الفصل الأول

الوجه الأول

ترى خرابيش على هيئة حبيبات خشِنة على سقف مترب تحت قدمَيك، لأننا نقف فوق ناطحة فضاء مثيرة للدوار. تنامى ارتفاع هذا البرج، الذي يتجاوز أي حلم ببرج بابل، من الأرض مثل صاعدة كهفية فائقة، مترًا لكل سنة من تاريخ البشرية. فوق سطحه الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة كيلومتر، تتحرَّك محطة الفضاء الدولية بسرعة عالية في السماء، تكاد تكون أسرع من رمشة عينك. انظر من فوق حافة البرج، وعلى امتداد طوله الكامل ترى هالة من الضوء من آلاف الفتحات. في الأعلى توجد نوافذ غُرف مضاءة بمصابيح ثنائية باعثة للضوء، ولكن إلى الأسفل أكثر — متعمقًا أكثر في الزمن — تتبدَّل جودة الضوء. تتكيَّف عيناك بينما تفسح مصابيح فلورية كهرمانية المجال لمصابيح الغاز المضيئة، ثم تبدأ جوقات الشموع المتجمعة.

أنت تحدِّق الآن بعينَيك شبه مقفلتَين ولكنك تتبيَّن، أبعد إلى الأسفل أكثر، أن الوهج يخف. يلتمع ضوء قديم منبعث من عشرات الآلاف من المصابيح الطينية، وتطوق آثارها الدخانية البرج، ومع ذلك فنحن ما زلنا لم نصِل بعدُ إلى أعماق التاريخ البشري. تأخذ تلسكوبًا صغيرًا وبينما تتوسَّع حدقتاك، نهمةً للفوتونات القديمة، ترى وميض لهب نيران مواقد تبدأ على بُعد حوالي ثلاثين كيلومترًا إلى الأسفل، وتستمر لعشرة أضعاف ذلك العمق، وصولًا إلى ثلاثمائة ألف سنة ماضية. تتلوى ألسنة اللهب والظلال وتتقوَّس، منعكسةً على الجدران الحجرية، حتى لا يعود موجودًا إلا الظلام ولا تُحصى السنوات.

الوقت خَدَّاع. فهو إما ينقضي بسرعة مخيفة، وإما يتقطَّر ببطء شديد فنشعر بأنه عبء، يُقاس بنبضات القلب. كل حياة بشرية تختلط بالذكريات وتجيش بالتخيُّلات، حتى ونحن موجودون في تيار متدفِّق باستمرار من «اللحظة الحالية». نحن كائنات تنجرف في مجرى الزمن، لكن عندما نُطِلُّ ونشاهد النهر المتدفِّق بأسره نشعر بالانهزام. لا يتطلَّب الأمر الكثير من العد أو القياس؛ إذ يمكن لعلوم اليوم حساب القيم حتى مستويات دقة تذهل لها العقول، سواء في حساب عمر الكون أو زمن بلانك.١ لكن يظل فهم «مقياس» الزمن فهمًا حقيقيًّا على مستوى التطور والكواكب والكون أمرًا شبه مستحيل، بقدر ما كان حال علماء الجيولوجيا الأوائل، الذين ذهلوا عندما رأوا لمحة عن العمر الحقيقي للأرض. يمثل عقد رابطة بالماضي لما بعد ثلاثة أو أربعة أجيال — حدود «الذاكرة الحية» التي يتعامل معها معظمنا — تحدِّيًا صعبًا. وإيجاد رابطة بالأسلاف الأكثر قِدمًا أكثر صعوبة. تجسد الصور الفوتوغرافية القديمة كيف يصبح منظورنا أكثر ضبابية، وحتى هذا الأرشيف المرئي يمتد أبعَد من ذلك إلى جيلَين آخرين فقط. ثم ندخل عالم اللوحات المرسومة، وتُغطي الماضي طبقةٌ رقيقةٌ أخرى من عدم الواقعية. إن فهم الضخامة المذهلة للزمن الأثري «الموغل» في القِدَم أصعب بكثير.

توجد حِيَل عقلية نافعة لسد هذه الفجوة بين فترة وجودنا القصيرة الأجل وهاوية الزمن السحيقة. فتقليص عمر الكون البالغ ١٣٫٨ مليار سنة إلى فترة واحدة مدتها ١٢ شهرًا يضع الديناصورات في مرحلة زمنية قريبة قربًا صادمًا من عيد الميلاد المجيد، بينما يصِل أقدَم إنسان عاقل قبل دقائق قليلة من انطلاق الألعاب النارية للعام الجديد. لكن تصوُّر الزمن على هذا المقياس المألوف لا يوضِّح بجلاء الأعوام الممتدة امتدادًا هائلًا ومتكاسِلًا. تؤدِّي المقاربات المذهلة إلى تقريب الأمر قليلًا من صورته الصحيحة: فعلى سبيل المثال، عدد السنوات بين عهد حكم كليوباترا والهبوط على القمر أقل من عدد السنوات بين عهدها وبناء أهرامات الجيزة. ذلك فقط فيما يخص آلاف السنين القليلة الأخيرة، في حين أن العصر الحجري القديم — الفترة الأثرية السابقة للعصر الجليدي الأخير — أكثر إثارة للحيرة. فثيران كهف لاسكو القافزة أقرب زمنيًّا للصور الموجودة على هاتفك من لوحات الخيول والأسود في كهف شوفيه. فأين الموضع المناسب للنياندرتال في هذا التسلسل الزمني؟ إنهم يأخذوننا إلى زمن يسبق «بكثير» الأصابع التي تتبع الوحوش على الجدران الحجرية.

في حين أنه يستحيل تحديد «الأول» من نوعهم، فقد صاروا تعدادًا سكانيًّا متمايزًا منذ ٤٥٠ إلى ٤٠٠ ألف سنة. لا بد أن سماء الليل التي كانت تخيم في ذلك الزمن على العديد من مجموعات أسلاف البشر على الأرض كانت غريبة، ونظامنا الشمسي الذي كان على بُعد سنوات ضوئية من موقعه الحالي يرقص رقصة فالس مجَرِّية لا تتوقف أبدًا. تَوَقَّف مؤقتًا في منتصف فترة الهيمنة الزمنية للنياندرتال عند حوالي ١٢٠ ألف سنة مضت، وبينما يمكن التعرُّف على الأرض والأنهار في الغالب، فإن العالم «يبدو» مختلفًا. إنه أكثر دفئًا، والمحيطات — التي امتلأت بالجليد الذائب — قد غمرت اليابسة، ودفعت الشواطئ فجعلتها أعلى بعدة أمتار. تتجوَّل الوحوش الاستوائية المذهلة حتى في الوديان العظيمة في شمال أوروبا. إجمالًا، دام وجود النياندرتال طوال ٣٥٠ ألف سنة مدهشة، إلى أن اختفوا عن أنظارنا — أو على الأقل اختفت أحافيرهم وآثارهم — منذ حوالي ٤٠ ألف سنة.

