مسافرون عبر الزمن في عروقنا
يسيرون مبتعدين عن وجه الشمس، يتبعون دروبًا تكشفها الأرض. تظهر لهم أشياء يعرفونها بملامح جديدة؛ أشجار تكتسي بأوراق جديدة، ووحوش بفراء غير مألوف. حتى الصخور تتغير تحت أقدامهم. ويشعرون بوجود آخرين. يتبين وجودهم في آثار الأقدام الخفيفة على الطريق الترابية الوعرة، وفي رائحة الحجر المحروق المتبقية حول الصخور المكسورة، وفي دخان يتصاعد من بعيد ليلتقي بالغيوم المنخفضة.
تلتقي الدروب، كما يحدث دائمًا. تجري رقصات اختبار متوترة تحت مظلات الخريف الممطرة، وبجانب الأنهار المتدفقة، وأمام مداخل الكهوف المظلمة. في بعض الأحيان يتفجر الخوف وينسكب الدم. وفي أوقات أخرى تمتد الأيدي، وتستكشف الأصابعُ الشعرَ والجلدَ والشفتين. تُتَبادَل أشياء خاصة يُحتفظ بها لفترة طويلة؛ أفضل الأحجار، وقطع دهنية. ومع همسات في ضوء النار، تُقدم أشياء أخرى بينما تتلاصق الأفخاذ. تنتفخ البطون وتخرج إلى العالم وجوه صغيرة تحت النجوم، وتُفتح عيون صافية بلا حدود لتتأمل العالم وكأنها تعود إليه ببساطة. ومع استنشاق الهواء المُنكَّه بدخان المواقد، تنفك القبضات الصغيرة بينما يتدفق الحليب الذهبي. ويظل الأسلاف في عظامهم، بينما تنبض الحياة الجديدة في الجسد. يصنع الناس مستقبلًا يمتد طويلًا، ويتلوى عبر السنين والقرون وآلاف السنين.
على مدار معظم السنوات المائة والستين الماضية تقريبًا، كان الباحثون يعملون بجد على جبل من العظام والحجارة سعيًا وراء مزيد من المعرفة عن النياندرتال. تغير هذا الأمر فجأة إلى حد ما خلال العقدين الماضيين حيث تحول الحمض النووي القديم من حلم بعيد إلى حقيقة واقعة. يمكن لعلم الوراثة أن يوضح العديد من الأمور التي لا يستطيع علم الآثار كشفها؛ لذلك فإن فرصة دراسة الحمض النووي للنياندرتال كانت بمثابة الوصول إلى قمة سلسلة صخرية ورؤية مناظر طبيعية هائلة وغير متوقعة فجأة. تقدم كل عينة، راسخة في الزمان والمكان، إطلالة على معلومات فريدة حول الأصول والصلة بين الأفراد والمجموعات السكانية التي ينتمون إليها. عند التكبير، يكشف الحمض النووي عن بيولوجيا تتجاوز العظام، ويمكنه حتى الكشف عن أنواع جديدة تمامًا من أسلاف البشر.
كانت الطفرة الهائلة في التطورات التكنولوجية والاكتشافات الجديدة والاهتزازات النظرية سريعة للغاية، وحتى بالنسبة إلى الخبراء، يسهل الشعور بأنهم مثقلون تحت وطأة هذا الفيض من التطورات. ولكن في خضم المعاطف البيضاء وغبار العظام وأنابيب الاختبار، هذه قصة حميمية: تطل بانوراما الحمض النووي القديم العميقة على عالم المجتمعات القديمة التي تحركت وتفاعلت وتزاوجت فيما بينها.
