الباب السادس
فيما اخترناه من شعر أمير المؤمنين ابن المعتز
قال ابن المعتز:
ونسيمٍ يُبشِّر الأرضَ بالقطْـ
ـرِ كذَيلِ الغلالة المَبلُولِ
ووجوه البلاد تَنتظِر الغيْـ
ـثَ انتظار المُحبِّ رجع الرسولِ
وقال أيضًا:
قد أغتدي والصُّبح كالمَشيبِ
في أفقٍ مثل مداك الطِّيبِ
مثل مداك الطيب، يعني أن الأُفق أملس براق صافٍ، والمداك هو صفاة يَسحق عليها نساء
العرب
الطِّيب.
بقارحٍ مسوَّمٍ يَعبُوب
ذي أُذنٍ كخُوصة العَسيبِ
القارح الفرس الذي كمل كماله، ويعبوب: أي كثير الجري.
أو آسةٍ أوفَت على قضيبِ
أسرع من ماءٍ إلى تصويب
ومن رجوع لحظة المريب
ومن نفوذ الفِكر في القلوب
وقال أيضًا:
وفِتيانِ سَرَوا والليلُ داجٍ
وضَوءُ الصُّبح متَّهم الطُّلوعِ
سروا: أي سروا للصيد.
كأنَّ بُزاتَهم أمراءُ جيشٍ
على أكتافِهم صدأ الدُّروعِ
وقال أيضًا:
ولقد غدوتُ على طمَرٍّ سابحٍ
عقَدت سنابكُه عجاجة قسطَلِ
الطمر الفرس الجيد الوثاب.
مُتلثِّمٌ لجمَ الحَديد يلوكها
لَوكَ الفتاة مساوكًا من إسحَلِ
الإسحل شجر تَستاك به نساء العرب كالأراك.
ومحجلٍ غير اليمين كأنه
مُتبخِّرٌ يَمشي بكمٍّ مُسبَلِ
وقال أيضًا:
باكيةٌ يضحك فيها برقها
موصولةٌ بالأرض مرخاة الطُّنُب
رأيتُ فيها برقها منذ بدا
كمثل طرف العين أو قلبٍ يَجب
جرَّت بها ريح الصَّبا حتى بدا
منها ليَ البرقُ كأمثال الشُّهُب
تحسبه طورًا إذا ما انصدَعت
أحشاؤها عنه شجاعًا يَضطرب
وتارةً تخالُه كأنه
سلاسلُ مفصولةٌ من الذهب
وقال أيضًا:
فتبدَّى لهن بالنَّجفِ المد
بر ماءٌ صافي الجمام عَرِيُّ
يتمشَّى على حصًى سلب الرِّيـ
ـح قذاه فمَتنُه مجليُّ
وإذا ضاحكَتْه درَّةُ شمسٍ
خِلته كُسِّرت عليه الحُليُّ
وقال أيضًا:
قد أغتدي بقارحٍ
مسوَّمٍ يعبوب
يَنفي الحصى بحافرٍ
كالقدَح المَكبُوبِ
قد ضحكَتْ غُرته
في مَوضِع التقطيبِ
وقال أيضًا:
ولي صارمٌ فيه المَنايا كَوامنٌ
فما يُنتضى إلا لسفكِ دماءِ
ترى فوق متنَيهِ الفرندَ كأنه
بقيَّة غَيمٍ رقَّ دون سماءِ
وقال أيضًا يصف حية:
نعَتُّ رقطاء لا يُحيا لرُقيتها
لو قدَّها السيف لم يَعلَق به بلَلُ
تُلقي إذا انسلخَت في الأرض جلدتها
كأنها كُمُّ درعٍ قدَّه بطَلُ
وقال أيضًا:
دعي الهَجر مما تَعلَمين فإنه
أخو الصَّرمِ عند العاشقين وصاحبُه
وما أُمُّ منقوصِ الظُّلوف أصابها
كِناسٌ قراها البرد والطلُّ جانبُه
أم منقوص الظلوف، يريد أم غزال صغير.
تُجاهد همًّا بابن يومَين شفَّها
تمدُّ إليه جِيدها وتُراقِبُه
وتُلقم فاهُ كلما تاقَ حافلًا
كعُروة زرٍّ في قميصٍ تُجاذِبُه
حافلًا: أي ضرعًا ممتلئًا لبنًا.
