الباب الثاني
فيما اخترناه من شعر أبي نواس الحسن بن هانئ
قال أبو نواس:
ركبٌ تساقَوا على الأكوارِ بَينَهُمُ
كأسَ الكَرى فانتَشى المَسقيُّ والسَّاقي
كأنَّ أَرؤسَهم والنومُ واضِعُها
على المَناكِبِ لم تُخلَق بأَعناقِ
سارُوا فلم يَقطَعُوا عقدًا لراحلةٍ
حتى أناخُوا إليكم قبلَ إِشراقِ
يقول إنهم ساروا ليلَهم كلَّه ولم يُنيخوا حتى أتَوكُم قبل الشروق.
من كلِّ جائلة التَّصديرِ ناجيةٍ
مُشتاقةٍ حَمَلت أوصالَ مُشتاقِ
جائلة التصدير يُريد ناقةً ضامِرة جال صدارها.
ومِن أحسن ما قيل في السَّير والسُّرى قول الآخر:
أنا في السُّرى والسَّيرِ كالطِّفل الذي
يجدِ السكون إذا تحرَّك مهدُه
وقال بعضهم في الردِّ على مَن يقول إنَّ في السفر به يبلغ الوطر:
كم سفرة نفعَت وأُخرى مثلها
ضرَّت ويَكتسِبُ الحريص ويُخفِقُ
كالبدر يَكتسِب الكَمال بسَيرِه
وبه إذا حُرِم السعادةُ يُمحَق
وقال أيضًا:
ولقد تجوبُ بي الفلاة إذا
صام النهار وقالَتِ العُفْر
صام النهار: أي قام قائم الظهيرة، والعفر الظباء، وقالت من القيلولة، وهي لا تَقيل
إلا
إذا اشتدَّ الحر، قال الحارث بن حلزة:
حتى إذا التفَعَ الظِّباء بأطـ
ـرافِ الظِّلال وقلنَ في الكنَسِ
شدنيةٌ رعت الحِمى فأتت
ملء الحِبال كأنَّها قصرُ
الشدنيات من النُّوق منسوبة إلى موضع باليمن، وتشبيه الناقة بالقصرِ قديم، قال
عنترة:
فوقفتُ فيها ناقَتي وكأنها
فدَنٌ لأقضيَ حاجة المُتلوِّمِ
والفدن القصر.
تَثني على الحاذَين ذا خُصَلٍ
تعماله الشَّذرَانُ والخَطَرُ
الحاذان تثنية حاذ وهو ظاهر الفخذ، وذا خصل يَعني ذنَب الناقة، والخُصَل قِطَع الشعر.
يقول إنها تَضرب فخذَها بذَنَبها، وتعماله الشذران والخطر: أي تَضرِب به يَمينًا
وشمالًا.
أما إذا رفَعَتْه شامِذةً
فتقولُ رنَّق فوقَها نَسْرُ
يقال شمذت الناقة تَشمذ: أي لقحت فشالت بذنَبها. يقول إن رفَعَت ذنَبها حلَّق فوقها
كأنه
نسر.
أما إذا وضعَتْه عارضةً
فتقول أُرخيَ فوقَها سِتْرُ
وفي هاتَين الحالتَين يقول طرفة:
فطورًا به خلف الزَّميلِ وتارةً
إلى حشفٍ كالشنِّ ذاوٍ مجدَّدِ
وتُسفُّ أحيانًا فتَحسبها
مترسِّمًا يقتادُه إثرُ
وتسفُّ: أي تُشدِّد النظر وتُحده، والإثر الأثر، قال القائل:
على إثرِ حيٍّ عامِدِين لنيَّة
فحلُّوا العتيق أو ثنية مُطرِقِ
يقول إنها تَنظر لأعطاف الطُّرُق وتتأمَّلها كأنها قائف ينظر إلى أثر ويتتبعه.
فإذا قصرتَ لها الزِّمام سما
فوق المقادم مِلطمٌ حُرُّ
الملطم: الخد.
فكأنَّها مُصغٍ لتُسمِعَه
بعضَ الحديث بأذنِه وقْرُ
هذا كقول مسلم:
والعيس عاطِفة الرءوس كأنما
يَطلُبنَ سرَّ محدِّثٍ في الأحلس
يَرمي إليك بها بنو أملٍ
عتَبُوا فأعتبَهم بك الدهرُ
وقال أيضًا، وقد نهاه الأمين عن شرب الخمر:
أيها الرائحان باللَّوم لُوما
لا أذوق المُدام إلا شَميما
فاصرفاها إلى سواي فإنِّي
لستُ إلا على الحديث نَديما
كبر حظِّي منها إذا هي دارَت
أن أراها وأن أَشُمَّ النسيما
فكأني وما أُزيِّن منها
قعديٌّ يُزيِّن التَّحكيما
رجل قعدي منسوب إلى القعد، والقَعد الشُّراة الذي يَحكمون ولا يُحاربون ولا يتخذون
لهم
ديوانًا، والقعد جمع قاعد، كما قالوا حارس وحرس.
