الوجه الأول
ترى خرابيش على هيئة حبيبات خشِنة على سقف مترب تحت قدمَيك، لأننا نقف فوق ناطحة فضاء مثيرة للدوار. تنامى ارتفاع هذا البرج، الذي يتجاوز أي حلم ببرج بابل، من الأرض مثل صاعدة كهفية فائقة، مترًا لكل سنة من تاريخ البشرية. فوق سطحه الذي يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة كيلومتر، تتحرَّك محطة الفضاء الدولية بسرعة عالية في السماء، تكاد تكون أسرع من رمشة عينك. انظر من فوق حافة البرج، وعلى امتداد طوله الكامل ترى هالة من الضوء من آلاف الفتحات. في الأعلى توجد نوافذ غُرف مضاءة بمصابيح ثنائية باعثة للضوء، ولكن إلى الأسفل أكثر — متعمقًا أكثر في الزمن — تتبدَّل جودة الضوء. تتكيَّف عيناك بينما تفسح مصابيح فلورية كهرمانية المجال لمصابيح الغاز المضيئة، ثم تبدأ جوقات الشموع المتجمعة.
أنت تحدِّق الآن بعينَيك شبه مقفلتَين ولكنك تتبيَّن، أبعد إلى الأسفل أكثر، أن الوهج يخف. يلتمع ضوء قديم منبعث من عشرات الآلاف من المصابيح الطينية، وتطوق آثارها الدخانية البرج، ومع ذلك فنحن ما زلنا لم نصِل بعدُ إلى أعماق التاريخ البشري. تأخذ تلسكوبًا صغيرًا وبينما تتوسَّع حدقتاك، نهمةً للفوتونات القديمة، ترى وميض لهب نيران مواقد تبدأ على بُعد حوالي ثلاثين كيلومترًا إلى الأسفل، وتستمر لعشرة أضعاف ذلك العمق، وصولًا إلى ثلاثمائة ألف سنة ماضية. تتلوى ألسنة اللهب والظلال وتتقوَّس، منعكسةً على الجدران الحجرية، حتى لا يعود موجودًا إلا الظلام ولا تُحصى السنوات.
توجد حِيَل عقلية نافعة لسد هذه الفجوة بين فترة وجودنا القصيرة الأجل وهاوية الزمن السحيقة. فتقليص عمر الكون البالغ ١٣٫٨ مليار سنة إلى فترة واحدة مدتها ١٢ شهرًا يضع الديناصورات في مرحلة زمنية قريبة قربًا صادمًا من عيد الميلاد المجيد، بينما يصِل أقدَم إنسان عاقل قبل دقائق قليلة من انطلاق الألعاب النارية للعام الجديد. لكن تصوُّر الزمن على هذا المقياس المألوف لا يوضِّح بجلاء الأعوام الممتدة امتدادًا هائلًا ومتكاسِلًا. تؤدِّي المقاربات المذهلة إلى تقريب الأمر قليلًا من صورته الصحيحة: فعلى سبيل المثال، عدد السنوات بين عهد حكم كليوباترا والهبوط على القمر أقل من عدد السنوات بين عهدها وبناء أهرامات الجيزة. ذلك فقط فيما يخص آلاف السنين القليلة الأخيرة، في حين أن العصر الحجري القديم — الفترة الأثرية السابقة للعصر الجليدي الأخير — أكثر إثارة للحيرة. فثيران كهف لاسكو القافزة أقرب زمنيًّا للصور الموجودة على هاتفك من لوحات الخيول والأسود في كهف شوفيه. فأين الموضع المناسب للنياندرتال في هذا التسلسل الزمني؟ إنهم يأخذوننا إلى زمن يسبق «بكثير» الأصابع التي تتبع الوحوش على الجدران الحجرية.
