الباب الثالث
فيما اخترناه من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي
قال أبو تمام:
قفا نُعطِ المنازل من عيونٍ
لها في الشَّوقِ أنواءٌ غزارُ
عفَت آياتهنَّ وأيُّ ربعٍ
يكون له على الزمن الخيارُ
أثافٍ كالخدود لُطمنَ حزنًا
ونؤيٌ مثل ما انفصمَ السِّوارُ
وكانت لوعةٌ ثم اطمأنَّت
كذاك لكلِّ سائلةٍ قرارُ
وقال أيضًا يصف فرسًا ويمدح:
نِعمَ متاع الدنيا حَباك به
أروعُ لا جيدرٌ ولا جبسُ
الجيدر القصير، والجبس الضعيف الجبان.
أصفر منها كأنه محة الـ
ـبيضة صافٍ كأنه عجسُ
محة البيضة صفارها، والعجس مقبض القوس، يُضرب به المثل في الصفرة.
هاديه جذعٌ من الأراك وما
خلف الصَّلا منه صخرةٌ جلسُ
الهادي العنق، والصلا الظَّهر، وصخرة جلس أي صلبة وبها سُميَت الناقة جلساء.
يكاد يَجري الجاديُّ من ماء عطـ
ـفَيه ويُجنى من متنه الورسُ
الجادي الزعفران.
هُذِّب في جنسه ونال المدى
بنفسه فهو وحده جنسُ
وهو إذا ما ناجاهُ فارسُه
يَفهم عنه ما تفهم الإنسُ
وهو إذا ما أعرتَ غُرته
عينَيكَ لاحت كأنها برسُ
البرس: القطن.
وقال بعضهم:
طرفٌ من الصبح له غُرَّة
ومن رياح أربع أربع
ضُمِّخ من لونه فجاءَ كأن
قد كُسفَت في أديمه الشمسُ
هذَّب همي به صقيلٌ من الـ
ـفتيان أقطارُ عرضِه مُلْس
يقول أعطاني هذا الفرس صقيل من الفتيان أي نقي طاهر العرض.
أبو عليٍّ أخلاقه زهرٌ
غبُّ سماءٍ وروحه قدس
أبيضُ قُدَّت قدَّ الشراك شرا
ك السبت بيني وبينه النفسُ
يقول إن نفسًا واحدة قُدت بيني وبينه قدَّ الأديم.
للمجد مُستشرِفٌ وللأدب الـ
ـمجفو تِربٌ وللنَّدى حِلسُ
حلس أي ملازم، يقال: فلان حِلسُ بيته؛ أي ملازمه لا يخرج منه.
وحومةٌ للخطاب فرَّجها
والقوم عُجْمٌ في مثلها خُرس
شكَّ حَشاها بخُطبةٍ عننٍ
كأنَّها منه طعنةٌ خَلسُ
طعنة خِلس أي مُختلَسة يريد أنها سريعة.
أروع لا مِن رياحه الحرجف الصِّـ
ـرُّ ولا مِن نُجومه النَّحسُ
يَشتاقُه من جماله غدُه
ويُكثرُ الوجدَ نحوَه الأَمسُ
أيامُنا في ظلاله أبدًا
فصلُ ربيعٍ ودهرُنا عُرسُ
لا كأناسٍ قد أصبَحُوا صدأ الـ
ـعيشِ كأنَّ الدنيا بهم حبسُ
وقال أيضًا:
راحٌ إذا ما الراح كُنَّ مطيَّها
كانت مطايا الشوق في الأحشاء
صعُبَتْ وراض المزج سيِّئ خُلْقها
فتعلَّمتْ من حسن خُلْق الماءِ
خرقاء يَلعب بالعقول حبابها
كتلاعُبِ الأفعال بالأسماءِ
ومن لطيف ما قيل في الحَباب قول القائل:
يَجول حَباب الماء في جنباتها
كما جال دمعٌ فوق خدٍّ مورَّدِ
وقال آخر:
تدلَّى عليها حسام المَزجِ فامتنَعَتْ
بلامة للحَباب الجمِّ حصداءُ
وضعيفةٌ فإذا أصابت فرصةً
قتَلَتْ كذلك قدرةُ الضُّعفاءِ
وقال أيضًا:
يا أيها المَلِك النائي بغُرَّته
وَجُودُه لِمُرجِّي جُودِه كثَبُ
كثب: أي قريب.