حتى الآن، الأمر مُذهِل للغاية. ولكن انتشارهم لم يكن على مستوى الزمن فحسب: أيضًا انتشر النياندرتال عَبْر مساحة شاسعة على نحو مذهل. كانوا أوراسيين أكثر من كونهم أوروبيين، واستوطنوا من شمال ويلز إلى حدود الصين، وجنوبًا إلى أطراف صحاري شبه الجزيرة العربية.

كلما اكتشفنا المزيد عن النياندرتال، أمَطْنا اللثام عن نطاق أكبر وتعقيد أكثر. لكن تَتَبُّع كل هذا يمكن أن يكون مُربِكًا؛ إذ يوجد آلاف المواقع الأثرية. لذلك سوف نتشبَّث بنقاط ارتكاز: وأعني بذلك المواقع الرئيسية التي تقدِّم مقاييس للحُكم والتَّقييم في قصة إنسان نياندرتال، بينما ننظر خارجًا أيضًا إلى النطاق الهائل للمجال. يخبرنا بعضها — سواء كان موقع أبريك روماني في إسبانيا أو كهف دينيسوفا في سيبيريا — بقصص مدهشة عن اكتشافات جرَت في القرن الحادي والعشرين. وتقدم مواقع أخرى، مثل ملجأ لو موستييه الصخري في قلب جنوب غرب منطقة بيريجور الفرنسية، سجلات زمنية لحياة النياندرتال متغلغلة عَبْر نسيج تاريخ علم الآثار نفسه. إذ عُثِر هناك على هيكلَين عظميَّين مُهمَّين للغاية سنلتقي بهما لاحقًا، وهو أيضًا موقع نسق type site حُدِّد بناءً على القطع الأثرية الحجرية٢ الموجودة بها ثقافة معيَّنة لإنسان نياندرتال. شهد موقع لو موستييه أكثر من قرن من الأبحاث، واستضاف سلسلة متعاقبة من العلماء، بل وكان بؤرة توتر في حشد المخاوف الجيوسياسية قبل الحرب العالمية الأولى. لكن لم يكن موقع لو موستييه ولا فرنسا عام ١٩١٤ المكان الذي بدأت فيه حقًّا قصة إنسان نياندرتال. نحن بحاجة إلى العودة خمسة عقود أخرى، إلى خمسينيات القرن التاسع عشر.

موقع البدء

الجميع يحب القصص من نوعية «كيف التقيتما؟». تشوَّشَت القصة المعقَّدة لوقوعنا في حبائل النياندرتال جرَّاء خيوط من التعامل والارتباك: وُلِدَت القصة على يد الثورة الصناعية، وسفعتها الحروب، وتألقت بكنوز فُقِدَت وكنوز عُثِر عليها. من لقاءات منسية من عشرات الآلاف من السنين عندما رأى بعضنا بعضًا بشرًا، إلى إعادة الاكتشاف حديثة العهد نسبيًّا لهؤلاء الأقارب القدامى، ما انفكَّ افتتاننا بهم أنْ كان دائمًا. توقًا إلى الصقيع الأبيض وأنفاس الماموث، من المُغري أن نشغِّل آلة للزمن ونسرع عائدين مباشرةً إلى العصر الجليدي المتأخر.٣ لكننا نحتاج إلى البدء في منتصف هذا التاريخ الكبير والمعقَّد، قبل أن نتمكَّن من رؤية البداية أو النهاية بوضوح.

دعونا نرتحل خمسة أو ستة أجيال فقط إلى الوراء لنشهد ولادة التطوُّر البشري باعتباره علمًا. كان هذا العلم النرجسي بالأساس — فهو، في نهاية المطاف، وليد منظور العالم الفيكتوري — يتعلَّق دائمًا بسؤال مَن نحن، ولماذا نحن هكذا. في خضَمِّ اضطراباتٍ ربما كانت أكبر الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم حتى الآن، كافح علماء القرن التاسع عشر ليجدوا طريقة لفهم ماهية العظام الغريبة المستخرجة من الكهوف الأوروبية. ولكن كان ثمَّة شيء واحد مؤكد منذ البداية: وهو أن النياندرتال تسببوا في اندلاع نقاشات متزايدة حول ما يعنيه أن يكون المرء إنسانًا. يوجد عدد قليل من الأسئلة الأكبر، والإجابات مهمَّة للغاية بما يتجاوز الفضول المحض. يساعدنا تتبع كفاح علماء ما قبل التاريخ الأوائل في تصنيف هذه المخلوقات المُربِكة على إدراك التناقضات العديدة المُعتقَدة حول النياندرتال، ويشرح المفاهيم والأفكار السابقة التي لا تزال قائمةً حتى اليوم.

يبدأ هذا التاريخ في أواخر صيف عام ١٨٥٦. ولتلبية الطلب من صناعات الرخام والحجر الجيري المزدهرة كانت المحاجر قد استهلكت تدريجيًّا الأخدود العميق جنوب غرب دوسلدورف، وهي بقعة كانت تشتهر في يوم من الأيام بأنها بقعة بروسية جميلة. وبالقرب من قمم المنحدرات، اكتُشِف تجويف — يُعرف باسم كهف كلاين فيلدهوفر — مسدود برواسب سميكة ولزجة تتطلَّب تفجيرًا. أصيبت إحدى عينَي أحد أصحاب المحجر جرَّاء عظام كبيرة اندفعت من فتحة الكهف. ونظرًا إلى أنه كان عضوًا في جمعية محلية للتاريخ الطبيعي، فقد تكهَّن أنها يمكن أن تكون بقايا حيوانات قديمة ذات أهمية علمية؛ ولذلك انتشل مجموعة متنوعة — تشمل الجزء العلوي من جمجمة، مما كان له بالغ الأهمية. زاره مؤسس نادي التاريخ الطبيعي، يوهان كارل فولروت، وأدرك أن العظام كانت بشرية. علاوةً على ذلك، كانت أحافير؛ ومن ثَمَّ لا بد أنها كانت عتيقة جدًّا.٤