بأحسنَ منها لحظةً مستريبةً
يُغالبها كيد البُكا وتُغالبه
وما ريح قاعٍ عازبٍ مسَّت الندى
وروضٍ من الرَّيحان طُلَّت سحائبُه
عازب: أي بعيد عن الحضر.
فجاءت سُحَيرًا بين يومٍ وليلةٍ
كما جرَّ من ذيل الغلالة ساحبُه
بأطيبَ من أنفاس عزَّة موهنًا
وقد قام ليلٌ وارجحنَّت كواكبُه
إذا استبدلَت بي جانبًا من فراشها
تضوَّع مِسكًا للضَّجيع جوانبُه
وغنَّت عقود الحلي تحت ثيابها
كسنبلِ قيظٍ حرَّكته جنائبُه
ومالت كمَيلِ الرمل لبَّده الندى
بفرعٍ كجلدِ اللَّيل سودٌ ذوائبُه
وما راعني بالبَين إلا ظعائنٌ
دعون بكائي فاستجابت سواكبُه
بدت في بياضِ الآل والبُعد دونها
كأسطر رقٍّ أمرض الخطَّ كاتبه
وهمٍّ أتاني طارقًا فقريتُه
مساءً وإصباحًا تخبُّ ركائبُه
وقد رفَع الفجرُ الظلامَ كأنه
ظليمٌ على بَيضٍ تكشَّف جانبُه
ويُعجبني في هذا الغرض قولُ الآخر:
وإصباحٌ فلَينا الليلَ عنه
كما يُفلى عن النار الرَّمادُ
وقال أيضًا:
بُدِّلت من ليلٍ كظلِّ حصاة
ليلًا كظلِّ الرمح غير مؤاتٍ
وتَجارب الإنسان عُدةُ عَقلِه
لِحوادث الدهر الذي هو آتِ
فاشرَب على مُوقِ الزمان ولا تمُت
أسفًا عليه دائم الحَسَرات
الموق: الحمق.
وانظر إلى دُنيا ربيعٍ أقبلت
مثل البغيِّ تبرَّجَت لزُناةِ
وللبديع الهمذاني أبيات لطيفة في الشرب على اليأس من الناس وهي:
أَذهِبَ الكأس فنور الـ
ـفجر قد كاد يلوح
وهو للناس صباح
ولذي الرأي صَبوح
إنَّ في الأيام أسرا
رًا بها سوف تَبُوح
فاسقِنيها مثل ما يَلـ
ـفظها الديك الذبيح
إنما الدهر عدو
ولمن أصغى نَصيح
ولسانُ الدهر بالوعـ
ـظِ لِواعيهِ فَصيح
يا غُلام الكأس فاليأ
سُ مِن الناس مُريح
أنا يا دهرُ بأبنا
ئك شِق وسَطيح
وقال أيضًا:
أَسكَنُوها في الدنِّ مُذ عهد نوحٍ
كظلامٍ فيه نهارٌ حبيسُ
من شراب القُربان يُوصي بها الشمَّـ
ـاس خزانَ بيتِها والقُسوسُ
دمُ عيسى عند النصارى ونارٌ
ليس فيها حرٌّ تقول المجوسُ
أيَّ حُسنٍ تُخفي الدنان من الرا
ح وحُسنٍ تُبديه منها الكئوسُ
وقال أيضًا:
مَن رأى برقًا يُضيء الْتماحا
ثقَب الليلُ سناه فلاحا
فكأنَّ البرق مُصحَف قارٍ
فانطباقًا مرةً وانفتاحا
وقال أيضًا:
فطاف بها والصُّبح عريان خالعٌ
بقيَّة ليلٍ كالقميص المُرعبَلِ
على كل مجرور الرداء سُميدعٍ
جوادٍ بما يَحويه غير مبخَّل
قليل هموم القلب إلا للذَّةٍ
يُنعِّم نفسًا آذنَت بالتنقُّلِ
فإن تطَّلبه تَقتنِصه بحانةٍ
وإلا ببُستانٍ وكرْمٍ مُظلَّلِ
