أشياء جميلة
يخبو توهُّج المشعل على الجدران كغروب شمس آفِلة، بينما تبتعد خُطى الأقدام حتى يخبو وَقْعُها. لا يزال الدخان يتصاعد، ولكن جزيئاته تتبدد في النهاية وتندمج في السواد الحالك. يمرُّ شتاء بعد شتاء، حيث تُوسَم السنوات بدقات قلوب الدببة التي هي في سباتها الشتوي. يسيطر الجمود على الكهف، لا يدفئه سوى أنفاس الدببة البطيئة. تحفر أجيال من ذوات الفراء الكثيف الأرض لتصنع أعشاشًا على شكل أوعية، بينما يسيل الماء المحمل بالكالسيت ويقطر ويتدفق من حولها. ترتفع طبقات رقيقة جدًّا كستائر جلدية، أو كأمواج متصاعدة جمدت في مكانها؛ أصابع شاحبة تمتد إلى أعلى على مدى عشرات الآلاف من السنين. أحيانًا تستيقظ الدببة في وقت مبكر. مرتبكةً في الظلام الدامس، تتجول نحو غرفة عميقة. تلمس أنوف الدببة الباحثة عظامًا باردة وقاسية كالصخر، متكسرة وتشكل جدرانًا طويلة. مرات عديدة ترفع دببة كثيرة رءوسها، تشتمُّ رائحة الماء والطين والكهف؛ ذات مرَّة منذ زمن بعيد، شمَّ بعضها آثارًا باقية من عظام محترقة. لكن في الظلام، تعجز عيونها الواسعة عن رؤية البناء الغريب الذي أمامها.
تمرُّ سنوات أخرى، قبل أن يحدث انهيار صخري يصم الآذان ويسد الكهف. يتصاعد الهواء المترب إلى الغرفة، ويكدر البرك المسطحة الميتة على الأرض. بدون إضاءة، لا يعكس الماء المرتعش أي انعكاسات لحلقتَي الصواعد المصنوعتين بعناية. تنتظر هذه التشكيلات الرائعة بصبر.
وجدت دراسة دقيقة تعقيدًا على كل المستويات. كان قد قُطِع أكثر من ٤٠٠ من الصواعد، ومن بين القطع المكسورة، اختار النياندرتال أجزاء وسطية عريضة ومستقيمة، ومن الواضح أنهم كانوا يضعون أحجامًا معينةً في الاعتبار. ومن خلال محاذاة «قطعهم الأثرية الكهفية»، شكلوا حلقتين على أرضية الغرفة. يبلغ قطر الحلقة الكبرى أكثر من ٦ أمتار × ٤ أمتار (٦٫٦ × ٤٫٤ ياردة)، وتحتوي على كومتين صغيرتين من القطع الأثرية الكهفية، مع كومتين أخريين موضوعتين خارجيًّا في كلا الجانبين. وتوجد على أحد الجوانب حلقة ثانية أصغر ولكنها أكثر دائرية.
بينما تستحضر أكوام الأعمدة المكسورة إلى الذاكرة خرابًا كلاسيكيًّا، يظهر الفحص الدقيق أن هذا ليس خليطًا عشوائيًّا، ولكنه بناءٌ مَبنِي. تتكون كل حلقة مما يصل إلى أربع طبقات، وبعض الأقسام مدعومة بقطع عمودية، وتتميز منطقة واحدة بخمس قطع أثرية كهفية طويلة تقف جنبًا إلى جنب. يتجاوز التعقيد مجرد الدعم إلى مجال الهندسة المعمارية. فمخبأ خلف «الحراس» الخمسة تكوين متوازن بطريقة تتضمن عنصرين أو مكونين متميزين: لوحة مسطحة متوازنة على أسطوانة، تحمل بدورها قطعًا أخرى.
هذا المكان يتجاوز بالفعل كونه فريدًا، ليصبح مذهلًا. ولكن هناك أشياء أخرى تجري. تم التعرف على آثار حرق في نقاط متعددة على طول الحلقتين وداخل الأكوام الصغيرة. في الواقع، تعرَّض حوالي ربع القطع الأثرية الكهفية للنيران، وفي بعض الحالات يبدو كما لو أن النيران كانت مشتعلة «فوق» الهياكل. تظهر أيضًا بعض شظايا عظام محروقة، أكبرها — داخل أحد الأكوام — قد تكون لدب.
حدثت إنشاءات القطع الأثرية الكهفية وكذلك حادثة الحرق التي أحرقت قطعة العظام الكبيرة تلك ١٧٨ ألفًا وستمائة سنة و١٧٤ ألفًا وأربعمائة سنة خلت، وبناءً على دقة التأريخ المتاحة فإنهما متزامنان بشكل أساسي. لا يمكن لأي عملية طبيعية تفسير وجود الحلقتين؛ كانت الدببة تدخل في سبات عميق في نظام الكهوف ويمكن أن تُتلِف الصواعد أحيانًا أثناء تعثرها في الظلام، ولكن الحلقتين أكبر بكثير من أي أعشاش دببة، وهذا لا يفسر وجود الجدران المبنية.
يزداد لغز برونيكيل تعمقًا كلما فكر المرء فيه أكثر. إنه ليس مكانًا للمكوث مثل الكهوف الأخرى أو الملاجئ الصخرية؛ في أعماق سفح التل، كانت هناك حاجة إلى إضاءة مستمرة. وهذا لا يعني فقط جهدًا جبارًا من حيث جمع الوقود، ولكن أيضًا دخان خانق. علاوة على ذلك، فإن إشعال النيران فوق جدران الحلقتين لا معنى له إذا كان هذا هيكلًا للعيش داخله. يغطي التكلس معظم الأرضية بين الهياكل، ولكن لا يوجد بقايا أدوات حجرية أو تقصيب ظاهرة.
أما المناطق المحروقة فهي لغز آخر؛ يُفترض أن بعضها كان لتوفير الإضاءة، لكن أضرار الحرارة الشديدة على بعض القطع الأثرية الكهفية تلمح إلى أنها ربما تكون قد ساعدت أيضًا في كسرها. وهل كانت العظام وقودًا أم طعامًا أم شيئًا آخر؟ ومن المثير للاهتمام أن التحليل المغناطيسي، الذي يمكنه الكشف عن أدلة على التدفئة القديمة، أظهر شيئين: أنه قد تكمن مواقد أخرى تحت أرضية حجر التكلس، وأن بعض مناطق الحرق هذه لها أنوية مزدوجة. هذه الخاصية الأخيرة تعني على الأرجح أنه أُعيد إشعال المواقد، مما يوحي بشدة بأن النياندرتال قاموا بزيارات متكررة.
تكتسب الغرفة الحلقية في برونيكيل، المشبعة بأجواء غريبة ومخيفة، أهميةً عظيمة؛ فهي البناء الضخم الوحيد المعروف الذي صنعه النياندرتال. ومع ذلك، وبعد التفكير مليًّا، فإن كل شيء فيها يتردد صداه في عمليات التفتيت والمراكَمة التي تلعب دورًا رئيسيًّا في العديد من جوانب حياة النياندرتال الأخرى. واستكشافًا لأعماق جسم الأرض، ربما بدا التكلس المزخرف وكتل النتوءات البيضاء العقدية كأنها لحم وأحشاء وعظام؛ جثة حجرية يتعيَّن تكسيرها وإعادة تكوينها من جديد.
العقل في الجسد
يسخر موقع برونيكيل من التفسيرات الصارمة التي تركز فقط على البقاء لشرح سلوك النياندرتال. لقد بنته بالتأكيد عقولٌ تفكر، ولكن أيضًا «تشعر». تكمن المشاعر في الواقع وراء كل شيء يفعله الناس تقريبًا، بغض النظر عن وجود تفسيرات منطقية أيضًا. تمتلك جميع الثقافات البشرية أيضًا رغبة في السمو. وسواء جرى التعبير عن ذلك من خلال رسم جدران الكهوف، أو بناء الكاتدرائيات، أو ترنيم الأغاني المقدسة التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، أو تسلق قمم الجبال الشاهقة، فإن هذه الرغبة مشتركة بين جميع الشعوب عبر الزمان والمكان. فهل اختبر النياندرتال دوافع مماثلة، ربما دفعتهم لبناء غرفة حلقية في الظلام؟
إن التفكير في عقول تعود إلى ٥٠ أو ١٠٠ ألف سنة مليء بالمخاطر بالطبع، لأسباب ليس أقلها أنه حتى مع الأحياء، يشبه حل لغز الوعي محاولة الوصول إلى سراب يلمع في الأفق. وإلى أن نتمكن من تتبع كيفية تداخل الخلايا العصبية وأنظمة الاستشعار الخاصة بنا لإنتاج الإدراك والمشاعر، يظل القيام بذلك في حالة النياندرتال بعيدًا عن متناولنا. لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع تقديم تخمينات مدروسة.