في حين أنه يستحيل تحديد «الأول» من نوعهم، فقد صاروا تعدادًا سكانيًّا متمايزًا منذ ٤٥٠ إلى ٤٠٠ ألف سنة. لا بد أن سماء الليل التي كانت تخيم في ذلك الزمن على العديد من مجموعات أسلاف البشر على الأرض كانت غريبة، ونظامنا الشمسي الذي كان على بُعد سنوات ضوئية من موقعه الحالي يرقص رقصة فالس مجَرِّية لا تتوقف أبدًا. تَوَقَّف مؤقتًا في منتصف فترة الهيمنة الزمنية للنياندرتال عند حوالي ١٢٠ ألف سنة مضت، وبينما يمكن التعرُّف على الأرض والأنهار في الغالب، فإن العالم «يبدو» مختلفًا. إنه أكثر دفئًا، والمحيطات — التي امتلأت بالجليد الذائب — قد غمرت اليابسة، ودفعت الشواطئ فجعلتها أعلى بعدة أمتار. تتجوَّل الوحوش الاستوائية المذهلة حتى في الوديان العظيمة في شمال أوروبا. إجمالًا، دام وجود النياندرتال طوال ٣٥٠ ألف سنة مدهشة، إلى أن اختفوا عن أنظارنا — أو على الأقل اختفت أحافيرهم وآثارهم — منذ حوالي ٤٠ ألف سنة.
حتى الآن، الأمر مُذهِل للغاية. ولكن انتشارهم لم يكن على مستوى الزمن فحسب: أيضًا انتشر النياندرتال عَبْر مساحة شاسعة على نحو مذهل. كانوا أوراسيين أكثر من كونهم أوروبيين، واستوطنوا من شمال ويلز إلى حدود الصين، وجنوبًا إلى أطراف صحاري شبه الجزيرة العربية.
موقع البدء
دعونا نرتحل خمسة أو ستة أجيال فقط إلى الوراء لنشهد ولادة التطوُّر البشري باعتباره علمًا. كان هذا العلم النرجسي بالأساس — فهو، في نهاية المطاف، وليد منظور العالم الفيكتوري — يتعلَّق دائمًا بسؤال مَن نحن، ولماذا نحن هكذا. في خضَمِّ اضطراباتٍ ربما كانت أكبر الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم حتى الآن، كافح علماء القرن التاسع عشر ليجدوا طريقة لفهم ماهية العظام الغريبة المستخرجة من الكهوف الأوروبية. ولكن كان ثمَّة شيء واحد مؤكد منذ البداية: وهو أن النياندرتال تسببوا في اندلاع نقاشات متزايدة حول ما يعنيه أن يكون المرء إنسانًا. يوجد عدد قليل من الأسئلة الأكبر، والإجابات مهمَّة للغاية بما يتجاوز الفضول المحض. يساعدنا تتبع كفاح علماء ما قبل التاريخ الأوائل في تصنيف هذه المخلوقات المُربِكة على إدراك التناقضات العديدة المُعتقَدة حول النياندرتال، ويشرح المفاهيم والأفكار السابقة التي لا تزال قائمةً حتى اليوم.
يبدو أن اكتشاف فيلدهوفر ألهب خيال السكان المحليين بالأفكار مع ظهور التقارير الصحفية، وبدأ علماء أعلى في التسلسل الهرمي الفكري يطلبون رؤية العظام الغامضة. في بداية عام ١٨٥٧، أُرسِل قالب لغطاء الجمجمة إلى عالِم التشريح هيرمان شافهاوزن في بون، والذي كان لحسن الحظ منفتح العقل على إمكانية وجود البشر الأحفوريين. أخيرًا، انتقل صندوق خشبي يحتوي على الرفات الحقيقي، برفقة فولروت، إلى بون على السكة الحديدية التي كان يبلغ عمرها بالكاد ١٠ سنوات. ركزت عين شافهاوزن الخبيرة على الفور على الحجم غير الطبيعي للعظام — وخاصة الجمجمة — بينما ذكَّرته سِمات أخرى، مثل الجبهة المنحدرة، بالقردة العُليا. وبالنظر إلى جلاء الحالة القديمة للعظام وإلى أن أصلها يرجع إلى كهف، كان يميل إلى الموافقة على أنها يجب أن تكون نوعًا بدائيًّا من البشر. في ذلك الصيف عرض هو وفولروت النتائج التي توصَّلا إليها على الاجتماع العام لجمعية التاريخ الطبيعي لراينلاند ووستفاليا البروسيتين. وبعد بضع سنوات فقط من هذا الظهور الأول غير الرسمي في المجتمع، أصبحت العظام التي كان انتشالها أميل إلى المصادفة أول إنسان أحفوري والذي يُشار إليه علميًّا باسم «هومو نياندرتالينسيس».