ليس الحِجاب بمُقْصٍ عنك لي أملًا
إنَّ السماء تُرجَّى حين تَحتجِبُ
وقال أيضًا:
كلُّ يوم تُبدي صروف الليالي
خُلُقًا من أبي سعيدٍ عجيبا
طاب فيه المديحُ والتذَّ حتى
فاق وصف الديار والتشبيبا
غرَّبته العُلا على كثرة الأهـ
ـل فأضحى في الأقرَبين غريبا
وقال أيضًا:
حُوَّلٌ لا فعاله مَرتعُ الذم ولا
عِرضه مَراحُ العُيوبِ
الحُوَّل الرجل الداهية. قال معاوية رضي الله عنه لابنتِه وهي تُمرِّضه على فراشه:
إنك
لتُقلبِّين حُوَّلًا قُلَّبًا.
سُرُحٌ قوله إذا ما استمرَّت
عُقدة العِيِّ في لسان الخطيب
سُرُح أي سهل القول مِنطيق ذلق اللسان.
لا مُعَنًّى بكلِّ شيءٍ ولا كل
عجيبٍ في عينه بعجيب
ليس يَعرى عن حُلةٍ من طراز الـ
ـمدح مِن راجزٍ بها مُستثيبُ
فإذا مرَّ لابِس الحمد قال الـ
ـقوم: مَن صاحبُ الرداءِ القشيبِ
وإذا كفُّ راغبٍ سلَبَتْه
راح طلقًا كالكَوكبِ المشبوب
ما مهاة الحجال مسلوبةً أظـ
ـرف حسنًا من ماجدٍ مَسلُوبِ
واجدٌ بالخليل مِن برحاء الشـ
ـوق وجدانَ غيرِه بالحَبيبِ
كلُّ شَعبٍ كنتم به آلَ وهبٍ
فهو شعبي وشعبُ كلِّ أديبِ
إنَّ قلبي لكم لكالكَبِد الحرَّ
ى وقلبي لغَيركم كالقُلوب
وقال أيضًا:
إذا العيسُ لاقَت بي أبا دلفٍ فقد
تقطَّع ما بَيني وبين النوائبِ
تكاد عَطاياه يجنُّ جُنونُها
إذا لم يُعوِّذها بنغمةِ طالبِ
إذا حرَّكتْه هزة المجد غيَّرت
عَطاياه أسماء الأماني الكواذِبِ
يَرى أقبحَ الأشياء أوبة آملٍ
كسَتْه يد المأمول حُلة خائب
وأحسنَ من نورٍ تُفتِّحه الصَّبا
بياضَ العطايا في سوادِ المَطالِبِ
وقال أيضًا:
هَب مَن له شيءٌ يُريد حجابَه
ما بالُ لا شيءٍ عليه حجاب
ما زال وسواسٌ لقلبي خادعًا
حتى رجا مطرًا وليس سحابُ
ما إن سمعتُ ولا أَراني سامعًا
يومًا بصحراءٍ عليها بابُ
ما كنتُ أدري لا دريتُ بأنه
يجري بأفنية البيوت سَرابُ
وقال أيضًا:
وثناياك إنها إغريض
ولآلٍ تُومٌ وبرقٌ وميضُ
وأقاحٌ مُنوِّرٌ في بطاحٍ
هزَّه في الصباح روضٌ أريضُ
وقال أيضًا:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ
طُويَتْ أتاحَ لها لسان حسودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ
ما كان يُعرف طيبُ عَرْف العودِ
وقال بعضهم:
في الناس مَن لا يُرتجى نفعُه
إلا إذا مُسَّ بإضرارِ
كالعُود لا يُطمَع في ريحِه
إلا إذا أُحرَق بالنارِ
وقال أيضًا:
إليكَ هتَكْنا جنْحَ ليلٍ كأنه
قد اكتحلَتْ منه البلاد بإثمدِ
تخبُّ بنا أُدْم المهارى وشيمها
على كلِّ نشزٍ مُتلئبٍّ وفَدفدِ
الأدم البِيض، والشيم التي فيها سواد وبياض، والنَّشز المرتفع من الأرض، والفدفد المستوي
من الأرض.
تُقلِّب في الآفاق صِلًّا كأنما
يُقلِّبُ في فكَّيهِ شِقَّة مِبرَدِ
الصل الحية.
