بامية … في منتصف الليل!
وصل «أحمد» إلى مطار الأقصر في الساعة الثامنة تقريبًا، وركب سيارة أجرة إلى فندق «الجولي فيل»، وفي الواقع كان الفندق مُفاجأةً له … فقد أقيم على جزيرة في قلب النيل، أشبه ما يكون بسفينة عائمة … ومكون من فيلات منفصلة في وسط حدائق جميلة … وشعر «أحمد» بسعادة حقيقية عندما اجتازت به السيارة الكوبري الضيق، الذي كان لدهشة «أحمد» الشديدة … السير عليه في اتجاه واحد … أي إنَّ السيارة التي تصل إلى أول الكوبري عليها الانتظار إذا كانت هناك سيارة أخرى فوق الكوبري … وهو شيء غريب!
كانت الفيلا التي خُصِّصت ﻟ «أحمد» هي رقم «١٤/أ»، وقد وجدها أنيقة ونظيفة، ولولا المهمة التي في انتظاره لاستلقى على الفراش، فقد كان مُرهقًا … ولكنه لم يُضِع وقتًا، فتح الحقيبة وأخرج ملابسه فوضعها في الدولاب، واطمأنَّ على وجود مسدَّسه الضخم من طراز «لوجر» وبعض الأسلحة والأدوات الصغيرة، وأعاد إغلاق الحقيبة بالأرقام السرية، ثم وضعها تحت الفراش وخرج …
سار في ممرَّات الحديقة حتى وصل إلى الكافيتريا … كانت مُزدحمة بالسُّياح، وجلس بجوار إحدى الموائد، وأخذ يَتظاهَر بقراءة صحيفة … ولكن عينَيه كانتا تبحثان عن «روكي ماكلين»، وظل نحو نصف ساعة دون أن يعثر للرجل على أثر … ولكن لأن موعد الوجبات في الفندق محدود، فقد كان متأكدًا أنه سيراه في موعد العشاء الذي كان بين الثامنة والعاشرة … وكانت الساعة قد اقتربت من التاسعة … وبدأ السُّياح يعودون من جولاتهم في مدينة الأقصر ويدخلون إلى المطعم … ولكن الدقائق مرت … وحتى العاشرة لم يظهر «روكي ماكلين» …
وبدأت الخواطر تغزو رأس «أحمد» … فقد يكون «ماكلين» الآن في القاهرة ليقوم بدور «كلينت جونسون» أو «كوتشن مارفن» … ولعلَّهما اثنان وليسا واحدًا ولا ثلاثة … ويا لها من خطة!
قرر «أحمد» أن يبحث عن «روكي ماكلين» ولو اقتضى الأمر ألا ينام، وهكذا طلب سيارة وقفز إليها وهو يقول للسائق: ما هي الأماكن الساهرة حتى الآن في الأقصر؟
رد السائق: الملاهي الليلية في الفنادق الكبرى … ومطعم «مرحبًا» … وهو أكبر مطاعم المدينة، ويطل على النيل وعلى معبد الأقصر.
قال «أحمد» على الفور: اذهب بنا إلى مطعم «مرحبًا»!
وقد كان ذلك منطقيًّا، فما دام «روكي» لم يتناول طعامه في «الجولي فيل»، فلا بد أنه سيتناول عشاءه في أحد المطاعم، وليس من المستبعد أن يكون «مرحبًا» ما دام أكبر مطاعم الأقصر … وبالنسبة لرجلٍ ثريٍّ مثل «ماكلين» جاء على طائرة خاصة … فسيختار أكبر المطاعم …
قطعت السيارة مسافة طويلة؛ ثم وصلت إلى ميدان واسع على النيل، وظهر معبد الأقصر، وقبر الشيخ «أبو حجاج الأقصري» الذي يجاور المعبد، بل يكاد يكون جزءًا منه، وظهر مطعم «مرحبًا» مُضاءً، في الدور الثاني لمجموعة متاجر التحف والملابس التي تقع تحته مباشرةً.
صعد «أحمد» السلالم العالية إلى مطعم «مرحبًا» … كان المطعم يشغل مساحة كبيرة على أسطح المحلات … مُزدانًا من الداخل بالنقوش العربية والمعمار العربي … وقد فاحت منه رائحة الطعام اللذيذ … ودخل المطعم … وكان مُزدحِمًا بعددٍ كبير من السُّياح وغيرهم من القادمين لزيارة الآثار من مُختلِف أنحاء مصر … ونظر «أحمد» نظرة شملت الجميع، ولكن «روكي» لم يكن بينهم … وخرج «أحمد» إلى «تراس» المطعم … كانت هناك أعداد أخرى من هواة الطعام اللذيذ قد تناثَرُوا على الموائد … وشملهم «أحمد» بنظرة واسعة … ولكن مرَّة أخرى لم يكن «روكي» هناك.
