نظرة على المكان
على الرغم من كل التفاصيل الرائعة والشخصية التي لدينا حول المواقع الفردية، كان النياندرتال بالأساس من الرُّحَّل. كان عالمهم هو الأرض، والتحرك فيها كان الحياة. ومثل كل شيء آخر فعلوه، كان هذا أبعَد ما يكون عن العشوائية. لم تكن المواقع مجرد وجهات، بل كانت تقاطعات، عُقَدًا ضمن شبكات تمتد لمئات الكيلومترات. كانت الأوحال الملطخة بالدماء والمغطاة بالفراء في موقع القتل — وهو مكان عابر — مرتبطة بالكهوف أو الملاجئ الصخرية من خلال أجسام الحيوانات التي تُنقَل إلى هناك لتقسيمها أكثر لاحقًا. كل الأماكن التي ذهب إليها النياندرتال كانت متصلة بحركات أجسادهم، والأشياء التي كانوا يحملونها. وكانت كل نارٍ مشتعلةٍ جديدةٍ لؤلؤةً متوهجةً في خيط غير منقطع يمرُّ عبر التلال ويتخلل الغابات.
لكي نبدأ في إدراك كيف أن الترابط كان جوهر الأشياء، يجب أن نرتفع كدخان يخرج من المواقد. على الرغم من أن المواقد كانت نقاطًا مركزية في أماكن معيشتهم، فقد كانت مرتبطة بالعالم الخارجي من خلال المواد المُكَوِّنة لها. يمكن من خلال مقارنة أنواع الوقود بالأنظمة البيئية المعاد بناؤها تحديد أماكن جمع الحطب على نطاق المشهد الطبيعي المحلي. ففيما يختص بنيران مواقد موقع إل سالت التي اندلعت من حوالي ٥٥ ألف سنة مضت، فإن جميع أنواع الخشب كانت تأتي من مسافة ساعتين إلى ثلاث ساعات سيرًا على الأقدام. وبهذه الطريقة، تنقلنا بقع الفحم النباتي الصغيرة إلى الخارج، إلى النياندرتال الذين يمشون عبر غابات الصنوبر ويتسلقون التلال بعيدًا عن الديار. إن رسم خريطة أكبر للتشابكات العظيمة بين الأشياء والأماكن الأخرى أمر معقد للغاية، لكن القيام بذلك يفتح آفاقًا مفيدةً حقًّا على حياتهم.
كيف نتحرك
يظهر السجل الأثري أنه أينما عاش النياندرتال، كانوا يركزون على صيد الحيوانات الكبيرة، حتى لو كانوا يصطادون أيضًا الطرائد الصغيرة ويتغذون على المأكولات البحرية والنباتات كلما أمكن ذلك. وهذا يعني أنه سواء كانوا يلاحقون الحيوانات في تندرا السهوب الباردة أو الغابات الدافئة، فلا تزال الحاجة للتنقل عدة مرات في كل عام ضرورية. لكن تنوع البيئات يعني أنه يتعين علينا توقع اختلاف في وتيرة التنقل ومسافته. واستنادًا إلى ما نراه لدى الصيادين-جامعي الثمار المعاصرين، تتطلب البيئات المفتوحة الأكثر برودة من الناس كثرة التنقل وأن يتحركوا بطريقة منهجية عبر نطاقات واسعة. وحتى لو كانت الغابات المتساقطة الأوراق بشكل عام لا تتضمن عادةً حركة لمسافات طويلة، فليس من السهل البقاء في أي مكان لفترة طويلة، حيث تزداد صعوبة العثور على حيوانات كبيرة، وسرعان ما تُستنفَد الموارد الأخرى.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالطعام. فالتنقُّل هو رقصة فالس لا تنتهي بين مورد العيش واستخدام الأدوات والتكيف مع التحديات البيئية. لقد فرض العثور على الحجر، والاختيارات في كيفية تشذيبه، مطالب خاصة حفزت الحركة. ومع ذلك، فإن رسم خريطة لتحديد كيفية حدوث ذلك أمر معقد للغاية. وحتى مع الدقة في التأريخ المتاحة اليوم، يكاد يكون من المستحيل التأكد من أن أي موقعين داخل منطقة معينة كانا قيد الاستخدام في نفس الوقت من قِبَل مجموعة نياندرتال واحدة. لا يوجد ما يضاهي الأساليب الدقيقة لتحديد ما إذا كانت المواقد داخل طبقة واحدة معاصرة بالفعل بعضها مع بعض. بدلًا من ذلك، يجب على علماء الآثار تغيير وجهة نظرهم، والنظر في أنواع مختلفة من الأسئلة، بناءً على كيفية تحول الخيارات المتكررة للأفراد والجماعات إلى أنماط طويلة الأمد مشتركة عبر العديد من المواقع.
ولكن قبل الخوض في التفاصيل، من المهم أن نفهم سبب أهمية قياس تحركات النياندرتال. فكما هو الحال مع التقنية والأدوات، يعطينا قياس تحركات النياندرتال نظرة على كيفية عمل عقولهم، وقد أثار مجادلات حول قدراتهم المعرفية وتطورهم. إن خطط النياندرتال لأنشطة سابقًا وكان لديهم جدول زمني من نوع ما للأماكن التي كانوا يتحرَّكون إليها، فهذا يعني أنه كان يمكنهم تخيل المستقبل، ولديهم قوة عقلية كافية للتمسك بأهداف على مدار أيام أو أسابيع أو حتى شهور.
لذلك يُعد تعقيد أنظمة التنقل مهمًّا، لكن «مدى» الترحال عامل رئيسي آخر. إن كانت الجماعات تتحرك لمسافات أبعد، فلم يكن عنصر التخطيط هو العنصر الأكثر إثارة للإعجاب فحسب، بل يشير أيضًا إلى نطاقات مكانية بأبعاد أوسع. كما سنستكشف أدناه، فإن أبعاد المنطقة لها تداعيات على كيفية ارتباط مجتمعات النياندرتال.
من الواضح منذ عقود أن النياندرتال كانوا يفصلون الأنشطة بشكل روتيني بين نقاط مختلفة في المشهد الطبيعي. فهم لم يُنشئوا مخيمًا جديدًا في كل مرة يصلون فيها إلى مصدر صخري أو يشقون ذبيحة حيوان ضخم. يمكن تحديد مواقع التشذيب الأولية — حيث كان يُعثَر على الحجر ويُختبر ويُحضَّر — ومواقع قتل الحيوانات «على وجه التحديد» بسبب افتقارها إلى المنتجات الحجرية التي تُستخدم في المراحل اللاحقة وإلى أغنى أجزاء الحيوانات التي تم اصطيادها.
عند النظر أولًا إلى كيفية «تجزئة» عملية تقصيب جثث الحيوانات عبر المشهد الطبيعي، فإن هذا النمط واضح في أماكن مثل شونينجن، ويستمر لمئات الآلاف من السنين. في جنوب شرق فرنسا، يحتفظ جرف صخري في كينسيو بسجل من التقصيب المنهجي يمتد لحوالي ٥٥ ألف سنة. وفيما يخص الطرائد الكبيرة، فإن كل ما تبقى هو الأجزاء الأقل دسامة أو لحمًا: ورك الحصان والأعمدة الفقرية التي ما زالت متصلة، وفكوك وحيد القرن الوبري الثقيل، وأسنان الماموث. أما في حالة الأنواع الأصغر، فإن الرءوس ومفاصل كاملة مفقودة أيضًا.
إلى أين ذهبت الأشياء الجيدة؟ في العديد من الأماكن، يمكننا أن نحدد نوعًا متوسطًا من المواقع، هي أساسًا مخيمات صيد، حيث أخضع النياندرتال إما جثثًا جزئية أو مفاصل مختارة لمزيد من المعالجة. استُخدم بعض مخيمات الصيد مثل لي براديل مرارًا وتكرارًا، مما يُلمِح إلى أنها كانت مرتبطة بمواقع قتل معينة عاد إليها النياندرتال عدة مرات، مثل شونينجن وكينسيو.
كانت الوجهة النهائية للطعام — إما مباشرةً من مواقع القتل أو عن طريق مخيمات الصيد — إلى ما يمكننا اعتباره «مواقع مركزية»، أو بطريقة أكثر تبسيطًا، بيوتًا. وهذا يشمل مواقع كبيرة مثل أبريك روماني، حيث حدثت عمليات جماعية من معالجة المرحلة الثالثة والتي تضمنت الكثير من تحطيم العظام وبعض الطهي، بالإضافة إلى الأكل والنوم على الأرجح. إن الثراء في الآثار، إلى جانب الاستخدام المتزامن لأجزاء مختلفة من الموقع وفقًا لأنماط نشاط محددة للغاية، يعد دليلًا جيدًا جدًّا على أن النياندرتال كانوا يقضون هناك أكثر من يوم واحد في المرة الواحدة.
هل كان لدى النياندرتال مفاهيم عن المكان تتطابق مع تصنيفنا ﻟ «موقع القتل» مقابل «المكان المركزي»؟ من الواضح أنهم عاشوا وفقًا لطرق تقليدية في فعل الأشياء، التي شَكَّل تكرارها التنميط المكاني الذي يمكننا رؤيته داخل المواقع وكذلك بين المواقع عبر المشهد الطبيعي. ولكن هل كانوا، إلى جانب ذلك، يخططون لحياتهم ما بعد الوجبة التالية؟ إن جماعات الصيادين-جامعي الثمار في جميع أنحاء العالم على دراية تامة بالتغيرات الموسمية في الموارد مثل وصول قطعان الحيوانات، ويخططون للوصول إلى أماكن معينة في الوقت المناسب. هل كان لدى النياندرتال مخيمات صيفية وشتوية، أم كانت حياتهم أكثر تنقلًا، بحيث كانوا يعيشون كأسلاف بشر متجولين؟
يعتمد فهم هذا الأمر على التفكير في كيفية ترابط الأشياء. كما بَيَّن الفصل السابق، حتى في المواقع التي لدينا فيها دراسات عالية الدقة عن حقب ما قبل التاريخ، لا يوجد دليل في أي مكان على استيطان طويل الأجل حقًّا، يصل إلى عدة أشهر. استُخدم بعض الأماكن مثل أبريك روماني على نحو أكثر تكرارًا، وبالتأكيد لعدة أيام أو ربما لفترة أطول، وربما استخدمتها مجموعات أكبر. ومن الواضح أنهم حتى في المواقع الكبيرة المفتوحة مثل لا فولي، التي تتسم بمناطق نشاط واضحة، لم يكونوا يعيشون لأشهر. وعلى الطرف الآخر من الطيف، توجد أماكن مثل أبريك ديل باستور، كانوا يزورونها لفترة وجيزة جدًّا ولم يكونوا يزيدون على حفنة من الأفراد في وقت واحد.
إن مواقع الإقامة القصيرة هذه هي التي تحتوي على إشارات عن أنماط موسمية. وثمَّة مثال آخر وهو المستوى ٣ في كهف تيكسونيريس، بشمال شرق إسبانيا. ففي الفترة بين حوالي ٥١ و٤٠ ألف سنة مضت، هناك مراحل متعددة أقام فيها النياندرتال لفترات وجيزة، تتخللها أدلة على انتقال الحيوانات آكلة اللحوم إليها. والأمر الأكثر إثارة للاهتمام أن الأنواع التي تم اصطيادها تظهر أنماطًا موسمية مختلفة. فالوقت من السنة الذي كانت تُقتَل فيه الغزلان يتغير خلال المستويات الفرعية المختلفة، لكن الخيول كانت تُقتَل دائمًا في أواخر الربيع وحتى أوائل الصيف.
هذا النمط مشابه على نحو لافت للنظر للنمط الموجود في موقع أبريك روماني، الذي يقع على بُعد حوالي ١٥٠ كيلومترًا (٩٠ ميلًا) جهة الجنوب الغربي. يبدو أنه في هذه المنطقة من شمال شرق إيبيريا، كان النياندرتال يتحركون بانتظام ويصطادون الغزلان التي كانت متوفرة على مدار السنة. ولكن صيد الخيول لم يكن يحدث إلا على فترات قصيرة جدًّا؛ الوقت من السنة ليس واضحًا في أبريك روماني، ولكن في تيكسونيريس كان من الممكن تحديده بدقة حتى الموسم وذلك بفضل تجمع طيور تراكمت بفعل الحيوانات المفترسة. أظهرت بقايا الزُّمَّت والعقعق حالة عظمية مميزة تتطور «قبل» أن تضع البيض، وهو ما لا يمكن أن يحدث قبل منتصف الربيع. علاوةً على ذلك، لم يكن من الممكن أن تجلب آكلات اللحوم جيفها إلا إذا لم يكن أيٌّ من البشر الأوائل موجودين في الجوار بعد. وبتجميع المعلومتين، نستنتج أن من المحتمل جدًّا أن صيد الخيول كان في أواخر الربيع/الصيف، وهذا هو بالضبط الوقت الذي تجتمع فيه الخيول للتكاثر ويمكن أن تكون مشتتة الانتباه ومعرضة للصيد.
