الباب الأول
فيما اخترناه من شعر صريع الغواني مسلم بن الوليد
قال مسلم:
ومُلتطم الأموَاج يرمي عبابه
بجرجرة الآذيِّ للعِبْر فالعِبْر
ملتطم الأمواج يريد البحر، والعُباب كثرة الماء، والجرجرة صوت الماء، والآذي الموج،
والعبر حافة النهر أو البحر. قال النابغة:
فما الفرات إذا هبَّ الرياح له
ترمي أواذيُّه العبرَين بالزبد
يقول ورُبَّ بحر مُلتطم الأمواج ركبته صفته كذا وكذا.
مطعَّمةٍ حيتانه ما يُغبُّها
مآكل زادٍ من غريقٍ ومن كَسْرِ
يقول إنَّ حيتانه تأكُل كل يوم مِن بقايا الغرقى والسُّفُن المُتكسِّرة؛ يَصفه
بالهول.
إذا اعتنَقَت فيه الجنوبُ تكفَّأت
جواريه أو قامَت مع الرِّيحِ لا تجري
يقول إذا هبَّت ريح الجنوب في هذا البحر اضطربَت المراكب التي فيه، فصارت أعاليها
أسافل
أو وقفت تلك المراكب لا تَسير ولا تبرَح؛ وذلك من هول البحر وشدته.
كأنَّ مدبَّ الموج في جنَباتها
مدبُّ الصَّبا بين الوعاث مِن العُفْرِ
العُفر جمع أعفر وهو الكثيب الأحمر، والوعاث: أي اللينة. يقول كأن مدب الريح في جنبات
السفينة، وقد ارتفع الموج حولها، مدبَّ الريح بين كثبان الرمال اللينة؛ فالرِّيح تُجري
الرمل كذا وكذا.
كشَفتُ أهاويلَ الدُّجى عن مهولِه
بجاريةٍ محمولةٍ حاملٍ بِكْر
يقول كشفتُ أهوال الليل عن هول ذلك البحر بجارية أي بسفينة، ومحمول: أي يَحملها الماء،
وحامل: أي الناس في أحشائها فكأنَّها حامل بهم. وجاء في بعض رسائل الأدباء هذه العبارة:
هال
عليها البحر فسَقاها كأس الحِمام وأولَدَها قبل التمام. وبِكر: أي أنها لم تُركَب قبل.
يريد
أنه قطع ذلك البحر وأهواله قاصدًا رجلًا مدَحه.
لطمتُ بخدَّيها الحُباب فأصبَحَتْ
مُوقَّفةَ الدايات مَرتُومَةُ النَّحرِ
الحُباب الموج، وموقَّفة الدايات: أي مخطَّطة الظهر. يقول إن الماء قد جعل فيها خطوطًا
من
الخُضرة، ومرتومة النحر: أي في نَحرِها بياض؛ وذلك أن أصحاب السفائن يجعلون في صدر السفينة
شيئًا أبيضَ إما جيرًا وإما محارًا.
إذا أقبلَت راعَت بقُنَّة قرهبٍ
وإن أدبَرَتْ راقَتْ بقادِمتَي نَسْرِ
يقول إذا أقبلَتْ إليكَ السفينة أفزعتْك برأس ثورٍ وحشي مُسنٍّ، شبَّه به السلوقية
التي
يَقعد عليها الرائس في صدر المركَب وإذا أدبَرَت عنك راقتك بقادمتي نسر؛ أي أعجبَتْك
بقاذف
كأنها جناحا نسر.
تَجافَى بها النُّوتيُّ حتَّى كأنَّما
يَسيرُ من الإشفاق في جبلٍ وَعرِ
تجافى: أي تنحَّى عن الحجارة التي تحت الماء، والإشفاق الخور.
تخلَّج عن وجهِ الحباب كما انثنَتْ
مخبأةٌ من كِسْر سِتْرٍ إلى سِتْرِ
تخلَّج: أي تَتنحى عن مَواضع الحجارة في البحر لئلا تُصاب كما تنحَّت جارية مخبَّأة
من
كسر ستر إلى ستر، والكسر ما عن يمين الخباء وشماله وهما كسران.