كَلَّ عن حمله السلاحَ إلى الحَر
ب فأوصى المُطيقَ أن لا يُقيما
وقال أيضًا:
وبِتْنا كغُصنَي بانةٍ عَطَفَتهما
مع الصبح ريحا شمألٍ وجنوبِ
إلى أن بدا ضوءُ الصباح كأنه
مَبادي نُصولٍ في عِذارِ خَضيبِ
وقال أيضًا في الخمر:
كأن بقايا ما عفا من حبابها
تَفاريقُ شيبٍ في سواد عِذارِ
تُعاطيكها كفٌّ كأنَّ بنانها
إذا اعترضَتْها العين صفُّ مَدارِ
وقال أيضًا:
إذا كان إبراهيم جارَك لم تَجِد
عليك بناتُ الدهر من مُتقدَّمِ
لقد حطَّ جار العبدريُّ رحاله
إلى حيث لا تَرقى الخطوب بسُلَّمِ
العبدري نسبة إلى عبد الدار. يريد أن جار هذا الممدوح يأمن خطوب الزمان.
وجَدنا لعبد الدار جرثومَ عزةٍ
وعاديةً أركانُها لم تُهدَّمِ
عبد الدار هو ابن قصي أخو عبد مناف، وعادية: أي قديمة، نسبة إلى عاد. يُريد مناقبَ
عريقةً
في الكرم.
إذا اشتَعبَ الناس البيوت فإنهم
أُولو الله والبيتِ العتيق المُحرَّمِ
إليكَ ابنَ مُستَنِّ البطاح رمَت بنا
مقابَلةٌ بين الجديل وشدقَمِ
الجديل وشدقم فحلان كريمان تُنسَب إليهما كرام الإبل. يقول سارت بنا إلى هذا الممدوح
إبل
مقابلة الطرفين من جديل وشدقم، أمهاتها لجديل وآباؤها لشدقم أو بالعكس.
مَهارى إذا أُشرعن حرَّ مفازةٍ
كرعْنَ جميعًا في إناءٍ مُقسَّمِ
نفخْنَ اللُّغام الجَعدَ ثم ضربْنَه
على كلِّ خَيشُومٍ نبيل المُخطَّمِ
حدابير ما ينفكُّ في حيث برَّكت
دمٌ من أظلٍّ أو دمٌ من مُخدَّمِ
حدابير: أي قُوِّست من طول السير، والأظل باطن الخف، والمُخدَّم من الناقة مَوضِع
الخلخال
من المرأة. يريد أن هذه النوق نُقِبَت فالدم يَجري من أظلها.
وقال أيضًا:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراءُ
وداوِني بالتي كانت هي الداءُ
قامت بإبريقِها والليل مُعتكِرٌ
فلاحَ من وَجهِها في البيت لألاء
وقال بعضهم:
فدُونك قهوة لم يُبقِ منها
تقادُم عَهدِها إلا الأقلا
بزَلنا دنَّها والليلُ داجٍ
فصيَّرتِ الدُّجى شمسًا وظلا
فأرسَلَتْ من فمِ الإبريق صافيةً
كأنما أخَذَها بالعين إغفاءُ
دارَت على فتيةٍ ذلَّ الزمانُ لهم
فما يُصيبُهمُ إلا بما شاءوا
وقال أيضًا:
لما تبدَّى الصبح من حِجابه
كطلعَةِ الأشمط من جِلبابه
وانعدلَ الليلُ إلى مآبِه
كالحبَشي افترَّ عن أنيابِه
هِجنا بكلبٍ طالَما هجنا به
كأن متنَيه لدى انسلابه
هجنا به: أي هجنا الصيد به.
متن شجاعٍ لجَّ في انسيابه
كأنما الأُظفُور في قِنابه
الشجاع الثعبان، والقناب مقر الظفر.
موسى صَناعٍ رُدَّ في نِصابه
تراه في الحَضَر إذا هاها به
الصَّناع الحاذق، وهابَه: أي أغراه على الصَّيد.
الإهاب: الجلد.