يبدو أن اكتشاف فيلدهوفر ألهب خيال السكان المحليين بالأفكار مع ظهور التقارير الصحفية، وبدأ علماء أعلى في التسلسل الهرمي الفكري يطلبون رؤية العظام الغامضة. في بداية عام ١٨٥٧، أُرسِل قالب لغطاء الجمجمة إلى عالِم التشريح هيرمان شافهاوزن في بون، والذي كان لحسن الحظ منفتح العقل على إمكانية وجود البشر الأحفوريين. أخيرًا، انتقل صندوق خشبي يحتوي على الرفات الحقيقي، برفقة فولروت، إلى بون على السكة الحديدية التي كان يبلغ عمرها بالكاد ١٠ سنوات. ركزت عين شافهاوزن الخبيرة على الفور على الحجم غير الطبيعي للعظام — وخاصة الجمجمة — بينما ذكَّرته سِمات أخرى، مثل الجبهة المنحدرة، بالقردة العُليا. وبالنظر إلى جلاء الحالة القديمة للعظام وإلى أن أصلها يرجع إلى كهف، كان يميل إلى الموافقة على أنها يجب أن تكون نوعًا بدائيًّا من البشر. في ذلك الصيف عرض هو وفولروت النتائج التي توصَّلا إليها على الاجتماع العام لجمعية التاريخ الطبيعي لراينلاند ووستفاليا البروسيتين. وبعد بضع سنوات فقط من هذا الظهور الأول غير الرسمي في المجتمع، أصبحت العظام التي كان انتشالها أميل إلى المصادفة أول إنسان أحفوري والذي يُشار إليه علميًّا باسم «هومو نياندرتالينسيس».

كلمة «نياندرتال» مألوفة جدًّا اليوم، ومع ذلك فإن تاريخها مليء بتوافُق غريب. جاءت تسمية Neander thal، أي وادي نياندر، الذي احتوى على المثوى الأصلي للعظام، تيمُّنًا باسم المعلم والشاعر والملحن، الذي عاش في أواخر القرن السابع عشر، يواخيم نياندر. نظرًا إلى أنه كان كَلْفينيًّا، كان إيمانه مستوحًى جزئيًّا من الطبيعة، بما في ذلك الوادي الشهير لنهر دوسيل. كانت عجائبه الجيولوجية — المنحدرات والكهوف والأقواس — محل حب كبير للغاية عند الفنانين والرومانسيين لدرجة أنه نشأ عنه صناعة السياحة الخاصة به. توفي يواخيم نياندر في عام ١٦٨٠، لكن ترانيمه الشهيرة — التي أُلقيَت بعدها بثلاثة قرون بمناسبة اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية — كانت إرثًا دائمًا. وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، سُمِّي أحد تكوينات الوادي باسم Neanderhöhle «كهف نياندر» تيمنًا باسمه، ولكن في غضون بضعة عقود تغيَّرَت المنطقة المحيطة تغيرًا كبيرًا حتى إن يواخيم نفسه ما كان ليتعرَّف عليها. اختفى الوادي، بعدما استُهلِك جرَّاء الاستغلال الهائل للمحاجر وأصبح الوادي الجديد معروفًا باسم Neander Thal «وادي نياندر». إليكم الجزء الغريب: كان اسم عائلة يواخيم في الأصل هو نيومان، ثم حوَّله جده لاحقًا إلى نياندر متبعًا موضة الأسماء الأكثر كلاسيكية. نيومان — ونياندر — يعني حرفيًّا «الرجل الجديد». هل كان يمكن أن يوجد لقب أكثر ملائمة من ذلك للمكان الذي اكتشفنا فيه لأول مرَّة نوعًا آخر من البشر؟

ومع ذلك، حتى لو بدت الحالة التشريحية واضحة، كانت ثمَّة حاجة إلى دليل على أن العظام كانت قديمة للغاية. عاد فولروت وشافهاوزن إلى المحجر لإجراء مقابلة مع العمال، الذين أكدوا أن البقايا كانت على عمق حوالي ٠٫٥ متر (قدمين) في طين غير مخلخل. فُسِّر هذا ضمن إطار جيولوجي-توراتي مختلط، واعتبر فولروت أنه كان يشير إلى عصر ما قبل الطوفان، مما جعل الهيكل العظمي قديمًا للغاية. منحهم هذا الثقة لنشر الادعاء العاصف بأن جنسًا بشريًّا مندثرًا كان موجودًا قبل الإنسان العاقل. كان ثمة المزيد من التوافُق؛ إذ شهد العام نفسه ١٨٥٩ رجةً أخرى في المجتمع العلمي مع ظهور نظريات الانتقاء الطبيعي لداروين ووالاس. ولكن لم يحقِّق فيلدهوفر نجاحًا كبيرًا حقًّا إلا بعد مرور عامين تقريبًا، عندما ترجم عالِم الأحياء الرائع جورج بوسك المقالة الألمانية الأصلية.

ومع أن بوسك شخصية مغمورة في يومنا هذا، فإنه كان في قلب النخبة العلمية في القرن التاسع عشر، ومثل العديد من معاصريه كانت اهتماماته متعدِّدة التخصُّصات على نحو مستحيل تقريبًا في الوقت الحاضر. كان بوسك عضوًا في الجمعية الجيولوجية، ورئيس الجمعية الإثنوجرافية، وبحلول عام ١٨٥٨، أصبح سكرتير علم الحيوان لجمعية لينيان (الجمعية العلمية الأبرز في علم الأحياء)، وأضاف تعليقًا على ترجمته الصادرة عام ١٨٦١ عن اكتشاف فيلدهوفر. أشار إلى أن العصور البشرية البالغة القِدَم قد أصبحت مترسِّخةً تمامًا عن طريق القطع الأثرية التي عُثِر عليها في أماكن أخرى بالإضافة إلى الحيوانات المنقرضة، وقارن تحديدًا الجمجمة بجمجمة الشمبانزي. كما أشار إلى الحاجة المُلِحَّة إلى إيجاد أحفورة أخرى.