أنافَ بهادِيها ومدَّ زمامها
شديدُ علاج الكفِّ مُعتمِل الظَّهرِ
الهادي العنق، والمعتمل العامل لنفسه، قال القائل:
إنَّ الكريمَ وأَبيكَ يَعتمِل
إن لم يَجِد يومًا على مَن يَتَّكِل
يقول أشرفَ بعُنقِها ومدَّ زمامها نُوتيٌّ شديد علاج الكف مُعتمل الظهر؛ أي ظهره عامل
إلى
جذب الحبال مع يدَيه.
كأنَّ الصَّبا تَحكي بها حين واجهَت
نسيمَ الصَّبا مشْيَ العروسِ إلى الخِدرِ
شبَّه سير السفينة في الرِّفق واللين بسير العروس.
يَمَمْنا بها ليلَ التمام لأربعٍ
فجاءت لستٍّ قد بقينَ مِن الشَّهرِ
يقول قصدناها ليلَ التمام لأربع عشرة مضت من الشهر فبلغَت الممدوح لست ليالٍ بقين
من
الشهر.
فما بلَغَت حتى اطِّلاحِ خَفيرها
وحتى أتَت لون اللِّحاء مِن القِشرِ
يريد ما وصلت حتى كلَّ خفيرها أي حافظُها وملَّ من التعب، وحتى أتت: أي صارت، واللحاء
القشر الرقيق الذي دون القشر الغليظ.
وحتى علاها الموجُ في جنَباتها
بأرديةٍ مِن نَسجِ طحلبِه خُضْرِ
يقول وما بلغت أيضًا حتى كساها الموج في جنباتها أردية خضراء من طحلب.
تؤمُّ محل الراغبين وحيث لا
تُذاد إذا حلَّت به أرحُل السفر
أرحُل جمع رَحْل وهو إكاف الجمل. يقول إنَّ هذا الممدوح الذي قصده لا يَمنع أحدًا
من
رفقائه، ولا يجفي؛ أي لا يَستخفُّ بأحد، بل يُكرم الضيفان ويُعطي الوافدين
والطرَّاق.
ركبنا إليه البحرَ في مؤخِّراته
فأوفَتْ بنا من بعد بحرٍ إلى بحرِ
وقال أيضًا ينعت الخمر:
معتقةٌ لا تَشتكِي وطأ عاصرٍ
حروريةٌ في جوفها دمُها يغلي
يقول إنما سالت من العنب بلا عصر، وقولُه حرورية شبَّهها في الشجاعة برجل حَروري يَغلي
دمه ليفور.
شقَقْنا لها في الدنِّ عَينًا فأسبَلَتْ
كما أسبَلَتْ عينُ الخريد بلا كُحلِ
يقول شقَقنا لها في الدنِّ ثقبًا ففاضَت كما فاضَت عينُ الخَريدة.
كأنَّ حباب الماء حين يَشجُّها
لآلئ عِقدٍ في دماليجَ أو حِجْلِ
الحجل: الخلخال.
كأنَّ فنيقًا بازلًا شُكَّ نحرُه
إذا ما استدرَّت كالشُّعاعِ على البُزلِ
يقول كأن صبيبَها إذا ثُقِبَت هذه الخابية كصبيب دمٍ انبعث من نحرٍ، جمل فنيق أي أبيض
حين
نُحِر، والنَّحر أن يُطعَن في ثغرته وهي النقيرة في أصل حلقه.
كأنَّ ظباءً عُكَّفًا في رياضِها
أبا ريقُها أوجسْنَ قعقعةَ النَّبلِ
ودارَتْ علينا الكأس من كفِّ طفلةٍ
مُبتَّلةٍ حوراءَ كالرَّشأ الطفلِ
وحنَّ لنا عُودٌ فباحَ بسرِّنا
كأن عليه ساقُ جاريةٍ عُطْلِ
باح بسرِّنا: أي أطربنا فأظهر كل واحد منا ما كان يكتم من الشوق إلى حبيبه.