أتيتُك لم أفزَعْ إلى غَيرِ مَفزَعٍ
ولم أَنشُدِ الحاجات في غيرِ مَنشَدِ
ومَن يَرجُ معروفَ البَعيدِ فإنَّما
يدي عوَّلَتْ في النَّائباتِ على يَدِي
وقال أيضًا:
قَراني اللُّهَى والودَّ حتَّى كأنَّما
أفاد الغِنى مِن نائلي وفَوائدِي
فأصبحتُ يَلقاني الزمانُ لأجلِه
بإعظامِ مولودٍ وإشفاقِ والدِ
وقال أيضًا يَصِف خيلًا:
كأنَّني بي قد زنتُ ساحتَها
بمُسمِحٍ في قيادِهِ سَلِسِ
أحمَرُ منها مثل السبيكة أو
أحوى به كاللَّمى أو اللَّعَسِ
أو أدهمٍ فيه كمتةٌ أَمَمٌ
كأنه قطعةٌ من الغلسِ
الكمتة حُمرة مشوبة بسواد، والغلس الظلام.
مُخلَّق وجهه على السَّبْقِ
تخليقَ عَروسِ الأبناء للعُرُسِ
الأبناء هم جماعة من الفُرس سكَنت اليمن وتعربت.
حُرٍّ له سَورةٌ لدى السَّوط
والزجر وعند العِنان والمَرَسِ
والمرَس هو الحبل يُريد به الرسن.
فهو يَسُرُّ الرواض بالنزق السا
كن منه واللين والشَّرَسُ
صَهْصَلقٍ في الصَّهْيَلِ تَحسبُه
أُشرِجَ حُلقُومُه على جَرَسِ
صهصلق: أي شديد الصوت.
وقال أيضًا:
إنَّ المَنازِلَ ساوَرَتها فُرقةٌ
أخلَتْ مِن الآرامِ كلَّ كِناسِ
الآرام الظباء، والكِناس بيت الظبي.
مِن كلِّ ضاحكةِ الترائب أُرهفَتْ
إرهافَ خُوط البانَةِ المَيَّاسِ
الخوط الغصن.
بِكْرٌ إذا ابتسَمَت أراك وميضُها
نورَ الأَقاحِ برملةٍ مَيعاسِ
وإذا مشَتْ ترَكَت بقَلبِكَ ضِعفَ ما
بحُليِّها مِن كَثرةِ الوَسواسِ
وقال أيضًا:
مَهاةُ النَّقَا لولا الشَّوى والمآبضُ
وإنْ مَحَضَ الإعراضَ لي منكِ ماحِضُ
يقول هي مهاة النقا لولا دقَّة أطرافها، وقوله: إنْ مَحَض الإعراض، أي أقول ذلك وإن
أعرضَت عني كل الإعراض.
رعَتْ طرفَها في هامةٍ قد تَنكَّرَت
وصوَّحَ منها نبتُها وهو بارِضُ
البارض أول ما يَنبُت من النبات.
فصدَّتْ وعاضَتْه أسًى وصَبابةً
وما عائضٌ منها وإن جلَّ عائضُ
يقول فهجرتهُ وعوَّضتهُ من نفسها الأسى والصبابة،
وقوله: وما عائض منها وإن جلَّ عائض، يقول وما المعتاض منها معتاضًا شيئًا وإن جلَّ ذلك
الشيء.
وقال أيضًا:
فما صُقِلَ السيفُ اليماني لمشهدٍ
كما صُقِلَت بالأمس تلك العوارضُ
ولا كشفَ الليلَ النهارُ، وقد بَدا
كما كُشِفَت تلك الشئون الغوامِضُ
ولا عَمِلت خرقاء أوهَت شعيبَها
كما عَمِلَت تلك الدموعُ الفَوائضُ
الخرقاء المرأة الحمقاء، والشَّعيب السقاء البالي.
وأخرى لحَتْني حين لم أمنَعِ النوى
قيادي ولم يَنقُضْ زماعيَ ناقِضُ
الزماع العزم.
أرادَت بأن يَحوي الغِنى وهو وادِعٌ
وهل يَفرُسُ الليثُ الطُّلى وهو رابضُ؟
هي الحرَّة الوجناءُ وابنُ مُلمَّةٍ
وجأشٌ على ما يُحدِث الدهرُ خافضٌ
إذا ما رأتْه العيسُ ظلَّتْ كأنما
عليها من الوِردِ اليَماني نافِضُ
الوِرد الحُمى، والنافِض رعدة الحمى.
إليكَ سَرى بالمَدحِ قومٌ كأنَّهم
على الميسِ حيَّات اللصابِ النَّضانضُ
الميس الرجال.
مُعيدين وِردَ الحَوضِ قد هدَّم البِلى
نصائبه وانمحَّ منه المَراكِضُ
النصائب حِجارة تُنصبُ حول الحوض، والمراكض جوانبُ الحوض.
تَشيم بروقًا من نداك كأنها
وقد لاحَ أُولاها عروقٌ نَوابِضُ
فما زِلنَ يَستشرينَ حتَّى كأنما
على أفقِ الدنيا سيوفٌ رَوامِضُ
الروامض الحادة.