كما هو الحال مع رفاقنا من القردة العليا، لا بد أن وجودهم قد تأسس على العاطفة. كانت مشاعر الخوف، والسرور، والألم، والإثارة، والرغبة تفيض عبر كل إنسان نياندرتال عاش يومًا ما؛ قلوب تدق، وأحشاء تتقلص، وأسفل ظهر ينقبض. ولكن الأمر الأكثر إثارة أن بعض القردة العليا تبدو وكأنها تعبر عن درجات مشاعر أكثر تعقيدًا. على وجه الخصوص، لوحظت حيوانات الشمبانزي وهي تستجيب بانفعالات بدائية للظواهر الطبيعية مثل المطر الغزير أو الشلالات. إن إسناد أي مستوًى من الروحانية الاصطلاحية إلى النياندرتال سيكون فيه تجاوز كبير جدًّا للأدلة الأثرية، لكنهم هم أيضًا واجهوا جميع عجائب الحياة الحسية. ربما عندما تشبعت شبكية أعينهم بفوتونات غروب الشمس بلون لحم السلمون، أو سمعت آذانهم أغنية نهر جليدي يبلغ ارتفاعه ميلًا، ترجمت أدمغة النياندرتال هذا إلى شيء يشبه الرهبة.
إن الشعور بالعجب في داخلك شيء، لكن القدرة على مشاركة تجربة مذهلة أو سامية شيء أكثر قوة. ولكي تظهر حياة ميتافيزيقية، فإن اللغة هي المفتاح لأنها تسمح بتبلور العاطفة والمعنى. ما إذا كان للنياندرتال أي نوع من اللغة، بالطبع، هو أحد أكثر الأسئلة ديمومة حولهم. بماذا يخبرنا علم أعصاب الدماغ الحديث؟ بالمقارنة بسلالة الإنسان بأكملها، فإن أدمغة النياندرتال، مثل أدمغتنا، ضخمة. وعلى الرغم من كونها أقل بروزًا، كان متوسط سعة جماجمهم أكبر قليلًا. وهذا يعني وجود المزيد من الخلايا العصبية: وهي وصلات التشابك بين المناطق المختلفة. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالحجم.
ما يهم أكثر هو التنظيم. أتاحت جبهات النياندرتال الأكثر انبساطًا مساحة أقل لمنطقة قشرة الفص الجبهي، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعمليات التفكير المعقدة مثل الذاكرة واللغة. وكان لديهم أيضًا مخيخ أصغر، وهي منطقة أخرى تشارك في التركيز والتواصل واللغة. ويبدو أن انخفاض حجم المخيخ لدى البشر الأحياء يشير إلى ضعف المهارات، كما أن روابط المخيخ النياندرتالي بالمناطق الأخرى المرتبطة باللغة كانت أصغر أيضًا. ومع ذلك، على غرار المناقشات في الفصل الثالث حول المقايضات الإدراكية المحتملة الناتجة عن نظامهم البصري الأكبر، يصعب للغاية التأكد مما إذا كان الحجم في حالة النياندرتال يعادل فعلًا الكفاءة، أو ما إذا كانت المادة الرمادية لديهم تعوض النقص بطرق أخرى. والجدير بالذكر أن أدمغتنا نحن البشر قد تقلصت قليلًا منذ عهد الإنسان العاقل المبكر، دون انخفاض ملحوظ في القدرات الإدراكية.
عند إضافة تحليل الجسم والآثار إلى المعادلة، تبدأ الأدلة تميل بشدة لصالح وجود نوع من التواصل الشفوي لدى النياندرتال. وبينما شهد هذا الأمر جدالًا واسعًا، يبدو الآن أن الأحبال الصوتية للنياندرتال كانت قادرة على إصدار نطاق واسع إلى حد ما من الأصوات يضاهي نطاق أصواتنا. ربما كانت هناك بعض الاختلافات الطفيفة في الحروف المتحركة بما في ذلك صوت اﻟ «آه»، لكن تحكُّمهم بالتنفس لم يكن أضعف بشكل ملحوظ، مما يمنحهم القدرة على نطق تركيبات صوتية طويلة. علاوةً على ذلك، على الرغم من اختلاف شكل أذنهم الداخلية قليلًا، كانت كذلك مضبوطة بدقة على ترددات الصوت التي يُوَلِّدها الكلام. وإذا كان هذا التشريح في البشر يُعد موجهًا للغة، فلا بد أن النياندرتال لم يكونوا مختلفين كثيرًا. وينطبق الأمر نفسه على أدمغتهم؛ ففي رأسك الآن، تعمل منطقة بروكا على فهم الكلمات الموجودة على هذه الصفحة، وكانت هذه المنطقة متطورة بشكل جيد أيضًا لدى النياندرتال، حيث كانت الخلايا العصبية تشع بنفس الطريقة سواء أثناء ممارسة أيديهم الماهرة لتقنية ليفالوا لتكسير الأنوية الحجرية، أو حتى عندما كان الأطفال يراقبون عملية تقطيع اللحوم بينما يضطلع بها كبار السن.
بأخذ كل شيء في الاعتبار، من المحتمل جدًّا أن النياندرتال قد تحدثوا بطريقة ما، ولكن عن ماذا؟ يلفت العديد من الحيوانات الانتباه إلى الأشياء، وحتى أصوات بعض الرئيسيات تحتوي على معلومات متعلقة بالسياق: نوع الحيوان المفترس ومكان وجوده. لكن التواصل الأكثر تعقيدًا، مثل وصف أشياء حدثت بالفعل أو لم تحدث بعد، يتطلب فهمًا للترتيب والزمن. بالتأكيد هناك أدلة أثرية وفيرة على أن النياندرتال كانوا منظمين من حيث من يذهب إلى أين ومتى؛ لذلك فمن المحتمل وجود مستوًى من المناقشة لإنجاز أنشطة تعاونية.
هل يمكنهم سرد القصص؟ تجمع القصص التي نسردها بين الماضي والمستقبل وحتى مخلوقات سحرية. ومن الممكن القول إن كل هذه المفاهيم تتجلى في الأدوات المركبة: أشياء تشبه التراكيب اللغوية مصنوعة من أجزاء مرتبة من أماكن عديدة، تمت إضافتها في أوقات مختلفة. وفي صناعة هذه الأدوات واستخدامها، تجاوز خيال النياندرتال الحاضر بشكل كبير، ومع قطران البتولا أدخلوا حتى مادة «خارقة للطبيعة».
ربما يكون أهم شرط لسرد القصص، بغض النظر عن الموضوع، هو الرغبة في الاتصال. لا شك أن النياندرتال كانوا يتعرَّفون على انعكاسهم عندما يقفون فوق بركة ماء ساكنة، كما تفعل الدلافين والفيلة والقردة العليا. ومع هذه القدرة يأتي التعاطف وفهم وجهات نظر الآخرين، وكل ذلك يتحد في أنظمة مشتركة للمعنى. اللغة عمليًّا هي رموز صوتية مفهومة بشكل مشترك، وحتى القردة العليا الأسيرة يمكنها تعلم التعبير عن أفكار بسيطة — مثل «أعطني الكرة» — باستخدام رموز بيانية. لكنهم لا يستخدمون أبدًا هذه المهارة للدردشة العادية، على الرغم من كونها سمة مميزة للتواصل البشري اليومي. من المحتمل جدًّا أن النياندرتال استخدموا الرموز أيضًا، بما في ذلك على الأقل الإيماءات، بالإضافة إلى تعلم آثار الحيوانات: وهي في الأساس علامات بيانية لكل فصيلة. كانوا بالتأكيد يضحكون، وربما يمزحون، وربما كانوا يحفظون عن ظهر قلب نوعًا من السجلات التاريخية. وبالعودة إلى حلقتَي برونيكيل، نواجه إبداعًا يشي بمعاني أعمق.