يعُبُّ ويسقي أو يُسقَّى مدامةً
كمثل سراجٍ لاحَ في الليل مُشعَلِ
ولستَ تَراه سائلًا عن خليفةٍ
ولا قائلًا من يَعزلون ومَن يلي
ولا صائحًا كالعِير في يوم لذةٍ
يُناظر في تفضيل عثمان أو علي
ولا حاسبًا تقويم شمسٍ وكوكبٍ
ليَعرف أخبار العُلوِّ مِنَ اسفل
يقوم كحِرباء الظَّهيرة ماثلًا
يُقلِّب في اصطرلابه عين أحوَلِ
ولكنَّه فيما عَناه وسرَّه
وعن غير ما يَعنيه فهو بمَعزِلِ
وقال أيضًا:
لمن دارٌ ورَبعٌ قد تعفَّى
بنَهرِ الكَرخِ مهجورُ النَّواحي
مَحاه كلُّ هطَّالٍ مُلحٍّ
بوبلٍ مثل أفواه اللقاحِ
فبات بلَيل باكيةٍ ثكولٍ
ضرير النَّجم مُتَّهم الصباحِ
وأسفَر بعد ذلك عن سماءٍ
كأنَّ نجومها حَدَقُ المِلاحِ
سقى أرضًا تحلُّ بها سُليمى
ولا سَقى العواذل واللواحي
مُهفهَفةٌ لها نظرٌ مريضٌ
وأحشاءٌ تضيعُ مِن الوشاحِ
وفتيانٍ كهمِّك من أُناسٍ
خفافٍ في الغُدوِّ وفي الرَّواحِ
بَعثتُهُم على سَفرٍ مهيبٍ
فما ضرَبوا عليهم بالقداحِ
ولكن قرَّبوا قُلصًا حثاثًا
عواصف قُد حُنين من المراحِ
وكل مروَّع الحركات ناجٍ
بأربعةٍ تطير به نصاحِ
كأنا عند نهضتِه رفعنا
خباءً فوق أطراف الرِّماحِ
وقادُوا كل سلهبةٍ سَبوحٍ
كأن أديمها شَرِقٌ بِراحِ
سلهبة سبوح: أي فرس سريعة، وأديمها شَرِق براح: أي كأنه صُبَّ عليه الراح، يريد أنها
حمراء.
تُخلِّف في وجوه الأرض رسمًا
كأُفحوص القَّطا أو كالأداحي
أُفحوص القطا: حفرة تحفرها في الأرض تَبيض فيها، والأداحي نظيرها للنعام.
فكابَدْنا السُّرى حتى رأينا
غراب الليل مَقصوص الجناحِ
وقد لاحَت لساريها الثريا
كأن نجومَها نورُ الأقاحِ
وقال أيضًا:
أُقتلا همِّي بصرف عُقارٍ
واتركا الدهر فما شاء كانا
إنَّ للمكروه لذعةَ همٍّ
فإذا دام على المرء هانا
وقال أيضًا:
ولرُبَّ هاجرةٍ يقلُّ
بحرِّها صبر الركائب
كلَّفتها وجناءَ يَذ
رعُ خطوها عرض السباسِب
والشمسُ تأكل ظلَّها
أكْل اللَّظى عيدان حاطِب
وقال أيضًا:
وطافت بأقداحِ المدامة بيننا
بناتُ نصارى قد برَين مِن الخَفر
وتحت زنانيرٍ شدَدنْ عُقودَها
زَنانير أعكانٍ معاقدها سُرَر
وقال أيضًا:
لاحَ شيبي فصرتُ أمرح فيه
مرح الطِّرف في اللجام المُحلى
إن من ساءه الزمان بشيءٍ
لحقيقٌ إذن بأن يتسلى
وقال أيضًا في الخط والشكل:
فدُونَكه موشًّى نَمنمَتْه
وحاكَتْه الأنامل أيَّ حَوكِ
بشكلٍ يُؤمَن الإشكال فيه
كأنَّ سطوره أغصانُ شَوكِ
وقال بعضهم: الشكل في الكتاب كالحليِّ على الكعاب.