مع تحليل المزيد من العظام، أصبح من الواضح أن كل عينة يمكن أن تغير الصورة الكلية تغييرًا كبيرًا. في البداية، أظهر الحمض النووي الميتوكوندري أن مجموعات النياندرتال كانت صغيرة ومتجانسة؛ حيث أظهر الأفراد الذين يعود تاريخهم إلى ما بين ٥٠ و٤٠ ألف سنة مضت من إسبانيا وألمانيا وكرواتيا تشابهًا جينيًّا كبيرًا. ولكن مع توفر المزيد من البيانات، ظهرت لمحات من التنوع الإقليمي. في بعض الأحيان، تطابق القرب الجغرافي مع الصلة: كان لدى العديد من أفراد جوييه حمض نووي أكثر تشابهًا فيما بينهم مقارنةً بأي نياندرتال آخر. من ناحية أخرى، عندما أُجريت دراسة جينات الفرد الثاني في فيلدهوفر، أظهرت مخططًا أقرب إلى سلالة فينديا في كرواتيا من النياندرتال الأصلي من نفس الكهف الألماني.
بحلول ٥٠ إلى ٤٠ ألف سنة مضت، كان المتحدرون من الفروع السكانية العميقة لا يزالون موجودين ومنتشرين عبر غرب أوراسيا. على سبيل المثال، أظهر تحليل طفل تيشك-تاش في أوزبكستان عام ٢٠٠٧ أنه مرتبط بسلالات أوروبية، وحتى أبعد شرقًا في كهف أوكلادنيكوف بمنطقة ألتاي في سيبيريا، حمل الحمض النووي الميتوكوندري لطفل آخر مفاجأة أكبر. يعود تاريخ هذا الاكتشاف إلى حوالي ٤٥ إلى ٤٠ ألف سنة مضت، وكان في أبعد مكان شرقًا عُثِر فيه على أي نياندرتال على الإطلاق، وكشف عن نطاق أوراسي أوسع بكثير يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى سيبيريا.
ولكن في مرحلة ما، حدث انقلاب كبير واحد أو أكثر. تبين أن بعض النياندرتال الإسبانيين والفرنسيين لديهم حمض نووي ميتوكوندري يشبه إلى حد كبير ذلك الخاص بطفل أوكلادنيكوف أكثر من السلالة التي تركزت في إل سيدرون وفيلدهوفر وفينديا. والعكس صحيح؛ فطفل ميزمايسكايا ١ في روسيا، على بعد آلاف الكيلومترات من أوروبا، أقرب إلى النياندرتال الإيطاليين من طفل أوكلادنيكوف.
أُطلِق على إصبع القدم اسم «نياندرتال ألتاي»، وكان يعود لامرأة ماتت من حوالي ٩٠ ألف سنة. لقد جاءت من سلالة عريقة حقًّا انفصلت عن سلالات أخرى قبل حوالي ٤٠ أو ٥٠ ألف سنة. وعلى عكس المتوقع تمامًا، لم يكن الحمض النووي الميتوكوندري لأوكلادنيكوف، الأقرب إليها جغرافيًّا، هو الأقرب جينيًّا. بدلًا من ذلك، كان وليد ميزمايسكايا في القوقاز على بعد آلاف الكيلومترات غربًا هو الذي تطابق بشكل أفضل.
كشفت نتائج تحليل الحمض النووي عن بنية عميقة داخل مجتمع إنسان نياندرتال الأوراسي بأكمله. انقسم فرعان رئيسيان ثم بقيا معزولين في أوروبا وآسيا لآلاف السنين. علاوةً على ذلك، يبدو أن أحفاد امرأة ألتاي، الذين يشبهون إلى حد ما أبناء عمومة جميع النياندرتال الآخرين الذين فُقد أثرهم منذ زمن بعيد، قد اختفوا واستُبدل بهم لاحقًا غصن ينحدر من الفرع الأوروبي. وكما هو حال الحمض النووي الميتوكوندري في أوروبا، يبدو أنه على المستوى الإقليمي، كانت توجد سلالات متعددة من الحمض النووي الخلوي التي إما كانت متزامنة ولكن لم يكن هناك اختلاط كبير بينها، أو حل بعضها محل بعض بسرعة كبيرة.
عزز التحليل الجيني الحديث لجمجمة محجر فوربس الصورة العائلية للنياندرتال. فبالإضافة إلى تأكيد جنسها الأنثوي، أظهر أن حمضها النووي الخلوي كان قريبًا بنفس القدر من الجينومات ذات التغطية العالية لأفراد من تشاجيرسكايا في روسيا وجينوم فينديا في كرواتيا. وهذا يجعلها جزءًا من السكان الذين ينحدر منهم كلاهما.