في الواقع، كانت توجد بالفعل اكتشافات أسبَق غير ملحوظة. كان البشر قد نسوا لآلاف السنين أبناء عمومتهم الذين فُقِدوا منذ زمن طويل، ثم، مثل الحافلات، ظهرت ثلاثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. جاء الاكتشاف الأول في عام ١٨٢٩ على يد فيليب تشارلز شميرلنج. كان واحدًا من عدد متزايد من هواة «جمع الأحافير»، وكان أيضًا ذا خلفية طبية، وفي كهف أويرس بالقرب من إنجيس، ببلجيكا، عثَرَ على أجزاء من جمجمة. كانت قد بقيت، جنبًا إلى جنب مع مخلوقات قديمة وأدوات حجرية، مُحكَمة الإغلاق تحت ١٫٥ متر (٥ أقدام) من الأنقاض الإسمنتية.٥
على الرغم من شكلها المستطيل غير المعتاد، لم تجذب جمجمة إنجيس انتباهًا أوسع لأنها كانت جمجمة طفل: مثلنا، كان على النياندرتال الصغار أن «ينموا إلى» هيئتهم البالغة. كان واضحًا أن جمجمة فيلدهوفر البالغة ثقيلة المظهر، علاوةً على أنه كان معها أجزاء جسم أخرى.٦ وعلى الرغم من أن طفل إنجيس كان سيبقى غير مصنف حتى أوائل القرن العشرين، فلحسن حظ بوسك، كان شخص آخر قد عثر بالفعل على إنسان نياندرتال بالغ آخر؛ وقد أتى من أرض تحت السيطرة البريطانية.
في عام ١٨٤٨، أثناء تمركز الليفتاننت، الذي يُشار إليه بإعجاب، إدموند فلينت في جبل طارق، تَحَصَّل على جمجمة. مجددًا، أدَّى استخراج الحجر الجيري — هذه المرة لتعزيز التحصينات العسكرية البريطانية — إلى الشروع في الاكتشاف، لكن رتبة فلينت واهتمامه الشخصي بالتاريخ الطبيعي ضَمِنا عدم التخلُّص من الجمجمة.٧

ترتفع صخرة جبل طارق على سطح شبه الجزيرة مثل سِن ضبع هائلة، وقد اجتذبت نباتاتها وحيواناتها اهتمام علماء التاريخ الطبيعي المتحمسين من زملاء فلينت في العسكرية؛ إذ كان سكرتير جمعيتهم العلمية. يسجِّل محضر وقائع يوم ٣ مارس ١٨٤٨ عرضه ﻟ «جمجمة بشرية» من محجر فوربس، فوق بطارية مدفعية من القرن الثامن عشر. لا شك أن الضباط مرُّوا بها، محدِّقين في التجويفَين الضخمَين للعينَين، ولكن على الرغم من كونها كاملةً اكتمالًا جوهريًّا (على عكس جمجمة فيلدهوفر)، فيبدو أنها لم تُعتبَر شيئًا استثنائيًّا. ربما يكون غلاف من رواسب إسمنتية قد حجب التفاصيل، ولكن عدم القدرة على «رؤية» شكلها الغريب أمر جدير بالملاحظة.

بقيت جمجمة فوربس مغفلة الذكر في مجموعات جمعية التاريخ الطبيعي حتى عام ١٨٦٣. وفي شهر ديسمبر من ذلك العام، ضمن أشياء أخرى، رآها توماس هودجكين،٨ الذي كان طبيبًا زائرًا ذا اهتمامات إثنوجرافية. ربما كان مستعدًّا بسبب ترجمة صديقه بوسك لتقرير فيلدهوفر؛ فقد رأى «بالفعل» شيئًا جديرًا بالملاحظة في الجمجمة، التي من المحتمل أنها كانت في هذه المرحلة في رعاية الكابتن جوزيف فريدريك بروم، الذي كان أثريًّا محترمًا فيما يختص بجبل طارق وحاكمًا للسجن العسكري. كان بروم، الشغوف بالجيولوجيا وعلم الأحافير، يرسل مكتشفات، من أعمال التنقيب التي أجراها بنفسه، إلى بوسك طوال سنوات عديدة، ولذا أُرسلت جمجمة فوربس على النحو الواجب بحرًا إلى بريطانيا، ووصلت في يوليو من عام ١٨٦٤.

لا بد أن بوسك قد أدرك على الفور أن الأنف الكبير والوجه الممدود للأمام كانا متشابهين تشابهًا لافتًا للنظر مع السمات التي ألمحت إليها جمجمة فيلدهوفر، والتي كانت تتألَّف فقط من قحف الجمجمة العلوي بالإضافة إلى جزء من محجر العين. لقد فهم أيضًا أن هؤلاء الأشخاص المندثرين لا بد أن يكونوا قد عاشوا «من نهر الراين إلى أعمدة هرقل». وبعد شهرين فقط، حدث أول ظهور علمي لجمجمة فوربس، على الرغم من أن شخصًا ما تلقَّى معاينة خاصة. فبفضل عادات المراسلات الرائعة للسادة الفيكتوريين، نعرف أنه من المرجح جدًّا أن جمجمة فوربس وصلت إلى يد تشارلز داروين؛ إذ نقلها عالم الأحافير زميل بوسك — هيو فالكونر — حيث حال اعتلال صحة داروين دون سفره إلى الكشف العلمي الكبير. اعتقد داروين أنها «رائعة»، ولكن تماشيًا مع تحفُّظه على أصول الإنسان، لا يوجد تسجيل لرد فعله العلمي على النياندرتال.