وقال أيضًا:
ومَهمَهٍ كرداءِ النشر مُشتبهٍ
قطَعْتُه والدُّجى والصبحُ خيطانِ
والريح تَجذب أطراف الرداء كما
أفضى الشفيقُ إلى تنبيه وَسنانِ
حتى طُويتُ على أحشاءِ ناجيةٍ
كأنَّما خلقُها تشييد بُنيانِ
كأنَّ أخفافها والسير يَنقُلها
دلاءُ بئرٍ تدلَّت بين أشطانِ
لها زمامٌ إذا أبصرتَ جولَتَه
حسبتُ في قبضتي أثناء ثعبانِ
وقال أيضًا:
وناقةٍ في مَهمهٍ رمى بها
همٌّ إذا نامَ الورى سرى بها
فهي أمام الركب في ذَهابها
كسَطر بسم الله في كتابها
وقال أيضًا يصف كلاب الصيد:
فقاد مُكلِّبُنا ضُمَّرًا
سلوقيةً طالَما قادها
مُعلَّمةً من بنات الرياح
إذا سألَت عدْوَها زادَها
وتُخرج أفواهُها ألسنًا
كشَقِّ الخناجر أغمادَها
فأمسَكْنَ صيدًا ولم تُدْمِهِ
كضمِّ الكواعب أولادَها
وقال أيضًا:
وقفتُ به عُنسًا تطير بزجرها
ويأمرها وحيُ الزمام فتُرقِلِ
طَلوبًا برجلَيها يدَيها كما اقتضت
يدا الخصم حقًّا عند آخرَ يَمطُل
وقال أيضًا:
ومُزنةٍ جاد من أجفانها المطرُ
فالروض منتظمٌ والقطر مُنتثِرُ
ترى مواقعها في الأرض لائحةً
مثل الدراهم تبدو ثم تَستَتِرُ
وقال بعضهم:
بين الرياض وبين الجوِّ مُعترَكُ
بيض من البرقِ أو سمرٌ من السمرِ
إن أوترَت قوسها كفُّ السماء رمَت
نبلًا من الماء في زغفٍ من الغَدرِ
لأجل ذاك إذا هبَّت طلائعها
تدرع النهر واهتزَّت قَنا الشجَرِ
وقال آخر:
حاكت يَمين الرياح محكمة
في نهرٍ واضح الأسارير
فكلَّما صنعت به حلقًا
جاد لها القَطرُ بالمسامير
وقال آخر:
أظنُّ اليوم يَهطل بالمُدام
فإن الأُفقَ مُحمرُّ الغَمامِ
وقال أيضًا:
قد أنكرت هندٌ مشيبًا
عم رأسي واستَعَر
يا هندُ ما شابَ فتًى
وإنما شابَ الشَّعَر
وقال أيضًا:
كن جاهلًا أو فتجاهَل تَفُز
للجهل في ذا الدهرِ جاهٌ عريض
والعقل محرومٌ يَرى ما يرى
كما ترى الوارثُ عينَ المريض
وقال أيضًا:
رعَين كما شئنَ الرَّبيع سوارحًا
يَخُضنَ كلُجِّ البحر بقلًا وأعشابا
إذا نسَفَت أفواهُها النور خِلتها
مواقع أجلامٍ على شعرٍ شابا
وقال أيضًا:
لما رأيتُ العيش عيش الجاهل
ولم أرَ المغبونَ غير العاقل
ركبتُ عنسًا من كروم بابلٍ
فصرتُ من عقلي على مراحلِ
العنس الناقة الصلبة.
وقال أيضًا:
أعاذلَ قد كبُرتُ على العتاب
وقد ضحك المشيبُ على الشبابِ
رددتُ إلى التُّقى نفسي فقرَّت
كما رُدَّ الحُسامُ إلى القرابِ
وقال أيضًا:
خليليَّ هذي دار عزةً فاسألا
مغانيها لو كانَ ذاك يُفيدها
خلَت وعفَت إلا أثافٍ كأنها
عوائد ذي سقمٍ بطيءٌ قعوها
وقال أيضًا:
ولقد أغتدي إلى طلب الصـ
ـيد بذي ميعةٍ كُمَيْتٍ مُطَار
ذي ميعة: يريد فرسًا سريعًا.
بلل الركض جانبَيه كما فا
ضت بكفِّ النديم كأس العُقارِ
وقال أيضًا:
سقى الإله سُرَّ من را القَطرا
والكرخ والخمسَ القرى والجسرا
قد عجموا عُودي وكنتُ مرا
حُرًّا إذا لم يكُ حُرٌّ حرا
لا تأمنوا مِن بعد حِلمٍ شرا
كم غصنٍ أخضر صارَ جمرا
وقال أيضًا:
وماءٍ دارس الآثار خالٍ
كدمعٍ حارَ في جفنٍ كحيلِ
طرقتُ بيَعملاتٍ ناجياتٍ
وأفق الصبح أدهَمُ ذو حُجولِ
وقال أيضًا:
ضعيفةٌ أجفانه
والقلب منه حجَر
كأنَّما ألحاظُه
من فعله تَعتذِرُ
وقال أيضًا:
ولا صيدَ إلا بوثابةٍ
تَطير على أربعٍ كالعذب
الوثابة: يريد فهدة يصيد بها.
