لقاء في الظلام!
عاد «أحمد» بعد تناول عشاءه اللذيذ إلى فندق «الجولي فيل»، وكانت الموسيقى الخفيفة تُعزف في الصالة … والروَّاد قد جلسوا في الكافيتريا … أو خرجوا إلى هدوء الليل … وشاهد قميصًا أزرق، وعندما نظر في وجه صاحبه لم يشكَّ لحظة أنه «روكي ماكلين» … كانت هناك اختلافات لا تُخطِئها العين … ولكن لو أن شخصًا عاديًّا رآه ورأى «كلينت جونسون»، لظنَّ أنه هو، وهكذا أدرك «أحمد» أن الثلاثة ليسوا واحدًا … ربما كانا اثنين … هذا هو المُمكن الوحيد …
واختار «أحمد» مائدة بعيدة يستطيع منها أن يراقب «روكي»، الذي كان منهمكًا في حل ألغاز الكلمات المتقاطعة … وقد وضع أمامه زجاجة من المياه الغازية … كان مفتول العضلات … حاد الملامح … ولكن المؤكَّد أن شكله لا يوحي برجل أعمال شديد الثراء جاء إلى الأقصر لقضاء إجازة … خاصةً وأن رجال الأعمال لا يسافرون وحدهم، وعادةً ما يكون معهم حاشية من السكرتارية والحراس والأتباع.
إذن فإن «روكي ماكلين» قد جاء لغرض آخر … ولكن لماذا اثنان أو ثلاثة وليس واحدًا لهذه المهمة … اغتيال العالِم «فيتز»؟ هناك لغزٌ ما … وبعد نحو نصف ساعة، قام «روكي» واتجه إلى موظف الاستقبال. فأسرع «أحمد» هو الآخر ليأخذ مفتاحه، واستطاع أن يلتقط رقم كابينة «روكي»، وكانت رقم «١٦ / ١»، أي إنه معه في نفس القسم من الفندق.
وسار «روكي»، ومن بعيد سار «أحمد» خلفه، واتجه الرجل رأسًا إلى الكابينة المحاطة بالزهور وفتح بابًا ودخل … واتجه «أحمد» إلى كابينته … ولكنه لم يفتح الباب، بل توقف في المدخل ثم جلس القرفصاء خلف المائدة الموضوعة خارج الكابينة، وانتظر لحظات يراقب «روكي»، ولكن الرجل لم يظهر مرة أخرى.
دخل «أحمد» الكابينة دون أن يشعل النور، وجلس بجوار الحائط الزجاجي المُجاور للباب، ثم شد الستارة جانبًا وأخذ يطلُّ على الكابينة «١٦ / ١» حيث نزل «روكي»، وطال الوقت دون أن يحدث شيء، ولكن شعورًا خفيًّا كان يجتاح «أحمد» بأن «روكي» سيخرج مرة أخرى …
كانت الليلة الشتوية في الأقصر رائعة … وقمر صغير كأنه لعبة يقف في الأفق البعيد ينير الأرض إنارة شاعرية … واقتربت الساعة من منتصف الليل، وسمع «أحمد» في الهدوء الذي يشمل المكان صوت باب يُفتح، وركز على باب كابينة «١٦ / أ»، ووجد الباب يُفتح بهدوء شديد، ثم خرج «روكي»، والشيء المدهش أنه كان يلبس ملابس سوداء كاملة، فبدا كشبح رهيب …
خرج «روكي» وأقفل الباب خلفه بحذر، وبدلًا من الاتجاه إلى مبنى الفندق الرئيسي حيث الإدارة والمطاعم، اتخذ الطريق الخلفي المؤدي إلى المزارع … وخرج «أحمد» خلفه، وأخذ يسير خلف الأشجار حتى لا يراه «روكي»، الذي دار حول الفندق دورة واسعة، ثم ذهب إلى مكان تخزين الدراجات، حيث تضع إدارة الفندق عددًا كبيرًا من الدراجات لاستعمال النزلاء …
أخذ «روكي» أول دراجة، ثم امتطاها وأخذ يتحرَّك بمهارة خارجًا من نطاق الفندق، وأسرع «أحمد» يأخذ دراجة هو الآخر وتسلل خلف «روكي»، الذي سرعان ما اجتاز الكوبري الصغير الرفيع، وخلفه من بعيد كان «أحمد»، ظلَّ «روكي» يقود الدراجة بجوار شاطئ النيل نحو عشر دقائق، ثم انحرف يمينًا في طريق ضيِّق حتى وصل إلى مجموعة من أشجار التوت، وأطلق من بطارية الدراجة شعاعًا متقطعًا من النور، وظهر شعاع آخر مماثل من قلب الأشجار …
نزل «أحمد» من على الدراجة، وأخفاها على جانب الطريق، ثم تسلَّل بهدوء إلى حيث كانت الأشجار … وشاهد شبح «روكي» يتحدث مع رجل آخر … اقترب «أحمد» بقدر ما يستطيع، وعلى ضوء القمر البعيد شاهد «كلينت» في نفس الملابس السوداء يتحدث مع «روكي» ويُسلمه حقيبة … ثم ظهر رجل ثالث يرتدي الملابس البلدية، ووقف ينظر حوله في حذر.