الأمر المثير للاهتمام أيضًا في تيكسونيريس هو أنه يحتوي على عدد أقل بكثير من الأحجار الصخرية والمواقد مقارنةً بأبريك روماني، لكنه يحتوي على بقايا حيوانية أكثر، بما في ذلك نسبة أعلى من الخيول. وعلى الرغم من أن معظمها وصلت وهي مجزأة بالفعل، فإن البقايا الحيوانية بوجه عام تبدو أقل تحطمًا بشكل مكثف مقارنةً بأبريك روماني، وفي تباين آخر بين الموقعين، كان يحدث أيضًا القليل من صيد الأرانب في تيكسونيريس.
من الواضح تمامًا أن تيكسونيريس كان نوعًا مختلفًا من الأماكن، حيث على الأرجح تقيم مجموعات أصغر لفترات أقصر. ربما كان المكان في بعض الأحيان أشبه بمخيم صيد أكثر من كونه مكانًا ينتهي إليه المطاف باللحوم والنخاع والدهون. ومع ذلك، فهو ليس مثل أبريك ديل باستور وإل سالت، اللذين كان النياندرتال يزورونهما زيارات أقصر بكثير، واللذين يبدوان حقًّا أنهما كانا مكانين توقفت فيهما مجموعات صغيرة جدًّا من النياندرتال لمدة ليلتين على الأكثر.
تمثل هذه المواقع الإيبيرية مواقع أخرى في جميع أنحاء عالم النياندرتال. كان بعضها أماكن توقف قصيرة، والبعض الآخر بيوتًا لفترات أطول، لكنها جميعًا كانت نقاطًا في دورة من الحركة. فللنياندرتال الذين كانوا يعيشون في ملحمة أوديسية لا تنتهي، كانت «إيثاكا» هي الرحلة نفسها، وليس الوجهة.
بالنسبة إلى المواقع التي يمكن قياس مدة مراحل الاستيطان فيها، فإن طول الرحلة يصل إلى بضعة قرون. وقد نشأت أجيال متعاقبة في هذه الكهوف والملاجئ الصخرية تتبع نفس الروتين والتقاليد، والتي أصبحت جزءًا ماديًّا من الموقع نفسه من خلال المواقد ومقالب النفايات والأرضيات الموطوءة. لكن الأمور تغيرت بعد ذلك ولم يزُرها أحد، أحيانًا لمدة ألف سنة أو أكثر. إما أن المجموعات انتقلت إلى مناطق مختلفة تمامًا، أو أن السكان أنفسهم قد تلاشوا. من الجدير بالذكر أن الموقع الأقل «ترحابًا»، أبريك ديل باستور، يبدو أنه ظلَّ فارغًا لأطول فترات زمنية، مما قد يعني أن السكان الذين كانوا ينتقلون إلى المنطقة لم يكونوا على دراية بجميع زواياها وخباياها.
تحرك الحَجَر
لا تعطينا المواقع الفردية، حتى عند المقارنة عبر المناطق، إلا جزءًا صغيرًا من الصورة الأكبر لما فعله النياندرتال عبر المشهد الطبيعي. لفهم المقاييس الحقيقية لتحركاتهم، يحتاج علماء الآثار إلى رسم خريطة للتحركات «الفردية». الطريقة الأكثر وضوحًا لفعل ذلك هي من خلال تتبع موردهم الأكثر وفرة: الحجر. إن اكتشاف مصدر الأدوات الحجرية في أي تجمع أثري يوضح، جزئيًّا على الأقل، رحلاتهم الفعلية بين المصادر والمواقع.
ومع ذلك، فإن الأمور ليست بسيطة على الإطلاق، وكما تعلم علماء ما قبل التاريخ على مر العقود، فإن الجيولوجيا مخادعة. ما يُشار إليه بطريقة غير علمية باسم «الصوان» يشمل صخورًا قائمة على السيليكا تشكلت بواسطة عمليات متنوعة، خلال أزمنة قديمة عديدة. يتطلب الأمر جهدًا ووقتًا غير عاديين لرسم خرائط لآلاف من مصادر الصوان، وفحصها وتصنيفها بناءً على التركيب، والأحافير الدقيقة، والملامح الكيميائية. علاوةً على ذلك، هناك تحولات تشويهية مختلفة تجعل الصخور تتغير في رحلتها قبل أن يلتقطها إنسان نياندرتال. يبدو الحجر من نفس النتوء الصخري «الأساسي» مختلفًا تمامًا بمجرد سقوطه من سلسلة تلال، وتدحرجه على امتداد ضفة نهر، وتآكله من الحصى؛ والتي تعد كلها مصادر «ثانوية».
بإنشاء «مكتبات» حجرية عملاقة لرسم خرائط مصادر الصوان وأنواع أخرى من الصخور، من الممكن مقارنتها مباشرة بالقطع الأثرية الحجرية. يكشف هذا بالضبط عن الأماكن التي كان يوجد فيها النياندرتال قبل إحضار تلك الأشياء إلى موقع معين. تظهر النتائج أنهم، كما هو الحال مع أجسام الحيوانات، اتبعوا قواعد عامة في نقل الأحجار بناءً على تقييم الجودة والمسافة. عادةً ما يكون هناك الكثير من أنواع الأحجار المتوفرة الأقرب، على بُعد حوالي ٥ إلى ١٠ كيلومترات (٣ إلى ٦ أميال)، حتى لو لم تكن الجودة عالية. ستُجمَع هذه الأحجار أثناء أداء مهام أخرى مثل الصيد، في غضون ساعتين من التجوال في الموقع. ومع أنهم كانوا يستخدمون الصخور الرديئة، فإنها لم تكن تُحمل مطلقًا إلى مناطق بها مواد جيدة.
تكاد تكون الأحجار المستمدة من أماكن بعيدة حاضرة دائمًا، وهذا ما يثير حماسة علماء الآثار؛ لأنه يربط الأماكن الفردية مباشرةً بنقاط في مناطق طبيعية أكبر بكثير. وكلما ابتعد نوع الصخور عن الموقع، قل عدد القطع الأثرية المصنوعة منه؛ عادةً أقل من ١٠ في المائة منها يأتي من مصادر بعيدة تزيد على ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا). ونجد أن أطول المسافات على الإطلاق — أكثر من ٣٠٠ كيلومتر (١٩٠ ميلًا) — هي لأنقى أنواع صخور السيليكا على الإطلاق، حجر السَّبَج، ولكن حتى الصوان الجيد كان يُحمل أحيانًا لمسافة تزيد على ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا). ومع ذلك، فإن تفسير معنى ذلك من حيث الحركة حافل بالصعوبات.
عند النظر إلى كل تجمع أثري على حدة، قد تفترض أن النياندرتال كانوا يقومون برحلات خاصة للحصول على أحجار جيدة. ولكن بما أن الأدلة الأخرى تُظهر أنهم كانوا يمكثون في الغالب لفترات قصيرة نسبيًّا في أي موقع، فإن هذا لن يكون منطقيًّا من حيث استهلاك الطاقة.
بدلًا من ذلك، فالأكثر احتمالًا هو أن الأشياء التي كانوا يرتحلون بها لمسافات بعيدة كانت ببساطة «بقايا» من مجموعة منتقاة من أدوات كان النياندرتال يسافرون بها أثناء تجوالهم بين مصدر للحجارة والمواقع الأخرى. وتُعزِّز هذا حقيقةُ أن الأحجار العالية الجودة نادرًا ما تُنقل مباشرةً في حالتها «الخام» للتشذيب. بدلًا من ذلك، كما رأينا في الفصل السادس، فإن القطع الأثرية التي أتت من أبعد الأماكن هي في الغالب منتجات مثل رقائق ليفالوا والأدوات الحجرية ذات الوجهين والأدوات التي أعيد شحذها بشكل واضح. وبالمثل، فإن الأنوية النادرة من مصادر بعيدة تكون قد شهدت بالفعل الكثير من التشذيب قبل التخلي عنها.
من اللافت للنظر أنه في المواقع العالية الدقة مثل أبريك ديل باستور، من الممكن بالفعل اختيار أدوات السفر. في مراحل الموقد الواحد مع تجمعات الأدوات الحجرية الصغيرة، يجب أن تكون القطع الأثرية القليلة المصنوعة من الأحجار البعيدة أشياء قرَّر أحد النياندرتال القلائل الذين أقاموا هناك التخلي عنها.
وبينما يستحيل تتبع رحلة كتلة حجرية فردية، فمن الواضح أن النياندرتال لم يتحركوا «في خط مستقيم» بين مصدر حجارة بعيد والموقع. فأحيانًا تكون الرقائق الفردية المصنوعة من صخور عالية الجودة وبعيدة هي الأشياء الوحيدة التي تم التخلي عنها، بعد إزالتها من الأدوات الحجرية ذات الوجهين أو الأدوات التي تنقل بعد ذلك إلى أماكن أبعد. في بعض الحالات، حتى الأنوية كانت تُحمَل لمسافة كبيرة — أكثر من ٤٠ كيلومترًا (٢٥ ميلًا) — قبل تشذيبها إلى أدوات، تُحمل في نهاية المطاف. لا نعرف عدد الأماكن التي زارتها مثل هذه الأشياء قبل «إسقاطها» من التداول، ولكن اكتشاف منتجات الجيل الثاني المصنوعة من صخور مصدرها على بعد ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا) يشير إلى أنه لم يكن من غير المألوف أن تنتقل هذه الأشياء عبر ثلاثة مواقع أو أكثر قبل استخدامها أو التخلص منها.
إجمالًا، ما نراه في حالة النياندرتال يتطابق مع كيفية تنظيم جماعات الصيادين-جامعي الثمار المعاصرين لاستخدامهم للحجر في المشهد الطبيعي. يجري اختيار أدوات السفر الشخصية بناءً على عوامل متعددة: الأنشطة المتوقعة، ومدة الترحال، والأهم من ذلك، نوع الحجارة التي ستكون متاحة في الطريق. هذه النقطة الأخيرة جوهرية؛ لأنها دليل آخر على امتلاك النياندرتال لمعرفة تفصيلية بالموارد الجيولوجية، والتخطيط للمستقبل. لقد عرفوا الأماكن التي تحتوي على صخور رديئة والتي تستحق جلب أنوية جيدة إليها، وعلى العكس من ذلك، عرفوا الأماكن التي تحتوي على حجارة قريبة مناسبة يمكن إعادة تخزينها.
عندما نلقي نظرة من منظور أبعد على المجمعات التقنية، نجد أنه من الواضح أن القرارات التي اتخذها النياندرتال بشأن نقل الأحجار كانت متنوعة. في التجمعات التي تستخدم أنظمة تقنية مثل ليفالوا أو كينا، والتي كانت تركز على إنتاج رقائق يمكن حملها لبعض الوقت وإعادة شحذها، تكون كمية الأدوات المصنوعة من الحجر البعيد أعلى. وفي تجمعات التقنية القُرْصية، والتي تبدو من الناحية التقنية أسرع في إنتاج الأدوات ويمكن حتى التخلص منها، نادرًا ما يكون هناك أي شيء جُلِب من مسافة تزيد على ٣٠ كيلومترًا (٢٠ ميلًا) أو نحو ذلك. لذا، كانت الجيولوجيا والتقنية والتنقل كلها عوامل متداخلة.
إن التمعن في نقل النياندرتال للأحجار له آثار مترتبة أخرى تتجاوز قدرتهم على التخطيط أو إدارة الوقت والموارد. ونظرًا إلى أن المسافات التي تحركتها أدواتهم كانت، لعقود عديدة، هي المقياس المباشر الوحيد للتنقل، فقد انتهى بها الأمر إلى استخدامها كبديل لحجم النطاق المكاني. ولأن كل شيء تقريبًا في أي موقع يأتي من مسافة ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا)، فقد اقترح علماء ما قبل التاريخ أن النياندرتال يتنقلون في الغالب في مناطق صغيرة جدًّا؛ بالأساس بحجم مقاطعة شروبشاير الإنجليزية.
لا يقتصر حجم النطاق على الأرض فحسب، بل الناس أيضًا. إذا عاش النياندرتال في مناطق صغيرة — ربما عبر بضعة وديان — فإنهم نادرًا ما كانوا يلتقون بمجموعات أخرى. علاوةً على ذلك، بدون مناطق شاسعة وعلاقات اجتماعية ممتدة، افتُرِض أن النياندرتال لم يكونوا بحاجة إلى تعبيرات مادية عن القيم الثقافية المشتركة، والتي يمكن أن تساعد في الحفاظ على شبكات الاتصال.