ومع ذلك، ففيما يتجاوز السمات التشريحية، تصبح الأمور صعبة للغاية. هناك بقايا أثرية في دينيسوفا، ولكن من الواضح أن الطبقات هناك قد تشوَّهَت بسبب عمليات التجمد الطبيعية، ويمكن أن يكون حفر الضباع أيضًا مشكلة. علاوة على ذلك، لا تتطابق التقديرات الجينية لتاريخ بعض الأحافير مع أعمار القطع الأثرية الأخرى في طبقاتها، مما يلمح إلى أن بعض بقايا أسلاف البشر ربما تكون قد انزلقت خارج سياقها الأصلي. لذلك، قد لا يكون من الممكن تحديد من صنع ماذا.
«ديني»، كما كانت تُلقَّب، هي الهجين الوحيد من الجيل الأول من أسلاف البشر الذي يُعثَر عليه على الإطلاق. كان الأمر مستبعدًا للغاية لدرجة أن الباحثين لم يصدقوه في البداية، والآثار المترتبة عليه مذهلة. افتُرِضَ أن التزاوج كان نادرًا، وأن الأدلة المباشرة ستظل كامنة إلى الأبد في الطبيعة الغامضة لأدلة جينية من أجيال عديدة مضت من العظام التي ندرسها. إن العثور فعليًّا على طفل من اتحاد بين نوعين مختلفين من أسلاف البشر يعني أنه لا يمكن أن يكون غير شائع.
في الواقع، احتوى حمض «ديني» النووي على بقايا المزيد من التزاوج بين الأنواع. كان واحد على الأقل من أسلاف والدها قد تزاوج مع النياندرتال أيضًا، وإن كان ذلك منذ آلاف السنين والعديد من الأجيال السابقة.
وفي مفاجأة أخيرة، لم يكن سلف النياندرتال القديم هذا من نفس المجموعة الجينية مثل والدة «ديني». كانت جزءًا من الغصين الشرقي من النسب الأوروبي، والذي عُثِر عليه أيضًا في أوكلادنيكوف. وعلى النقيض من ذلك، فإن النسل النياندرتالي في والد «ديني» يرتبط ارتباطًا أوثق بالغرب، بمجموعة إل سيدرون-فيلدهوفر-فينديا.
كل شيء في هذا الموقع الرائع يُوضح بشكل جليٍّ أن مجموعات أسلاف البشر هذه لم تكن ثابتة على الإطلاق، بل شهدت تغيرات كبيرة عبر الزمن. حتى إن الأبحاث الحديثة تشير إلى احتمال وجود مزيج من الأصول الوراثية في «كل» فرد من أسلاف البشر الذين عاشوا هناك. إذَن ما الذي يجعل كهف دينيسوفا استثنائيًّا للغاية؟ لم يُعثَر على أي أحافير أو حمض نووي للنياندرتال في أي مكان شرقًا من هذا الكهف، ولا على أي آثار للدينيسوفان غربًا منه. ربما كان هذا الكهف يقع حرفيًّا على حدود عالميهما.
يومًا ما عرفناك
هناك نوع آخر من أسلاف البشر كانت احتمالات صلاته الجينية بالنياندرتال موضوع تكهنات وخيال لأكثر من قرن؛ نحن. في عام ٢٠١٠، وبعد الكشف عن الدينيسوفان مباشرةً، جاء كشف ثانٍ: على عكس الحمض النووي الميتوكوندري، أظهر أول جينوم للنياندرتال أنهم ساهموا بشكل مباشر في أصلنا نحن البشر.
