بصوتٍ عالٍ على الرجل وإسكاته؛ لأنني أردتُ دليلًا واضحًا على أن كوينتون كان حيًّا حين غادرتُ الحجرة للمرة الثانية. كان كوينتون مضطجعًا في المُستنبَت، وجئتُ أنا عن طريق حجرة المكتب. ولأنني رجل سريع اليدَين، فقد فعلتُ ما أردتُ فعله في دقيقةٍ ونصف. أفرغتُ الجزء الأول من رواية كوينتون كلَّه في المدفأة، حيث احترق وصار رمادًا. ثم رأيتُ أن علامات التنصيص لن تكون مناسبة، لذا قصصتُها، ولأجعل الأمر يبدو أكثر ترجيحًا، قصصتُ جانب رزمة الأوراق كلها لتشابُهها. ثم خرجتُ بخبر أن اعتراف كوينتون بالانتحار مُلقًى على المنضدة الأمامية، بينما كان كوينتون مُستلقيًا على قيد الحياة، لكنه نائم في المُستنبَت في الخلف.
كان التصرُّف الأخير تصرُّفًا يائسًا؛ تستطيع تخمينه: تظاهرتُ بأنني قد رأيتُ كوينتون ميتًا وهُرعتُ إلى غرفته. عطلتُك بالورقة، ولأنني سريع في استخدام يديَّ، أجهزتُ على كوينتون بينما كنتَ تُطالع اعترافه بالانتحار. كان شِبهَ نائم، لأنه كان مُخدرًا، فوضعتُ يده على السكين وأدخلتُه في جسده. كان السكين ذا شكلٍ غريب جدًّا حتى إنه لم يكن باستطاعة أحد سوى جرَّاح أن يحسب الزاوية التي يصل بها لقلبه. لا أعرف إن كنتَ لاحظتَ هذا أم لا.
حينما كنتُ قد نفَّذتُ الأمر، وقع أمر استثنائي. تخلَّتْ عني الطبيعة. شعرتُ بالسوء. أحسستُ كأنني قد ارتكبتُ شيئًا خطأً. أعتقد أن عقلي ينهار؛ أشعر ببعض السعادة اليائسة لتفكيري في أنني قد أخبرتُ أحدًا بالأمر؛ وأنني لن أضطر لمواجهة الأمر وحدي إن تزوجتُ وأنجبتُ أطفالًا. ما الذي دهاني؟ … جنون … أم إنه من الممكن أن يشعُر المرء بالذنب، كأنه إحدى شخصيات قصائد بايرون! لا يمكنني كتابة المزيد.
طبَّق الأب براون الخطاب بعناية، ووضعه في جيب سترته بينما أتى رنين عالٍ من جرس البوابة، ولمعت المعاطف المُضادَّة للماء المُبتلَّة للعديد من رجال الشرطة على الطريق بالخارج.