أما بوسك وفالكونر، فبدافع من حرصهما على تحديد السياق الجيولوجي للجمجمة، هرعا عائدين إلى جبل طارق قبل نهاية العام. ما رأياه أعطاهما الثقة لنشر أن هذا كان «إنسانًا سابقًا» ثانيًا قديمًا للغاية. ومع ذلك، فإن اسم النوع الذي ابتغياه، وهو «هومو كالبيكوس» (إنسان جبل طارق) Homo calpicus،٩ لم يؤخذ به. كان ويليام كينج، الأمين السابق لمتحف هانكوك في نيوكاسل ورئيس قسم الجيولوجيا وعلم المعادن في جالواي، قد درس قوالب بقايا فيلدهوفر، وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الجمجمة المأخوذة من جبل طارق ترسو في بريطانيا، نُشِر الاسم الذي اقترحه، «هومو نياندرتالنسيس» Homo neanderthalensis. وباتباع قواعد «السبق» في العلم، يظل هذا هو الاسم الذي ما زلنا نستخدمه في يومنا هذا.
لكن تسمية هذه الأحافير الغريبة كانت أقل شيء مثير للجدل في المسألة. كان لتصنيفها باعتبارها أعضاء منقرضين من جنسنا، الهومو أو البشرانيات Homo، آثار عميقة تردَّدَت أصداؤها إلى ما هو أبعَد من عالم العلم. واجهت الفكرة، التي كانت تتعارض تعارُضًا هائلًا مع وجهات نظر العالم الغربي في القرن التاسع عشر، معارضة محمومة.١٠ وسرعان ما ظهر نقد لاذع من أغسطس فرانس جوزيف كارل ماير، الذي كان زميل تشريح متقاعدًا لشافهاوزن، ومؤيدًا لنظرية الخلق.
ادعى ماير أن البقايا كانت ببساطة ترجع إلى إنسان مريض وجريح، لكنه بخلاف ذلك كان إنسانًا طبيعيًّا. في وقت لاحق إلى حدٍّ ما من عام ١٨٧٢، فحص عالم الأحياء البارز رودولف فيرشو عظام فيلدهوفر ووافق على أن خصائصها التشريحية يمكن تفسيرها إنْ كان رجل قوزاقي روسي مفقود، يعاني من التهاب المفاصل والكساح وكسر في الساق وأطراف مقوَّسة جرَّاء عمله في سلاح الفرسان، قد أخفى نفسه في الكهف ومات. يبدو هذا اليوم أمرًا مستبعدًا ومنافيًا للعقل — والمفارقة المثيرة للسخرية أنه يؤكد على أن العظام تشبه عظام الإنسان — لكن فيرشو كان من روَّاد الطب ويحظى باحترام واسع في مجال علم الأمراض الخلوية وصمم أول تشريح منهجي للجثث. لذا، ربما ليس من المستغرب أنه كان يميل إلى تفسير الحالة التشريحية لعظام فيلدهوفر على أنها مرض وإصابة، حتى إنه يشير إلى أن عظام الحاجبَين الضخمة ناتجة عن العبوس المفرط بسبب الألم المزمن.١١
ومع ذلك، كان بوسك هو الآخر طبيبًا. ومن المؤكد أن عقودًا أمضاها في العمل جراحًا في البحرية يعالج إصاباتٍ وأمراضًا وطفيليات متنوعة جعلته على الأرجح يرى النياندرتال من خلال منظور باثولوجي يضع الأمراض في الاعتبار، ولكن خفف من حدَّة هذا ما امتلكه من خلفية عن علم الحيوان وخبرة في تصنيف الأنواع.١٢ كان بوسك متأكدًا من عدم وجود مرض أو صدمة جسدية يمكن أن تكون مسئولة عن الحالة التشريحية التي رآها، وأورد بشيء من الارتياح ملاحظةً مفادها أن أولئك الذين يرفضون قبول أحفورة فيلدهوفر يجب أن يعترفوا بأن هلاك قوزاقي مريض في جبل طارق كان احتمالًا ضئيلًا. احتدمت هذه النقاشات حتى القرن العشرين، ولكن من بعض الجوانب لم يكن النياندرتال سهامًا مشتعلة انطلقَت في الظلام، على نحو غير متوقع تمامًا. أخذت تتجمَّع في المجتمعات الفكرية الغربية شكوك في أن العالم قد لا يعكس بدقة روايات الكتاب المقدس.

اقتضت الاكتشافات المتنوعة منذ العصور الوسطى حول الطبيعة — من قارات غير معروفة إلى تحديد أجسام فلكية كانت غير مرئية سابقًا — إعادة هيكلة المعرفة والفلسفة. وفي حين أن الأحافير كانت قد لوحظت على مدى آلاف السنين، بدأ علماء الأحياء في القرن الثامن عشر معاملتها على أنها كائنات كانت حيةً يومًا ما ويمكن دراستها. وأخذ يتزايد استكشاف الأماكن العميقة على كوكب الأرض، مثل كهف جيلنروث الضخم في ألمانيا في وقت مبكر اعتبارًا من عام ١٧٧١، مما أضاف إلى الفهم الوليد ﻟ «العوالم المفقودة» التي كانت تسكنها وحوش منقرضة. ظلَّ ثمَّة تأثير لدورات الكوارث والتجديد المستوحاة من المصادر اللاهوتية، لكن الطبيعة غير المألوفة لعوالم ما قبل الطوفان كانت واضحة في أوائل القرن التاسع عشر. لم يقتصر الأمر على أن كائنات القطب الشمالي مثل الرنة عاشت يومًا ما على بُعد آلاف الكيلومترات جنوبًا، ولكن العكس كان صحيحًا؛ إذ وجدت عظام حيوان فرس نهر في يوركشاير غير الاستوائية بالتأكيد. ومع ذلك، لم يكن الجميع مقتنعين بأن المخلوقات قد تطوَّرَت حقًّا. حتى إن البعض — ومن بينهم علماء ذوو ميول دينية، مثل فيرشو — استشفُّوا وجود مخاطر أخلاقية من وراء مثل هذه النظريات، خوفًا من أن تؤدي إلى داروينية اجتماعية.

مع ذلك، ومع ظهور المزيد من الأحافير، بدأت تترسَّخ مسألة وجود نوع آخر من البشر. وبعد عام واحد فقط من إطلاق كينج تسمية النياندرتال رسميًّا، اقتُرِح أن يكون فكٌّ سفليٌّ ثقيل بدون ذقن، كان قد عُثِر عليه في بلجيكا مع الماموث والرنة ووحيد القرن، من نفس النوع. لكن مرَّ عقدان آخران حتى عُثِر على هياكل عظمية شبه كاملة. فمجددًا في بلجيكا، ظهرت عام ١٨٨٦ بقايا شخصَين بالغَين في كهف «بيتش أو روتش» بقرية سباي، مما دلَّل على أن الجماجم المسطَّحة والطويلة والفكوك المنحدِرة إلى الخلف والأطراف القوية المعروفة سابقًا من المواقع الأخرى كانت جميعها تخص نفس المخلوقات. عزَّز هذا القبول العلمي للنياندرتال باعتبارهم مجموعة منقرضة محددة تشريحيًّا. لكن الأحافير بالطبع ليست سوى نصف القصة.

الزمن والحجر

واجه علماء ما قبل التاريخ الأوائل مشكلة أساسية؛ ألَا وهي الزمن. فنظرًا إلى افتقارهم إلى طرق لتحديد عمر أي شيء بالضبط، فقد اعتمدوا على التسلسل الزمني النسبي: كان من الواضح أن الأحافير أو القطع الأثرية التي عُثِر عليها مع الحيوانات المنقرضة كانت أقدم من العالم الحالي. عرف الجيولوجي البريطاني تشارلز لايل أن ماضي الأرض السحيق يجب أن يمتد إلى ما هو أبعَد من الحدود التوراتية، وهي بضعة آلاف من السنين، وأوضح في كتابه العظيم «مبادئ الجيولوجيا» أن العمليات الجيولوجية البسيطة القابلة للرصد كانت، مع توفير الزمن الكافي، مسئولة تمامًا عن خلق العالم. لذلك يمكن فك شفرة تاريخ الكوكب بالكامل عن طريق مبدأ تراصف طبقات الأرض: فنظرًا إلى أن الرواسب تتراكم في طبقات بعضها فوق بعض عبر الزمن، يجب أن يرتبط العمق الأكبر بالعمر الأكبر. كان لايل مهتمًّا بشدة بأحفورة فيلدهوفر، وفي عام ١٨٦٠ — حتى قبل ترجمة بوسك — قام بزيارة لفحص الرواسب المتبقية. أراه فولروت الجمجمة وأهداه قالبًا لها: كانت تلك هي كيفية مشاركة البيانات في العصر الفيكتوري. وبحلول ذلك الوقت، كان الكهف نفسه على أعتاب الدمار، وكان رأي لايل المتسم بالخبرة حاسمًا في كسب القبول العلمي بأنها كانت قديمة حقًّا.