ومع ذلك، حتى لو بدت الحالة التشريحية واضحة، كانت ثمَّة حاجة إلى دليل على أن العظام كانت قديمة للغاية. عاد فولروت وشافهاوزن إلى المحجر لإجراء مقابلة مع العمال، الذين أكدوا أن البقايا كانت على عمق حوالي ٠٫٥ متر (قدمين) في طين غير مخلخل. فُسِّر هذا ضمن إطار جيولوجي-توراتي مختلط، واعتبر فولروت أنه كان يشير إلى عصر ما قبل الطوفان، مما جعل الهيكل العظمي قديمًا للغاية. منحهم هذا الثقة لنشر الادعاء العاصف بأن جنسًا بشريًّا مندثرًا كان موجودًا قبل الإنسان العاقل. كان ثمة المزيد من التوافُق؛ إذ شهد العام نفسه ١٨٥٩ رجةً أخرى في المجتمع العلمي مع ظهور نظريات الانتقاء الطبيعي لداروين ووالاس. ولكن لم يحقِّق فيلدهوفر نجاحًا كبيرًا حقًّا إلا بعد مرور عامين تقريبًا، عندما ترجم عالِم الأحياء الرائع جورج بوسك المقالة الألمانية الأصلية.
ومع أن بوسك شخصية مغمورة في يومنا هذا، فإنه كان في قلب النخبة العلمية في القرن التاسع عشر، ومثل العديد من معاصريه كانت اهتماماته متعدِّدة التخصُّصات على نحو مستحيل تقريبًا في الوقت الحاضر. كان بوسك عضوًا في الجمعية الجيولوجية، ورئيس الجمعية الإثنوجرافية، وبحلول عام ١٨٥٨، أصبح سكرتير علم الحيوان لجمعية لينيان (الجمعية العلمية الأبرز في علم الأحياء)، وأضاف تعليقًا على ترجمته الصادرة عام ١٨٦١ عن اكتشاف فيلدهوفر. أشار إلى أن العصور البشرية البالغة القِدَم قد أصبحت مترسِّخةً تمامًا عن طريق القطع الأثرية التي عُثِر عليها في أماكن أخرى بالإضافة إلى الحيوانات المنقرضة، وقارن تحديدًا الجمجمة بجمجمة الشمبانزي. كما أشار إلى الحاجة المُلِحَّة إلى إيجاد أحفورة أخرى.
ترتفع صخرة جبل طارق على سطح شبه الجزيرة مثل سِن ضبع هائلة، وقد اجتذبت نباتاتها وحيواناتها اهتمام علماء التاريخ الطبيعي المتحمسين من زملاء فلينت في العسكرية؛ إذ كان سكرتير جمعيتهم العلمية. يسجِّل محضر وقائع يوم ٣ مارس ١٨٤٨ عرضه ﻟ «جمجمة بشرية» من محجر فوربس، فوق بطارية مدفعية من القرن الثامن عشر. لا شك أن الضباط مرُّوا بها، محدِّقين في التجويفَين الضخمَين للعينَين، ولكن على الرغم من كونها كاملةً اكتمالًا جوهريًّا (على عكس جمجمة فيلدهوفر)، فيبدو أنها لم تُعتبَر شيئًا استثنائيًّا. ربما يكون غلاف من رواسب إسمنتية قد حجب التفاصيل، ولكن عدم القدرة على «رؤية» شكلها الغريب أمر جدير بالملاحظة.