لم تَستغرِق مقابلة الرجال الثلاثة إلا ثلاث دقائق فقط، ثم عاد «روكي» إلى دراجته ومعه الحقيبة، فوضعها على المقعد الخلفي وربطها جيدًا، ثم اتخذ طريقه عائدًا … لم يذهب «أحمد» خلف «روكي»؛ فقد كان متأكدًا أنه سيعود إلى الفندق، وقرَّر أن يتبع الرجلين الآخرين … ولكنهما استقلا سيارة كانت بانتظارهما وانطلقا مسرعين، ولم يكن أمام «أحمد» ما يفعله فعاد يركب دراجته، ومن بعيد كانت دراجة «روكي» تسبقه بمسافة واسعة، ثم اختفى «روكي» فجأةً، وعبثًا حاول «أحمد» العثور عليه، فقرر العودة سريعًا إلى الفندق وانتظاره …
وصل «أحمد» إلى الفندق، فوضع الدراجة مكانها ثم دخل كابينته وربض في الظلام ينتظر حضور «روكي» من خلف الستارة.
مرت أكثر من ساعة قبل أن يظهر «روكي» عائدًا على قدميه، والمفاجأة أن الحقيبة لم تكن معه، وأحس «أحمد» أنه أخطأ لأنه لم يتبعه من البداية … فماذا كان في الحقيبة؟ ومن الذي تسلمها؟
دخل «روكي» كابينته وأغلق الباب، وأخذ «أحمد» يستبدل ثيابه استعدادًا للنوم، عندما دق جرس التليفون في الكابينة … كان المتحدث «عثمان».
قال «عثمان»: أبلغتْني «إلهام» منذ ساعة أن «كلينت» اختفى من الفندق منذ المساء ولم يعد حتى الآن … وقد طلبتُك منذ ساعة ولم أجدك في الفندق!
أحمد: إن «كلينت» هنا، وقد كنتُ خلف «روكي»!
عثمان: «كلينت» في الأقصر؟
أحمد: نعم … لقد قابل «روكي» منذ ساعة تقريبًا، وكان مع «كلينت» شخص آخر، وقد سلمه حقيبة أعتقد أن بها بندقيةً أو سلاحًا آخر، أخذها «روكي» وسلمها لشخص آخر لم أستطع معرفته … أو ربما أخفاها في مكان ما لحين الحاجة إليها!
عثمان: وماذا ترى؟
أحمد: أعتقد أن عملية الاغتيال ستتم هنا، وهل وصل «فيتز»؟
عثمان: يصل غدًا … وبعد غد سيكون بالأقصر.
أحمد: إذن تعالَ أنت و«رشيد»، واطلب من «زبيدة» أن تراقب «كوتشن مارفن» جيدًا …
عثمان: وبقية الشياطين؟
أحمد: فليأتِ ثلاثة منهم، ودعهم ينزلون في فندق «ونتر بالاس» حتى لا نجتمع كلنا في مكان واحد.
عثمان: هل أُبلغ رقم «صفر» بهذه التطورات؟
أحمد: طبعًا … وإذا كانت هناك معلومات جديدة فأبلغها لي.
عثمان: هل ستحجز لنا في «الجولي فيل»؟
أحمد: إن تذكرة الطائرة يتم معها الحجز إذا أردت.
عثمان: سنكون عندك غدًا.
أحمد: في المساء … بعد هبوط الظلام.
عثمان: تُصبح على خير.
أحمد: تُصبح على خير.
استبدل «أحمد» ثيابه ثم استلقى على فراشه مُحاولًا النوم … كانت عشرات الخواطر تمُرُّ بذهنه ومن بينها: هل من الأفضل أن يُبلغ سلطات الأمن بكل ما حدث؟! ولكن لو أنهم قبضوا على الرجال الثلاثة ولم يعترفوا بشيء فماذا تكون النتيجة؟!
وقرر أن يستمر الشياطين اﻟ «١٣» في العمل، تاركين رجال الأمن يؤدون مهمتهم بالطريقة التي تحلو لهم … وأخذت الخواطر تتلاشى تدريجيًّا كالضباب … وانتظمت أنفاس «أحمد» أخيرًا وذهب في سبات عميق …