كانت المقارنة، كما هو الحال في كثير من الأحيان، مع الإنسان العاقل المبكر في العصر الحجري القديم الأعلى. فمع أن تجمعات أدواتهم الحجرية تحتوي أيضًا على مصادر حجرية محلية جدًّا إلى حد كبير، فإن القطع الأثرية التي جاءت من أكثر من ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا) أكثر عددًا، والمسافات أكبر. وكما هو متوقع، قُدِّم هذا على أنه يعكس مناطق أكبر وشبكات اجتماعية أقوى. لكن التعمق في البيانات، وكذلك افتراضاتنا حول ما تعنيه مصادر الأحجار، يؤدي إلى إجابات مختلفة.
أولًا، بالنسبة إلى أشخاص اعتادوا على المشي في كل مكان، فإن ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا) ممكنة بالتأكيد لرحلة ذهاب وإياب في يوم واحد (للمصادر التي تقع على بعد ٣٠ كيلومترًا (٢٠ ميلًا)). وعند فحص البيانات الإثنوجرافية يبدو من المستبعد أن يكون النياندرتال قد عاشوا في الغالب ضمن مسافة يمكن قطعها سيرًا على الأقدام بين شروق الشمس وغروبها. من الطبيعي في الواقع أن تنطلق أعداد صغيرة من الناس من مجموعات الصيادين-جامعي الثمار في رحلات قصيرة تستغرق أكثر من يوم. وكما رأينا، في مواقع النياندرتال، لا يتناسب نوع وحالة القطع الأثرية من تلك المسافات مع النمط الذي كنا نتوقعه إن كانت الصخور قد جُلِبَت مباشرةً من المصدر.
والدليل الحقيقي على أن النياندرتال لا يمكن أن يكونوا قد اقتصروا على نطاقات جغرافية صغيرة يأتي من القطع الأثرية التي جُلِبَت من مصادر أبعد من ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا)، وأحيانًا أكثر من ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا). ولندرتها عادةً في كل تجمع أثري، فقد تجاهلها غالبًا علماء ما قبل التاريخ إلى حد كبير لأن تفسير ما تعنيه صعب. ومع ذلك، فإن ندرتها لا تعني أنها حالات شاذة، وفي الواقع كانت موجودة بالفعل في أوائل العصر الحجري القديم الأوسط. إنها في الأساس أفضل البيانات التي لدينا حول الامتداد الحقيقي للمشاهد الطبيعية التي انتقل عبرها النياندرتال.
بالإضافة إلى وتيرة السفر المتغيرة لمجموعات كاملة تشمل صغارًا في السن وأشخاصًا لديهم أعباء إضافية، سواء كانوا يحملون أشياء أو ببساطة بسبب العمر، فمن الواضح أن القطع الأثرية التي جُلبت من على بعد أكثر من ٨٠ إلى ١٠٠ كيلومتر (٥٠ إلى ٦٠ ميلًا) لا يمكن أن تكون قد حُصِل عليها مباشرةً. علاوةً على ذلك، توجد مسافات نقل للحجارة هائلة حقًّا. على سبيل المثال في ميزمايسكايا، ليس هناك فقط أدوات حجرية من نقاط متعددة عبر منطقة تمتد حوالي ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا)، ولكن حجر السَّبَج كان يصل أيضًا من مسافة ٢٠٠ إلى ٢٥٠ كيلومترًا (١٢٠ إلى ١٥٠ ميلًا) من جهة الجنوب الشرقي، والصوان من حوالي ٣٠٠كم (١٩٠ ميل) من جهة الشمال الغربي. وهذا يمثل الطرف الأقصى من النطاق، لكن عمليات النقل التي تزيد على ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا) معروفة في جميع أنحاء عالم النياندرتال.
كيف يمكننا أن نفهم ما تعنيه هذه المساحات الشاسعة من المشهد الطبيعي — التي تزيد على نصف المسافة بين لندن وموقع لو موستييه في منطقة بيريجور — بالنسبة إلى كيفية تحرك النياندرتال؟ يجب ألا نفترض أن كل القطع الأثرية في تجمع ما كانت معاصرة، ولكن مع ذلك، فإنها تثبت أن المواقع كانت عُقَدًا داخل شبكات أكبر تستغرق عدة أيام لاجتيازها. ومن المستبعد أن تكون أي منطقة معينة جرى التنقيب فيها في أحد أطراف المنطقة. لذلك، من المحتمل أن تكون مسافة اﻟ ٣٠٠ كيلومتر (١٩٠ ميلًا) المقطوعة أثناء تحرك قطعة أثرية ما جزءًا فحسب من المشهد الطبيعي المألوف لدى إنسان نياندرتال الذي حمل هذه القطعة.
إذا أخذنا أيضًا في الاعتبار أن العديد من القطع الأثرية التي قطعت مسافات بعيدة من الواضح أنها كانت قد استُخدمت وأُعيد شحذها قبل أن تصل إلى موقع معين، حتى لو بدأت برقاقة أولية كبيرة، فلن يمر وقت طويل حتى تُستهلَك. من أجل نقلها على مدى عدد من الأيام من المصدر إلى المكان النهائي الذي تُرِكَت فيه، فإن هذا يعني احتمالين. هل من المحتمل أن النياندرتال كانوا يحملون حجارة إضافية لتجديد مخزونهم؟ إن كان الأمر كذلك، فينبغي أن نرى المزيد من المخلفات الواضحة على مسافات متوسطة تصل إلى حوالي ٥٠كم (٣٠ ميلًا). توجد رقائق إعادة شحذ من أدوات حجرية ذات وجهين وأدوات منقولة ولكنها غالبًا ليست من أماكن بعيدة جدًّا، كما أن الأنوية والكتل الخام المنقولة عبر المسافات المذكورة سابقًا نادرة جدًّا.
البديل الآخر هو أن القطع الأثرية التي كان يتم الحصول عليها من مصادر تبعد ما بين ١٠٠ و٣٠٠ كيلومتر (٦٠ و١٩٠ ميلًا) هي تجليات مادية لنياندرتال يقطعون مساحات شاسعة من الأرض بينما لا يكادون يتوقفون ويستخدمون الأدوات. لا يتناسب مثل هذا التحرك السريع والواسع النطاق مع فكرة التجوال بلا هدف، ولكنه يكون منطقيًّا إذا كان النياندرتال يرتحلون بطريقة هادفة، إلى مواقع معروفة. من الممكن أن تكون مجموعات كاملة، مثقلة بالأحمال، قد قطعت هذه المسافة على مدار أسبوع أو نحو ذلك. قد تدفع ظروفٌ معينةٌ النياندرتال إلى مثل هذه القرارات: أحد الدوافع الرئيسية لهجرة الرنة هو الهروب من أسراب البعوض الصيفية المريعة. ولكن عبر نطاق البيئات التي عاش فيها النياندرتال، ينبغي أن نتوقع أنهم تحركوا بطرق متنوعة.
تعد آثار الاستيطان الضئيلة للغاية في أبريك ديل باستور دليلًا على أنه، في بعض الأحيان، كانت أعداد صغيرة جدًّا من الأفراد تسافر معًا، بينما بالمثل تثبت أماكن مثل أبريك روماني أن مواقع «البيت» كانت موجودة حيث كان الطعام يصل بعد اصطياده وأحيانًا بعد إعداده جزئيًّا في مكان آخر.
إن ملاحظة أنماط في سلوك النياندرتال أو استخدامهم الموارد، مماثلة لتلك التي شوهدت في مجموعات أو أنواع أخرى، يؤدي إلى استنتاج بأن لديهم أيضًا معرفة رائعة بالموارد عبر منطقة شاسعة، وربما أجروا جدولة ذهنية حول متى وأين يجب أن يكونوا.
الأحجار الاجتماعية
هناك احتمال آخر من شأنه أن يفسر بعض الأدوات الحجرية من مصادر حجرية بعيدة، لكنه لم يُناقَش بجدية مطلقًا تقريبًا: التبادل. يُعد إعطاء وتلقي أغراض أو موارد مثل الطعام طريقة بالغة الأهمية للبشر من جميع الأطياف للحفاظ على العلاقات. وفيما يتعلق بالصيادين-جامعي الثمار الذين يعيشون في مجموعات صغيرة ولا يلتقون كثيرًا، فإن هذا مهم جدًّا. وعلى الرغم من المؤشرات (كما سنرى لاحقًا) على أن بعض النياندرتال كانوا معزولين جينيًّا، فهذا ليس هو الحال دائمًا.
نظرًا إلى أن أسلاف البشر متناغمون للغاية مع كل شيء في مناطقهم الأصلية المألوفة، فمن المؤكد أنه كان من الممكن ملاحظة وجود مجموعات أخرى، وأنه قد حدثت لقاءات. ولطالما صاغ علماء ما قبل التاريخ هذه الأمور على أنها من المحتمل أن تكون عدائية، ولكن لا يوجد سبب قوي للاعتقاد بذلك. عاش النياندرتال في سياقات اجتماعية كان يتم الحصول فيها على الطعام ومشاركته بشكل تعاوني؛ لذا ربما لم تكن غريبةً فكرة إعطاء وتلقي الأشياء من أشخاص ذوي علاقات وثيقة بهم ربما يكونون قد انتقلوا إلى مجموعات أخرى، أو حتى من غرباء.
كل هذه التساؤلات حول الشبكات الاجتماعية والتنقل تصب في الكيفية التي كانت عليها بنية مجتمعات النياندرتال. تميل تقديرات إجمالي عدد السكان إلى أن تكون بعشرات الآلاف أو حتى أقل. في أي وقت من الأوقات، ربما كان عدد النياندرتال الذين يتجولون أقل من عدد الركاب الذين يمرون كل يوم عبر محطة كلابم جَنكشن، أكثر محطات القطارات ازدحامًا في لندن. هل يمكننا أن نقول أي شيء عن كيفية تنظيم الجماعات، إلى جانب حقيقة أنه يبدو أنها في بعض الأحيان انفصلت إلى وحدات أصغر؟
وجدت الدراسات التي أُجريت على الصيادين-جامعي الثمار المعاصرين أنَّ ما يقرب من ٢٥ شخصًا في المتوسط يعيشون ويسافرون بعضهم مع بعض. تُعرف هذه المجموعات باسم «العصبة»، وهي كيانات مرنة؛ فقد يلتصق بعضها ببعض، بينما ينقسم البعض الآخر على نحو روتيني من أجل أنشطة معينة. هذا قد يعني مجموعات صيد، أو حتى مجرد زوج من البالغين والأطفال المرتبطين بهما يتوجهون للعيش بشكل مستقل في الصيف. يمكن أن تحدث عمليات إعادة ترتيب مؤقتة لأسباب عديدة، بما في ذلك الولادات الوشيكة أو مجرد الرغبة في زيارة الأقارب.
إن رؤية هذا النوع من الأشياء في السجل الأثري للنياندرتال أمر صعب، لكنه ليس مستحيلًا. يمكن لما بين ٤ إلى ١٠ أشخاص التجمع حول الموقد، وعادةً ما تفصل بين الواحد والآخر مسافة ١٫٥ إلى ٢ متر (١٫٦ و٢٫٢ ياردة). لذا تشير مناطق النشاط المتزامن والمواقد المتعددة وخاصة مكبات النفايات في أماكن مثل أبريك روماني أو لا فولي إلى وجود ما بين ١٠ و٢٠ فردًا. بمعنى آخر، الحجم النموذجي للعصبة.
قد يكون أحد المواقع التي تم التنقيب فيها بدقة هو أقرب ما سنصل إليه يومًا إلى صورة جماعية. يحتوي موقع لو روزيل، الواقع على الساحل الشمالي الغربي لفرنسا، على العديد من الطبقات الرملية المجاورة لجرف وكثبان. من المدهش أن سلسلة من المستويات التي تعود إلى حوالي ٨٠ ألف سنة تحفظ مئات من آثار الأقدام. في المرحلة الأكثر ثراءً، تُظهر المقارنات الدقيقة للحجم أنه كان هنا ما لا يقل عن ٤ أفراد وربما أكثر من ١٠ أفراد. والأمر الأكثر إثارة للدهشة أن معظمهم من المراهقين والأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم عامين. ومع وجود عدد قليل جدًّا من البالغين، من الصعب تخيل أن هذه كانت مجموعة كاملة، ولكنها بدلًا من ذلك تبدو مجموعةً من صغار السن الذين يبحثون عن الطعام على الشاطئ.
في مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار، توجد خارج العُصَب شبكات أكبر تربط المجتمعات المحلية؛ غالبًا ما تكون مرتبطة بصلة دم ولكن أيضًا بأنواع أخرى من القرابة، يُطلَق عليها اسم العشائر. تحافظ العُصَب على العلاقات مع الآخرين داخل عشيرتها من خلال الاجتماعات العشوائية، وعن طريق التجمعات التي، على الرغم من أنها ليست بالضرورة رسمية، تحدث في ظروف متوقعة. هل من الممكن أن مجموعات النياندرتال كانت مرتبطة بعضها ببعض عبر مستجمعات المياه أو فيما وراء الجبال بشيء يشبه بنية العشيرة؟ حتى الآن لم يُعثَر على مواقع توجد فيها أعداد كبيرة من المواقد المتزامنة ومناطق النشاط التي تشير إلى تجمع كبير.