هناك مصادفة غريبة وهي أنه بالقرب من منعطف النهر من برونيكيل يوجد ملجأ مونتاستروك الصخري. بعد عامين من مشاهدة فالكونر لنقش الماموث في لا مادلين عام ١٨٦٤، استُخرِج من مونتاستروك المزيد من «التحف الفنية الرائعة» من العصر الحجري القديم الأعلى بما في ذلك اثنان من حيوانات الرنة المنحوتة، ربما وهي تسبح. استكشف الفصل السابق كيف كانت هذه المخلوقات محورية في حياة بعض النياندرتال، ولا بد أن يكونوا قد رأوها تعبر الأنهار أيضًا، ولكن على مدار ١٥٠ عامًا منذ اكتشاف نقش مونتاستروك، لم تظهر أي تحف مماثلة من أي موقع من مواقعهم. من ناحية أخرى، شهدت العقود الثلاثة الماضية فيضًا من الأدلة الأثرية، التي تتجاوز برونيكيل، على الجوانب الرمزية لحياة النياندرتال.
كما هو الحال مع كل ثقافة بشرية، لا بد أن خبرتهم اليومية كانت مشبعة بالارتباطات؛ سماع الصهيل يعني وجود حصان، بينما شم رائحة الدخان يعني وجود نار. ولكن هل كانت هناك دلالات رمزية أكثر تجريدًا، مثل الأحمر يعني الدم؟ أنظمة الرؤية لدى الرئيسيات مهيأة للألوان النابضة بالحياة، وخاصة اللون الأحمر، بالإضافة إلى اللمعان. وتجذب الأشياء اللامعة والبراقة انتباه علماء الآثار أيضًا، ويمكن لهذا التعرف السريع أن يحفظ بقايا ثمينة من أن تصبح في طي النسيان. هل كان لدى النياندرتال أيضًا رغبة جامحة مثل طائر العقعق في الأشياء ذات التألق والبريق؟ عندما يُعثَر على أشياء بتلك الصفات ولكن بدون وظيفة عملية واضحة، يصعب ألا نفترض غريزيًّا أن ثمة دافعًا جماليًّا لوجودها.
ولكن هل كانت مثل هذه الأشياء رمزية؟ تجمع طيور التعريشة غرائب الطبيعة بشكل غريزي وتنشئ مَعارض من باب «التفاخر»، لكنها تهدف إلى جذب الإناث — على غرار ذيل الطاووس — ولا يوجد نفس الانطباع بالانبهار بالأشياء المادية. ومع ذلك، لا يمكننا افتراض أن معاييرنا الخاصة بالمعنى كان النياندرتال يشاركوننا فيها دائمًا. قد يوحي جمال الأدوات من البلورات الصخرية في أبري دي ميرفي، بجنوب غرب فرنسا، بأنها كانت أشياء مهمة، ولكن في الواقع جلبها النياندرتال وشذبوها تمامًا مثل الصخور الأخرى.
ما يلزم لاستنتاج شيء أعمق هو المعاملة الخاصة، أو الارتباطات المتكررة وأنماط السلوك. قد يحوي كهف تشياري-بوروشتيني في جبال الكاربات الجنوبية شيئًا على هذا المنوال. كشفت الأحافير في العشرين عامًا الماضية عن جسم صلب يشبه الكرة، كبير بما يكفي لأن يملأ يدك، ولكنه كثيف بشكل ملحوظ. كشف المسح الضوئي أنه قطعة جيود معدنية، ربما عقيق. يظل المكان الذي عثر فيه النياندرتال عليه غير معروف؛ يمر النهر المحلي عبر مناطق بركانية حيث يمكن العثور على الجيودات، لكنها ثقيلة جدًّا بحيث لا يُحتمل أن تكون قد تدحرجت لمسافات بعيدة مع تيار النهر.
اللون
شهدت الأدلة على رمزية النياندرتال طفرة ملحوظة فيما يتعلَّق باستخدام الصبغات خلال العقد الماضي. فقد عُثِر منذ أوائل القرن العشرين على قطع فردية هنا وهناك، إلا أن التطورات التحليلية الحديثة حددت وجود صبغات في أكثر من ٧٠ موقعًا، وذلك في أوروبا وحدها. لم يقتصر استخدام النياندرتال على المواد المعدنية الحمراء والصفراء، بل جمعوا واستخدموا أيضًا مواد سوداء متنوعة. ولكن لأي غرض؟ يعتبر اللون عنصرًا رئيسيًّا في العروض البصرية للتواصل الاجتماعي في عالم الحيوان؛ ولكن قبل أن نتسرع في الاستنتاجات، تجدر الإشارة إلى وجود تطبيقات عملية محتملة أيضًا. يمكن استخدام المواد المعدنية كمواد واقية من الشمس، أو طاردات للحشرات، أو مواد لمعالجة الشعر، أو حتى مطهرات الجروح. على وجه الخصوص، يمكن استخدام المُغْرَة في دباغة الجلود أو كإضافات لمادة لصق المقابض، بينما قد يكون المنجنيز الأسود مفيدًا في إشعال النيران، كما ورد في الفصل التاسع.
هناك بالتأكيد أدلة وفيرة على استخدام الصبغات: حيث تظهر على العديد من العُقيدات آثار تآكل، ناتجة أحيانًا عن الفرك بأشياء ناعمة، أو بسبب الكشط بطريقة تنتج مسحوقًا غنيًّا باللون. والمدهش أننا نعلم الآن أن النياندرتال كانوا يصنعون المُغْرَة الحمراء السائلة منذ ما بين ٢٥٠ و٢٠٠ ألف سنة مضت. أظهر تحليل دقيق للرواسب الملونة باللون الأحمر من موقع ماستريخت-بيلفيدير المفتوح في هولندا أنها كانت بقعًا من المُغْرَة. وكان أقرب مصدر للمُغْرَة يبعد ما بين ٤٠ و٨٠ كيلومترًا (٢٥ و٥٠ ميلًا)، ولكن لا يُعرَف إنْ كانت تُحمَل على شكل كتلة صخرية أو مسحوقة سابقًا. يُفترض أنها خُلِطَت في الموقع، إما باستخدام حاوية أو بالفم.
هناك بعض المحاجر الأقدم للمُغْرَة في وسط أفريقيا، يُفترض أنها من صنع الإنسان العاقل المبكر، لكن موقع ماستريخت-بيلفيدير يمثل أقدم «استخدام» معروف للصبغة. وفيما يتعلق بالنياندرتال، مع مرور الوقت، أصبح استخدام الصبغة أكثر شيوعًا في السجل الأثري. ومن أكثر الأمثلة إثارة للإعجاب أنه عُثِر على حوالي ٥٠٠ قطعة من المنجنيز الأسود في مستويات تعود إلى حوالي ٦٠ ألف سنة مضت في موقع بيتش دي لازي ١، ويحمل نصفها على الأقل علامات تآكل متنوعة. وبينما يوجد عدد أقل بكثير من القطع بشكل عام بجوار موقع بيتش دي لازي ٤، فإن حقيقة وجودها عبر تسعة مستويات تشير إلى استمرارية هذا السلوك.
يعتبر كهف كومب جرينال أيضًا بارزًا لاستخدامه الصبغة على مدى طويل، حيث عُثِر على حوالي ٧٠ قطعة عبر ١٦ طبقة. ولكن في هذا الموقع، تختلف الألوان والاستخدامات، ويبدو أنها مرتبطة بمجمعات تقنية مختلفة. تحتوي طبقات كينا بشكل أساسي على مواد معدنية رمادية إلى سوداء، مع تآكُل يتراوح بين الكشط والطحن؛ حتى إن إحداها يبدو أنها استُخدمت أداة تهذيب. بعد ذلك، قل استخدام المعادن، لكن ظهرت قطع حمراء غير مصقولة. ثم خلال مرحلة مجمعات التقنية القُرْصِية، ظهر المزيد من الألوان الحمراء والبنية والصفراء ولكنها مختلفة كيميائيًّا، ويجب أن تكون قد جاءت من مصادر أخرى.
في بعض المواقع في جنوب غرب فرنسا، من الممكن أن نلاحظ، مجددًا، أن النياندرتال كانوا يركزون على الجودة. لا بد أنهم إما كانوا يبحثون بشكل منهجي في مناطق واسعة عن أغنى معادن المنجنيز، أو يختارون أفضل القطع من مصادر فردية.