فلم تَنصرِم إلا وفي كلِّ وَهدةٍ
ونشزٍ لها وادٍ من العرفِ فائضُ
وقال أيضًا:
بمهديِّ بنِ أصرمَ عاد عُودي
إلى إيراقه وامتدَّ باعي
سعى فاستنزلَ الشرفَ اقتسارًا
ولولا السعي لم تَكُنِ المَساعي
ونغمة مُعتفٍ يَرجوه أحلى
على أذنيه من نغمِ السَّماعِ
جعلتَ الجود لَألاءَ المَساعي
وهل شمسٌ تكونُ بلا شُعاعِ
ولم يَحفظْ مُضاعَ المجدِ شيءٌ
من الأشياء كالمالِ المُضاعِ
ولو صوَّرتَ نفسَك لم تَزِدْها
على ما فيكَ مِن كرمِ الطِّباعِ
وقال أيضًا يَمدح محمد بن الهيثم ويذكر خلعةً خلَعها عليه:
قد كَسانا مِن كسوة الصَّيف خِرْقٌ
مُكتسٍ من مكارمٍ ومَساعِ
خرق: أي كريم.
حُلةً سابريةً ورداءً
كسَحا القيض أو رداءِ الشُّجاعِ
القيض قشر البيض الأعلى، والسحا القشرة الرقيقة التي بين قِشر البيضة ولبِّها، والشجاع
الثُّعبان.
كالسَّرابِ الرَّقراقِ في العنت إلا
أنه ليس مثلَه في الخِداعِ
يَطرُد اليومَ ذا الهجير ولو شُـ
ـبِّه في حرِّه بيَومِ الوَداعِ
خِلعةٌ من أغرَّ أروَعَ رحبِ الصـ
ـدر رحبِ الفؤاد رحبِ الذِّراعِ
سوف أكسوه ما يُعفِّي عليها
من ثناءٍ كالبُرد بُرد الصِّناعِ
ويُعجبني قول الآخر، وقد لامَته صاحبته على خَلِقِ ثيابه وهو:
يا هذه إن رحتُ في
خَلِق فما في ذاك عارُ
هذي المُدام هي الحياة
قميصُها خزفٌ وقارُ
وقال ابن حرب في طيلسانه:
طيلسانُ لو كان لفظًا إذًا ما
شكَّ خلق في أنه بهتان
كم رفَوناه إذ تمزَّق حتى
بقي الرَّفوُ وانقضى الطَّيلسانُ
وقال أيضًا:
لا غروَ إن فنَنَانِ من عيدانةٍ
لقيا حِمامًا للبرية آكلا
إنَّ الأشاء إذا أصاب مُشذَّبٌ
منه اتمهلَّ ذُرًى وأثَّ أسافِلا
يقول إن مات ابناك فسيَزيد نسلُك كالنَّخل الذي إذا شُذب وقُطع منه طال وكَثُرت
فروعه.
وقال أيضًا، وقد سمع مُغنية تُغني بالفارسية فاستحسن الصوت ولم يعرف المعنى:
ولم أفهم مَعانيها ولكن
ورَت كبدي فلم أجهَلْ شَجاها
ورت كبدي: أي أدوتها.
فبتُّ كأنَّني أعمى مُعنًّى
يُحبُّ الغانيات وما يراها
وقال أيضًا:
يا برقُ طالَعَ منزلًا بالأَبرَقِ
واحدُ السحابَ له حُداءَ الأينَقِ
دِمنٌ لوَتْ عزمَ الفؤادِ ومزَّقتْ
فيها دموعُ العَينِ كلَّ ممزَّقِ
لا شَوقَ ما لم تَصْلَ وجدًا بالتي
تأبى وصالَك كالأبا ء المُحرَقِ
الأبا ء القصب.
ما مُقرَّبٌ يختال في أَشطانِه
ملآن من صَلفٍ به وتَلَهْوُقِ
ما نكرة موصوفة واقعة على فرس وما بعدها صفات لها، يَعني فرسٌ هذه صفاته أمطاكه الحسن
بن
وهب، والصلف النشاط.
بحوافرٍ حُفْرٍ وصُلْبٍ صُلَّبٍ
وأشاعرٍ شُعْرٍ وخَلقٍ أخلَق
حُفر جمع أحفر: أي مُستدير من غير صغر، والأشاعر ما حول الحافر، وشُعر كثيرة الشعر،
والأخلق الأملس.