لكن هذا لا يعني أن لم تكن تحدث مواقف كانت تجذب الكثير من النياندرتال إلى نفس المكان وفي نفس الوقت. تؤدي بعض الأحداث الموسمية إلى أن تتجمع بشكل مؤقت حتى الحيوانات المفترسة المنفردة؛ فكر في الدببة الرمادية التي تتجمع على ضفاف الأنهار من أجل صيد سمك السلمون الباسيفيكي الذي يهاجر عبر الأنهار. يشير عدد من المواقع إلى وجود النياندرتال على الأرجح من أجل الصيد الموسمي، حيث توجد كميات كبيرة من البقايا الحيوانية المذبوحة؛ على سبيل المثال نجد بقايا ثيران البيسون في موقع موران، بينما نجد بقايا حيوان الرنة في موقع زالتسجيتر-ليبنستيد. ومع وفرة الفرائس، يقل التنافس فيما بينهم، مما يعني أن الأفراد كانوا أكثر حرية في الاختلاط الاجتماعي وربما تغيير المجموعات التي ينتمون إليها. كانت لقاءاتهم بجماعات غير مألوفة أقل توترًا. وإن حدث يومًا تبادل للأدوات الحجرية لأسباب اجتماعية، فمن المرجح أن يكون هذا هو الإطار المناسب لمثل هذا النشاط، حيث تُحمَل الأغراض المعنية — والتي ربما تكون مصنوعة من حجارة غير مألوفة — بعد ذلك من مناطق الذبح إلى جانب الدهون واللحوم والنخاع.
من الصخور إلى العظم
مع أن الدراسات القليلة التي أُجريت حتى الآن على النياندرتال لم تتوصل إلى شيء من هذا القبيل، فإنها أثبتت أنهم لم يقضوا حياتهم كلها في وديان لا تتغير. كانت العينة الأولى لشخص بالغ من لاكونيس، باليونان، عاش جزءًا من طفولته في مكان يبعد مسافة تصل إلى ٢٠كم (١٢ ميلًا). وجاء قياس أكثر بعدًا من سِن من فترة الإيميان في موقع مولا-جيرسي بفرنسا، مشيرًا إلى انتقال من منطقة ذات خصائص جيولوجية على بعد ٥٠ كيلومترًا على الأقل (٣٠ ميلًا) جنوبًا، مع وجود أدوات حجرية متطابقة أيضًا.
ومع ذلك فثمة تعقيدات، وقد تكون هذه القياسات أقل من التقديرات الحقيقية. ونظرًا إلى أن مينا الأسنان يمكن أن تستغرق عامًا أو أكثر لتتكون وكل ما نعرفه من التنقيب عن الآثار يشير إلى أن النياندرتال لم يمكثوا في مكان واحد لفترة طويلة، فمن المحتمل أن يكون هناك بعض «التشويش» النظائري عند الانتقال بين مناطق جيولوجية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان النياندرتال يأكل الكثير من الحيوانات التي تحمل بصمات نظائرية من مناطق بعيدة، فقد يؤدي ذلك أيضًا إلى ارتباك في الأمور.
لتحقيق التوازن بين بعض هذه المشكلات، من الممكن الجمع بين البيانات النظائرية والأدوات الحجرية. في الفترة بين ٢٥٠ و٢٠٠ ألف سنة مضت، عاد النياندرتال الذين يعيشون على ضفاف نهر الرون مرارًا وتكرارًا إلى ملجأ باير الصخري. ولكن بمرور الوقت، تغير موقعه ضمن حركاتهم الأوسع عبر المشهد الطبيعي. في وقت سابق، يبدو أنهم مكثوا لفترة أطول، وكانوا يصطادون الفرائس غالبًا في الوديان في أوقات مختلفة من العام. كانت الأدوات الحجرية تصل بقدر كبير من نطاق ٣٠ كيلومترًا (٢٠ ميلًا) تقريبًا، صعودًا إلى الهضاب والتلال. باستخدام نظائر الأكسجين والرصاص على المستوى المجهري، يمكن تتبع تحركات موسمية في مرحلة الطفولة المبكرة لإنسان نياندرتال مات في النهاية في باير (على الرغم من أنه ربما يكون قد وُلِد في مكان آخر).
بعد ولادته في الربيع، تُظهِر السن تعرضًا للرصاص في عُمر شهرين ونصف تقريبًا. من المحتمل أن يشير هذا إلى انتقال مجموعة الطفل خلال فصل الصيف إلى منطقة يحتوي تكوينها الجيولوجي الطبيعي على كميات أكبر من هذا العنصر. تشير ذروة رصاص قوية لاحقة إلى أنهم انتقلوا مجددًا على الأقل مرة أخرى في الشتاء قبل عيد الميلاد الأول للطفل. بعد ما يقرب من عام، وبينما يبلغ الطفل مرحلة بداية المشي، يتبع مرحلةَ رصاص أخرى، تستمر لمدة تزيد قليلًا على أسبوعين، مستوياتٌ متوسطةٌ إلى عالية لمدة سبعة أشهر. إذا كانت كل تقلبات الرصاص هذه تمثل حركةً فعلًا، فربما ننظر إلى نطاق سنوي تقريبًا يغطي منطقتين محليتين على الأقل. في البداية، لا بد أن يكون الطفل قد حُمِل، ثم ربما مشى بخطى قصيرة وراء والديه في مسارات مألوفة بالفعل.
بمرور الوقت، امتلأ ملجأ باير الصخري بالرواسب، ومكث النياندرتال فيه وقتًا أقل، معظمه في الخريف. تصبح تجمعات الأدوات الحجرية قليلة العدد، ويبدو أكثر وضوحًا أنه قد أُعيد شحذها، ويظهر التحليل التفصيلي الذي اعتمد على أكثر من ٢٠٠ مصدر أن القطع الأثرية التي نُقلت مسافات طويلة أصبحت أكثر عددًا وتنوعًا. توجد بعض المصادر الجديدة في أماكن أبعد — حتى ٦٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا) — وتكشف أن النياندرتال صاروا الآن على نحو أكثر تواترًا يجلبون الصخور من حصى وادي النهر، بما في ذلك عبور نهر الرون. ومع ذلك، تشير نظائر النظام الغذائي إلى أن تركيز الصيد في المناطق الطبيعية قد انعكس، فصارت أنواع فرائس أكثر تأتي من التلال والهضاب مثل الغزال الأحمر والجَهْرَل (على الرغم من أن قشور الأسماك المحفوظة تُظهِر أن بعض الطعام كان يأتي من الوديان). تشير نظائر السترونتيوم من بعض أسنان النياندرتال أيضًا إلى الفترات التي قضاها النياندرتال على الهضاب، ولكن دراسة أخرى للأكسجين والرصاص على أسنان طفل تعطي مزيدًا من التفاصيل.
تكونت أسنان طفل النياندرتال عندما كان عمر صاحبها حوالي ٣ سنوات، وهنا مرة أخرى تظهر ذروات رصاص مميزة، لكنها لا تبدأ إلا في حوالي سن الخامسة. علاوة على ذلك، تَغَيَّر الموسم؛ تأتي الذروة الأولى خلال بداية الربيع، وهناك ذروة أخرى بعد حوالي ١٨ شهرًا، ربما في الخريف. يبدو أن المجموعة التي عاش معها هذا الصغير كانت تتحرك وفقًا لجدول زمني مختلف، وربما كانت تنتقل أكثر. علاوةً على ذلك، فإن الأدوات الحجرية الأبعد ليست أدوات معاد شحذها بكثافة ولكنها عبارة عن رقائق، مما يوحي بأن مدى التحركات ربما يكون قد تغير أيضًا.
يسمح نوع آخر من النظائر، وهو الكبريت، بإجراء مقارنات غذائية بين الحيوانات آكلة اللحوم وفرائسها، وقد يشير إلى تحركات لمسافات طويلة جدًّا لبعض النياندرتال. والأكثر إثارة للاهتمام أن تحليل الأحافير من موقعين بلجيكيين يرجع تاريخهما إلى حوالي ٤٠ ألف سنة، وهما سباي وجوييه، أعطى نتائج مختلفة تمامًا. كان النياندرتال في موقع سباي يتغذون في الغالب على أنواع حيوانات من الجوار، وخاصة الماموث. لكن في جوييه أظهر الكبريت أن بقايا النياندرتال تتشابه مع بقايا أسد كهف وذئب (أو ربما ثعلب). وعلى عكس معظم الحيوانات المفترسة الأخرى التي كانت تصطاد الأنواع المحلية مثل الحصان ووحيد القرن الصوفي والبيسون، كان هذا الأسد والذئب بالذات يأكلان شيئًا آخر. يُعتبر دب الكهف أحد الاحتمالات المتاحة أمام الأسد، حيث كان في بعض الأحيان فريسته المفضلة. لكن الذئب لا يتطابق مع ذلك أيضًا، ويبدو أنه جنبًا إلى جنب مع النياندرتال، ربما كان يأكل الرنة.
قد يفسر هذا سيناريوهين. ربما عاش حيوان الرنة الذي عُثِر عليه في جوييه في مكان بعيد — يصل إلى ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا) — ولكن اصطيد محليًّا خلال الهجرات الموسمية. أو بدلًا من ذلك، كانت المفترِسات، بما في ذلك النياندرتال، هي التي كانت تسافر، وتقضي وقتًا كافيًا بعيدًا حتى تتبدل إشارة الكبريت الخاصة بها قبل وصولها إلى جوييه. ومع أن المسافات التي تبلغ حوالي ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا) سترتبط بشكل جيد بعمليات نقل الأدوات الحجرية البعيدة، لسوء الحظ لأن التنقيب في هذا الموقع حدث قديمًا، فإن بيانات تحديد مصادر القطع الأثرية غير متاحة.
أين نعيش
حتى لو لم تقدم النظائر حتى الآن أدلة وفيرة على ارتحال النياندرتال لمسافة تزيد على مئات الكيلومترات، عندما يؤخذ في الاعتبار أيضًا الأدوات الحجرية، فإنه لا مفر من أن «شيئًا ما» قد تحرك عبر مسافات كبيرة جدًّا، وبطرق متنوعة للغاية. فيما يتعلق بتحديد مصادر الأحجار، هناك احتمالان فقط: كان النياندرتال أنفسهم يحملون أدوات، أو حدث تبادل لأغراض بين مجموعات من مناطق مختلفة. من شأن أيٍّ من السيناريوهين أن يثير العديد من الأسئلة حول التنظيم الاجتماعي، وأن يعني ضمنيًّا أن نوعًا من المفاهيم الإقليمية يجب أن يكون جزءًا من الإجابة. بين مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار المعاصرة تتفاوت مساحة الأراضي التي يتم اجتيازها بانتظام بشكل كبير، من ٢٥٠ إلى أكثر من ٢٠ ألف كيلومتر مربع (١٠٠ إلى ٧٧٠٠ ميل مربع). هذا هو الفرق بين مدينة كبيرة جدًّا ودولة صغيرة. تعني الإنتاجية البيئية الضخمة في المناطق الاستوائية أن الناس يمكنهم الحصول على ما يحتاجون إليه من مساحات أصغر من الأرض، ولكن من المرجح أن تكون نطاقات النياندرتال في خطوط العرض العليا أقرب إلى القيمة العليا.
هل من الممكن تحديد منطقة قديمة معينة؟ إن الخطوة التالية بعد تتبع المسافات التي تتحرك فيها القطع الأثرية الفردية هي فحص الأنماط عبر تجمعات أثرية متعددة. وجدت عمليات التوليف الحديثة عبر أكثر من ٢٠ موقعًا في جنوب غرب فرنسا نمطًا مشوهًا بالتأكيد في نقل الأدوات الحجرية. كان يُنقل أحيانًا الصوان العالي الجودة لمسافة تصل إلى ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا)، في الغالب باتجاه الشرق على طول واديي لوت ودوردوني. ولكن نُقلت أدوات أقل بكثير شمالًا أو جنوبًا، وبالمثل نُقلت الحجارة من الشمال عشرات الكيلومترات جنوبًا «فقط»، مع عدم وجود أي تداخل تقريبًا بين المنطقتين.
يتولد انطباع قوي بوجود حاجز من نوع ما لم يتم تجاوزه بالحجر، ولكن السؤال هو لماذا. لا توجد حدود جغرافية واضحة، مما يترك لنا احتمالين؛ الأول أن يكون شيئًا ما له علاقة باللوجستيات؛ النقطة التي غالبًا ما كان عندها النياندرتال يستبدلون الحجر المحلي بالأدوات الحجرية، بدلًا من حملها معهم، أما الاحتمال الثاني فهو عامل اجتماعي. اللافت للنظر هو أنه بالمقارنة مع بعض التحركات المعروفة لمسافات طويلة التي حدثت في أوروبا وأماكن أخرى، فإن الأدوات الحجرية التي وصلت إلى هذه المنطقة ولم تتجاوزها في أي اتجاه لم تكن قد قطعت مسافات كبيرة في الأصل، مما قد يشير إلى أن الأمر يتعلق بالمنطقة أكثر من كونه مرتبطًا بالعوامل الاقتصادية.