وقال أيضًا يَنعتُ كلبًا لسَعَته حيَّة فمات:
خرجتُ والدنيا إلى تَبابِ
به وكان عُدتي ونابي
أصفرَ قد ضُرِّج بالمَلاب
كأنما يُدهَن بالزِّريابِ
الملاب نوع من الطيب أصفر اللون كالزعفران، والزِّرياب الذهب.
فبينما نحن به في الغابِ
إذ برَزَت كالحةُ الأَنيابِ
كالحة الأنياب يَعني حية.
رقشاءُ جرداءُ من الثياب
كأنما تُبصِرُ من نقاب
فعَلِقَت عُرقوبَه بناب
فخرَّ وانصاعَت بلا ارتياب
كأنما تَنفُخ من جراب
وقال بعضهم يصف ثعبانًا:
يَنظُر من عين بلا حِملاق
إن نام لا يَكلؤها بماق
يشمُّ منك موضع النِّطاق
بوخذةٍ من ذرب حذاق
يَكتُمُه في هرَّت الأشداق
ليَكُ من حديدة الحلاق
ترى على اللبات والتراقي
إهالة من سُمِّه المُراقِ
مثل القذى لجْلَجَ في المآقي
وقال أيضًا:
ما زلت أستلُّ رُوح الدنِّ في لطفٍ
وأستقي دمَه من جوفِ مجروح
حتى انثنيتُ ولي رُوحان في جسدي
والدن مُنطرحٌ جسمًا بلا رُوحِ
وقال أيضًا:
لِمَن دِمَنٌ تزداد حُسنَ رسومِ
على طول ما أقوَتْ وطِيبِ نَسيمِ
تَجافى البلا عنهنَّ حتى كأنما
لبسنَ على الإقواء ثوبَ نَعيمِ
وما زال مدلولًا على الرَّبع عاشقٌ
حسير لباناتٍ طليحَ هُمومِ
يرى الناس أعباءً على جَفنِ عينه
ولو حلَّ في وادي أخٍ وحميمِ
يودُّ بجدع الأنف لو أن ظَهرها
من الإنسِ أعرى من سراة أديمِ
وقال أيضًا:
أمَا ترى الأرض ما تَفنى عجائبُها
والدهر يَخلِط ميسورًا بمعسورِ
وليس للهمِّ إلا كلُّ صافيةٍ
كأنها دمعةٌ في عين مهجورِ
وقال أيضًا:
وشرابٍ ألذَّ من نظرِ المَعشـ
ـوق في وجهِ عاشقٍ بابتسامِ
لا غليظٌ تَنبو الطبيعة عنه
نَبوةَ السمع عن شنيع الكلامِ
وقال أيضًا:
لم ترضَ عني وإن قرَّبت متكئي
يا راضيَ الوجه عني ساخطَ الجُودِ
بل استترتَ بإظهار البشاشةِ لي
والبِشرُ مثل استِتار النار في العُودِ
وقال أيضًا:
كأنَّ ثيابه أطلعْـ
ـنَ من أزراره قمَرا
بوجهٍ سابريٍّ لو
تصوَّب ماؤُه قَطَرا
يَزيدُكَ وجهُه حسنًا
إذا ما زدتَه نظَرا
وقال أيضًا:
يا ابن إبراهيم يا عبد الملِك
واثقًا أقبلتُ بالله وبك
أنتَ للمال إذا أصلحته
فإذا أنفقتَه فالمالُ لك
وقال أيضًا:
ودارِ نَدامى عطَّلوها وأدلجوا
بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارسُ
مساحبُ من جرِّ الزقاق على الثرى
وأضغاثُ ريحانٍ جنيٌّ ويابسُ
حبستُ بها صحبي فجددتُ عهدَهم
وإني على أمثال تلك لحَابِسُ
تُدارُ علينا الراحُ في عسجديةٍ
حبَتْها بأنواعِ التَّصاويرِ فارسُ
قرارتها كِسرى وفي جنباتها
مهًا تدريها بالقسيِّ الفوارسُ
فللراحِ ما زُرَّت عليه جُيوبها
وللماء ما دارَتْ عليه القلانسُ
قال ابن المزرع: سمعتُ الجاحظ يقول: لا أعرف شعرًا يَفضُل هذه الأبيات التي لأبي نواس،
ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا لهو الشِّعر ولو نُقر
لطن،
فقلت له: ويْحك ما تُفارق عمل الجرار والخزف.
وقال بعضهم يصف قتالًا:
أَأُمَيمُ لو شاهدتِ يوم نِزالنا
والخيل تحت النَّقْع كالأشباح
تطفو وتَرسُب في الدماء كأنها
صُوَر الفوارس في كئوس الراح