وبشُعلةٍ نَبْذٍ كأنَّ فُلولها
في صهوتَيهِ بدوُّ شَيبِ المَفرِقِ
ذو أولقٍ تحت العِجاج وإنما
من صحةٍ إفراطُ ذاكَ الأَولَقِ
الأولق الجنون.
تُغرى العيون به فيُفلق شاعرٌ
في نعتِه وصفًا وليس بمُفلِقِ
بمُصعَّدٍ من نعتِه ومُصوَّبٍ
ومجمَّعٍ من حسنِه ومُفرَّقِ
صَلَتان يُبسَطُ إن عدا أو إن رَدى
في الأرض باعًا منه ليس بضيِّقِ
الصلتان النشيط الحديد الفؤاد، وإن ردى: أي سار.
وتَطرَّقُ الغُلَواءُ منه إذا عدا
والكبرياءُ له بغَير تَطرُّقِ
مسودُّ شَطرٍ مثل ما اسودَّ الدُّجى
مبيضُّ شطرٍ كابيضاضِ المُهرَقِ
أهدى كنازٌ جده فيما مضى
للمِثل واستصْفَى أباه ليَلبَقِ
يلبق والمثل ملِكان من ملوك قحطان. يقول إن كناز ملك فارس أهدى جدَّ هذا الفرس للمثل
وأهدى ليلبق أباه.
قد سالَتِ الأوضاحُ سَيل قرارةٍ
فيه فمُفتَرَقٌ عليه ومُلتقِ
القرارة محلُّ استقرار الماء بعد السيل.
فكأنَّ فارسَه يُصرِّف إذ بدا
في متنِه ابنًا للصَّباحِ الأبلَقِ
صافي الأَديمِ كأنَّما ألبستَه
من سندسٍ بُردًا ومن إستبرَق
إمليسُه أُملودُه لو عُلِّقَت
في صهوتَيهِ العينُ لم تتعلَّقِ
يُرقى وما هو بالسليم ويَغتدي
دون السِّلاح سلاحَ أروَعَ مُملَقِ
في مطلبٍ أو مَهربٍ أو رغبةٍ
أو رهبةٍ أو موكبٍ أو فَيلَقِ
أمطاكَه الحسنُ بن وهبٍ إنه
داني ثَرى اليد من رجاء المُملِقِ
يُحصَى مع الأنواء فيضُ بنانه
ويُعدُّ من حسناتِ أهل المَشرِقِ
يستنزل الأمل البعيد ببِشرِه
بُشرى الخميلة بالرَّبيع المُغدِقِ
وكذا السحائب قلَّما تدعو إلى
معروفها الروادُ إن لم تَبرُقِ
لو كان سَيفًا ما استبنتَ لنَصلِه
متنًا لفرط فرندِه والرَّونقِ
ثبَتَ البيانُ إذا تلعثَمَ قائلٌ
أضحى شِكالًا للسانِ المُطلَقِ
لم يتَّبع شَنِعَ اللغات ولا مشى
رسفَ المُقيَّد في حدود المنطق
في هذه خبث الكلام وهذه
كالسور مضروبًا له والخندَقِ
في هذه: أي في شَنِع اللغات خبث الكلام، وهذه: أي حدود المنطق كالسور المضروب لا يتخطاه
العقل.
يَجني جناة النحل في أعلا الرُّبا
زهرًا ويَشرع في الغدير المُتْأقِ
يشرع: أي يكرع.