تضمُّ الطريد إلى نَحرِها
كضمِّ المُحب لمن قد أحَب
الطريد الصيد.
لها مجلسٌ في مكان الرَّديف
كتركيةٍ قد سبَتْها العرب
وقال أيضًا:
وعُجتُ بأعناق المطيِّ كأنها
هياكلُ رهبانٍ عليها الصوامع
وقال أيضًا:
وجرَّدت من أغمادِه كل مرهفٍ
إذا ما انتضتْه الكفُّ كاد يَسيل
ترى فوق متنَيه الفرند كأنما
تنفَّس فيه القين وهو صقيل
وقال أيضًا في أمير أمه سوداء:
وجاءتْ به أُمٌّ من السود أنجبَت
كليلة سرٍّ أنجبَت بهلالِ
وقال أيضًا:
شقَّ الجموع بسيفه
وشفى حزازات الإحَن
دامي الجراحِ كأنها
وردٌ تفتَّح في غُصُن
وقال أيضًا:
وترى الرياح إذا مسَحْن غديرَه
صقَّلنه ونفَين كلَّ قَذاةِ
ما إن يَزال عليه ظبيٌ كارعٌ
كتطلُّع الحَسناءِ في المرآة
من لطيف ما رأيتُه في المرآة قول القائل:
زهية تُشبه كل صوره
أسرارها مستورة مَشهوره
نفس أخي الحسن بها مَسروره
ومِن المعاني الجيدة قول القائل:
تراه عيني وكفِّي لا تُباشره
حتى كأني في المرآة أُبصِرُه
وقال أيضًا:
جمد الدمع بعد موت ابن وهبٍ
وهدا مضجعٌ وطابَ رقاد
يَخلُق الحزنُ كلَّ يومٍ ويبلى
مثل ما يَخلُق الحديث المُعادُ
وقال أيضًا وذكر الموتى:
وسكان دارٍ لا تَزاوُر بينهم
على قُربِ بعض في المحلَّة من بَعضِ
كأن خواتيمًا مِن الطين فوقَهُم
فليسَ لها حتَّى القيامة من فضِّ
وقال أيضًا في أخوَين مات أحدهما وبقيَ الآخر:
ولقد غبنتُ الدهرَ إذ شاطَرْتُه
بأبي الحُسَين، وقد ربحتُ عليه
وأبو محمدٍ الجليل مُصابُه
لكنَّ يُمنى المرء خيرُ يدَيهِ
وقال أيضًا:
لما تعرَّى أُفق الضياء
مثل ابتسام الشفَة اللمياءِ
وشمَطت ذوائب الظَّلماءِ
وهمَّ نجم الليل بالإغفاءِ
قُدنا لعينِ الوَحش والظِّباءِ
زاهيةً محذورة اللقاءِ
يريد كلبة صيد.
شائلةً كالعقرب السَّمراءِ
مرهفةً مطلقة الأحشاءِ
كمدةٍ من قلمٍ سوداءِ
أو هدبةٍ من طرَفِ الرِّداءِ
تَحملُها أجنحة الهواءِ
تَستلِب الخطو بلا إبطاءِ
تمشِّي الأنكب في الرَّمضاءِ
أسرع مِن جفنٍ إلى إغضاءِ
ومُخطفًا موثَّق الأعضاءِ
خالفها بجلدةٍ بيضاءِ
أي: كلبًا.
كأثر الشِّهاب في السماءِ
ويَعرِف الزجرَ من الدعاءِ
بأذنٍ ساقطة الأَرجاء
كوردة السَّوسَنة الشَّهلاءِ
ذا بُرْثُنٍ كمِثقَبِ الحذَّاءِ
ومقلةٍ قليلة الأقذاءِ
الحذاء الإسكاف.
صافيةٍ كقطرةٍ من ماءِ
يَنساب بين أكم الصحراءِ
مثل انسياب حيةٍ رقطاءِ
آنس بين السفحِ والفضاءِ
سرب ظباءٍ رُتَّع الأطلاءِ
في عازبٍ منورٍ خلاءِ
العازب: الرعي الذي لا تصل إليه الماشية.