أثار اكتشاف كهف لوس أفيونيس عناوين إخبارية قائمة على التخمين حول مستحضرات تجميل النياندرتال ومجوهراتهم، ولكن حتى لو لم يكن ذلك صحيحًا، فهو اكتشاف مهم للغاية. وعلى الرغم من صغر حجمها، من الممكن أن الأصداف كانت عبارة عن حاويات، على الرغم من أنه لا بد أن الخلط كان في شيء آخر. كان هؤلاء النياندرتال يجربون، ويمزجون المواد لابتكار تأثيرات بصرية مختلفة. علاوة على ذلك، لا بد أنهم حصلوا على المكونات من نتوءات صخرية مختلفة، أقربها على بعد عدة كيلومترات على الأقل.
أعطى تأريخ حديث العهد لأحجار التكلسات التي تعلو تسلسل كهف لوس أفيونيس نتيجة قديمة غير متوقعة هي ١١٥ ألف سنة؛ وهي أكثر بكثير من تواريخ الكربون المشع. إذا تأكد هذا فمن شأنه أن يُظهِر أن استخدام صبغة معقدة حدث في مرحلة قديمة جدًّا في تاريخ النياندرتال.
مجتمعتين، تمثل الصدفة الأحفورية والصبغة أكثر من مجرد مادتين غير عاديتين؛ فلهما معنى جديد مميز، وخصوصية. ومن المثير للإعجاب أن الباحثين استطاعوا أيضًا أن يلاحظوا تآكلًا على شفة الصدفة حيث كان هناك شيء لَيِّن ولكنه كاشط يفرك الجوانب بشكل متكرر، مما يشير إلى أنها يومًا ما كانت قد رُبِطَت أو عُلِّقَت في شريط أو خيط. كانت هذه قطعة أثرية جمالية، وكان المقصود أن يُرى اللون.
يؤجج هذا الغرض الوحيد سلسلة من السيناريوهات، كلها مُتخيَّلة ولكن مدعومة بآثار قديمة. في وقت ما من حوالي ٤٦ ألف سنة، لاحظ إنسان نياندرتال أصدافًا حجريةً تتآكل من الحجر الجيري، والتقط واحدةً منها. حمَل هذه القطعة الصغيرة من مكان إلى آخر؛ واحتفظ بها لفترة طويلة حتى أصبح سطحها مصقولًا. ضغطت أصابعه على لون أحمر خاص، مخلفةً لطخةً على جلده. وفي النهاية، سقطت الصَّدَفة يومًا ما من مكانها المعتاد — مطويةً أو مربوطةً بجلد — وتركها عن غير علم أو عن قصد في الجبال.
لو أن الصدفة كانت قد استُخرجت من موقع للإنسان العاقل المبكر، ما كانت رؤية هذا السلوك الرمزي ستصبح مثيرةً للجدل. وسواء كان لها استخدام عملي بالإضافة إلى استخدامها الجمالي، فقد كانت ثمينةً بلا جدال.
ربما كان الصبغة أكثر شيوعًا بين النياندرتال أكثر مما توحي به لنا الآثار الباقية الصغيرة. ربما استخدموها أيضًا على لوحات أكبر من الصدف. في عام ٢٠١٨، أُعلِن عن تواريخ جديدة لثلاثة كهوف إيبيرية مليئة برسومات العصر الحجري القديم الأعلى. كل عينة غطت، أو كانت بجوار، صبغة حمراء، وكانت العينات قديمة جدًّا لدرجة أنه لا يُعرف أن أحدًا سوى النياندرتال كان موجودًا في ذلك الوقت. في كهف أرداليس، بمقاطعة مالقة، يحتوي العديد من الصواعد وتكوينات تكلسات الحجر الجيري في مناطق مختلفة من الكهف على لطخات حمراء واضحة، وأحيانًا تكون مرئية فقط كطبقة داخل تكوينات مكسورة، أُخْفِيَت تدريجيًّا بمرور الوقت. بدا أن التواريخ الجديدة تندرج في مرحلتين، أصغرهما كانت لها أعمار دنيا تبلغ ٣٦ ألف سنة؛ ولذلك يمكن أن تكون للإنسان العاقل. لكن عددًا قليلًا من التواريخ الأقدم كانت أعماره الدنيا قبل ٤٥ ألف سنة، والمذهل أن أحدها كان من ٦٥ ألف سنة.
كان موقع أرداليس، في حد ذاته، سيصبح بالفعل مهمًّا للغاية، لكن المواقع الأخرى كانت غير متوقعة حقًّا. في كهف لا باسيجا، في قنطبرية، دَلَّت منطقة أُخذت عينات منها من قشرة بسُمك مليمتر تغطي خطًّا أحمر عموديًّا إلى أنها طُلِيَت من ٦٠ ألف سنة. كان الموقع الثالث مختلفًا مجددًا. اشتهر كهف مالترافيسو في وسط إيبيريا بالفعل بالاستنسلات اليدوية المصنوعة عن طريق رش الطلاء أو لطخه، وهي زخرفة موجودة في العديد من كهوف العصر الحجري القديم الأعلى المزينة الأخرى. فعلى سقف منطقة معزولة، كُشِفَ عن مثال خافت من خلال المعالجة التصويرية، وعندما أُجري تأريخ لعينات الكالسيت المجاورة، ظهر أن أقدمها ترجع إلى ما قبل أكثر من ٥٤ ألف سنة. وفي حين أن قطران البتولا في كونيساو ورمال لو روزيل تحمل مطبوعات عَرَضِية، إذا كانت صحيحة، ستكون هذه هي أول صورة مقصودة ليد إنسان نياندرتال؛ وهي فكرة مثيرة للغاية.
أشعلت هذه الاكتشافات النقاش حول ما إذا كان النياندرتال هم الفنانون حقًّا. بالنظر إلى الأمر على ظاهره، ينبغي أن يضع التسلسل الزمني هذا الأمر في موضع لا يخالطه الشك؛ فهناك فارق زمني بين بعض اللوحات وأي علامة على وجود الإنسان العاقل في المنطقة أكبر من الفارق الزمني بيننا وبين نهاية العصر الجليدي الأخير. ولكن عند الكثيرين، التواريخ حرفيًّا لا تُصدق، بمعنى أنها مستبعدة للغاية. إنها حالات شاذة للغاية، حتى بالنسبة إلى عينات الكالسيت الأخرى في هذه المناطق. تحتوي نفس الكهوف على لوحة تلو الأخرى من الفن يُعتقَد، بناءً على أدلة وفيرة ومستقلة، أنها تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى. يعد الخط الموجود في كهف لا باسيجا جزءًا من تصميم أكبر يشبه الشبكة تحيط به صور أخرى، وكلها لها تواريخ قشرة متراكبة تقل عن ١٢ ألف سنة، وفي الكهف بأكمله لا توجد تواريخ أخرى أقدم من ٢٢ ألف سنة. الوضع مشابه في مالترافيسو.
سواء جرى التحقق من التواريخ في المواقع الإيبيرية أم لا، فإن الآثار المترتبة على جماليات النياندرتال التي تمثلها قد لا تكون في الواقع ثورية. لا يختلف الخط المرسوم على جدار الكهف كثيرًا عن خطوط التقطيع عبر جلود الحيوانات، أو عبر العظام أو الخشب. وقد لا تكون تقنية بصمة اليد السلبية (حيث يضع الفنان يده على السطح ثم ينفخ أو يرش الصبغة حولها، تاركًا صورة ظلية ليده محددة بغياب الصبغة)، رغم كونها لافتة للنظر بلا شك، قفزة معرفية هائلة لأسلاف البشر الذين ربما فهموا بالفعل «فكرة» تمثيل الأشياء. تعد آثار أقدام الحيوانات رموزًا بالفعل، وحتى التعقب البسيط يتطلب نموذجًا «مثاليًّا» يجب مراعاته. بصمات الأيدي، إذَن، هي آثار بشرية، ويمكن رؤيتها في الحياة اليومية، سواء كانت ملطخة بالدماء من التقصيب أو ملطخة بالسخام. علاوة على ذلك، قد يوفر موقع غير معروف في فرنسا دليلًا مستقلًّا على أن النياندرتال في أماكن أخرى كانوا يضعون علامات على الجدران ويلونونها.