الأكثر من هذا أن مفهوم لايل عن الطبقات الأرضية شكَّل حجر الأساس لعلم الآثار باعتباره فرعًا من فروع المعرفة. أمكنه توفير هيكل للعمليات الزمنية العميقة، وتحديد الأعمار النسبية عبر طبقات الأرض وتوضيح كيفية تشكل الرواسب «داخل» المواقع. فأثناء التنقيب، يُعد التباين في لون أو نسيج الرواسب بالإضافة إلى محتويات كل طبقة — القطع الأثرية وعظام الحيوانات — علامات إرشادية لكيفية تغير الظروف عبر الزمن. لعقود كثيرة، كان الدليل على أن النياندرتال كانوا بالِغي القِدَم — كما كان يظن كثيرون — يستند استنادًا بحتًا على مثل هذا الاستدلال. لقد استغرق الأمر قرنًا تقريبًا حتى طوَّر العلماء أخيرًا طرقًا يمكن «مباشرةً» أن تحدد عمر الأشياء. فبدءًا من خمسينيات القرن الماضي باستخدام الكربون المشع،١٣ اتُّبِع عدد لا يحصى من الأساليب الأخرى القابلة للتطبيق على أي شيء تقريبًا: العظام، وصواعد الكهوف، وحتى حبيبات الرمل المنفردة.

يمكن حتى تحديد عمر بعض فئات القطع الأثرية الحجرية مباشرةً، على الرغم من أنه لم يبدُ أن أيًّا من أحافير النياندرتال المبكرة كانت مصحوبة بأشياء مادية ثقافية. في الواقع، نعرف الآن أنه كان «يوجد» الكثير من الصخور الحجرية على الأقل في فيلدهوفر، لكن المكتشفين لم يكونوا على دراية كافية بالأدوات الحجرية لتمييز الاختلاف بين الصخور المحطمة طبيعيًّا والصخور المشذبة عن قصد.

كما هو الحال مع الأحافير، قبل العثور على أول أحفورة للنياندرتال كان البشر مهتمين منذ فترة طويلة بالقطع الأثرية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. وفي المجتمعات المرتكزة على المعادن، كانت الاكتشافات وليدة الصدفة لفئوس يدوية ضخمة أو سهام حجرية دقيقة تتطلب تفسيرًا. لجأ الناس إلى الأسباب الطبيعية والخارقة للطبيعة، فوصفوها بأنها حجارة رعدية واعتقدوا أنها قادرة على منع البرق،١٤ أو نسجوا حولها حكايات كانوا يتعرَّضون فيها للسهام غير المرئية لكائنات الإلف الأسطورية: أسلحة «القوم الصغار». من ناحية أخرى، فهمَ المؤرخون مثل هذه الأغراض ضمن إطار التسلسلات الزمنية المتاحة. تعود إحدى التوصيفات الأولى المسجَّلة لأداة حجرية من أدوات ما قبل التاريخ إلى عام ١٦٧٣، عندما اكتُشفت قطعة أثرية مثلَّثة الشكل بالقرب من عظام «فيل» في طريق جرايز إن لين، بلندن. وعلى الرغم من أن فهم الزمن الجيولوجي بدأ يتبلور في حوالي ذلك الوقت، فإن الكشف فُسِّر على أنه فيل روماني هاجمه محارب سِلْتي. فالفكرة القائلة بأن شيئًا ماديًّا كهذا صُنِع يدويًّا قبل «آلاف» الأجيال من تأسيس روما لم تكن ببساطة ضمن نطاق احتمالات أي شخص. ومع ذلك، بعد قرن أو ما يقرب من ذلك، كان الفهم قد تطور بما يكفي لوصف الفئوس اليدوية المدفونة بعمق بأنها من المحتمل أن تكون من «فترة بعيدة جدًّا بالفعل، تتجاوز حتى فترة العالم الحالي».١٥ ومع ذلك، فإن الأهمية الحقيقية للقطع الأثرية الحجرية في فهم البشر القدماء لم تكن قد ظهرت بعدُ.
كان الفرنسي فرانسوا رينيه بينيت فاتار دي جوانيه أول شخص عُرِف عنه التنقيب عن عمد عن القطع الأثرية للنياندرتال، وإنْ كان ذلك عن غير علم منه. فبين عامَي ١٨١٢ و١٨١٦، نَقَّب في الملاجئ الصخرية في موقعَي بيتش دي لازي ١ وكومب جرينال، بجنوب غرب فرنسا، وعثر على عظام حيوانات محترقة وبقايا منتجات صخرية. بشكل حاسم، أشار إلى أنها كانت مُدمَجة في ترسُّبات الكلس التي كان واضحًا أنها قديمة، ولكن لأنه حتى جمجمة إنجيس لم يكن سيُعثَر عليها إلا بعد أكثر من عقد، فلم يكن لديه أي دراية بالنياندرتال أو بأي أسلاف بشر منقرضين. كان أفضل تخمين توصل إليه عن التسلسل الزمني للقطع الأثرية — «الغاليَّة القديمة جدًّا» — مشابهًا بشكل مدهش لتفسير قطع جرايز إن لين الأثرية المكتشفة قبلها بنحو ١٥٠ عامًا.١٦

بعد دي جوانيه، تزايدت الأدلة حتى إنه لم يكن ممكنًا إقحام مثل هذه الاكتشافات في التسلسل الزمني التاريخي ولا التوراتي. في جنوب شرق فرنسا، كان الخبير الأثري بول تورنال يستخرج عظام دب كهف وعظام رنة جنبًا إلى جنب مع قطع أثرية، كان جليًّا أنها من صنع الإنسان، في كهوف بيز، مما دفعه إلى أن يطرح في عام ١٨٣٣ فكرة وجود عصر «ما قبل التاريخ». في نفس الفترة تقريبًا، عثر الأثري الفرنسي جاك بوشيه دي كريفكور دي بيرت على أحجار صوان مشذبة مدفونة بعمق في حصى الأنهار في وادي السوم، بشمال فرنسا. كان من الصعب تصوُّر أنها قد وصلت إلى هناك مؤخرًا، ومع ذلك لم تحظَ حتى أدلة أحافير الفيل ووحيد القرن بالقليل من القبول العلمي. لم تتغير الأمور إلا في نفس الوقت تقريبًا الذي بدأت تذيع فيه أخبار اكتشاف فيلدهوفر.