أحوى كبَطنِ الحيَّة الخضراءِ
فيه كنقش الحية الرقشاءِ
كأنَّها ضفائر الشمطاءِ
يَصطاد قبل الأين والعناءِ
خمسين لا تَنقُصُ في الإحصاءِ
وقال أيضًا في البازي:
ذو جُؤجؤٍ مثل الرخام المَرمارْ
أو مُصحفٍ مُنمنمٍ بأسطارْ
ومقلةٍ صفراء مثل الدِّينارْ
تَرفعُ جفنًا مثل حرف الزُّنَّارْ
وقال آخر في عين العقعق:
يُقلِّب عينَين في رأسه
كأنهما قطعَتا زئبقِ
وقال فيه أيضًا:
ذو مِنسرٍ عضب الشباة دامِ
كعقدك الخمسين بالإبهامِ
وخافقٍ للصيد ذي اصطلامِ
يَنشرُه للنهض والإقدامِ
خافق: أي الجناح.
كنشرك البُرد على المُستامِ
وقال أيضًا:
ولاح ضوء هلالٍ كادَ يَفضحنا
مثل القلامة قد قُدَّت مِن الظُّفُرِ
وقال بعضهم:
خطَّ الهلال على الدجى ببنانه
خطًّا رأيتُ الكون ضمن بيانِه
وقال آخر:
والبدرُ كالمرآة غيَّر صقلَها
عبَثُ الغواني فيه بالأَنفاسِ
والليل مُلتبِس بضوء صباحِه
مثل التباسِ النَّفسِ بالقرطاسِ
وقال آخر في الشمس:
والشمسُ كالمرآة في كفِّ الأشل
وقال أيضًا في صفة القتال:
قومٌ إذا غضبُوا على أعدائهم
جرُّوا الحديدَ أزجةً ودروعا
وكأنَّ أيديهم تُنفِّر عنهم
طيرًا على الأبدانِ كنَّ وقُوعا
وقال أيضًا:
وسيوفٌ كأنَّها حين سُلَّت
ورقٌ هزَّه سقوطُ قطارِ
ودروعٌ كأنها شَمطٌ جعدٌ
دهينٌ تضل فيه المَداري
الشمَط: شعرٌ بعضُه أبيض وبعضه أسود.
وقال أيضًا:
وأصبحَ يُحدى للنَّوى كلُّ بازلٍ
سفينةُ أسفارٍ على الآل تَسبَحُ
وقد ثَقُلَت أخفافه فكأنها
من الأين أرحاءٌ تُشالُ وتُطرَحُ
وقال أيضًا يصف خيل الحلبة:
خرجنَ وبعضهنَّ قريبُ بعضٍ
سوى فوتِ العذار أو العِنان
ترى ذا السبق والمسبوق منها
كما بسطَت أناملها اليدان
وقال أيضًا في قوس البندق:
وماءٍ به الطير مَربوطةٌ
تُحاكي الحُليَّ بأطواقها
غَدونا عليه وشمسُ النهارِ
لم تَكسُه ثوبَ إشراقها
فظِلْنا وظلَّت عيون القِسـ
ـيِّ ترمي الطيور بأَحداقِها
وقال أيضًا:
ولقد قضَتْ نفسي مآربها
وقضت غيًّا مرةً ورشَد
ونهارُ شيب الرأس يُوقِظ مـ
ـن قد كان في ليلِ الشَّباب رقَد
وقال أيضًا:
والآل يَنزو بالصَّحاري مَوجُه
نزوَ القَطا الكُدري في الأشراكِ
والظلُّ مقرونٌ بكلِّ مطيةٍ
مشيَ المَهارى الدُّهم بين رِمَاكِ
وقال أيضًا:
كأنَّ الشمس يوم الغُنم لحظٌ
مريضٌ مدنفٌ من خلفِ سِتْر
تُحاول فتْق غَيمٍ وهو يأبى
كعَنينٍ يريد نكاح بِكْرِ
وقال أيضًا في رجل سجد سجدة طويلة جدًّا:
صلاتُكَ بين الملا نقرةٌ
كما اختلَسَ الجَرعة الوَالِغُ
وتَسجُد من بعدها سجدةً
كما خُتم المِزوَد الفارِغُ