تُضاحكه طَورًا وتَبكيهِ تارةً
خدلجةٌ هيفاءُ ذاتُ شوًى عبلِ
الخدلَّجة: المرأة الحسَنة الخَلق.
إذا ما اشتهَينا الأُقحوان تبسَّمت
لنا عن ثنايا لا قِصار ولا ثُعْلِ
الثعل: التي يدخلها اعوجاج.
وأسعَدَها المِزمار يَشدو كأنه
حكى نائحاتٍ بتنَ يَبكينَ مِن ثُكْلِ
أقامت لنا الصَّهباءُ صدرَ قناتها
ومالَتْ علينا بالخَديعة والختلِ
أي قوَّمت لنا أمرها فاستقام لنا شربها، ومالت علينا بالخديعة: أي خدَعتنا في
عقولنا.
إذا ما علَتْ منا ذُؤابةُ شاربٍ
تمشَّتْ به مشْيَ المُقيَّدِ في الوَحلِ
وقال أيضًا:
إليكَ أمينَ الله ثارَتْ بِنا القَطا
بناتُ الفَلا في كلِّ ميثٍ مُسرَّدِ
المِيث الليِّن من الأرض، ومُسرَّد مُتتابع.
أخذنَ السُّرى أخذ العنيف وأسرَعَتْ
خُطاها بها والنجمُ حيرانُ مهتدِ
أخذْنَ أي النوق.
فلما انتضى الليلُ الصباحَ وصلْنَه
بحاشيةٍ مِن فُجرِه المُتورِّدِ
يُريد أنهم وصَلوا سَير الليل بسير النهار.
لبسنَ الدُّجى حتى نضَتْ وتصوَّبَتْ
هوادي نجومِ الليل كالدَّحوِ باليَدِ
حتى نضَتْ وتصوَّبت، يعني النجوم تصوبت إلى الغرب كأنها تُدفَع باليد.
يكون مقيلُ الرَّكبِ فوق رِحالها
إذا منَعَت لمسَ الحَصى كلُّ صَيْخَدِ
يريد أن الركب ينامون فوق ظهور تلك النُّوق ولا يَنزلون عنها من كدِّهم في صميم القائلة،
والصَّيخَد شدة الحر.
وقاطعةٍ رِجْل السَّبيلِ مخوفةٍ
كأنَّ على أرجائها حدُّ مِبْرَدِ
يقول ورُبَّ مفازة قاطعة رجل السبيل؛ أي لا يدخلها أحد، فكأنها تقطع عن نفسها أرجل
الناس.
عزوفٍ بأنفاس الرِّياحِ أبيةً
على الرَّكبِ تَستعصي على كلِّ جَلعَدِ
أراد أنَّ الريح تُصوِّت في تلك الفلاة لانخِراقها واتِّساعها.
يُقصِّر قابَ العين في فلَواتها
نواشزُ صفوانٍ عليها وجلمَدِ
قاب العين: أي مدَّ البصر، ونواشز صفوان: أي كُوًى مُرتفعة من صفوان. يريد أنه إذا
بسط
لحظه ومدَّه في تلك الفلاة ارتفع أمامه جبل لا يرى ما وراءه من الأرض ولا يَعرِف ما
يحجب.
مؤزرةٌ بالآلِ فيها كأنَّها
رجالٌ قُعودٌ في ملاءٍ مُعضَّدِ
يقول إنها قد لبسَتِ الآل في أسافل جبالها وبقيَت قننها فظهَرت كأنها رجال قعودٌ في
ملاءٍ
بيض قد بدَتْ رءوسهم منها.
تناوَلْتُ أقصاها إليك ودُونَه
مقصٌّ لأعناق النَّجاءِ العَمَرَّدُ
مقصٌّ: أي مُقطِّع لأعناق النَّجاء.