في عام ١٨٤٦، قبل عامين من العثور على جمجمة محجر فوربس، اكتُشفت كهوف بالقرب من بلدة لانجيه الصغيرة، بالقرب من مدينة تور، ربما على يد عمال السكك الحديدية الذين كانوا يستخرجون رواسب واجهة الجروف. أُفرِغ أحدها، المعروف باسم كهف لا روش-كوتار، إلى حد كبير بحلول عام ١٩١٣، لكن عمليات إعادة البحث منذ عام ٢٠٠٨ اكتشفت بقعًا صغيرةً من صبغة حمراء على الجدران، إلى جانب آثار أصابع مجرورة عبر رواسب طينية رخوة. تشير الدراسة الجيولوجية والمحفوظات من التنقيب الذي أُجري في أوائل القرن العشرين إلى أن الكهف كان مليئًا بما يتراوح ما بين ٢٠ إلى ٥٠سم (٨ إلى ٢٠ بوصة) من السقف، ثم أُغلِق بحلول ما قبل حوالي ٣٩ إلى ٣٥ ألف سنة. عُثر فقط على أدوات من العصر الحجري الأوسط، إلى جانب أحافير حيوانات يعود تاريخها إلى ما بين ٥٠ و٤٤ ألف سنة مضت؛ وكل ذلك يوحي بأن الصبغة وآثار تحريك الأصابع هما من عمل النياندرتال.
هذا الموقع بالتأكيد بعيد عن المثالية من حيث التأريخ المباشر والسياق، لكن استخدام الصبغة لن يكون أيضًا بعيدًا عما نراه في أماكن أخرى. والأمر الأكثر إثارة للاهتمام أن أكبر بقعة موضوعة على تشكيل غير عادي ومتعرج من الصوان، يخرج من الجدار مثل أحشاء الصخر نفسه. ويرتبط الوجود المشترك للصبغة وعمل الأصابع بعالم آخر من التفاعل المادي لإنسان نياندرتال؛ وهو العلامات المحفورة.
العلامات
قضى النياندرتال الكثير من وقتهم في النقش والخدش وإنشاء علامات على مواد مختلفة، غالبًا ما تكون نتيجة ثانوية لأنشطة أخرى؛ فَكِّر في علامات قطع التقصيب. لكن على نحو متزايد، يبدو أيضًا أنه في بعض الأحيان كان وضع العلامات هو الهدف نفسه، وفي بعض الأحيان كانوا ينقشون الصبغة نفسها.
تبعد الرواسب المتوفرة مسافة تتراوح ما بين ٥ إلى ٤٠ كيلومترًا (٣ إلى ٢٥ ميلًا)، ولكن لم يقع الاختيار سوى على التكتلات الأكثر نقاءً. والأغرب، أنه من بين آثار التآكُل المتنوعة بما في ذلك الدق والخدش والتنعيم، نُقِشَت بعض العُقَيْدَات بخطوط عميقة ومتوازية. إنها تختلف عن الخدوش التي من شأنها أن تنتج مسحوقًا، وتظهر في مجموعات تتكون من اثنين إلى أربعة. عُثِر على جميع الأصباغ بحيث كانت تبعد بعضها عن بعض ١٠ أمتار (٣٠ قدمًا)، وكانت تكتظ مع بعضها أدوات حجرية وشظايا عظام ومواد محروقة في تجويفين صغيرين، ربما جرى تجويفهما عن قصد. فُسِّرَت أشياء مطابقة تقريبًا عند العثور عليها في مواقع الإنسان العاقل المبكر على أنها أشكال رسومية، وعلى الأرجح رمزية.
هذه أشياء نادرة في مواقع النياندرتال؛ ومع ذلك، قد يكون هناك واحد آخر بين قطع المنجنيز في موقع بيتش دي لازي ١. لكن العلامات المحززة معروفة على العديد من المواد الأخرى. يمكن أن تحدث الخدوش على القشرة، وهي الطبقة الخارجية الطباشيرية لبعض القطع الأثرية الحجرية، عن طريق الخطأ. من ناحية أخرى، لا بد أن تكون الخطوط والحفر على الأشياء في بعض المواقع الإيطالية قد صُنعت قبل تشذيب النواة، وهو أمر يصعب تفسيره إلا باعتباره طريقة لإنتاج مسحوق أبيض. وبالفعل، من بين الصبغة الحمراء والسوداء في كومب جرينال، جلب النياندرتال أيضًا أربع قطع من الطباشير.
لكن نقشًا صغيرًا على قشرة من موقع كييك-كوبا، في جبال القرم الشرقية، يبدو مختلفًا. وجد التحليل المجهري أن ١٣ خطًّا متوازيًا تقريبًا أُنشِئَت على الأرجح بنفس الأداة. ومع ذلك، فإن ثلاثة منها أقصر بشكل ملحوظ ولها شكل مميز، مما يمثل تغييرًا في الشكل المطلوب؛ نَقَّاشٌ آخر أو ربما تغيير في الأداة. لم يكن من الممكن أن تنتج القشرة مسحوقًا، والنقطة الحاسمة أن جميع الخطوط تبدأ وتنتهي «داخل» مساحة القطعة الأثرية. أيًّا كان الدافع، فإنه من الصعب رؤية هذا إلا باعتباره مشروعًا جماليًّا؛ نُفِّذ بسرعة، ولكن باهتمام شديد.
كان النقش على بقايا الحيوانات أكثر شيوعًا من نظيره على المعادن أو الأحجار. وفي حين أن الفحص المجهري استبعد العديد من الأمثلة على أنها علامات طبيعية أو تقصيب، فإن عددًا آخر لا يمكن تفسيره بمثل هذه التفسيرات. أقدمها عظمة فيل من بيلتسنجسليبن، بألمانيا، محفورة عليها مجموعتان من الخطوط المتوازية بزوايا مختلفة. يعود تاريخها إلى حوالي ٣٥٠ ألف سنة، وهي ليست أقدم بكثير من أحافير شونينجن ومن المحتمل أن النياندرتال الأوائل هم من صنعوها، ولكن بعد هذا لم يكن هناك سوى عدد قليل من القطع الأثرية الأخرى خلال اﻟ ١٥٠ ألف عام التالية. على النقيض من ذلك، ظهرت ثلاثة اكتشافات جديدة مؤخرًا، وكلها يعود تاريخها إلى ما بين ٩٠ و٤٥ ألف سنة، وكلها تشمل أنواعًا غير عادية من الحيوانات.
في كهف بيشتورينا، بصربيا، لا يوجد أصل منطقي لشق خطوط، على شكل مروحة بعشر وحدات على عظمة عنق دب قديمة على الأرجح، أثناء عملية التقصيب. بدلًا من ذلك، هي تشبه إلى حد كبير خطوط كييك-كوبا القشرية، وتنتهي قبل حافة العظم، مثل تصميم داخل المساحة. القطعتان الأثريتان الأخريان صغيرتان، لكنهما مميزتان لإمكاناتهما الرمزية.
صُنعت إحداهما على عظمة ضبع مكسورة وقديمة بالفعل من كهف لي براديل، والأخرى على جناح غراب من الملجأ الصخري زاسكالنايا ٦، في جبال القرم. وعلى الرغم من تباعدهما الجغرافي الكبير واختلاف طريقة صنعهما، فإنهما تتشاركان تسلسلات صغيرة من الشقوق المتباعدة بشكل متساوٍ.
خمسة من أصل سبعة شقوق على عظمة زاسكالنايا منشورة بعمق، لكن اثنين، يبدو أنهما أُضيفا فيما بين شقوق أخرى، من حفر ضحل جدًّا، ربما باستخدام نفس الأداة ولكن بمسكة مختلفة. بدون هاتين الإضافتين من الحفر الضحل، كان سيُنظَر إلى التأثير العام على أنه غير متسم بالتساوي: ولذلك، فإن إضافة هذين الشقين كانت لاعتبارات جمالية.
عظمة الضبع من لي براديل استثنائية أكثر. فعلى سطح يبلغ طوله ٥سم (بوصتين) فقط، صنع إنسان نياندرتال تسعة شقوق متوازية بأشكال متشابهة للغاية. كلها محفورة في نفس الاتجاه باستخدام أداة واحدة وربما في نفس الوقت، ويبدو أن العلامة الأخيرة قد أُقحِمَت في العرض المتناقص للعظمة، كما لو كان إدراجها أكثر أهمية من المظهر العام.