وقال أيضًا:
وعلى الأرض اصفرارٌ
واخضرارٌ واحمرارُ
فكأن الرَّوض وشيٌ
بالغت فيه التجارُ
نقشُه آسٌ ونَسرِ
ينٌ ووردٌ وبهارُ
وقال أيضًا:
يا ربَّما نازعني
روحُ دنانٍ صافيه
في روضةٍ كأنها
جلدُ سماءٍ عاريه
كأنَّ آزَريُونها
غبُّ سماءٍ هامِيَه
مَداهنٌ مِن ذهبٍ
فيها بَقايا غاليه
وقال أيضًا:
والبرقُ يَخطف من خلال سَحابه
خطْفَ الفؤاد لموعدٍ من زائر
والغيثُ منهلٌّ يسحُّ كأنه
دمعُ المودِّع إثر إلفٍ سائرِ
وقال أيضًا:
وجرَت لنا سنحًا جآذرُ رملةٍ
تتلو المها كاللُّؤلؤ المُتبدِّدِ
قد أطلعَت إبر القُرونِ كأنَّها
أخذُ المَراود من سحيق الإثمَدِ
وقال أيضًا:
كم حاسدٍ حَنِقٍ عليَّ بلا
جُرمٍ فلم يَضرُرْنيَ الحَنَقُ
مُتضاحكٌ نَحوي كما ضَحِكَت
نارُ الذُّبالة وهي تَحترِقُ
وقال العباس بن الأحنف:
أُحْرَمُ منكم بما أقول وقد
نال به العاشقون من عشقوا
صرتُ كأني ذُبَّالة نُصبَت
تضيء للناس وهي تَحترِقُ
وقال أيضًا في سوداء:
يا مسكةَ العَطَّارِ
وخالَ وجهِ النهارِ
وأطيبَ الناسِ ريقًا
لمغتدٍ ولسارِ
وليسَ ذا بعَجيبٍ
وليس في ذا تَماري
لا تُشرَب الخمر إلا
مبزولةً من قارِ
وقال أيضًا يصف قلم القاسم بن عبيد الله:
قلمٌ ما أراهُ أم فلكٌ يجـ
ـري بما شاء قاسمٌ ويَسيرُ
ساجدٌ خاشعٌ يُقبِّل قرطا
سًا كما قبَّل البساطَ شكورُ
مُرسَلٌ لا تراه يَحبسه الشكُّ
إذا ما جرى ولا التَّفكيرُ
كم مَنايا وكم عَطايا وكم
عيشٍ وحتفٍ تضمُّ تلك السطورُ
نقشَت بالدُّجى نهارًا فما أد
ري أخطٌّ فيهنَّ أم تَصويرُ
وقال أيضًا في الهلال والنجوم:
انظر إلى حُسنِ هلالٍ بدا
يهتك من أنوارِه الحِندِسا
كمنجلٍ قد صيغَ مِن فضَّةٍ
يَحصد من زهر الدُّجى نَرجسا
وقال أيضًا يصف جدولًا:
يُمزِّق رِيًّا جلودَ الثِّمارِ
إذا مصَّ ماء الثمار العطَش
كفيلٌ لأَشجارِها بالحياة
إذا ما جَرَى خِلتَه يَرتعِش
ويُعجبني قول بعضهم في وصف نهر:
بها فاضَ نهرٌ من لُجَين كأنه
صفائح أضحَتْ بالنُّجوم تسمرُ
وقال آخر:
ونهرٌ كالسَّجنجل كَوثريٌّ
تُعبِّس وجهَها فيه السماءُ
وقال أيضًا في خراب سُرَّ من را:
قد أقفرَت سُرَّ من را
فما لشيءٍ دوامُ
فالنقضُ يُحمَل منها
كأنها الآجامُ
ماتَت كما مات فيلٌ
تُسلُّ منه العِظامُ
وقال أيضًا في فرس:
وقد غدوتُ بصهَّالٍ يجاذبني
كأن آثارَه نقشُ الخَواتيمِ
والليل كالحُلة السوداء لاحَ بها
من الصَّباح طرازٌ غير مَرقُومِ
وقال أيضًا:
اصبِر على حسَدِ الحسـ
ـود فإنَّ صبركَ قاتلُه
فالنارُ تأكُل بعضَها