اختار «أحمد» مائدة مُنعزلة عند طرف «التراس» تطلُّ على النيل ومعبد الأقصر معًا … كان الجو رغم موسم الشتاء دافئًا كما هي العادة في مدن الصعيد … جلس ومدَّ ساقيه أمامه … وأحس بالراحة تغمر جسده بعد النهار المُرهِق الطويل …
كان على المائدة التي جلس إليها بضع ورقات بيضاء مد يده إليها دون وعي، وأخذ يُقلبها … كانت مجموعة من الرسومات الكروكية لمعبد ما … ربما في الأغلب لمعبد الكرنك بأعمدته المستديرة الضخمة … وكانت هناك بعض علامات ومسافات محدَّدة.
وأخذ «أحمد» يتأمل الأوراق، عندئذ ظهر رجلان وأقبلا عليه … كان أحدهما أحمر الوجه مُبتسمًا، بينما الآخر كان طويل القامة أسمر … شعره مزيج من السواد والبياض … رائع الطول … مزهوًّا.
تقدم ذو الوجه الأحمر من «أحمد» وقال له: ألم يَأتِك أحد لخدمة العشاء؟
رد «أحمد»: لقد وصلتُ منذ دقائق قليلة!
الرجل: آسف … سيكون أحدهم في خدمتك فورًا … إننا في قلب الموسم والزحام شديد.
أحمد: الحمد لله …
الرجل: الحمد لله … الموسم هذه السنة لا بأس به … وأُحب أعرفك بنفسي «سعود» … صاحب المطعم.
ثم أشار إلى الرجل الأسمر وقال: الأستاذ «محمد عبد الرحيم» من أعيان الأقصر ورجل أعمال.
وضحك السيد «سعود» وهو يقول: لم تَعُد هناك موائد فارغة، هل تسمح لنا بالجلوس معك؟
أحمد: إن هذا يسعدني …
جلس الرجلان، ولاحظ السيد «سعود» الأوراق البيضاء، فضحك وقال لصديقه: تصور … لقد نسي أوراقه كعادته.
فقال السيد «عبد الرحيم»: إنه لا بد أن ينسى شيئًا ما … إنه محترف نسيان …
وضحك الرجلان، وقال السيد «سعود»: إنه زبون عندنا منذ يومين … رجل فاحش الغنى جاء على طائرة خاصة.
لم يكد «أحمد» يسمع هذه الجملة حتى تنبَّهت حواسه كلها … وقال: طائرة خاصة!
وقال السيد «سعود»: نعم … وهو يُفضِّل تناول طعامه في مطعمنا هذا؛ وفي كل مرة يأتي ينسى شيئًا هنا.
أحمد: وهل هذه أوراقه؟
السيد «سعود»: نعم … فقد كان يتناول عشاءه منذ ساعتين تقريبًا ثم غادرنا مسرعًا ليلحق بفوج السُّياح الذين يزورون معبد الكرنك.
أحمد: كم المدة التي تستغرقها الزيارة؟
السيد «سعود»: نحو ساعتَين … وهناك بضع دورات للزيارة، آخرها تبدأ في الثامنة وتنتهي في العاشرة.
نظر «أحمد» إلى ساعته … كانت قد أشرفت على الحادية عشرة، وعاوَد النظر في الرسوم، لقد تأكد الآن أن «روكي» في الأقصر … وأنه رسم هذه الرسوم … ولكن هل ذهب حقًّا إلى معبد الكرنك … أم استقل الطائرة إلى القاهرة؟!
قال «أحمد» متسائلًا: ما هي آخر رحلة من الأقصر إلى القاهرة؟
ردَّ السيد «سعود»: منتصف الليل … هناك طائرة كل ساعتين تقريبًا.
وحضر الجرسون، وقال السيد «سعود» ضاحكًا: هل تَسمح لي أن أختار لك العشاء؟
أحمد: «بكل سرور».
تحدَّث السيد «سعود» إلى الجرسون وقال: «رمضان» … أحضِر للأستاذ طاجن بامية وسلطة خضراء.
قال «أحمد»: طاجن بامية قُرب مُنتصَف الليل؟!
رد الأستاذ «عبد الرحيم» قائلًا: إن البامية سهلة الهضم، وأنا شخصيًّا سوف أطلب نفس الطلب.
وأخذ السيد «سعود» الأوراق التي تركها «روكي»، قائلًا: سأحتفظ بها حتى يعود.
وكان ذهن «أحمد» قد التقط صورة للأوراق لا تُنسى.