أُنُفُ البلاغةِ لا كمَن هو حائرٌ
مُتردِّدٌ في المَرتَعِ المُتعرِّقِ
عِيرٌ تفرَّق إن حداها غيره
ومتى يَسُقْها وادعًا تَستوسِقِ
تنشقُّ في ظُلَم المعاني إن دجَت
منه تباشيرُ الكَلامِ المُشرِقِ
وقال أيضًا:
كم نعمةٍ لله كانَت عنده
فكأنَّها في غربةٍ وإسارِ
كُسيَت سبائبَ لُؤمه فتضاءلت
كتضاءُل الحسناء في الأَطمارِ
وقال أيضًا:
سُميذعٌ يتغطى من صنائعه
كما تغطَّت رجالٌ من فضائحِها
وفأرة المِسك لا يُخفي تضوُّعَها
طول الحجاب ولا يُزري بفائحها
وقال أيضًا:
لَبِستُ سواه أقوامًا فكانوا
كما أغنى التيمُّم بالصَّعيدِ
فتًى أحيَتْ يداه بعدَ يأسٍ
لنا المَيْتَينِ من بأسٍ وَجُودِ
وقال أيضًا:
مُطَّردٌ الآباء في نسبةٍ
كالصُّبح في إشراقه الساطعِ
مناسبٌ تُحسَب من ضوئها
منازلًا للقمر الطَّالعِ
وقال أيضًا:
عبَّس اللحدُ والثرى منكَ وجهًا
غير ما عابسٍ ولا قطَّابِ
أطفأ اللحدُ والثَّرى لبَّك المسـ
ـرجَ في وقت ظُلمةِ الألبابِ
وتبدَّلتَ منزلًا ظاهر الجدبِ
يُسمَّى مُقطِّع الأسبابِ
منزلًا موحشًا وإن كان معـ
ـمورًا بِحُلِّ الصَّديق والأحباب
يا شهابًا خبا لآل عُبيدِ اللـ
ـه أَعزِز بفقد هذا الشِّهابِ
زهرةٌ غضةٌ تفتَّح عنها الـ
ـمجد في منبتٍ أنيق الجنابِ
خُلُقٌ كالمُدام أو كرضابِ المِسـ
ـك أو كالعبير أو كالملابِ
وحياءٌ ناهيكَ في غير عيٍّ
وصبًا مُشرقٌ بغيرِ تَصابِ
قصَدَت نحوَه المنية حتى
وهَبَت حسنَ وجهه للتُّرابِ
وقال أيضًا:
راحَت وفودُ الأرضِ عن قبره
فارغة الأيدي ملاء القلوبِ
قد عَلِمَت ما رُزِئَتْ إنما
يُعرف فقدُ الشمس عند المَغيبِ
إذا البعيد الوطنِ انتابه
حَلٌّ إلى نِهْيٍ ووادٍ خَصيبِ
النهي مستقر الغدير.
أدنَتْهُ أيدي العيسِ من ساحةٍ
كأنها مسقَطُ رأسِ الغَريبِ
ونعمةٍ منه تَسرْبَلْتُها
كأنَّها طرَّة بُردٍ قشيبِ
من اللَّواتي إن وَنَى شاكرٌ
قامَت لمُسدِيها مقام الخَطيبِ
وقال أيضًا:
مشَتْ قلوبُ أُناسٍ في صدورِهِمُ
لما رأوكَ تُمشِّي نحوَهم قَدَما
أمطرْتَهُم عزماتٍ لو رَمَيت بها
يوم الكريهة ركن الدَّهر لانهدما
أبدلت أرؤسهم يوم الحفيظة من
قَنا الظهور قَنا الخطي مُدَّعَما
وقال بعضهم في الرماح:
من كل أزرقَ لا يُعييه نُضحُ دمٍ
مثل اللسانِ فما يَنفكُّ ذا بَلَلِ
وقال آخر في هذا الباب:
يَمضي بها الرمحُ إلى عقبِه
كأنه يَرقع ما يخرقُ
مِن كل ذي لمةٍ غطت ضفائرها
صدر القناة فقد كادَت تُرى علَما
وقال أيضًا:
عهدي بهم تَستنيرُ الأرضُ إن نزَلوا
بها وتَجتمِعُ الدُّنيا إذا اجتَمَعوا
ويَضحَكُ الدهرُ منهم عن غطارفةٍ
كأنَّ أيامَهُم من حُسنها جُمَعُ
وقال أيضًا:
ولو كان يفنى الشعر أفنتْه ما قرَّت
حياضُكَ منه في العصور الذَّواهِبِ
ولكنَّه صوبُ العقولِ إذا انجلَت
سحائبُ منه أُعقِبَت بسَحائبِ
وقال أيضًا:
ما يُحسِنُ الدهرُ أن يَسطو على رجلٍ
إذا تعلَّق حبلًا من أبي حَسنِ
فتًى تريشُ جناحُ الجودِ راحَتَه
حتى يَخال بأن البُخلَ لم يَكُنِ
وتَشتري نفسُه المعروفَ بالثمن الـ
ـغالي ولو أنها كانَت من الثمَنِ
حاطَت يداه من الإسلام ضاحيةً
وحالتا بين طرفِ الدَّهر والوَسَنِ
وقال أيضًا:
لقد جلَّى كتابَك كلُّ بثٍ
جوٍ وأصاب شاكلةَ الرمي
وكان أغضَّ في عيني وأندى
على كبدي من الزَّهرِ الجني
وأحسنُ مَوقعًا مني وعِندي
من البُشرى أتَتْ بعدَ النَّعِي
وضُمِّن صدره ما لم تُضمَّن
صدور الغانياتِ مِن الحُلي
وقال أيضًا:
أَخِرِستَ إذ عايَنْتَني حتَّى إذا
ما غبتَ عن بصري ظللتَ تَشدَّقُ؟
قل ما بَدا لك يا ابن تُرنى فالصَّدى
بمهذَّبِ العِقيان لا يَتعلَّقُ
وقال أيضًا:
لم أرَ عيرًا جمَّةَ الدَّءوبِ
تُواصِل التهجير بالتأويبِ
أبعدَ من أينٍ ومِن لغوبِ
منها غداةَ الشارقِ المَهضوبِ
نجائبًا وليس مِن نَجيبِ
شبائه الأعناقِ بالعَجوبِ
العجوب يريد الأذناب.