إن لم تَجِد ما تأكُلُه
وقال أيضًا:
غَدا بها صفراءَ كَرخيةً
كأنَّها في كأسِها تتَّقد
وتحسب الماء زجاجًا جَرى
وتحسبُ الأَقداحَ ماءً جمَد
وقال أيضًا:
ولرُبَّ مَهلكةٍ يُحاربها القطا
مسجورةٍ بالشَّمس خَرقٍ مَجهلِ
خلَّفتها بشِمِلَّةٍ تطأُ الدُّجى
مُرتاعة الحركات جِلسٍ عَيطَلِ
تَرنُو بناظِرةٍ كأنَّ حِجاجها
وقبٌ أنافَ بشاهقٍ لم يُحلَلِ
وكأنَّ مَسقطَها إذا ما عرَّسَت
آثارُ مَسقطِ ساجدٍ مُتبتِّلِ
وكأنَّ آثارَ النسوع بدفِّها
مسرى الأساودِ في هُيامٍ أهيَلِ
وتسد حاذيها بجثلٍ كاملٍ
كعَسيبِ نَخلٍ خوصُه لم يُنجلِ
وكأنها غدوًا قطاةٌ صبَّحَت
زُرق المياهِ وهمُّها في المَنزِلِ
ملأتْ دلاءً تَستقِلُّ بحملها
قدَّام كَلكَلِها كصُغرى الحنظَلِ
يُريد بصُغرى الحنظل حوصلة القطاة.
وغدَت كجلمودِ القذاف تَليلُها
وافٍ كمِثل الطَّيلسان المُخمَلِ
حمَّلتها ثِقلَ الهُموم فقطَّعت
أسبابهُنَّ بنا تخُب وتَغتلِي
عن عزمِ قلبٍ لم أصِلْه بغَيرِه
عضْبِ المَضارب صائبٍ للمَفصِلِ
حتى إذا اعتدَلَت عليهم ليلةٌ
سقطوا إلى أيدي قلائصَ نُحَّلِ
عليهم: يريد أصحابه السائرين معه. سقطوا: يُريد أناخوا إبلهم وناموا على أيديها.
حتى استَسارهم دليلٌ فارطٌ
يَسمو لغايتِه بعَيني أجدَلِ
يُدعى بكُنيتِه لآخر ظِمئها
يومًا ويُدعى باسمه في المَنهَلِ
يقول إنهم يكنون في آخر يوم من ظمئهم تبجيلًا له وتوسُّلًا إليه؛ خوف أن يضلَّ بهم
عن
الطريق أو يَفتر في السير فيهلكون من العطش، فإذا وردوا الماء دعوه باسمه ولم يَحفلوا
به.
لبسَ الشُّحوبَ مِن الظَّهائر وجهُه
فكأنه ماويةٌ لم تُصقَلِ
سارٍ بلحظَتِه إذا اشتبَهَ الهُدى
بين المجرَّة والسِّماك الأعزَلِ
ولرُبَّ قِرْنٍ قد تركتُ مجدَّلًا
جزرًا لضارية الذِّئاب العُسَّلِ
عهدي به والموت يَحفز رُوحه
وبرأسِه كفَمِ الفَنيق الأهدَلِ
ولقد قفوتُ الغيثَ يَنطِف دَجنُه
والصبحُ مُلتبسٌ كعَين الأشهَلِ
بطمرةٍ ترمي الشخوص بمقلةٍ
كحلاء تُعرِب عن ضَمير المُشكِل
فوهاء يَفرُق بين شطرَي وجهِها
نورٌ تخالُ سَناه سلَّة مُنصُلِ
يصف الغرة:
وكأنَّما تحت العذار صفيحةٌ
عُنيَت بصَفحتها مداوس صَيقَلِ
وقال أيضًا:
يمجُّ إبريقُه المِزاج كما
امتدَّ شهابٌ في إثر عِفريتِ
على عُقارٍ صفراءَ تحسبُها
شِيبت بمِسكٍ في الدنِّ مفتوت
للماء فيها كتابةٌ عَجَبٌ
كمثلِ نقشٍ في فصِّ ياقُوتِ
وقال أيضًا:
وندمانٍ سقيتُ الراحَ صِرفًا
وأفقُ الصبح مُرتفِعُ السُّجوفِ
صفَت وصَفَت زجاجتُها علَيها
كمعنًى رقَّ في ذهنٍ لطيفِ