وقال أيضًا:
أصبحتُ كالثَّوبِ اللبيسِ قدَ اخلَقَت
جِدَّاتُه منه فعادَ مُذالا
وبقيتُ كالرَّجلِ المُدلَّه عقلُه
أَشكو الزمان وأَضرِبُ الأَمثالا
سالَمْتُ عُذَّالي فآبُوا بالرِّضى
عنِّي وكنتُ أُحارب العُذالا
ولقد علمتُ بأنه ما مِن فتًى
إلا سيُبدَل بعد حالٍ حالا
وقال أيضًا:
سلْ ليلةَ الخِيفِ هل أمضَيتُ آخرَها
بالرَّاح تحت نَسيمِ الخُرَّد الغِيدِ
شجَجَتُها بلُعابِ المزن فاغتزَلَتْ
نسجَينِ مِن بين محلولٍ ومَعقودِ
وقال أيضًا:
أنافَ به العلياء يحيى وجَعفرٌ
فليس له مِثلٌ ولا لهما مِثلُ
لهم هضبةٌ تَأوي إلى ظلِّ برمكٍ
منوطًا بها الآمالُ أطنابُها السُّبلُ
وقال أيضًا:
وما أبقَتِ الأيام منِّي ولا الصِّبا
سوى كبدٍ حرَّى وقلبٍ مُقتَّلِ
ويومٍ من اللذَّات خالَستُ عَيشه
رقيبًا على اللذات غيرَ مُغفَّلِ
فكنتُ نديمَ الكأسِ حتى إذا انقضَتْ
تعوَّضتُ منها ريقَ حَوراء عيطَلِ
العَيطَلِ الخالية من الحُلي.
نَهاني عنها حبُّها أن أُريبَها
بسُوءٍ فلم أَفتِك ولم أتبتَّلِ
يقول لم أَهجُم عليها وأَفتِك بها ولا بعدتُ عنها وزهدتُ فيها كلَّ الزُّهد.
سقَتْني بعينَيها الهُوى وسَقَيتُها
فدبَّ دبيبَ الراحِ في كلِّ مفصَلِ
وإن شئتُ أن ألتذَّ نازلتُ جِيدَها
فعانقتُ دونَ الجِيدِ نظْمَ القَرَنفُلِ
نظْم القَرنفُل عِقد يُنظَم من حَب القَرنفل ويُسمَّى السخاب.
وممكورةٍ رُوْدِ الشباب كأنها
قضيبٌ على دعصٍ من الرَّملِ أهيَلِ
الممكورة: الجارية الضامِرة.
خلوتُ بها والليلُ يَقظان قائمٌ
على قدمٍ كالرَّاهبِ المُتبتَّلِ
فلما استمرَّت مِن دُجى الليل دُولةٌ
وكاد عمودُ الصُّبحِ بالصُّبح يَنجلي
تَراءى الهوى بالشوق فاستحدَثَ البكا
وقال للذَّات اللقاء ترحَّلي
فلم ترَ إلا عَبرةً بعد عَبرةٍ
مُرقرقةٍ أو نظرةً بتأمُّلِ
وقال أيضًا:
لما بدا القمرُ استَحْيَتْ فقلتُ لها
بعضَ الحياءِ فإنَّ الحُب قد ظهَرا
تُكاتِمُ القمرَ الوجهَ الذي ضَمِنَت
والوجهُ منها ترى في مائه القَمَرا
وقال أيضًا:
أمُنتجِعًا مَروًا بأثقالِ همِّه
دعِ الثِّقْل واحمل حاجةً ما لها ثِقْلُ
ثناءً كعَرْف الطِّيبِ يُهدَى لأَهلِه
وليس له إلا بني خالدٍ أهلُ
فإن أغشَ قومًا بعدهم أو أَزُرْهمُ
فكالوَحشِ يَستدنيه للقَنصِ المَحلُ
وقال أيضًا:
مُوفٍ على مُهَجٍ واليومُ ذو رهَجٍ
كأنه أجلٌ يَسعى إلى أملِ
يَنالُ بالرِّفقِ ما يَعيا الرجال به
كالموت مُستعجِلًا يأتي على مهل
لا يرحلُ الناس إلا نحوَ حُجرته
كالبيتِ يُفضِي إليه مُلتقى السُّبُلِ
لا يَعبقُ الطِّيبُ خدَّيهِ ومَفرِقَه
ولا يُمسِّح عينَيهِ مِن الكُحُلِ
أي لا يتطيَّب ولا يتكحَّل.