في حال عدم حدوث تزاوج، كان ينبغي أن يكون حمضهم النووي مختلفًا تمامًا عن الحمض النووي لكل إنسان على قيد الحياة، ولكن بدلًا من ذلك، كان لدى الأشخاص الذين يفتقرون إلى إرث أفريقي جنوب الصحراء الكبرى تطابقات أكبر بكثير مع النياندرتال. وكان التفسير الوحيد الموثوق هو أن بعض أفراد نوع الإنسان العاقل قد التقوا مع النياندرتال وتناسلوا معهم «بعد» تشتتهم من قارة أفريقيا.
أحدثت هذه الأخبار تحولًا هائلًا في فهم أصول الإنسان، وأثرت على العديد من الافتراضات الأساسية حول كلا النوعين. في البداية، افتُرض أن هذا التزاوج يجب أن يكون حديث العهد من الناحية الزمنية، وربما حدث في أوروبا قبل حوالي ٤٠ ألف سنة. وبعد مرور عقد من الزمان، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا، ومن المفيد أن نأخذ جولةً قصيرةً في التاريخ المبكر للإنسان العاقل.
على الرغم من وجود أسلاف البشر في أوراسيا قبل أكثر من مليون سنة، فإن أقدم أحافير للإنسان العاقل هي بالتأكيد أفريقية. ومع ذلك، فقد تم الآن تجاوز المفاهيم القديمة حول «مهد الإنسانية». تشير أحدث الأدلة الأحفورية والوراثية إلى أننا تطورنا من مجموعة سكانية فرعية متنوعة تشريحيًّا، ومتصلة عبر مناطق عديدة من القارة الأفريقية.
في الفترة الفاصلة والمهمة ما بين ٨٠٠ ألف إلى ٦٠٠ ألف سنة مضت، عندما انفصل أسلاف الدينيسوفان والنياندرتال عما سيصبح «نحن»، نجد أن السجل الأحفوري للأسف شحيح لدرجة محبطة. ولكن بعد ذلك يبدو أن السمات التشريحية المشتركة بين جميع البشر اليوم تطورت على مدى فترة طويلة، في مناطق أفريقية مختلفة. نما حجم الدماغ بسرعة من ٥٠٠ ألف سنة وما بعدها، لكن تطور الجمجمة والجسم كان أبطأ وأكثر تباينًا. امتلك سكان جبل إيغود، بالمغرب، الذين عاشوا قبل حوالي ٣٠٠ ألف سنة، بالفعل أدمغة كبيرة ووجوه مسطحة حديثة المظهر، لكن الأجزاء العلوية والخلفية من جماجمهم كانت أكثر بدائية. يعود تاريخ أقدم جماجم الإنسان العاقل، التي تشبه إلى حد كبير جماجم البشر الحاليين، إلى حوالي ٢٠٠ إلى ١٥٠ ألف سنة مضت في شرق أفريقيا، وفي نفس الوقت تقريبًا الذي كانت تتشكل فيه السمات التشريحية للنياندرتال «الكلاسيكي».
كان أحد أكبر التغييرات الحديثة هو اكتشاف المزيد والمزيد من العظام التي تشبه عظام الإنسان العاقل المبكر خارج أفريقيا. ومع أنه عُثِر على هياكل عظمية في كهفَي السخول والقفزة في الشرق الأدنى خلال الثلاثينيات من القرن الماضي وقُدِّر عمرها لاحقًا بما بين ٩٠ و١٢٠ ألف سنة، إلا أنها بدت وكأنها حالات شاذة. الوضع اليوم هو عكس ذلك تمامًا. في عام ٢٠١٨، تم تحديد عمر قطعة فك علوي من كهف ميسلية في جبل الكرمل بما يتراوح ما بين ١٧٧ إلى ١٩٤ ألف سنة، وهو رقم مذهل. وعلى الرغم من عدم اكتمالها، فإن هناك ما يكفي للتأكيد على أنها لا تخص أحد النياندرتال.
وفي العام التالي، أُعلِن عن تواريخ أقدم تصل إلى حوالي ٢١٠ آلاف سنة لجمجمة جزئية في كهف أبيديما باليونان، يُزعم أنها تعود للإنسان العاقل. ومع ذلك، فإن هذا الموقع معقد. حيث كان يمتلئ بئر في جرف بالرواسب المختلطة التي ربما جاءت من منحدر ضخم بجوارها، مما يعني أن المكان الذي أتت منه الجمجمة بالضبط غير واضح، وعلاوة على ذلك، يشير باحثون آخرون إلى وجود سمات تشبه النياندرتال.