نلتقي هنا مجددًا بهيو فالكونر، الذي سيحضر جمجمة فوربس إلى داروين. ومثل بوسك، إنه لا يزال شخصيةً مغمورةً في يومنا هذا، لكنه كان محوريًّا في نشأة التطور البشري باعتباره فرعًا من فروع العلم. فبعد سنوات أمضاها فالكونر في مستعمرات الهند حيث كان يسعى وراء اهتماماته في علم الأحافير، بحلول عام ١٨٥٨ كان يستكشف كهف بريكسام، في ديفون، ليجد صخورًا وحيوانات منقرضة مطمورة بإحكام تحت أرضية من صواعد الكهوف. في العام نفسه، زار حفر الحصى التي اكتشفها دي بيرت، وبعدما اقتنع بعمرها الكبير، نصح الجيولوجي جوزيف بريستويتش بالقيام بالرحلة. هناك التقى بريستويتش، مصادفةً، بخبير الأدوات الحجرية جون إيفانز — إلى جانب تشارلز لايل، الذي كان قد ارتحل بنفسه إلى دي بيرت — وفي عام ١٨٥٩ نشروا تقارير خبراء تؤكد أن الزمن الذي تعود إليه الصخور والوحوش المنقرضة يقبع في أعمق أعماق الماضي السحيق. وفيما يختص ﺑ «رجال العلم»،١٧ تمَّت تسوية المسألة، لكن المتشككين تمادوا وتساءلوا: هل يُحتمل أن يكون صانعو الأدوات، وإنْ كانوا قدماء، قد عاشوا «بعد» أن كانت كائنات مثل الماموث قد صارت بالفعل عظامًا يابسة؟

الأمر الذي لا جدال فيه على الإطلاق — والمثير للغاية — أن شهادة الخبراء سرعان ما أثبتت أن البشر قد شهدوا بالفعل وحوشًا منقرضة بكل مجدها وحيويتها وشعرها الكثيف. تقع قرية «ليه زيزييه دي تاياك» على بُعد أكثر من ٥٦٠ كيلومترًا (٣٥٠ ميلًا) جنوب حُفر الحصى في وادي السوم، عند التقاء نهرَي بون وفيزير. اليوم، في شهر يناير، يكون الجو هادئًا بما يكفي لسماع صقور الشاهين تصيح فوق المنحدرات الضخمة التي تنتصب عاليةً، لكن الصيف يشهد أرصفة ضيقة تلفحها الشمس وتعج بالسياح؛ لأن القرية هي عاصمة أرض عجائب عصور ما قبل التاريخ، وتحيط بها مئات الكهوف والملاجئ الصخرية في وديان ضيقة وهضاب مذهلة مكسوة بالحجر الجيري. بعد تذوق عجة الكمأة في مقهى كافيه دي لا ميري، يمشي الزوار الهُوَيْنَى إلى المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ، الذي بُني حول أنقاض قصر ريفي مدمر يقع تحت الحجر الجيري المتدلي. تظل المدافئ موجودة، في انعكاس غريب لطبقات رماد ما قبل التاريخ المكدسة حتى عمق أمتار لأسفل. من الأسوار القديمة، تحدق بغموض منحوتةٌ ضخمةٌ لإنسان نياندرتال على طراز فن الآرت ديكو: مثل الأفكار الخفية للتمثال، أخفى هذا المشهد أشياء كثيرة.

انتهت العزلة النسبية لقرية ليز إيزي في عام ١٨٦٣ عندما فَتحت سكةٌ حديديةٌ طموحةٌ تربط باريس بمدريد فرعًا إلى إقليم بيريجور، وبدأت تَحَوُّلها من قرية خاملة إلى بؤرة جدل حول أصول الحضارة الغربية، ثم إلى موقع مدرج في قائمة التراث العالمي. لكي تتبع المسار اليوم، بالقرب من المكان الذي ينعطف فيه خط السكة الحديد برشاقةٍ جنوبًا من المحطة، يمكنك استئجار زورق كانوي والتجديف في المسار المتعرج لنهر فيزير. وبعد بضعة كيلومترات وقبالة قصر ريفي على قمة تل يقع ملجأ «لا مادلين» الصخري. تستقبل بقايا القرون الوسطى الشهيرة السياح اليوم، ولكن الموقع المُتاخِم هو موقع من مواقع عصور ما قبل التاريخ، ولا تزال النباتات تُخفيه، مثلما كان في عام ١٨٦٤.

في ذلك الصيف، كان فالكونر في المشهد، بزيارته لموقع تعاون أثري بين راكبَين وصلا في قطارَين جديدَين لامعَين في العام السابق. ممول بريطاني، هو هنري كريستي، أتاحت له ثروته أن يجمع «واحدةً من أفضل المجموعات الأثرية الخاصة في أوروبا»،١٨ مما منحه معرفة جيدة على نحو استثنائي بالأدوات الحجرية. وكان شريكه الفرنسي، إدوارد لارتاي، قد صار بالفعل أحد مشاهير مؤرخي عصور ما قبل التاريخ، حيث حفر مواقع قديمة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر.١٩ واستنادًا إلى شائعات عن مجموعات خاصة ﺑ «فيكونت» محلي ومكتشفات موجودة في متجر تحف أثرية باريسي، بدآ التعاون في وادي فيزير. بدآ بالتنقيب في الملجأ العلوي في موقع لو موستييه، وعند عودتهما في أحد الأيام لاحظا عَبْر النهر ملجأً كبيرًا آخر، وكان مرئيًّا فقط لأنهما كانا في الشتاء وكانت الفروع أمامهما عارية من الأوراق.
يُعرف هذا الموقع باسم موقع لا مادلين، وقد اتضح أنه يحتوي على قطع أثرية وفيرة للغاية صنعها الإنسان العاقل المبكِّر بعد النياندرتال بعشرات الآلاف من السنين. ومع ذلك، فقد تضمَّن الموقع شيئًا ماديًّا حاسمًا لقبول مكانهم في ماضينا التطوري. حتى ذلك الحين، كان المشكِّكون في العصور البشرية السحيقة قد برَّروا استبعاد أشياء مادية منحوتة من قرون حيوان الرنة، كان قد عُثِر عليها في أماكن أخرى في فرنسا، على أنها ناتجة من مواد متحجِّرة بالفعل جُمعت ونُقِشَت في مرحلة لاحقة بعد ذلك بكثير. انهارت تلك الحجة في موقع لا مادلين عندما أخرج عمال لارتاي وكريستي قطعة ممزَّقة من ناب ماموث عليها علامات. في ذلك اليوم تحديدًا، تصادف أن فالكونر — أبرز خبراء أحافير الأفيال في العالم — كان يزور الموقع. عندما أُزيلت التربة من على العاج، رأى على الفور أن خطوطًا منقوشة ممتدة كانت تشكل رأس ماموث مقبب مميز، بما في ذلك فراء أشعث مرسوم بعناية.٢٠ أثبتت هذه القطعة الأثرية المنفردة أن البشر «قد» عاشوا جنبًا إلى جنب مع أنواع منقرضة، وأن جميع القطع الأثرية «المرفوضة» المتعلِّقة بحياتهم والتي أُخرِجَت من الكهوف في جميع أنحاء أوروبا كانت في الحقيقة من عالم قديم هائل.