بالنسبة إلى عقول أبناء القرن الحادي والعشرين الغربيين، يستحضر مصطلح «المنطقة» الأفكار المرتبطة بالحدود والتجارة والملكية. ولكن بالنسبة إلى مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار المعاصرة، توجد مفاهيم مختلفة تمامًا. الصراع ليس بالأمر المستبعد، وقد يكون أفراد الشبكة الاجتماعية الممتدة لإحدى العُصَب — العشيرة — موضع ترحيب أكثر من الغرباء الحقيقيين. ولكن في كثير من الأحيان، يمكن أن يكون الوصول إلى الأرض سهلًا. وقد توجد حدود للمناطق دون الدفاع عنها صراحةً (على الرغم من أن الوصول إلى أماكن معينة قد يكون محظورًا)، وفي بعض الأحيان يمكن للعُصَب أن تتنقل بحرية عبر أراضٍ تزيد مساحتها على ضعف مساحة مناطقهم.
علاوةً على ذلك، من المحتمل جدًّا أن بعض أنماط التنقل المعقدة التي نلاحظها بين النياندرتال ناتجة عن تحركات الأفراد وليس الجماعات. أقرب الحيوانات المفترسة لهم من الناحية الاجتماعية هي الذئاب، حيث يصل عدد الأفراد الذين يتنقلون بين القطعان في وقت ما إلى خُمس المجموع الكلي. يمكن للمراهقين الشروع في رحلات طويلة تمتد لمئات الكيلومترات قبل الاستقرار. على سبيل المثال، قامت أنثى ذئب مميزة تم تعقبها، وتُعرف باسم نايا، برحلة طويلة على طول الطريق من شرق ألمانيا إلى بلجيكا، حيث كانت تقطع أحيانًا مسافة ٣٠ إلى ٧٠ كيلومترًا (٢٠ إلى ٤٠ ميلًا) في الليلة. ربما كانت بعض أطول تحركات الأدوات الحجرية من فعل أفراد نياندرتال مثل نايا، كانوا يبحثون عبر سلاسل الجبال والأنهار عن الترحيب حول موقد جديد.
ربما تكون الطريقة التي ارتبطت بها الأماكن والأشياء في عالم النياندرتال هي أكثر الألغاز المحيِّرة بشأنهم. يتطلب الأمر عمل مواءمة بين جميع قطع أحجية التقنية والقوت والمقدرة على التنقل، بالإضافة إلى المناخ. من المحتمل جدًّا أن تكون التغييرات المناخية الجذرية التي حدثت بعد ١٥٠ ألف سنة — من فترة بين جليدية إلى فترة جليدية عميقة وكل ما بينهما — جزءًا من سبب مرونة النياندرتال المتزايدة وتخصصهم. بدأت التجارب اليومية تبدو مختلفة تمامًا وفقًا لمكان إقامتهم والزمن الذي عاشوا فيه.
تتمثل إحدى الطرق لاستكشاف ذلك في دراسة المجمعات التقنية. فمن المسلم به أن بعضها كان أكثر ملاءمة لأنواع مختلفة من التنقل، وإذا كان الدافع وراء الحاجة إلى التحرك نابعًا إلى حد كبير من العثور على الحيوانات، والذي يختلف بدوره وفقًا للمناخ والبيئة، فإن البحث عن الحالات المتطرفة قد يساعدنا على رؤية أنماط حياة فريدة من نوعها للنياندرتال.
فترة الإيميان المشمسة هي الوقت البديهي للبدء. لقد كان العالم الأكثر دفئًا والأكثر خصوبة الذي شهده النياندرتال، وعلى الرغم من ندرة المواقع، فإنها مميزة. تأتي أدلة جيدة على ما إذا كان صيد الغابات مختلفًا من موقعين للرماح: ليرينجن ونويمارك-نورد. في الموقع الأول، الرمح أكثر سمكًا من الرمح الموجود في شونينجن ويبدو أنه كان مخصصًا أكثر للطعن، ولكنه أيضًا لا يزال طويلًا جدًّا. ربما في هذه الحالة، أحدث نوع الفريسة فَرْقًا؛ ربما أراد صائدو الأفيال مسافة مناسبة بين الوحش الهائج الملطخ بالدماء وأجسادهم. في نويمارك-نورد، حيث قُتل اثنان من الأيائل الكبيرة، فُقِدَت الرماح نفسها ولكن ظلت آثارها في الثقوب التي أحدثتها في العظام. يبدو أن كلا الغزالين قد قُضِي عليهما من مسافة قريبة، بطعنات منخفضة، وهذا بالتأكيد أكثر ملاءمة لصيد الغابات الكثيفة من رمي الرمح مثل تلك الموجودة في شونينجن.
ما يميز نويمارك-نورد أيضًا مقارنة بالغالبية العظمى من مواقع القتل الخاصة بالنياندرتال في أي زمان ومكان هو أنه بعد اصطياد اثنين من الأيائل ذات الحالة الجيدة والسمينة بسبب وفرة الموارد في الخريف، لم يقوموا بتقصيبها إلا قليلًا. حتى الأيل الذي تمت معالجته بشكل أكبر قُطِّعت أجزاء منه فقط ولم يتم فصل المفاصل. علاوةً على ذلك، لا يوجد تكسير للعظم للحصول على النخاع. لماذا يترك المرء وراءه سعرات حرارية غنية؟ المدلول هو أنهم لم يكونوا يكافحون من أجل الحصول على الطعام. إنْ كان نياندرتال الغابات هؤلاء قد أصبحوا مهرة في تكتيكات الكمائن بين جذوع الأشجار والشجيرات، فربما لم يكن التخلي عن الجثث خسارة كبيرة من ناحية الطاقة. والأمر الأكثر إثارة للفضول هو أن معالجة الجثث بهذه الطريقة تشير إلى أنهم ربما لم يكونوا ينوون نقلها ومعالجتها بكثافة في مكان آخر. سيكون ذلك منطقيًّا إن كان هناك عدد أقل من البطون الجائعة المنتظرة في مكان آخر.
من المحتمل جدًّا أن يكون التكيف مع النمو السريع لغابات فترة الإيميان قد أجبر مجتمع النياندرتال على الانقسام إلى وحدات أصغر بكثير قادرة على التعامل مع الحيوانات التي لم تعد تتجمع في قطعان كبيرة. ربما لم تكن المجموعات الصغيرة التي تعيش في ضوء أوراق الشجر بحاجة إلى التحرك كثيرًا، وتدعم الأدوات الحجرية هذا؛ فهي عمومًا غير مناسبة تقنيًّا لحملها وإعادة شحذها لفترات طويلة، وغالبًا ما تكون مصنوعة من صخور محلية جدًّا.
شعب الرنة
ما برحت الرنة أن كانت ذات أهمية خاصة للمناقشات حول الكيفية التي كان النياندرتال يصطادون بها ويتنقلون في مختلف أنحاء المشهد الجغرافي، بسبب هجراتها الكبيرة. تختلف المسافات التي تقطعها حيوانات الرنة اليوم، وما زال تتبع المسافة التي قطعتها بالضبط حيوانات الرنة في العصر الجليدي المتأخر موضوعًا قيد البحث المستمر. ولكن المؤكد أنها «بالفعل» كانت تتحرك وتتجمع موسميًّا. ربما كان هذا يحدث خلال التكاثر في الخريف والولادة في الربيع؛ تشير صغار حيوانات الرنة التي عُثر عليها في كهوف ميدلاندز البريطانية إلى أنه كانت توجد منطقة للولادة هنا، لكن لا يُعرف من أين كانت تأتي الحيوانات.
في جنوب غرب فرنسا، قدم موقع جونزاك كميات هائلة من المعلومات حول كيفية صيد النياندرتال صانعي أدوات الكينا لحيوانات الرنة. تشير تحاليل نظائر حركة الحيوانات إلى أن صغار الحيوانات التي جرى صيدها هناك في الخريف/الشتاء كانت قد قامت بالفعل بهجرة لمدة عام بين مناطق مختلفة جيولوجيًّا. في هذه الحالة، يبدو أن النياندرتال، بدلًا من «تتبع» قطعان الحيوانات، كانوا ينتظرون في الأماكن التي يعرفون أن حيوانات الرنة ستتجمع فيها، أو ربما يعترضون طريقها على طريق معروف بين التجمعات الموسمية.
تُعرَف الطبقة ٢٢ التي يبلغ سمكها حوالي متر واحد (٣ أقدام) في جونزاك بأنها «مهد العظام» لكثرة كمية عظام الرنة الموجودة فيها. فمن مساحة لا تتجاوز ٣ أمتار مربعة (٣٫٥ ياردة مربعة) وسمك ٣٠سم (١٢ بوصة)، استُخرِج أكثر من ٥ آلاف عظمة. تمثل هذه العظام ما لا يقل عن ١٨ حيوانًا منفردًا، وقد تمت تجزئة ذبائح كاملة هنا. وإذا لم يكن هذا الموقع الواقع عند قاعدة الجرف هو موقع القتل نفسه، فلا بد أنه كان قريبًا جدًّا منه. وحتى لو لم يكن قتلًا جماعيًّا، فإن ما يشير بقوة إلى أن هذا كان صيدًا انتقائيًّا من بين أعداد كبيرة من الحيوانات هو حقيقة ترك بعض الأجزاء الرئيسية بما في ذلك أطراف بأكملها غير مقطعة. فلم يكن هؤلاء النياندرتال يتضورون جوعًا.
يمثل الملجأ الصخري بيتش دي لازي ٤ نوعًا مختلفًا من مواقع كينا، حيث يبدو أن الصيد كان يحدث خلال فصل الربيع. تكسير العظام أكثر كثافة، ربما لأنه يوجد دهن أقل في الأجسام بعد فصل الشتاء؛ ولذلك كان الحصول على النخاع أكثر أهمية.
توجد كميات صغيرة من الأنواع الأخرى في مواقع كينا التي تعود إلى هذا العصر، بما في ذلك البيسون والحصان ووحيد القرن الوبري في جونزاك. ربما اصطادت المجموعات تلك الطرائد الأخرى بينما كانت تنتظر وصول الرنة، أو حتى الإمدادات الغذائية التي كانت تُجلَب من مكان آخر. من المؤكد أنها لم تكن جثثًا كاملة، وغالبًا ما تبدو أنها قد عولجت بكثافة أقل من الرنة. ومع ذلك، في بعض الحالات يكون واقعًا عليها ضرر أكبر من الحيوانات آكلة الجيف؛ ربما استخدم النياندرتال أحيانًا معسكرات الصيد خلال أوقات أخرى من السنة كانت فيها الموارد أكثر شُحًّا.
من المحتمل أيضًا أن بعض النخاع واللحوم والدهون وبعض الأدوات الحجرية كانت تُنقَل لمسافة قصيرة خارج الموقع، إلى مناطق تحتوي على مواقد ولكن لم يتم التنقيب فيها. كما هو مذكور في الفصل التاسع، فإن العديد من مواقع كينا، بما في ذلك جونزاك ولي براديل وبيتش دي لازي ٤ وروك دي مارسال، تفتقر إلى المواقد والفحم الوفير. لكن ذلك لا يعني أن النار لم تُستخدم، كما يتضح من أحجار الصوان المحروقة. إذا كانت معسكرات الصيد تتعامل مع العديد من جثث حيوانات الرنة في وقت واحد، فمن المحتمل جدًّا أن العديد من الأفراد كانوا حاضرين، وربما المجموعة بأكملها. كان النياندرتال بحاجة إلى نشر مناطق نشاطهم، كما هو الحال في مواقع «البيت» مثل أبريك روماني.
بالتأكيد كان هناك الكثير من تهشم العظام. لا يقتصر الأمر على أن كل شيء مجزأ للغاية، ولكن غالبًا ما تكون نهايات العظام الدهنية مفقودة. إما أنها قد سُحِقَت ببساطة، ربما مع النخاع، لعمل نوع من عجينة العظام، أو كانت هناك معالجة أكثر تعقيدًا. سيكون من المنطقي إجراء نوع ما من تسخين الدهون وتحويلها إلى شحم إذا كان سيتم نقل كل هذا الطعام الوفير، بالإضافة إلى وسائل حفظ اللحوم والدهون. من المحتمل أن يحدث هذا بعيدًا عن منطقة التقصيب الرئيسية ومكبات النفايات.