من المؤكد أن هذا العمر الهائل وموقع الجمجمة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط يدلان ضمنيًّا على انتشار مبكر غير متوقع، على الرغم من أن السياق البيئي مشابه تمامًا لشمال أفريقيا. ومع ذلك، فقد أصبح واضحًا الآن أن الإنسان العاقل المبكر كان بالفعل على بعد آلاف الكيلومترات في شرق آسيا ربما قبل ١٠٠ ألف سنة، آخذًا في التكيف مع أنظمة بيئية مختلفة تمامًا. للوصول إلى الصين في وقت ما بين حوالي ١٢٠ إلى ٨٠ ألف سنة مضت، وسومطرة بحلول ٧٣ إلى ٦٣ ألف سنة مضت، والعبور إلى أستراليا على الأقل منذ ٦٥ ألف سنة، لا بد أنهم قد ساروا عبر جبال وصحاري وغابات؛ وربما ركبوا الأمواج أيضًا في قوارب.
لم يكن الكثير من هذا معلومًا في عام ٢٠١٠. في ذلك الوقت، كان يبدو وكأن الإنسان العاقل المبكر عاش في الشرق الأدنى في أماكن مثل كهف القفزة دون أن يتحرك لمسافات أبعد لعشرات الآلاف من السنين، ثم حل محله النياندرتال بعد ٩٠ ألف سنة. لم يتغير كل شيء إلا بعد ظهور أول جينوم للنياندرتال. والآن بعد ١٠ سنوات، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام.
يحتوي الحمض النووي الخلوي للنياندرتال على ومضات من لقاءات قديمة جدًّا، وتشير أبحاث حديثة العهد إلى أن التزاوج كان فعليًّا هو القاعدة «منذ القِدَم». تلقى أسلاف النياندرتال المشتركون مع الدينيسوفان — النياندرسوفان — الحمض النووي من إنسان أوراسي «قديم جدًّا» ربما كان موجودًا منذ مليون ونصف مليون سنة. وبعد انفصال الدينيسوفان، تظهر إشارات غامضة أخرى على اختلاط مبكر، هذه المرة مع الإنسان العاقل. يظهر ذلك في سلالات ألتاي والنياندرتال الأوروبية، مما يعني أنه حدث قبل انفصالهم العميق من حوالي ١٤٠ إلى ١٣٠ ألف سنة.
تحتاج هذه التكهنات إلى عينات مبكرة أكثر للتأكد مما حدث، ولكن يسهل تحديد التزاوج المتأخر. حدثت مرحلة الاتصال التي تركت على ما يبدو أكبر بصمة جينية فينا قبل ما بين ٧٥ و٥٥ ألف سنة. والجدير بالملاحظة أنه ينعكس بالفعل في الحمض النووي المستخرج من عظمة إنسان عاقل مبكر عُثر عليها بالقرب من نهر إرتيش، في منتصف سيبيريا في منطقة أوست-إيشيم. حمل قصبة الساق الجزئية يومًا ما وزن رجل من ٤٦٫٨ و٤٣٫٢ ألف سنة، والذي حمل آثارًا من أسلاف النياندرتال من تزاوج يعود إلى ٧٠٠٠ إلى ١٣٠٠٠ سنة قبل وفاته. وقد كشفت أبحاث لاحقة عن حلقتين مختلفتين من التزاوج: الأولى بين ٥٤ و٥٠ ألف سنة، والأخرى الأصغر بعد ٥ آلاف سنة على الأقل.