•••

وضع اكتشاف موقع لا مادلين حجر الأساس الأخير لفرع المعرفة المسمى اليوم بأصل الإنسان. سيستغرق الأمر ٥٠ عامًا أخرى أو نحو ذلك حتى يبدأ مؤرخو عصور ما قبل التاريخ، الذين يجمعون الأحجار الصخرية، في فهم من صنع ماذا ومتى. لكنهم قد عبروا بالفعل حدًّا فاصلًا بين نظرتين للكون: النظرة القديمة إلى كون صُنِع من أجلنا، وعالم جديد كنا فيه أبناءً لنفس الأرض، نحن والكثير من الأخوات والإخوة. الطريق إلى ذلك العالم هو المكان الذي ستأخذنا إليه بقية هذا الكتاب، لمعرفة كيف تحول النياندرتال من شذوذ علمي إلى المخلوقات الخالدة على نحو غير مألوف والمحبوبة بغرابة، التي اكتشفناها وأيضًا بطريقةٍ ما خلقناها. لكننا أولًا نحتاج إلى صورة عائلية، للمساعدة في وضع النياندرتال في سياقهم التطوُّري الهائل حقًّا.

١  أقصر وحدة زمنية قابلة للقياس.
٢  يفضل الباحثون مصطلح artefact «القطعة الأثرية» عن مصطلح tool «الأداة»، التي تختص أكثر بشيء يُستخدم على وجه التحديد باليد.
٣  العصر الجليدي المتأخر (العصر البليستوسيني) هو تقسيم جيولوجي للزمن، وهو أول حقبة من العصر الرباعي، الذي يبدأ منذ حوالي ٢٫٨ مليون سنة، حتى حوالي ١١٧٠٠ سنة مضت عندما بدأت الحقبة التي نعيش فيها، وهي حقبة العصر الهولوسيني (العصر الحديث).
٤  حتى في الأحافير التي يبلغ عمرها عشرات الآلاف من السنين «فقط»، تكون الاختلافات التركيبية ظاهرة.
٥  تُعرَف هذه المادة باسم الصخر المُدَملَك (البريشيا).
٦  إجمالًا تتكون عظام فيلدهوفر الأصلية من الفخذين، وعظم الورك الأيسر، وأجزاء من الترقوة، ولوح كتف، ومعظم الذراعين وخمسة أضلاع.
٧  على الأرجح أن عمال محاجر مجهولين هم من توصلوا إلى الاكتشاف وليس الليفتاننت.
٨  الذي وَصَّف حالة ليمفوما هودجكين.
٩  Calpicus هو إشارة إلى الاسم الفينيقي القديم لجبل طارق؛ ولو كان اعتُرِف بالكشف البلجيكي الأسبق، ربما كنا سنشير إليهم باسم «الأويريين» (تيمنًا بكهف أويرس).
١٠  توقع محررو مقالة فيلدهوفر الأصلية هذا، فأضافوا ملاحظةً مهذبةً يوضحون فيها أنه لم يتفق الجميع مع مؤلف المقالة في تأويلاته.
١١  استخدم فيرشو بحثه العلمي ذات مرة للدفاع عن نفسه بعد أن تحداه بسمارك في مبارزة؛ إذ سُمح لفيرشو باختيار السلاح واختار قطعتين من النقانق، تحتوي إحداهما على يرقات طفيلية كان قد أثبت أنها يمكن أن تصيب البشر. فتخلى بسمارك عن تحديه.
١٢  أجرى بوسك عمليات تحديد هوية عينات مأخوذة من مجموعة داروين في «رحلة البيجل»، ونَقَّح الورقة البحثية التي كان قد كتبها داروين ووالاس عن الانتقاء الطبيعي.
١٣  الكربون المشع هو على الأرجح أكثر أنواع طرق التأريخ المباشر شيوعًا لمعظم غير المتخصصين. استنادًا إلى معدلات الانحلال المتوقعة لنظير الكربون ١٤، يمكن الآن استخدامه لتحديد عمر المواد العضوية إلى ما قبل حوالي ٥٥ ألف سنة.
١٤  هذا ليس غريبًا كما يبدو؛ لأنه في الرواسب الصحيحة الغنية بالسيليكا يمكن للبرق أن ينتج مادة معدنية تسمى الفولجوريت (عيدان الصواعق).
١٥  الكلمات مقتبسة من جون فرير، الذي اكتشف في عام ١٧٩٧ قطعة أثريةً حجريةً مقترنةً بحيوانات منقرضة في نورفك، ببريطانيا.
١٦  كان يعمل قبيل طرح كريستيان جورجينسين ثومسين لتصور «العصور الثلاثة» الحجري، والبرونزي والحديدي في عام ١٨١٧.
١٧  يستخدم مراسل داروين، وعالم النباتات والمستكشف جوزيف هوكر، مصطلح «رجال العلم»، في مقابل «العوام».
١٨  من مذكرات فالكونر (ص٦٣١).
١٩  كان لارتاي في الأصل يعمل بالمحاماة، ولكن يُزعَم أنه أصبح شغوفًا بعلم الأحافير بعد تلقيه سن حيوان ماموث من مزارع لقاء خدماته.
٢٠  كانت اكتشافات التربة الصقيعية الروسية في القرن الثامن عشر قد أظهرت بالفعل أن الماموث كان مشعرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