ثم يصبح الأمر غريبًا؛ بالقرب من قاعدة الخط الثالث توجد مجموعة أخرى من ثمانية شقوق دقيقة، في زوجين، يتقاطع كل زوج عند نقاط منشئهما. ومع أن طول الشقوق يتراوح بين ٢ و٣مم (٠٫٠٨ إلى ٠٫١ بوصة) فقط، فإنها منتظمة ومصنوعة بنفس الأداة — على الرغم من أنها ليست بالضرورة الأداة التي حفرت المجموعة الأكبر — وبالتأكيد ليست طبيعية.
تتجاوز علامات زاسكالنايا ولي براديل معظم نقوش النياندرتال الأخرى بإظهارها للانتظام والبنية. فتوحي عظمة الغراب برغبة في الحفاظ على نمط، قد يتضمن علامات ثنائية. لكن عظمة لي براديل ربما تكون أول حالة قوية لترميز النياندرتال، حيث تُعد أشياء ذات قيمة متساوية، وتضيف العلامات الثانوية الصغيرة بطريقة ما إلى معنى المجموعة الرئيسية أو تُغَيِّره.
لا يُقصد بأي حالٍ من الأحوال أن النياندرتال كانوا علماء رياضيات، ولكن لا بد أنه كانت لديهم، مثل العديد من الحيوانات الأخرى، قدرة فطرية على التعرف بدقة على الكميات الصغيرة. وهذا فهم فوري أكثر من كونه عَدًّا، وكان من شأنه أن يكون مصحوبًا بفهم عام للأكثر مقابل الأقل عند التعامل مع كميات أكبر من الأشياء. يُعتقد أن مهارة الإنسان في التعامل مع الأعداد تطورت من هذه القدرات، والتي تتجلى بوضوح لدى القردة العليا، ومن المحتمل أن تكون العملية قد بدأت في وقت مبكر في سلالة أسلاف البشر بأعداد صغيرة. هذا هو بالضبط ما نراه في مجموعات العلامات على عظمتَي لي براديل وزاسكالنايا. وبدلًا من تصور ترتيبي «١ إلى ١٠٠»، من المحتمل أن نظام العد عند النياندرتال كان قائمًا على مجموعات، مثل أنظمة العد البدائية.
من المثير للدهشة أن التعرف الفطري على الأعداد موجود في الأطفال عبر الحواس؛ فالسمع وكذلك النظر يمكنهما تقييم الكمية. لذلك من الممكن، نظرًا إلى الحجم الصغير للشقوق الثانوية على عظمة لي براديل، أنه من المفترض أن يتم تجربتها من خلال اللمس. إن تخيل أطراف أصابع إنسان نياندرتال تحتك بالشقوق على العظمة يثير مسألة أن جميع الأشياء المحفور عليها التي نوقشت حتى الآن كانت تُحمَل بسهولة، وربما حتى تُتَقاسَم. لكن هناك استثناء واحد.
داخل كهف جورام بجبل طارق، حُفر ١٣ خطًّا متقاطعًا بعمق في وقت ما قبل ٤٠ ألف سنة على قسم مرتفع من الأرضية الحجرية. تشكل هذه الخطوط نمط شبكة تقريبي، يُطلِق عليه الإعلام اسم «الهاشتاج» (الوسم)، لكن إنتاجها كان سيستغرق وقتًا أطول بكثير من التغريدة المتوسطة. تشير التجارب إلى الحاجة إلى ما بين ٢٠٠ و٣٠٠ عملية حفر، وقد أُنتِجَت بتسلسل معيَّن. أولًا، جرى عمل خطين أفقيين عميقين، متبوعين بخمسة أعمدة، حُفرت جميعًا في نفس الاتجاه؛ بعد ذلك، جرى تعميق أحد الخطين الأفقيين، وفي النهاية أُضيف المزيد من الخطوط الرأسية. مرة أخرى، يعطي هذا انطباعًا بمجموعات وترتيب محدد.
في الواقع، تُظهِر أعمال القردة أوجه تشابه مذهلة مع بعض ما فعله النياندرتال؛ فهم عادةً ما يبقون داخل إطار الرسم، ويظهرون تقديرًا للتناظر أو التوازن. توضع العلامات على مسافات متساوية تقريبًا، وتُملأ الفجوات أو تُجرى إطالة للوحات لملء المساحات. كما يعود الشمبانزي إلى مناطق معينة في جلسة واحدة، ويضع فوق العلامات الموجودة أخرى جديدة، وبعضها يحرص على خلط الألوان. حتى إن الأسلوب الشخصي يظهر، حيث يفضل بعض الشمبانزي أشكالًا مختلفة، بما في ذلك الخطوط المتفرعة والمروحية الشكل.
الأكثر إثارة للفضول أنه على الرغم من تركيزهم الشديد أثناء الرسم، غالبًا ما يبدو أنهم أقل اهتمامًا بالصورة الناتجة. بالنسبة إليهم، يكمن الجمال — بمعناه الأصلي المتمثل في الإدراك والتمتع — في عملية الابتكار، وليس في المنتج النهائي. قد يكون الفن باعتباره ممارسة للانخراط الجسدي والحسي مع المواد غير مألوف للأحاسيس الغربية الكلاسيكية، لكن ثقافات بشرية عديدة عبر الزمن تدرك قوته المتسامية.
ريشة ومخلب
وجدت الدراسات المنهجية نمطًا مشابهًا لأقدام أو مخالب الطيور الجارحة المقطعة — وخاصةً النسور — عبر عدد من المواقع التي يرجع تاريخها إلى ما بين ١٠٠ ألف سنة و٤٥ ألف سنة في فرنسا وإيطاليا. في بعض الأماكن، يوجد أكثر من مخلب واحد: في موقع الكهف المنهار في لي فيو، على بعد بضعة كيلومترات جنوب وادي دوردوني، هناك ٢٠ عظمة من الطيور الجارحة الكبيرة من طبقات متعددة كلها تقريبًا مخالب. والأمر المحير أن عظمتين من أكبر عظام إصبع القدم للنسر أبيض الذيل من نفس الطبقة كانتا تفتقدان إلى المخالب؛ إذ ربما نقلتا إلى مكان آخر.
كانت هناك نظريات مفادها أن المخالب كانت زينة، لكنها تعاظمت بعد اقتراح أن ثمانية مخالب مقطوعة من نسور بيضاء الذيل من موقع كرابينا كانت عبارة عن قلادة. إلى جانب عَظْمة إصبع القدم، كشف الفحص المجهري عن علامات قطع ناعمة ومناطق صغيرة لامعة تشبه تلميع التلامس من الاحتكاك بالأشياء اللينة والصلبة على حد سواء. ولا يوجد أي عظم آخر هناك له أنماط تآكُل مماثلة، وبينما تشكل أنواع مختلفة من الطيور أيضًا جزءًا من حيوانات كرابينا، إلا أن النسور فقط — ثلاثة أو ربما أربعة طيور — هي التي قُطِّعَت.
على الرغم من أن هذه الاكتشافات أطلقت العنان لخيال فناني إعادة التجسيد لإنتاج صور للنياندرتال وهم يرتدون الريش والمخالب، فهل يمكننا التأكد من عدم وجود غرض عملي؟ كانت الجوارح والطيور من عائلة الغراب بالتأكيد ضمن قائمة الطعام في بعض السياقات، لكن هيمنة المخالب تبرز بالفعل: في بعض الأحيان تكون عظمة الطائر «الوحيدة» المقطوعة. والتحليل الدقيق للآثار الناتجة عن تقطيع الأوصال ونزع الجلد وكشط الأجنحة والأقدام يشير إلى أن هذا لم يكن يتعلَّق دائمًا بالحصول على اللحم أو النخاع، خاصة في حالة الأنواع الصغيرة مثل الزُّمَّت. ليس من الصعب تخيل استخدامات للأجنحة بأكملها أو حتى الأقدام والمخالب — من فرشاة إلى أدوات تمويه أثناء الصيد إلى أدوات ثَقْب — ولكن لا شيء منها مقنع حقًّا بالنظر إلى الجهد المطلوب.
ومع ذلك، فإن أحد الموارد التي غالبًا ما يتجاهلها الباحثون هو الأوتار. يمكن استخدام هذه الأشياء الخيطية لجميع أنواع الأغراض، ونحن نعلم أن النياندرتال كانوا يستخرجونها بشكل منهجي من الثدييات التي كانوا يصطادونها مثل الرنة. في الطيور الجارحة الكبيرة تكون الأوتار كبيرة وقوية بشكل خاص، لكن الأبحاث التجريبية أظهرت أنه في العديد من المواقع كان النياندرتال يزيلون المخالب من الخلف، وخلال هذه العملية كانوا يقطعون الأوتار، بينما يتجنبون أيضًا، على ما يبدو، المخلب اللامع نفسه.