لا بد أن بوسك قد أدرك على الفور أن الأنف الكبير والوجه الممدود للأمام كانا متشابهين تشابهًا لافتًا للنظر مع السمات التي ألمحت إليها جمجمة فيلدهوفر، والتي كانت تتألَّف فقط من قحف الجمجمة العلوي بالإضافة إلى جزء من محجر العين. لقد فهم أيضًا أن هؤلاء الأشخاص المندثرين لا بد أن يكونوا قد عاشوا «من نهر الراين إلى أعمدة هرقل». وبعد شهرين فقط، حدث أول ظهور علمي لجمجمة فوربس، على الرغم من أن شخصًا ما تلقَّى معاينة خاصة. فبفضل عادات المراسلات الرائعة للسادة الفيكتوريين، نعرف أنه من المرجح جدًّا أن جمجمة فوربس وصلت إلى يد تشارلز داروين؛ إذ نقلها عالم الأحافير زميل بوسك — هيو فالكونر — حيث حال اعتلال صحة داروين دون سفره إلى الكشف العلمي الكبير. اعتقد داروين أنها «رائعة»، ولكن تماشيًا مع تحفُّظه على أصول الإنسان، لا يوجد تسجيل لرد فعله العلمي على النياندرتال.
اقتضت الاكتشافات المتنوعة منذ العصور الوسطى حول الطبيعة — من قارات غير معروفة إلى تحديد أجسام فلكية كانت غير مرئية سابقًا — إعادة هيكلة المعرفة والفلسفة. وفي حين أن الأحافير كانت قد لوحظت على مدى آلاف السنين، بدأ علماء الأحياء في القرن الثامن عشر معاملتها على أنها كائنات كانت حيةً يومًا ما ويمكن دراستها. وأخذ يتزايد استكشاف الأماكن العميقة على كوكب الأرض، مثل كهف جيلنروث الضخم في ألمانيا في وقت مبكر اعتبارًا من عام ١٧٧١، مما أضاف إلى الفهم الوليد ﻟ «العوالم المفقودة» التي كانت تسكنها وحوش منقرضة. ظلَّ ثمَّة تأثير لدورات الكوارث والتجديد المستوحاة من المصادر اللاهوتية، لكن الطبيعة غير المألوفة لعوالم ما قبل الطوفان كانت واضحة في أوائل القرن التاسع عشر. لم يقتصر الأمر على أن كائنات القطب الشمالي مثل الرنة عاشت يومًا ما على بُعد آلاف الكيلومترات جنوبًا، ولكن العكس كان صحيحًا؛ إذ وجدت عظام حيوان فرس نهر في يوركشاير غير الاستوائية بالتأكيد. ومع ذلك، لم يكن الجميع مقتنعين بأن المخلوقات قد تطوَّرَت حقًّا. حتى إن البعض — ومن بينهم علماء ذوو ميول دينية، مثل فيرشو — استشفُّوا وجود مخاطر أخلاقية من وراء مثل هذه النظريات، خوفًا من أن تؤدي إلى داروينية اجتماعية.
مع ذلك، ومع ظهور المزيد من الأحافير، بدأت تترسَّخ مسألة وجود نوع آخر من البشر. وبعد عام واحد فقط من إطلاق كينج تسمية النياندرتال رسميًّا، اقتُرِح أن يكون فكٌّ سفليٌّ ثقيل بدون ذقن، كان قد عُثِر عليه في بلجيكا مع الماموث والرنة ووحيد القرن، من نفس النوع. لكن مرَّ عقدان آخران حتى عُثِر على هياكل عظمية شبه كاملة. فمجددًا في بلجيكا، ظهرت عام ١٨٨٦ بقايا شخصَين بالغَين في كهف «بيتش أو روتش» بقرية سباي، مما دلَّل على أن الجماجم المسطَّحة والطويلة والفكوك المنحدِرة إلى الخلف والأطراف القوية المعروفة سابقًا من المواقع الأخرى كانت جميعها تخص نفس المخلوقات. عزَّز هذا القبول العلمي للنياندرتال باعتبارهم مجموعة منقرضة محددة تشريحيًّا. لكن الأحافير بالطبع ليست سوى نصف القصة.