كالليلِ أو كاللُّوب أو كالنُّوبِ
منقادةً لعارضٍ غِرْبيبِ
كالشيعة التفَّت على النَّقيبِ
آخذةً بطاعةِ الجنوبِ
ناقضةً لمِرَرِ الخُطوبِ
تَكُفُّ غربَ الزمنِ العَصيبِ
محَّاءةً للأزمة اللَّزُوبِ
محوَ استلام الرُّكنِ للذنوب
لما بدَت للأرض من قريب
تشوَّقَت لوَبلِها السَّكُوبِ
تشوُّقَ المَريضِ للطَّبيبِ
وطرَبَ المُحبِّ للحَبيبِ
وفرحةَ الأديب بالأديب
وخيَّمَت صادقةَ الشُّؤبُوبِ
فقامَ فيها الرعدُ كالخَطيبِ
وحنَّت الريح حنين النِّيبِ
فالشمس ذات حاجبٍ مَحجوبِ
قد غرَبَت من غير ما غُروبِ
يريد أن الشمس محجوبة بالغمام.
والأرض من ردائها القشيب
في زاهرٍ من نبتها رطيب
بعد اشتهابِ الثَّلجِ والضريبِ
كالكَّهلِ بعد السن والتحنيب
تبدَّل الشباب بالمشيب
كم آنسَت من جانبٍ غريب
وغلبت من الثرى المغلوب
ونفَّسَت عن بارضٍ مكروب
وسكَّنت من نافرِ الجَبوبِ
البارض أول نبت الأرض، والجبوب التراب.
وأقنَعَت من بلدٍ رَغيبِ
تَحفظ عهد الغيبِ بالمَغيبِ
أقنعت أرضت، والبلد الرغيب المفازة الواسعة الأطراف.
لذيذةَ الرِّيق والصبيبِ
كأنما تهمي على القلوبِ
وقال أيضًا:
أخرجتُموه بكُرهٍ من سجيَّتِه
والنار قد تُنتضى من ناضر السَّلَمِ
يا عثرةً ما وُقيتُم شرَّ مصرعها
وزلة الرأي تُنسي زلة القدَمِ
وقال أيضًا:
نزَلوا مركز الندى وذُراهُ
وعَدَتنا من دون ذاك العَوادي
غير أن الرُّبا إلى سَبلِ الأنواء
أدنى والحظُّ عند الوهادِ
يقول إنَّ غيرنا قرب من المَمدوح ونحن بعدنا عنه إلا
أن ذلك لا يَضيرنا فإنَّ الرُّبا أدنى إلى الغمام من الأودية، ومع ذلك فالأودية هي التي
تنتفع بمائه إذ يَنحدِر إليها ويستقر فيها.
وقال أيضًا:
ملِكٌ تُضيء المكرمات إذا بدا
للمُلك منه غُرةٌ وجبينُ
ساس الجيوشَ سياسةَ ابنِ تجاربٍ
رمقَتْه عينُ المُلكِ وهو جَنينُ
لانت مهزته فعز وإنما
يشتدُّ بأسُ الرمح حين يَلينُ
وقال أيضًا يَذكر إحراق حيدر الأفشين وصلبه:
ما كان لولا فحشُ غَدرةِ حيدرٍ
لَيَكونَ للإسلام عامَ فِجارِ
ما زالَ سرُّ الكفرِ بين ضلوعِه
حتى اصطَلى سرَّ الزنادِ الواري
نارًا يُساورُ جسمَه من حرِّها
لهبٌ كما عصفرتَ شِق إزارِ
طارَت لها شُعلٌ يُهدِّم نفحَها
أركانه هدمًا بغيرِ غُبارِ
لله مِن نارٍ رأيتُ ضياءها
ضاقَ الفضاء به على النُّظارِ
مشبوبةٍ رُفِعت لأعظم مشركٍ
ما كان يَرفع ضوءها للساري
صلَّى لها حيًّا وكان وقودَها
ميتًا ويَدخلها مع الفُجارِ
وكذاك أهلُ النارِ في الدنيا هم
يوم القيامة جُلُّ أهلِ النار
يا مشهدًا صدَرَت بفرحته إلى
أمصارها القُصوى بنو الأمصارِ
رمَقُوا أَعالي جِذعه فكأنما
وجَدوا الهِلال عشية الإفطارِ
واستَنشَقُوا منه قُتارًا نَشرُه
من عَنبرٍ ذفرٍ ومِسكٍ داري
القتار رائحة الشواء.