تُلاحَظ هذه الثنائية أيضًا مع الأجنحة؛ في بعض الأحيان يكون الأمر على الأرجح متعلقًا بإخراج الأوتار، ولكن غالبًا ما تشير علامات التقصيب إلى أن النياندرتال يبحثون فعليًّا عن ريش الطيران الأساسي. على عكس الزغب الناعم، ليس لهذا الريش خصائص حرارية، ولن يكون له أي فائدة كمساعدات تحليق على رماح بالحجم المستخدم عادةً.
اللون هو أحد الأشياء الرئيسية التي تجعل الريش جذَّابًا، ومن الجدير بالذكر أن العديد من الأنواع التي كان النياندرتال مهتمين بها كان لها ريش داكن مميز؛ أسود وبني داكن ورمادي. حتى المخالب والبراثن عادةً ما تكون سوداء ولامعة. اللون الأحمر موجود أيضًا؛ حيث يبرز الريش السخامي لذكر الطيهوج الأسود بواسطة «عقدة علوية» حمراء، بينما يجمع طائر الزُّمَّت بين ريش أسود لامع ومناقير حمراء أو صفراء، وأقدام حمراء ومخالب سوداء. ومن المهم الإشارة إلى أنه تم تحديد الصبغة في عام ٢٠٢٠ على نفس المخلب في كرابينا على أنها ألياف الكولاجين، وهي وصفة مختلطة أخرى: معادن حمراء وصفراء، وفحم وطين. تشير هذه العلاقة السببية بقوة إلى أنه في بعض الأماكن، كانت أجزاء الطيور جزءًا من لوحة ألوان النياندرتال الجمالية.
لكن لماذا هذه الحيوانات؟ العديد من الأنواع التي يبدو أنها تلقت معاملة خاصة مثل الطيور الجارحة أو عائلة الغراب كانت معروفة جيدًا للنياندرتال، حيث كانت حاضرة مثل حيوانات مرافقة في مواقع صيدهم. ربما أصبح الزُّمَّت على وجه الخصوص معتادًا، لأنه يعيش بالقرب من الكهوف، ويتغذى في المراعي حيث ترعى الحيوانات العاشبة الكبيرة، وإذ يمكن رؤيته في منتجعات التزلج، فهو يفضل القمامة البشرية. لكن الطيور عمومًا ربما كانت لها أصداء أعمق. كانت دائمًا في مجال البصر أو السمع، وأكثر بكثير من معظم الناس اليوم، كان وجود النياندرتال تغمره أصوات العصافير المستمرة. كانت الأيام التي تبدأ وتنتهي بجوقات الفجر والغسق مليئة بأغانٍ موسمية أو نداءات إنذار أو صيحات بعيدة لنوارس أو نسور تحوم في حركة دائرية. وعندما كان الليل يُغَلِّف الأرض، كانت صيحات البوم تتردد أصداؤها عبر الوديان، وكان السُّبَد يدندن مطمئنًّا، والعندليب يضفي جلالًا على الظلام. ومع ذلك، فإن النياندرتال، مثلنا، بقوا على الأرض رغم إعجابهم بتحليق الطيور الذي يتم دون عناء؛ ربما حلموا هم أيضًا بالتحليق في سماوات لا نهائية.
أكثر من مجرد نفعية
يمكن أن ترتبط الجماليات بتغيير المواد والخامات، أو بخلق تجارب حسية، أو بإنتاج تأثيرات بصرية أو تأثيرات أخرى. في بعض الأحيان، يمكن تطبيق هذه الجماليات على الجسد نفسه؛ بغض النظر عما إذا كانت مخالب كرابينا تمثل حقًّا قلادة من فترة الإيميان أم لا، فإن إمكانية استخدام بعض الأشياء مثل الأصداف أو المخالب أو الريش للزينة الجسدية أمر وارد. كما يمكننا أيضًا أن نعتبر أن أجزاءً أخرى من الحيوانات، مثل الشعر الذي يترك القليل من الآثار، كان يمكن استخدامها أيضًا: فقد تشير العظام المفقودة في شونينجن إلى ذلك بالإضافة إلى الجلود، حيث من المحتمل أن النياندرتال كانوا يأخذون معهم ذيول الخيول المتمايلة.
لا شك في أن بعض المجموعات كانت ترتدي ملابس، وبينما قد يحلم الباحثون باكتشاف جسد من العصر الحجري القديم الأوسط يكون في حالة مثل مومياء أوتزى — جسد متجمد كامل مع زي كامل — يجب أن نتذكر أن النياندرتال من أوقات وأماكن متفرقة على نطاق واسع ربما كانوا سيندهشون مثلنا من ملابس بعضهم البعض. هناك شيء واحد كان على الأرجح عامًّا؛ لا بد أن اهتمامهم الشديد بخصائص المواد كان سيظهر في اختياراتهم للملابس، وربما تجاوز هذا الوظيفةَ إلى المظهر. لا تُستخدم المنعمات اليوم فقط لتليين الجلود، ولكن أيضًا لتلميعها؛ بالإضافة إلى إحداث تأثير طارد للماء — مما يجعل رحلات صيد الخريف الرطبة أكثر راحة — فإنها تضيف بريقًا يشبه بريق الصَّدَف.
دباغة الجلود ليست ضرورية عند معالجة الجلد، على الرغم من أنها تساعد في الحفظ والعزل المائي. ولكن إذا كنت ترغب في إضافة لون على طيف الوردي-البرتقالي-البني، فهي مثالية لذلك. ومن المذهل أن بقايا عضوية على قطعة صغيرة من الحجر في نويمارك-نورد تخبرنا أن النياندرتال كانوا يصنعون الجلد أحيانًا. حدد التحليل الكيميائي كميات كبيرة من التانينات، وهي مواد قوية مشتقة من النباتات تعطي الشاي والقهوة اللون، وهي الوسيلة التي تساعد أجسام المستنقعات على البقاء. علاوة على ذلك، فإن التانينات في نويمارك-نورد جاءت من خشب البلوط، والذي يُعد إلى جانب الكستناء أفضل أنواع الأشجار للدباغة في عالم كان يعيش في فترة بين جليدية: مرة أخرى، كان النياندرتال يختارون الجودة.
ولكن أدلة وجود مادة التانين المستخلصة من اللحاء في موقع نويمارك-نورد لها صلة أخيرة ومثيرة للاهتمام بمقتنيات النياندرتال الأخرى التي ربما كانت مرتبطة بالزينة الشخصية. فبالإضافة إلى صدفة فوماني، تحمل قطعة أثرية أخرى علامات على تعليقها بخيط أو حبل. إذ يوجد حز عميق على أداة تهذيب المنجنيز في موقع كومب جرينال يخترق خدوش كشط سابقة، وله سطح داخلي مصقول يشير إلى أن شيئًا ناعمًا كان بداخله يتعرض لاحتكاك متكرر. حتى وقت قريب، لم يكن هناك أي دليل على أن النياندرتال صنعوا أي نوع من الحبال، ولكن تغير هذا الأمر في عام ٢٠٢٠ بالإعلان عن اكتشاف مذهل في موقع أبري دو ماراس. إذ وُجِد، تحت رقاقة، ترسب طبيعي يحوي خيطًا ملتويًا بطول ٦مم (٠٫٢ بوصة) مصنوعًا إما من لحاء الصنوبر أو العرعر، أو ربما من جذور هذين النوعين. والأكثر إثارة للدهشة على الإطلاق أنه من الناحية التقنية خيط كلاسيكي من ثلاث طبقات: ثلاثة خيوط فردية لكلٍّ منها ألياف ملتوية في اتجاه واحد، ثم تُلف جميعها معًا لفة عكسية. علاوة على ذلك، فهو خيط ناعم للغاية؛ يعادل الخيوط في وشاح من الكتان المنسوج يدويًّا.
حتى لو افترضنا احتمال حدوث انكماش بسبب الجفاف، فإن شيئًا بهذه النحافة له استخدامات محدودة. من الاستخدامات المحتملة ربط الأدوات الحجرية الصغيرة بالمقابض، لكن خياطة الأشياء الخاصة وتعليقها احتمال آخر. تُعد القطع الأثرية الفريدة مثل خيط أبري دو ماراس أشياء لا تكاد تُصدَّق حتى بالنسبة إلى علماء الآثار، وتخضع بحق لتقييم نقدي. ولكن مثل بقايا نويمارك-نورد المدبوغة، أو صدفة فوماني أو أي عدد من الاكتشافات المحفوظة الفريدة، فهذا كل ما لدينا للعمل عليه. يجب تحقيق توازن بين الحذر وعدم تجاهل القطع الأثرية الفردية لمجرد أنها نادرة أو مذهلة.