الزمن والحجر
واجه علماء ما قبل التاريخ الأوائل مشكلة أساسية؛ ألَا وهي الزمن. فنظرًا إلى افتقارهم إلى طرق لتحديد عمر أي شيء بالضبط، فقد اعتمدوا على التسلسل الزمني النسبي: كان من الواضح أن الأحافير أو القطع الأثرية التي عُثِر عليها مع الحيوانات المنقرضة كانت أقدم من العالم الحالي. عرف الجيولوجي البريطاني تشارلز لايل أن ماضي الأرض السحيق يجب أن يمتد إلى ما هو أبعَد من الحدود التوراتية، وهي بضعة آلاف من السنين، وأوضح في كتابه العظيم «مبادئ الجيولوجيا» أن العمليات الجيولوجية البسيطة القابلة للرصد كانت، مع توفير الزمن الكافي، مسئولة تمامًا عن خلق العالم. لذلك يمكن فك شفرة تاريخ الكوكب بالكامل عن طريق مبدأ تراصف طبقات الأرض: فنظرًا إلى أن الرواسب تتراكم في طبقات بعضها فوق بعض عبر الزمن، يجب أن يرتبط العمق الأكبر بالعمر الأكبر. كان لايل مهتمًّا بشدة بأحفورة فيلدهوفر، وفي عام ١٨٦٠ — حتى قبل ترجمة بوسك — قام بزيارة لفحص الرواسب المتبقية. أراه فولروت الجمجمة وأهداه قالبًا لها: كانت تلك هي كيفية مشاركة البيانات في العصر الفيكتوري. وبحلول ذلك الوقت، كان الكهف نفسه على أعتاب الدمار، وكان رأي لايل المتسم بالخبرة حاسمًا في كسب القبول العلمي بأنها كانت قديمة حقًّا.
يمكن حتى تحديد عمر بعض فئات القطع الأثرية الحجرية مباشرةً، على الرغم من أنه لم يبدُ أن أيًّا من أحافير النياندرتال المبكرة كانت مصحوبة بأشياء مادية ثقافية. في الواقع، نعرف الآن أنه كان «يوجد» الكثير من الصخور الحجرية على الأقل في فيلدهوفر، لكن المكتشفين لم يكونوا على دراية كافية بالأدوات الحجرية لتمييز الاختلاف بين الصخور المحطمة طبيعيًّا والصخور المشذبة عن قصد.
بعد دي جوانيه، تزايدت الأدلة حتى إنه لم يكن ممكنًا إقحام مثل هذه الاكتشافات في التسلسل الزمني التاريخي ولا التوراتي. في جنوب شرق فرنسا، كان الخبير الأثري بول تورنال يستخرج عظام دب كهف وعظام رنة جنبًا إلى جنب مع قطع أثرية، كان جليًّا أنها من صنع الإنسان، في كهوف بيز، مما دفعه إلى أن يطرح في عام ١٨٣٣ فكرة وجود عصر «ما قبل التاريخ». في نفس الفترة تقريبًا، عثر الأثري الفرنسي جاك بوشيه دي كريفكور دي بيرت على أحجار صوان مشذبة مدفونة بعمق في حصى الأنهار في وادي السوم، بشمال فرنسا. كان من الصعب تصوُّر أنها قد وصلت إلى هناك مؤخرًا، ومع ذلك لم تحظَ حتى أدلة أحافير الفيل ووحيد القرن بالقليل من القبول العلمي. لم تتغير الأمور إلا في نفس الوقت تقريبًا الذي بدأت تذيع فيه أخبار اكتشاف فيلدهوفر.