للوهلة الأولى، قد تتناسب المرحلة الأقدم مع الحسابات المستندة إلى جينوم النياندرتال، ولكن هناك مشكلة. لا توجد جينات نياندرتال متسلسلة حتى الآن تتطابق تمامًا مع الحمض النووي الموجود في البشر الأحياء. من المؤكد أنه لم يأتِ من سلالة ألتاي، ولكنه ليس أكثر تشابهًا مع كلٍّ من فينديا أو ميزمايسكايا ١ على الفرع الأوروبي. قد يعني هذا أن التزاوج مع المصدر الأساسي الذي كان له التأثير الأكبر علينا حدث في منطقة لم نحصل منها بعد على أي حمض نووي للنياندرتال.
يوحي هذا أيضًا بأن فرع النياندرتال قد انفصل عن شجرة عائلتنا البشرية قبل حوالي ٨٠ ألف سنة، وهو ما يتطابق مع الحسابات القائمة على الجينوم التي تستنتج أن التزاوج المشترك حدث قبل ما بين ٩٠ و٤٥ ألف سنة. وباستخدام الأدلة الأثرية، يمكننا تحديد الفترة بدقة أكثر لتكون «قبل» ٥٥ إلى ٦٠ ألف سنة، حيث إن السكان الأصليين الأستراليين اليوم يحملون جينات نياندرتال وكانوا موجودين بالفعل في أستراليا بحلول ذلك الوقت. وعند جمع كل هذه المعلومات معًا، يبدو أن مرحلتَي التزاوج الموجودتين في الحمض النووي لرجل أوست-إيشيم حدثتا في وقت متأخر جدًّا، فلا يمكن أن تكونا مسئولتين عن جينات النياندرتال الموجودة في البشر الأوراسيين المعاصرين.
تدعم بيانات أخرى احتمالية حدوث فترات تزاوج متعددة في وقت متأخر. فبدءًا مما قبل ٥٥ ألف سنة، يمكن أن نرى أن مجموعات الإنسان العاقل المبكر في أوراسيا قد انفصلت بالفعل إلى سلالات مختلفة. وعلى الأرجح، تأتي الكميات الأكبر من الحمض النووي للنياندرتال الموجود في بعض الناس اليوم من حلقات تهجين إضافية حدثت داخل بعض تلك السلالات، ثم انتقلت إلى آسيا وما وراءها.
نعلم الآن أيضًا أن التفاعلات ربما حدثت بالقرب من أوروبا. فبعد صدور نتائج رجل أوست-إيشيم مباشرةً، نُشر الحمض النووي لأحفورة أخرى لإنسان عاقل مبكر. مات هذا الرجل في كهف بيشتيرا كو أواسي في رومانيا، على بعد مئات الكيلومترات غربًا وذلك في الفترة ما بين ٤٢ و٣٧ ألف سنة مضت. وكان تراثه الجيني مذهلًا تقريبًا مثل تراث «ديني»؛ لأن نسبة الحمض النووي للنياندرتال فيه بلغت حوالي ١١ في المائة. وهذا يعني أنه كان له جد نياندرتالي خلال أربعة إلى ستة أجيال فقط.
تلك هي نفس الفجوة الزمنية الفاصلة بينك وبين العلماء من رواد عصور ما قبل التاريخ الذين شاهدوا جمجمة فيلدهوفر في ستينيات القرن التاسع عشر. ومثل رجل أوست-إيشيم، يبدو أن تراث رجل كهف أواسي يحتوي أيضًا على مراحل تزاوج متعددة، حدثت إحداها قبل حوالي ألفَي عام من وفاته.
ومع ذلك، هناك نمط غريب يبرز. لا تظهر «أي» علامات على وجود مساهمة جينية من الإنسان العاقل في النياندرتال اللاحقين، حتى أولئك الموجودين في فينديا الذين كانوا قريبين جغرافيًّا وكانوا أقدم قليلًا من رجل كهف أواسي.
لكن هذا يذكرنا بأن مواقع الأحافير اليوم ليست مؤشرات موثوقة على الأماكن التي حدثت فيها الأمور قبل عدة أجيال. ربما عندما قابل أحد أجداد رجل كهف أواسي القدامى النياندرتال، كانوا يعيشون في مكان أبعد بكثير شرقًا أو جنوبًا، وفي الواقع، لم تكشف الأحافير من الشرق الأدنى وآسيا الوسطى بعد عن أي حمض نووي. ومن المحتمل أيضًا أنه كنت هناك تعقيدات في عملية التكاثر، مما يجعل من المرجح رفض الحمض النووي الخاص بنا في النياندرتال المهجنين، أو اختفائه بشكل أسرع في مجموعتهم السكانية.