يعطي التنقيب الرائع لموقع صيد الرنة في ممر أناكتوفوك، الذي يستخدمه شعب الإينوبيات في ألاسكا، لمحةً لما كان يمكن أن يبدو عليه هذا النوع من المعسكرات. لقد ظل الممر نفسه يُستخدم طوال ٣٥٠٠ عام على الأقل، وتحتوي منطقة واحدة يعود تاريخها إلى ٥٠٠ عام على بقايا من صيد أواخر الصيف/أوائل الخريف. عبر حوالي ٩٠ مترًا مربعًا (١٠٧ ياردة مربعة)، يمكن رؤية التنظيم المكاني واضحًا. بدون كهف أو ملجأ صخري، بقي الناس في الخيام، لكن كان الجو دافئًا بدرجة كافية بحيث لم تكن ثمة حاجة إلى مدافئ للنوم. ومع ذلك، كانت هناك نيران داخل المناطق الرئيسية لمعالجة الجثث وتصنيع الشحوم؛ بالإضافة إلى مكبات منفصلة للنفايات الحيوانية والصخرية. وفي حين أن هذا لا يعني أننا ينبغي أن نتوقع صورة طبق الأصل في مواقع النياندرتال، فمن المحتمل جدًّا أن المناطق الداخلية لملجأ صخري أو كهف كينا كانت في الواقع مناطق نفايات فوضوية، وأن المواقد كانت أبعد إلى الخارج.
بغض النظر عن الموسم، فإن نوع الصيد الذي نرى نياندرتال كينا يمارسونه يدل على تخطيط لوجستي مثير للإعجاب. إلى جانب التوقيت، فإن الحاجة للعمل على نطاق واسع لصيد وتقطيع العديد من حيوانات الرنة قد يعني أنه لم يكن هناك فحسب فصل مكاني بين الأنشطة، ولكن أيضًا بين أفراد المجموعة نفسها. لدى الصيادين-جامعي الثمار من جميع الأنواع عادات مختلفة جدًّا فيما يتعلق بمن يذهب في رحلات الصيد، لكن التعامل مع قطعان الحيوانات يتطلب دائمًا عددًا أكبر من الأيدي العاملة مقارنةً بتعقب وقتل حيوانات مفردة. توجد دلائل في بعض مواقع كينا على تقنيات تقصيب لحوم منهجية، مما يعني على الأرجح أن أولئك الذين يقومون بالتقطيع وفصل الأطراف الأوليين، بالإضافة إلى مهام أكثر صعوبة مثل إزالة الأوتار، لم يكونوا عديمي الخبرة. لكن من المحتمل أن تحطيم النخاع كان شيئًا حتى الصغار يمكنهم المشاركة فيه.
الجلود
إذا كان على النياندرتال التعامل مع نوبات تقطيع لحوم نادرة ولكن مكثفة، فستكون هناك بالتأكيد حاجة إلى إعادة الشحذ. ولكن شيئًا آخر يمكن أن يفسر تميز أدوات كينا وحتى تقنية إعادة الشحذ المعينة؛ الحواف الطويلة والمنحنية والحادة مثالية لمعالجة الجلد.
حتى هذا الجزء من الكتاب، كان التركيز في المقام الأول على هذه التقنية فيما يتعلق بتآكل الأسنان الذي يُشاهَد لدى العديد من النياندرتال، ولكن هناك الكثير من الأدلة الأخرى على أنهم كانوا حرفيين مهرة في معالجة الجلود. كنقطة انطلاق، في العديد من المواقع، يشير نمط علامات القطع وحتى أنواع العظام إلى أن جلود الحيوانات وفراءها كانت تُنقَل. أما الدليل الأكثر مباشرة، فهو آثار الاستخدام على القطع الأثرية الحجرية. لا بد أن غالبية الأدوات، التي بها جزء مصقول ناتج عن كشط وفرك الجلود، كانت تُستخدم إما مقترنة مع الإمساك بها بالفم أو على ساق أو سطح صلب مثل جذع للدفع اعتمادًا عليه. حتى إنه من الممكن في بعض الأحيان التمييز بين القطع الأثرية الحجرية التي استُخدمت لكشط الجلود الطازجة الرطبة وتلك التي عالجت جلدًا مجفَّفًا، مما يمثل مرحلة ثانية من المعالجة.
بعد ذلك تأتي مرحلة المعالجة لجعل الجلود أكثر ليونة وتحسين جودتها. عادةً ما تبدأ العملية بالنقع، وأحيانًا يُضاف إليها رماد الخشب، حيث تساعد الخصائص القلوية على التخلص من الشحم. ربما استخدم النياندرتال الأنهار أو البحيرات أو الجليد/الثلج المذاب كحاويات للنقع، لكن هناك احتمالًا آخر وهو استخدام حاويات خاصة مصنوعة من مَعِدات حيوانات كبيرة أو حتى حفر. في جميع أنحاء العالم توجد العديد من الطرق التقليدية لتحسين جودة جلود الحيوانات، ولكن دائمًا ما تكون الدهون بأنواعها المختلفة جزءًا لا يتجزأ من العملية. يُعد المخ والنخاع مفيدين بشكل خاص، وكذلك دهن الدببة، حيث يتغلغل كل ذلك بعمق ويساعد في عملية منع تسرب المياه.
هل كان النياندرتال قادرين حقًّا على استخدام عملية معقدة مثل هذه؟ كانت عملية معالجة الجلود تحدث بالفعل قبل ٣٠٠ ألف سنة، حسبما يُفهم من بقايا الكولاجين والشعر أسفل موقع سبير هورايزون في شونينجن؛ ولم يكن من الممكن أن يظهر أثر الصقل على أداة عظمية موجودة هناك إلا بعد «ساعات» من الاستخدام. فيما يخص مواقع كينا، كشف تحليل التآكل الناتج عن الاستخدام في جونزاك أن عددًا كبيرًا من القطع الأثرية موضع الدراسة به علامة صقل مميزة ناتجة عن معالجة جلود حيوانات طازجة، مما يُظهِر أن النياندرتال كانوا ينجزون المرحلة الأساسية للتنظيف أثناء المعالجة الأولية للذبيحة.
ومع ذلك، أظهرت أداة واحدة آثارًا مميزة تدل على أنها استُخدمت على جلد مجفَّف. لعلها استُخدمت لتحضير جلد صُنِع في مكان آخر، أو أُحضِرَت ببساطة إلى جونزاك وهي تحمل آثار تآكل سابقة؛ لقد هُذبت مرة أخرى بعد ذلك.
إلى جانب الأنشطة المحددة في جونزاك، فإن هذا يعني أن جلود حيوان الرنة في معسكرات الصيد كانت، مثل اللحوم والدهون والنخاع، جزءًا من شبكة من مواد في مراحل مختلفة من التصنيع كان النياندرتال ينقلونها.
ماذا عن الأقدام؟ لا يوجد دليل على أنه كان لديهم أحذية ذات نعال صلبة، لكن أغطية القدمين الأنعم لن تترك أي أثر. كما أن الإنتاج بسيط نسبيًّا؛ توفر الرجل الخلفية للغزال أنبوبًا جاهزًا للارتداء على القدم؛ وإذا ارتُدِيَت وهي مبللة، فسوف تتقلص وتلتصق بالقدم أثناء جفافها.
ما يجعل إنتاج الملابس أمرًا مرجحًا جدًّا، إلى جانب خصائص النياندرتال البدنية، هو عدة دلائل متاحة على عمليات معالجة كثيرة لتليين الجلود وتمديدها، وهو ما يُشاهد بشكل ملحوظ في تثبيتها وعلى الأرجح أيضًا في تآكل الأسنان المضغي. وهذا يتطابق بالضبط مع ما شوهد في حالة الصيادين-جامعي الثمار الذين يفعلون ذلك بالجلود وأيضًا الأوتار، والأكثر من ذلك أنه يكاد يكون متطابقًا مع عينات الإنسان العاقل المبكر. من الأسهل بكثير تخيل هؤلاء السكان وهم يرتدون معاطف بَارْكا المصنوعة من جلد الرنة، لكن النياندرتال الذين عاشوا في مناطق مفتوحة — يُحتمل أن تكون أكثر برودة — لديهم بالفعل تآكل أكثر كثافة.
إذا لم يكن ذلك مقنعًا، فبالإضافة إلى التآكل الناتج عن الاستخدام على الأدوات الحجرية من العديد من المواقع، هناك فئة اكتُشفت حديثًا من أدوات العظام المُشَكَّلة. صُنعت هذه الأدوات من نهايات ضلوع حيوانات، حيث نحت النياندرتال العظم لتضييقه وتشكيل طرف دائري موحد ومتماثل. لم يُعثر حتى الآن إلا على خمسة أمثلة معروفة، ولكنها تأتي من موقعين: أداة واحدة من بيتش دي لازي، وأربع أدوات من أبري بيروني، على بعد ٣٥ كيلومترًا (٢٢ ميلًا)، حيث توجد في طبقات مختلفة: إحداها به أدوات حجرية ذات وجهين، وهناك أخرى بها أدوات بالطريقة القُرْصِيَّة. تلك الأدوات جميعها مكسورة، ولكن عُثِر عام ١٩٠٧ على أداة مطابقة تقريبًا في موقع لا كينا قد تُظهِر شكلها الأصلي؛ فهي مقوسة بشدة، ولم يطرأ أي تغيير على الطرف المقابل. تعتبر هذه الأدوات نسخًا طبق الأصل تقريبًا لأدوات تسمى «المُنَعِّمات» التي لم يُعثَر عليها في ثقافات الإنسان العاقل اللاحقة فحسب، ولكنها لا تزال تستخدم في وقتنا الحاضر لتنعيم وصقل جلود الحيوانات. وحتى الأضرار التي لحقت بنماذج النياندرتال تتناسب مع هذا الاستخدام؛ فكلها عبارة عن أطراف مكسورة بسبب الضغط الشديد أثناء الاستعمال.
نظرًا إلى تدقيق النياندرتال في اختيار الحيوانات وأجزاء الجسم التي استخدموها في صناعة أدوات التهذيب الخاصة بهم، فربما ليس من المستغرب أنهم لم ينتقوا فحسب الأضلاع لصنع المُنَعِّمات، ولكنهم أيضًا كانوا ينتقون نوع الحيوان. وجد تحليل الكولاجين أن جميع الأدوات الباقية مصنوعة إما من عظام البيسون أو ثيران الأوروخس، ومن اللافت للنظر أن ثلاثًا منها من طبقة في أبري بيروني يُشَكِّل حيوان الرنة منها ٩٠ في المائة.
يعود تاريخ تلك المواقع إلى حوالي ٥٠ إلى ٤٠ ألف سنة وتُظهِر أنه بعد بضعة آلاف من السنين فقط من اختفاء مجمع كينا التقني، كان لدى النياندرتال تقنيات معالجة متطورة للغاية. ليس من المؤكد ما إذا كان صيادو الرنة بتقنية كينا استخدموا هم أيضًا المُنَعِّمات أم لا، ولكن ربما إلى جانب الملابس، كانت لديهم دوافع أخرى لمعالجة الجلود بشكل مكثف. إذا تذكرنا الانطباع بأن العديد من مواقع كينا، حتى الأماكن التي تبعد مرحلة واحدة تتجاوز الأنشطة المباشرة لمعسكرات الصيد، لا تبدو تحديدًا أنها «بيوت» ذات مواقد، فربما كان هؤلاء النياندرتال يستخدمون خيامًا أو ملاجئ. نعلم من موقع لا فولي أنه تم استخدام نوع ما من الإنشاءات في الهواء الطلق في وقت لاحق، ولكن الملاجئ المتنقلة حقًّا والتي تتكون من جلود الحيوانات كانت ستسمح للنياندرتال صانعي الأدوات بتقنية كينا بالتحرك بمرونة عبر التندرا والبقاء دافئين أثناء تجوالهم لمسافات طويلة. وحتى لو كانوا بديهيًّا يعودون مرارًا وتكرارًا إلى كهوف أو جروف معينة للصيد والتقطيع الأَوَّلي للذبائح، فإن عدم وجود مواقد على الرغم من وجود بعض المواد المحروقة يوحي بأننا نفتقد هذه الأجزاء من المواقع.
يمكن لخيام التِّيبة الكبيرة من النوع الذي تصنعه ثقافات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية مثل كايوس، وداكوتا، وبلاكفيت، وباوني، وكرو، وبلينز كري استخدام جلود ٣٠ إلى ٥٠ غزالًا، ولكن نقل كل تلك الكميات كان عادةً بمساعدة الخيول. من المستبعد أن يكون النياندرتال في ترحالهم قد جَرُّوا خلفهم هياكل بهذا الحجم، ولكن ربما استخدموا خيامًا أصغر، وهناك أيضًا الأدلة على حصائر من الجلد في أبريك روماني.