وتحدَّثوا عن هُلكه كحديث من
بالبدو عن مُتتابِع الأمطار
وتباشَرُوا كتَباشُرِ الحرمَين في
قُحم السنين بأرخصِ الأَسعارِ
وقال أيضًا:
يقول في قُومسٍ صحبي، وقد أخذَت
منها السُّرى وخُطى المَهرية القودِ
أمطلع الشمس تَبغي أن تؤم بنا
فقلتُ كلا ولكن مطلع الجُودِ
وقال أيضًا:
وبساطٍ كأنما الآل فيه
وعليه سُحْق الملاء الرَّحيضِ
البساط ما اتسع من الأرض، والسُّحق الخَلِق، والرحيض المغسول الأبيض.
يُصبح الداعريُّ ذو الميعة
المُرجِمِ فيه كأنه مأبوضُ
والداعريُّ جمل منسوب إلى داعر، والميعة النشاط، والمُرجِم السريع، والمأبوض
المقيد.
وقال أيضًا:
كانتْ لكم أخلاقُه معسولةً
فتركتموها وهي مِلْحٌ علقَمُ
حتَّى إذا أجنت لكم داوَتْكُم
من دائكم إنَّ الثِّقاف يُقوِّم
أجنت: أي حان جناها.
فقَسا لتَزدَجِروا ومَن يكُ حازمًا
فليَقسُ أحيانًا على مَن يَرحُمُ
وقال أيضًا في قوم:
لا رقَّة الحضرِ اللطيف غذتهم
وتباعَدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشَفْتَهمُ وجدتَ لدِيهمُ
كرم النفوس وقلَّة الآدابِ
وقال أيضًا:
عجبتُ لصبري بعدَه وهو ميتٌ
وقد كنتُ أَبكيه دمًا وهو غائبِ
على أنها الأيامُ قد صِرنَ كلها
عجائبُ حتى ليس فيها عجائبُ
وقال أيضًا:
نظَرَت إليه فما استنمَّت لحظَها
حتى تمنَّت أنها لم تَنظُرِ
ورأت شحوبًا رابها في جسمِه
ماذا يُرِيبكِ من جوادٍ مُضمَرِ
وقال آخر:
عتاقُ الوجوهِ وعتقُ الجياد
في الضمر تعرفه والقبب
يشفُّ الوضاء خلال الشحوب
منها وخلفَ الدخان اللَّهب
وقال أيضًا:
لا تُنكري عَطل الكريم من الغنا
فالسيل حربٌ للمَكان العالي
وتَنظَّري خببَ الركابِ ينصُّها
مُحيي القريضِ إلى مُميت المال
يريد أن المكان العالي كقُلَل الجبال ونحوها لا يَثبت بها ماء السيل ولا يستقرُّ بها،
وإنما ينحدر إلى الوادي وهو أوطأ محلٍّ فيَستقر به، وكذلك الغناء لا يكون عند الكريم
وإنما
يكون عند اللئيم الدنيء.
وقال أيضًا:
نقِّل فؤادك حيثُ شئتَ من الهوى
ما الحب إلا للحَبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى
وحنينُه أبدًا لأول منزلِ
وقال أيضًا:
مُهذَّبٌ قُدَّت النبوة والإسـ
ـلام قدَّ الشراكِ مِن نَسَبه
له جلالٌ إذا تُسربِلُه
أكسبه البأو غير مُكتسبِه
والحظُّ يُعطاه غير طالبِه
ويُحرز الدر غير مُجتلبِه
يقول ألبسه قدره جلالة العظمة من غير أن يَسعى في اكتسابها.
وقال أيضًا في الخمر:
وكأسٍ كمَعسولِ الأماني شربتُها
ولكنها أجلَت، وقد شَرِبَت عقلي
إذا هي دبَّت في الفتى خال جسمَه
لما دبَّ فيه قريةً من قُرى النَّملِ
ومن عادة الخمر أنها تَعقِد لسان شاربها، وقد قيل في ذلك أنها لما استخفَّت المرء
حتى
يُفضي بأسراره عقَدت لسانه كيلا يُبيح بها.