بغض النظر عما كان يرتديه النياندرتال، سواء أكان صبغة على الجلد أو جلدًا مدبوغًا لامعًا أو فراءً دافئًا أو أصدافًا حمراء مربوطة بخيط، فقد كان الأمر دائمًا يتجاوز أداء وظيفة. إن وضع الأشياء على الجسم طريقة قوية للتعبير عن المكانة والهوية، وهو أمر ملحوظ لدى العديد من الحيوانات. فالقردة العليا أحيانًا «تدثر» نفسها بالأشياء، وعلى وجه الخصوص تحب قردة الشمبانزي حمل أجزاء من فريستها، فمثلًا، لوحظ شمبانزي بري يتباهى بقطعة معقودة من جلد قرد حول رقبته، بها ذيل. ربما تكون العقدة قد حدثت عن طريق الصدفة، لكن الارتداء لم يكن كذلك.
بالنسبة إلى النياندرتال، لا بد أن ارتداء الملابس المصنوعة من الجلود والفراء قد استحضر ذهنيًّا الحيوانات التي أتت من أجسادها هذه الأشياء. إن تغيير مظهر المرء، أو جعل نفسه بارزًا من خلال الأشياء أو اللون، يفتح الباب أيضًا أمام أشياء أكثر تعقيدًا مثل إيصال رسالة الانتماء الاجتماعي للأهل والأقارب.
قد يكون الانتماء إلى فئات اجتماعية، مثل العمر والجنس، مرتبطًا أيضًا بالأشياء الجمالية والرمزية التي صنعها النياندرتال أو ارتدوها. لقد تطرقت الفصول السابقة بالفعل إلى مدى صعوبة تحديد الجنس في الماضي، ولكن يبدو أن هناك تلميحات إلى أن النياندرتال المصنفين تشريحيًّا أو وراثيًّا حسب الجنس عاشوا بطرق مميزة خُلِّدت على عظامهم وأسنانهم. يشير الارتباط الظاهر بين أجسام الإناث، والاستخدام المكثف للفم للثبيت والجر، بالإضافة إلى تطور الذراع المتماثل، إلى دباغة الجلود. هذا من شأنه أن يتردَّد صداه في العديد من ثقافات الصيادين-جامعي الثمار ولوحظ وجود نمط ثابت يدل على أن النساء شاركن بشكل أساسي في معالجة الجلود، وصنعن أشياء ضرورية للبقاء مثل الأدوات الحجرية. من المحتمل أن أفكار النياندرتال عن الجنس قد استندت إلى العديد من الأشياء ولم تتوافق بدقة مع المفاهيم الغربية للأنوثة، ولكن ثمة احتمال مثير للاهتمام مفاده أن معالجة الجلود والملابس نفسها ربما كانت إحدى النقاط التي تقاطعت فيها ثقافتهم المادية مع الهوية الاجتماعية.
يؤدي تجميع كل الأدلة على الجماليات والمفاهيم الرمزية عند النياندرتال إلى مجموعة مثيرة للإعجاب. ولكن ربما تكون إحدى أهم نتائج العقود الثلاثة الماضية أن قاعدة البيانات المتنامية هذه تجعل من الممكن تمييز القواسم المفاهيمية المشتركة بين الأمثلة الفردية، فضلًا عن جوانب أخرى من حياتهم. عُثِر على الصبغة مع أصداف أكثر من مرة؛ كما أنها منقوشة على هيئة خيوط، وكذلك الحال مع العظام والحجارة. وهي مخلوطة بمواد أخرى لصنع شيء جديد، تمامًا كما طُهِيَت مواد لصق المقابض أو صُنعت من وصفات راتنج الصنوبر وشمع العسل.
في بعض الأماكن، كانت تحدث أشياء أخرى غير عادية. في لي براديل، لم يكن العظم محفورًا بخطوط وشقوق فحسب، بل استُخدمت هذه المادة أيضًا في صناعة أعداد كبيرة من أدوات التهذيب، كما شُذِّبَت مباشرةً. وفي نفس الطبقة التي وُجدت فيها عظمة الغراب في زاسكالنايا، كان النياندرتال يفعلون كل ذلك ويستخدمون أيضًا صبغة حمراء، ويجمعون الأجنحة والأقدام من الطيور الكبيرة المثيرة للإعجاب، بل ويحملون عظام ذيل دولفين لمسافات طويلة من البحر الأسود.
يبقى شيء واحد، وهو السؤال عن كيفية مقارنة كل هذا مع الإنسان العاقل المبكر. تحاكي وصفات صبغة النياندرتال «مجموعة طلاء» داخل صدفة في كهف بلومبوس، بجنوب أفريقيا، يعود تاريخها إلى ما بين ٩٧ إلى ١٠٥ ألف سنة، واستخدام البيريت اللامع يشبه صفائح الميكا اللامعة التي عُثِر عليها مع مُغْرة في موقع مادجيدبيبي، بأستراليا، والتي يعود تاريخها إلى ما بين ٥٢ إلى ٦٥ ألف سنة. تشبه صدفة المغرة في كهف فوماني اكتشافات من عدد من مواقع الإنسان العاقل المبكر، لكن بلومبوس يشتهر بوجود مجموعة من خرز الصدف التي كانت على الأرجح مربوطة بخيط معًا.
ما يشترك فيه إنسان نياندرتال مع الإنسان العاقل المبكر قبل ٤٥ ألف سنة هو غياب أي فن تصويري لا لبس فيه، والذي يتجلى في المنحوتات أو صور المخلوقات التي تحبس الأنفاس التي تمتد عبر الأسقف الحجرية. رُسِمَت أقدم صورة معروفة لحيوان قبل ٤٤ ألف سنة في جزيرة سولاويسي، بإندونيسيا؛ هناك أيضًا بصمات يد من نفس العمر تقريبًا من كهف لوبانج جريجي صالح، في جزيرة بورنيو، ومن حوالي ٤١ ألف سنة، تُرِكَ تمثال صغير منحوت من العاج لامرأة في فوجيلهيرد، بألمانيا.
ليس من الواضح ما إذا كانت هذه حالات ازدهار فني مستقلة، أو ما إذا كان السكان الذين تفرقوا في أوراسيا قبل ٨٠ ألف سنة، مثل معاصريهم في جنوب أفريقيا، قد جلبوا معهم تقليدًا فنيًّا مشتركًا. وربما تعود الجذور إلى الوراء أكثر. إن أقدم نقش رسومي على الإطلاق هو نتوء واضح متعرج على سطح صدفة مياه عذبة من موقع ترينيل، بجزيرة جاوة، منذ ٥٠٠ ألف سنة. وهذا يثير احتمال أن يكون التراث الجمالي للنياندرتال وتراثنا القديم إرثًا مشتركًا من أعماق سلالة الإنسان. ربما نكون قد دخلنا إلى قارة جديدة ووجدناها مزينة بفن عمره آلاف السنين.
•••
يجب أن تظل الدوافع المحددة وراء جماليات النياندرتال غير معروفة. قد نفهم الإثارة البدائية للخلايا العصبية بالضوء ودرجة اللون والملمس، أو كيف يبتهج الجلد والعقل بالصراخ المتسارع لسرب من السنونو وهو يرتفع محلقًا إلى السماء. قد نصل إلى ما يبدو وكأنه استعارات واضحة: مغرة حمراء سائلة كالدم من الأرض. لكن محاولة إلقاء نظرة خاطفة على عقول النياندرتال تشبه رؤية أشعة الشمس تتسرب إلى كهف، يعوقها غبار متراكم منذ آلاف السنين. يجب أن نتناسى أيضًا الأفكار الكلاسيكية حول الفن، وأن نقدر أن الأهمية والرمزية في بعض الأحيان قد تكونان في فعل التحول نفسه. إن تغيير اللون، ووضع علامات على الأسطح، وحتى أخذ ريش من جناح طائر هي أمور ربما كانت لها معاني تردد صداها على أعظم نحو أثناء عملية الإبداع، وليس في المنتج النهائي.