الأمر الذي لا جدال فيه على الإطلاق — والمثير للغاية — أن شهادة الخبراء سرعان ما أثبتت أن البشر قد شهدوا بالفعل وحوشًا منقرضة بكل مجدها وحيويتها وشعرها الكثيف. تقع قرية «ليه زيزييه دي تاياك» على بُعد أكثر من ٥٦٠ كيلومترًا (٣٥٠ ميلًا) جنوب حُفر الحصى في وادي السوم، عند التقاء نهرَي بون وفيزير. اليوم، في شهر يناير، يكون الجو هادئًا بما يكفي لسماع صقور الشاهين تصيح فوق المنحدرات الضخمة التي تنتصب عاليةً، لكن الصيف يشهد أرصفة ضيقة تلفحها الشمس وتعج بالسياح؛ لأن القرية هي عاصمة أرض عجائب عصور ما قبل التاريخ، وتحيط بها مئات الكهوف والملاجئ الصخرية في وديان ضيقة وهضاب مذهلة مكسوة بالحجر الجيري. بعد تذوق عجة الكمأة في مقهى كافيه دي لا ميري، يمشي الزوار الهُوَيْنَى إلى المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ، الذي بُني حول أنقاض قصر ريفي مدمر يقع تحت الحجر الجيري المتدلي. تظل المدافئ موجودة، في انعكاس غريب لطبقات رماد ما قبل التاريخ المكدسة حتى عمق أمتار لأسفل. من الأسوار القديمة، تحدق بغموض منحوتةٌ ضخمةٌ لإنسان نياندرتال على طراز فن الآرت ديكو: مثل الأفكار الخفية للتمثال، أخفى هذا المشهد أشياء كثيرة.
انتهت العزلة النسبية لقرية ليز إيزي في عام ١٨٦٣ عندما فَتحت سكةٌ حديديةٌ طموحةٌ تربط باريس بمدريد فرعًا إلى إقليم بيريجور، وبدأت تَحَوُّلها من قرية خاملة إلى بؤرة جدل حول أصول الحضارة الغربية، ثم إلى موقع مدرج في قائمة التراث العالمي. لكي تتبع المسار اليوم، بالقرب من المكان الذي ينعطف فيه خط السكة الحديد برشاقةٍ جنوبًا من المحطة، يمكنك استئجار زورق كانوي والتجديف في المسار المتعرج لنهر فيزير. وبعد بضعة كيلومترات وقبالة قصر ريفي على قمة تل يقع ملجأ «لا مادلين» الصخري. تستقبل بقايا القرون الوسطى الشهيرة السياح اليوم، ولكن الموقع المُتاخِم هو موقع من مواقع عصور ما قبل التاريخ، ولا تزال النباتات تُخفيه، مثلما كان في عام ١٨٦٤.
•••
وضع اكتشاف موقع لا مادلين حجر الأساس الأخير لفرع المعرفة المسمى اليوم بأصل الإنسان. سيستغرق الأمر ٥٠ عامًا أخرى أو نحو ذلك حتى يبدأ مؤرخو عصور ما قبل التاريخ، الذين يجمعون الأحجار الصخرية، في فهم من صنع ماذا ومتى. لكنهم قد عبروا بالفعل حدًّا فاصلًا بين نظرتين للكون: النظرة القديمة إلى كون صُنِع من أجلنا، وعالم جديد كنا فيه أبناءً لنفس الأرض، نحن والكثير من الأخوات والإخوة. الطريق إلى ذلك العالم هو المكان الذي ستأخذنا إليه بقية هذا الكتاب، لمعرفة كيف تحول النياندرتال من شذوذ علمي إلى المخلوقات الخالدة على نحو غير مألوف والمحبوبة بغرابة، التي اكتشفناها وأيضًا بطريقةٍ ما خلقناها. لكننا أولًا نحتاج إلى صورة عائلية، للمساعدة في وضع النياندرتال في سياقهم التطوُّري الهائل حقًّا.