الأمر المثير للاهتمام حول أسلوب الحياة الذي يتطلب العديد من الجلود، سواء للملابس أو الملاجئ، هو أنه يؤدي في بعض الأحيان إلى ما يسمى بالصيد «المسرف»، حيث لا تُستهدَف الحيوانات من أجل لحومها وإنما من أجل جلودها. حيوانات الرنة الصيفية نحيلة جدًّا ويساهم الطقس الدافئ في سرعة فساد اللحوم، لكن جلودها تكون في حالة جيدة، بينما تقل جودتها في الخريف، غالبًا، الأمر الذي يزداد سوءًا جرَّاء الثقوب التي تتركها الطفيليات في الجلد. وبصرف النظر عن الجلود والأجزاء المختارة مثل الألسنة، قد يترك الصيادون الأجزاء الأخرى، وهناك تلميحات عرضية على هذا في بعض مواقع حيوانات الرنة المعاصرة للنياندرتال، سواء كانت مواقع تحتوي على أدوات بتقنية كينا أم لا. يوجد في جونزاك عدد قليل من مفاصل الأطراف التي لا تزال متصلة؛ وعلى نفس المنوال شيء مشابه من أبري دو ماراس في جنوب شرق فرنسا، كما أن العديد من الجثث في زالتسجيتر-ليبنستيد تبدو أيضًا مُقَطَّعة بقدر طفيف.
يمكن للجلود أيضًا إنتاج أشياء لا تقل أهمية لحياة الصيادين-جامعي الثمار، ولكنها أصبحت شائعة جدًّا في المجتمع المعاصر لدرجة أنه غالبًا ما يغفل الناس عن أهميتها؛ وهي الحقائب. ربما كان لدى إنسان نياندرتال العادي الكثير مما يتعين عليه حمله؛ الطعام، والجلود الطازجة، والفراء، وربما الفراش، ناهيك عن الحجر. قد تُصنع «حقائب» طبيعية من معدة الحيوانات أو مثانتها، ولكن الجلود مفيدة بشكل خاص لأنها قوية وكبيرة. بعد لفها حول الأشياء وربطها بالأوتار، كان يمكن حملها بحيث تكون متدلية على الكتفين لتخفيف الأحمال الثقيلة. من الممكن جدًّا استخدام جلد مشدود حديثًا بهذه الطريقة؛ يمكن أن يشير العثور على عدد كبير من عظام القدم في بعض المواقع إلى أن عظام القدم ربما كانت تُترَك متصلة بالجلود، مثل مقابض حقائب السفر القديمة.
ترتبط الحاويات أيضًا بتخزين الطعام، وربما يكون ذلك مهمًّا بشكل خاص في تقنية كينا. كما هو مذكور في الفصل الثامن، لا يوجد دليل «مباشر» على أن النياندرتال خزنوا الطعام، ولكن في بيئة جليدية كانوا يحصلون فيها على معظم اللحوم خلال عمليات صيد موسمية كبيرة، ربما كان ذلك ضروريًّا. ينبغي أن يكون قد اتضح الآن أن النياندرتال قسَّموا جميع أنواع الأنشطة والمواد عبر المشهد الطبيعي؛ لذا فإن اتخاذ خطوات أخرى في هذا الشأن عن طريق حفظ أجزاء للاستخدام لاحقًا ليس أمرًا يصعب تصديقه.
بناءً على كيفية تخزينه، يمكن أن يوفر فائض الطعام مصدرًا للغذاء لأسابيع أو حتى شهور، وكان سيغدو مهمًّا بشكل خاص إذا كان الشتاء يقترب. ربما كان تجفيف اللحوم صعبًا في الطقس الممطر، ولكن خلال الفترات الجليدية كان الصيف والخريف أكثر جفافًا على الأرجح. إذا كان نياندرتال كينا في مخيمات الصيد يقيمون لفترة كافية لإنجاز المرحلة الأولى من معالجة الجلود، فمن المحتمل أنه كان هناك متسع من الوقت أيضًا لبدء تجفيف اللحوم، أو استخلاص الشحوم، أو حتى استخدام نيران تدخين الجلود لحفظ الأجزاء الحيوانية الصالحة للأكل. بالتأكيد سيتناسب هذا التعدد في المهام مع الكفاءة التي نراها في العديد من الجوانب الأخرى لسلوك النياندرتال.
ماذا حَلَّ بنياندرتال كينا؟ إذا كان هذا المجمع التقني قد ظهر كتكيف يحقق أقصى استفادة من التندرا الجليدية وحيوانات الرنة التي كانت تكثر فيها، فكيف تعاملوا مع ارتفاع درجة الحرارة؟ كما رأينا سابقًا، تتضمن بعض المواقع اللاحقة عددًا قليلًا من الخيول أو ثيران الأوروخس أو البيسون، وفي عدد قليل من الأماكن تهيمن هذه الأنواع بالفعل. قد يعكس هذا محاولة بعض النياندرتال التكيف مع حياة السهوب، ولكن من ناحية أخرى، في جبال البرانس الغربية، لا يزال هناك ارتباط بين المناخ البارد والرنة وأدوات تقنية كينا في وقت متأخر يصل إلى ٤٥ ألف سنة مضت. بعد ذلك، يبدو أن «الحزمة» اختفت أخيرًا.
مشاهد طبيعية حية
كيف كان النياندرتال يفكرون بشأن عالمهم؟ بالإضافة إلى المهام اليومية — الاستيقاظ مرتاحين أو متعَبين، ومساعدة الأطفال في تناول الطعام، والعثور على رقائق داخل الحجر، وملاحقة الحيوانات — ماذا كان يعني لهم الترحال، أو التوقف لفترة ما بعد الظهر، أو قضاء عدة أيام في مكان ما؟ مع أن كلمة «بيت» واردة بالفعل في هذا الفصل وغيره، فإنها كلمة مخادعة، وتستدعي إلى الذهن تلقائيًّا مفاهيم القرن الحادي والعشرين الغربية عن مكان ثابت. لكن في حالة أشخاص يعتمدون في معيشتهم على التنقل، سيكون البيت ممثلًا في الكثير من الأماكن؛ فجوهر الوجود نفسه هو العلاقة الديناميكية بين الأشياء. العلاقة الحميمة مع الأقارب هي واحدة من الثوابت التي كان من شأنها أن تجعل النياندرتال يشعرون بأنهم «في البيت»، لكن معرفتهم العميقة بالمشهد الطبيعي الأوسع كانت على الأرجح نوعًا آخر من العلاقات.
لا بد أن أفكار وذكريات النياندرتال اشتملت على أماكن فردية ومعروفة جيدًا: المنحدر المرتفع خلف التل؛ أشجار الصنوبر بجوار المخاضة؛ الفتحة المظلمة في الجرف. التجارب المتكررة أو غير العادية قوية بشكل خاص في ربط الذكريات، ومن المرجح تذكرها عند تكرار زيارة مواقع معيَّنة. لذلك لم تكن المشاهد الطبيعية تمثل للنياندرتال مساحات مجردة، بل تدفقًا مستمرًّا من التجارب الحياتية، سواء الجديدة أو التي تُستحضَر من الذاكرة.
هذا نوع من الأحداث الماضية، كان من الممكن أن يتم استيعابه منذ الطفولة من خلال الانتباه وربما التواصل المباشر. لكن «الأماكن» تتجاوز كل ذلك؛ إذ يظهر معناها عبر تراكم بطيء عبر الزمن للعادات والذاكرة. ثم هناك رواسب الآثار نفسها، التي كانت آخذةً في التراكم عبر القرون وآلاف السنين. ربما أثرت الأحداث الماضية بأشكالها العقلية والمادية على كيفية اختيار النياندرتال لاستخدام أماكن معينة، مما يحفز الممارسات الفضلى فيما يتعلق بالنشاط والمعيشة. وبهذه الطريقة، يمكن أن يعيد الباحثون تصور مواقع أثرية مثل جونزاك أو تمثيلها رمزيًّا بناءً على ميزاتها أو وظائفها الرئيسية باعتبارها «مواقع لصيد الرنة بالقرب من منحدر».
حيثما كانت الرواسب العميقة حقًّا مرئية، بعدما تشكلت كما هو جلي على مدى أكثر من حقبة، فقد يكون شيء آخر قد اشتعل فتيله. ربما كان لهذه المكثِّفات الثقافية التي تنقل الزمن نفسه القدرة على توسيع خيال النياندرتال إلى ما يتجاوز «الآن». نعرف أنهم تعرفوا على الأشياء القديمة في الملاجئ الصخرية والكهوف وتفاعلوا معها، ولكن هل أثار مشهد طبقات العظام العميقة أو المواقد القديمة بوضوح إحساسًا بالذين رحلوا قبلهم؟ يمكننا أن نرى في بعض الأماكن أن الأدوات التي مضت عليها عقود أو قرون تبرز من الأرض — تعبر الزمن حرفيًّا — ولا بد أنها حفزت انطباعًا بالديمومة.
علاوةً على ذلك، فإن بعض الأدوات الصخرية المعاد تدويرها في الكهوف لا تبدو وكأنها أتت من عمليات تشتت سطحي. إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون النياندرتال هم علماء الآثار الأوائل: فهم يكشفون عن بقايا أسلافهم القديمة المتآكلة، ويُقَلِّبونها بعنايةٍ واهتمامٍ بالتفاصيل ويجعلونها جزءًا من عالم الأحياء مرة أخرى.
إن غرس الأصابع في الأرض الناعمة، والشعور بالحواف الحادة، هو تذكير بأن تجارب النياندرتال فيما يتعلق بالمكان والأرض تجاوزت ما هو مرئي. لقد عرفوا الصخور من خلال ملمسها بقدر ما عرفوها من لونها، واستمعوا إلى صوت الماء ليس فقط من أجل التدفق ولكن لتقدير درجة الحرارة، واختاروا أنواعًا من الأشجار من خلال الصوت المتغير للرياح التي تندفع عبر أوراقها. بالنسبة إلى النياندرتال، كما هو الحال مع العديد من ثقافات السكان الأصليين، ربما لم يوضع تصور مفهوم الأرض نفسها على أنها مجرد منصة للمشي عليها، ولكن باعتبارها «شخصًا» يمكن إقامة علاقة أو تواصل معه. ويجب على المرء أن يسير دائمًا مع رفقة.
قد يكون من قبيل التكهن أن نتفكر في كيفية تصورهم الأرض، ولكن بينما كان النياندرتال يخطون ويتسللون ويهرولون، انطبعت ذواتهم عليها. قبل مئات الآلاف من السنين من كتابة أي شخص للكلمة الأولى، كانت آثار أقدامهم بمثابة نوع من التوقيع. سمعنا سابقًا عن آثار الأقدام تلك الموجودة في لو روزيل، والتي يبلغ مجموعها أكثر من ٢٥٠ طبعة عبر طبقات عديدة. بعضها عبارة عن مسارات قصيرة خطوة بخطوة، لكن معظمها بصمات معزولة. تركت أصغر الأقدام — أقدام طفل صغير في مرحلة تعلم المشي — أخف أثر، وهناك أيضًا بصمة يد مثالية؛ الأصابع متباعدة، مضغوطة في الرمال، كما لو كانت مرفوعة في تحية عبر ٨٠ ألف عام.
أقدم طبعات معروفة لأقدام إنسان نياندرتال تُرِكَت قبل تلك الموجودة في لو روزيل بأكثر من ٢٥٠ ألف سنة. توجد آثار الأقدام تلك على سفوح بركان روكامونفينا المنقرض، بجنوب إيطاليا، وكان يُعتقد أنها آثار أقدام الشيطان بعد أن كشفت عنها الانهيارات الأرضية في القرن الثامن عشر. في الواقع، تركها قبل حوالي ٣٥٠ ألف سنة ثلاثة من النياندرتال الأوائل، الذين انغرست أقدامهم في الرماد والوحل البركاني المبردين والمُنَعَّمين بالمطر. تُظهر أكثر من ٥٠ طبعة كيف تحرك كل منهم على نحو مختلف؛ فأحدهم كان يهبط في مسار متعرج، والآخر سلك مسارًا منحنيًا حذرًا، منزلقًا وأحيانًا مسقطًا يدًا من أجل التوازن، بينما سار الثالث في خط مستقيم يشق طريقه بجهد جهيد.
توجد أيضًا آثار أقدام تحت الأرض. تقريبًا في نفس الوقت الذي كان فيه أطفال لو روزيل يلعبون على شواطئ المحيط الأطلسي، كان مراهق نياندرتال أكبر سنًّا يستكشف كهف فارتوب في جبال الكاربات الغربية برومانيا. لقد خطا بلطف من خلال «حليب القمر» الغريب الذي تحول لاحقًا إلى تكلس. والغريب إلى حد ما أن هذا هو الدليل الوحيد على وجود النياندرتال في الكهف. لكن في أماكن أخرى، ترك صغار آخرون آثارًا في مواقع معيشة. يحتوي كهف ثيوبِترا في اليونان على حفنة من آثار الأقدام الصغيرة التي يزيد عمرها عن ١٢٨ ألف سنة، والتي من المحتمل أن تكون إحداها لشخص يبلغ من العمر من سنتين إلى أربع سنوات فقط، بينما ثمة دلائل على أن آخر كان يرتدي أغطية قدم رقيقة.
من المدهش أن الكثير ممن تركوا آثار أقدام كانوا صغارًا. في العديد من مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار، يتلقى الأطفال القليل من التعليم الرسمي من الكبار، لكنهم يتعلمون بدلًا من ذلك بالتسكع مع أقرانهم. كان التجول والاستكشاف والاختبار واللعب كالكبار يحدث في مواقع المعيشة، وكذلك في جميع أنحاء الأراضي المحيطة. لا بد أن هذا قد فتح المجال لمغامرات مثيرة بالإضافة إلى مخاطر، ويوحي بأن خبرة النياندرتال بالأرض تغيرت على مدار حياتهم.
إن المسارات القديمة تستحوذ علينا اليوم، لكن آثار الكائنات الحية كانت ستثير اهتمام النياندرتال أيضًا. البقاء على قيد الحياة من موارد الأرض يعني الاهتمام المستمر بالأرض، وملاحظة المسارات الموحلة في الأرض التي صنعها مرور العديد من الحوافر، أو حتى الأعشاب المنحنية التي خلفتها أقدام حيوانية صامتة. ولكن الأهم من ذلك، نظرًا إلى أن أسلاف البشر يفتقرون إلى المخالب أو الأسنان أو السرعة الكبيرة لآكلات اللحوم الأخرى، أن إتقان الصيد يعني الممارسة والتعاون وخاصةً المعرفة والتخطيط. ومن خلال الجمع بين المفاهيم — مثل أي الأنواع تشرب عند الفجر — والتخيل تمكن النياندرتال من توقع الطرق التي لا حصر لها التي يصبح بها الحيوان ضعيفًا. ربما استُخلِصَت هذه الحكمة في مهارة التعقب. وبالنسبة إلى الصيادين الجدد، مهما كانت البيئة أو طريقة الصيد، فإن هذا أمر بالغ الأهمية. التعقب هو أكثر بكثير من تتبع المسارات. إنه يتعلق بالانتباه الكامل إلى العالم بأسره، بحيث تصبح حتى آثار النمل مألوفة. لا يستطيع المتعقبون المدربون تحديد أنواع الحيوانات فحسب، بل الأنواع الفرعية أو الجنس أو العمر أو حتى الحالة الجسدية. من الممكن أيضًا مع الكائنات الأكبر حجمًا التعرف على الأفراد المألوفين.
ما يجعل التعقب مهمًّا جدًّا في هذا النوع من الصيد هو أنه يطلق القدرة على توقُّع سلوك الحيوانات. حتى المبتدئين يمكنهم تدبره، كما أظهرت عائلة ليكوف التي فرت من الاضطهاد الديني إلى غابة التايجا الروسية في عام ١٩٣٦. لقد بقيت هذه العائلة على قيد الحياة دون أن يكدر صفوها أحد لمدة ٤٠ عامًا على مسافة تزيد على ٢٤٠ كيلومترًا (١٥٠ ميلًا) من أقرب مستوطنة، وكان الصيد مكمِّلًا حيويًّا لما قامت به العائلة من زراعة محدودة. لكن لم يكن لديهم أسلحة، وعلَّمَ صبيَّا ليكوف نفسيهما أن يطاردا الحيوانات ببساطة عبر الغابة حتى تسقط. نادرًا ما نجح أفراد عائلة ليكوف في الصيد، وأحيانًا كانوا يصطادون فريسةً واحدةً فقط في السنة، بينما كان لدى النياندرتال أعمار كاملة لصقل مهاراتهم. وحتى لو فضلوا نصب أكمنة على صيد المطاردة، فلا بد أن التعقب كان جزءًا من هذا.
كما اقتُرِح التعقب كوسيلة تَطَوَّر من خلالها صيد أكثر تعقيدًا، مع انعكاسات تجاوزت بكثير عيش الكفاف. عندما يصبح من الصعب تتبع المسارات، يمكن لصياد خبير في سلوك فريسته أن يتوقع المكان الذي ستظهر فيه مساراتها مرة أخرى. من المرجح أن يختبئ الغزال الخائف السريع التعب أكثر من الاستمرار في الركض، ومعرفة ذلك يمكن أن تُحدِث الفارق بين الفشل في الصيد أو النجاح فيه. لكنها أكثر من مجرد معرفة؛ فهذه المهارة، المعروفة باسم التعقب التخميني، تستلزم تصور الحالة الذهنية للحيوان. يتطلب الأمر القدرة المعرفية على فهم أن الآخرين لديهم وجهات نظر وعواطف مختلفة عن وجهات نظر الفرد وعواطفه، والتي يُفترض أن مجموعة قليلة من الأنواع الأخرى غير البشر تمتلكها.
هل يمكن أن يفعل النياندرتال هذا؟ من المؤكد أن التعقب التخميني في الصيد كان مفيدًا في البيئات الصعبة مثل الغابات حيث يمكن أن تختفي الحيوانات. لكنه كان سيساعد أيضًا في المشاهد الطبيعية الأكثر انفتاحًا، على سبيل المثال توقع زمان ومكان ظهور قطعان الحيوانات.
كان العيش في مثل هذا العالم يعني أن تكون محاطًا بأنواع عديدة. كان الأشخاص والأماكن مرتبطين بعضهم ببعض بتدفقات الحجر واللحوم والمواد الأخرى، ولكنهما أيضًا كانا مرتبطين ماديًّا بآثار الأقدام على المسارات. كانت هذه المسارات مثل أنهار من الذاكرة، تغمر النياندرتال من الوقت الذي حُمِلوا فيه على صدر دافئ، إلى أن صاروا مُسنِّين ذوي خطوات بطيئة، يتذكرون مواسم شتاء صيد الرنة قبل أن تملأ الأشجار الوادي.
كانت الفصول الخمسة الماضية بمثابة غوص عميق في حياة النياندرتال، بدءًا من المقاييس الدقيقة في الأماكن الفردية حيث توجد أجيال في كل كشطة من المجرفة، إلى شبكات المرتحلين والأغراض التي تتحرك مئات الكيلومترات. ومقارنة بملايين السنين السابقة، كان وجود النياندرتال بمثابة ترقية كبيرة لحياة أسلاف البشر. لقد عاشوا بطرق أكثر تعقيدًا من أيٍّ ممَّن سبقوهم، وربما تكون أفضل طريقة للتفكير فيما يمثله العصر الحجري القديم الأوسط هي «التوسع» و«التطوير». وأيًّا كان النظام البيئي، فقد كانوا صيادين رفيعي المستوى وباحثين حاذقين عن الطعام. وكانت تقنية أدواتهم الحجرية أكثر كفاءة وتخصُّصًا، وكانوا روَّادًا في طرق جديدة لاستخدام المواد العضوية. لكن شيئًا آخر أعمق كان يحدث.
كان النياندرتال أيضًا أول من بدأ حقًّا في تمديد حياتهم عبر الزمان والمكان بطريقة لم يختبرها أي مخلوق أرضي من قبل. لقد حللوا أجسام الحيوانات والحجارة بطرق أكثر تعقيدًا ومنهجية، ونقلوا القطع لمسافات أبعد من أي وقت مضى، وحتى التحول في أدوات التهذيب من عظام كاملة إلى شظايا يعكس هذه القدرة المتزايدة.
وعندما أصبحت الأشياء والأنشطة أكثر تخصُّصًا وتباعُدًا عبر المكان والزمان، وسَّعت وجودها وأفعالها ونواياها عَبْر الأرض وفي الذاكرة. كانت النياندرتال يمتلكون وعيًا شديدًا وملاحظةً لما يحيط بهم ويعرفونه عن كثب؛ كيف تغيرت المسارات في الربيع، ومتى تمتلئ مخاضات الأنهار وربما حتى عدد مرات شروق الشمس حتى تصبح المنحدرات العظيمة مرئية حول منعطف النهر. قد يكون بوسع المرء حتى أن يزعم أن الثورة الأولى التي صبغت الأرض بصبغة المعنى الاجتماعي كانت من صنيع النياندرتال، وليس الإنسان العاقل.
علاوةً على ذلك، كان كل هذا يحدث من خلال عمليات أكثر تعاونية من ذي قبل، بدءًا من الصيد إلى التقصيب، وفي نقل الموارد وتقاسم الطعام. وهذا يظهر حتى داخل المواقع، مما يدل على أن النياندرتال لم يكونوا يدعمون أقرباءهم فقط، بل كانوا يفتحون طرقًا جديدة للتواصل فيما بينهم داخل مساحاتهم الأكثر حميمية.
مع استخراج المزيد والمزيد من الأشياء ونقلها، أصبحت «كيفية» إنجاز أمور بسيطة مثل التشذيب مليئة بالإمكانات. لقد خلط النياندرتال مواد ودمجوا أشياء. واتسعت إمكانات تنوع المجتمع نفسه؛ فصار ممكنًا تشكيل الهويات حول أكثر من مجرد فئات عمرية. كانت المهارات والكفاءة في جميع أنواع الحرف المتخصصة أكثر فأكثر، بدءًا من الصيد إلى صنع المقابض إلى دباغة الجلود، طرقًا جديدة أتاحت للنياندرتال أن يتخذوا مكانهم المستحَق في العالم. والدليل على أنهم فعلوا ذلك بادٍ على عظامهم وأسنانهم على هيئة دورات مكثفة من الخبرة المجسدة.
إن تنوع أنماط حياة النياندرتال أشبه بالرقصات التي تنبع من إيقاعات بيئات معينة، وتتجلى من خلال المجمعات التقنية وأنماط التنقل. لكن أفعال النياندرتال وتفاعلاتهم مع بيئتهم والمخلوقات المحيطة بهم كانت متعمدة ومنسقة، أقرب إلى رقصة ثنائية مصممة بعناية. وحتى مع تنامي نطاق الحركة عبر المشهد الطبيعي عبر الزمن، اكتسب المكان في الوقت نفسه أهمية اجتماعية أكبر. واتسمت الاختيارات المتعلقة بما يحدث وأين يحدث بدقة أكبر من أي وقت مضى، وقُسِّمَت المساحة الداخلية وفقًا لذلك. وكان النياندرتال يجمعون أولى سجلات المحفوظات العظيمة، حيث شكَّلت مخلفات الحياة نُصُبًا تذكارية غير مقصودة؛ ديمومة رغم الترحال. وكآبار للذاكرة في عالم شاسع ومتغير، كانت هذه الأماكن هي التي أشعل فيها النياندرتال لأول مرة شعلة التاريخ والجغرافيا البشريين.
وفي المركز من كل هذا تشتعل نيران المواقد ساطعةً. ومثلما تجذب الشموس إليها كل شيء بقوى الجاذبية الهائلة، دار كل شيء وجميع الناس حول القلب الساخن ﻟ «البيت». وبعد خمسين ألف سنة، لا تزال مواقد النياندرتال تتمتع بخصائص كونية غريبة. فوسط الأسطح القديمة المتلألئة بكثافة بعدد لا يحصى من القطع الأثرية، تشبه المواقد ثقوبًا دوديةً أثرية، تمد جسورًا على الفجوات الزمنية المستحيلة التي تفصلنا عن سكان اختفوا منذ زمن بعيد. وبينما يطوق الباحثون المواقد، وهم يسجلون وينقبون، فإن وجودها يشبه توهجًا لاحقًا للاهتمام البشري بعد تلاشي مصدر الضوء، ويعيد الحياة إلى المساحات الفارغة. يتداعى الزمان، ويبدو الأمر تقريبًا كما لو أن أصابعنا الممدودة قد تلامس دفء جلد إنسان نياندرتال، الجالس هناك بجوارنا مباشرةً.
•••
لم تكن تلك الأجساد — التي كانت يومًا ما تنبض بالحياة، والآن أصبحت عظامًا جافة خلف الزجاج — مجرد محركات تحتاج إلى إعادة التزود بالوقود، أو آلات لصنع رقائق حادة لا نهاية لها. فكما أن أيامنا مليئة بالتفاعلات الاجتماعية، فإن جوهر عالم النياندرتال يكمن في علاقاتهم. كان القرب الجسدي هو الوسيط الذي ظل يحكم حميمية أسلاف البشر لملايين السنين، والتي كانت تُقاس باللمسة والنظرة والتصرف، لكن النياندرتال أضافوا وسيلة قياس جديدة، هي الأشياء المادية. التكنولوجيا المركبة هي عقل مسافر عبر الزمن يتجلى للعيان، وكان النياندرتال بالتأكيد من بين أوائل البشر الذين رووا القصص. الأشياء التي جمعوها وفككوها وحملوها وأعادوا تجميعها لم يكن يُستَهدَف منها فقط البقاء على قيد الحياة. كما أنها تمثل تقويةً للتواصل، وقناةً غنيةً لا تنضب للتعبير عن العلاقات والمعاني التي تتجاوز المألوف.