يُعرف عن العديد من الحيوانات أن لديها اهتمام جنسي خارج نطاق نوعها، بدءًا من الكلاب التي تتحرش بسيقان أصحابها وصولًا إلى الدلافين التي تصبح ودودة أكثر من اللازم مع السباحين. بين البشر، لا تُعتبَر مُواقَعَة الحيوانات أمرًا شائعًا، حيث يبلغ متوسطها نسبةً تتراوح بين ١٫٥ إلى ٤ في المائة من الناس، ولكنها منتشرة جغرافيًّا على نطاق واسع. تُعتبر سهولة الوصول إليها العامل الرئيسي، وهو ما يفسر سبب إمكانية ارتفاع المعدلات إلى الضعف في بعض المجتمعات الزراعية. ومع ذلك، تختلف الدوافع بشكل كبير حسب الثقافة والموقف الشخصي. في بعض مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار، يرتبط النشاط الجنسي بعوالم الأساطير حيث يعتبر صيد الحيوانات جزءًا من دورة الحياة والموت. ومع ذلك، لا يوجد عادةً اتصال جنسي مباشر مع الفريسة.
لا ينطبق أيٌّ من هذا حقًّا على النياندرتال والبشر. لقد سار النياندرتال منتصبين على قدمين، وحملوا الأدوات، وعلى الأرجح ارتدوا الملابس، وكان لديهم نوع من الكلام. من المستبعد جدًّا أنه لم يكن هناك اعتراف متبادل من كلا الطرفين بأن الطرف الآخر أمامه من البشر، وإن كان من صِنف جديد.
لا يوجد دليل واضح على «كيفية» حدوث اللقاءات الجنسية، بل فقط عواقبها. مع وضع فترات التزاوج المختلفة عبر مساحات شاسعة من الزمن والمكان في الاعتبار، لا بد أنه كان هناك العديد من الديناميكيات المختلفة. تشير بعض الأدلة في الحمض النووي إلى أن الاقتران ربما يكون قد اشتمل على رجال نياندرتال مع نساء الإنسان العاقل أكثر من العكس، لكن هناك تفسيرات أخرى ممكنة للبيانات.
في النظريات حول السياقات الاجتماعية وراء كل هذا، كان هناك ميل لافتراض الاغتصاب كآلية أساسية؛ بقايا غير سارة من الأيام التي اعتقد فيها علماء ما قبل التاريخ والجمهور أن النياندرتال وحوش أكثر من كونهم عشاقًا محتملين. تمارس ذكور الشمبانزي الجنس بالإكراه، ولكن ليس مع إناث غير معروفات (اللواتي يفضل الشمبانزي قتلهن). من الناحية النظرية، من المحتمل أن يكون «بعض» من ميراثنا النياندرتالي ناتجًا عن ظروف غير رضائية، ولكن رهاب الأجانب بدلًا من حب الأجانب لا يجب أن يكون الافتراض الأساسي.
ربما كانت علاقات العصر الجليدي المتأخر تشبه إلى حد كبير الطريقة التي تتعامل بها قردة البونوبو مع الوجوه غير المألوفة. البونوبو حيوانات ودودة بطبيعتها؛ فهي، على عكس الشمبانزي، تتثاءب بشكل مُعدٍ حتى عند مشاهدة الغرباء يتثاءبون، مثلنا تمامًا. إنها أكثر انفتاحًا على التفاعلات الإيجابية مع المجموعات الأخرى، وعلاوةً على ذلك، فإن دوريات حراسة الحدود الإقليمية وقتل أفراد المجموعات الأخرى أمور غير معروفة بينها. ربما ينبغي أن نتساءل لماذا يُنظر إلى فكرة الشركاء المتحمسين الذين تحركهم الرغبة وحتى الارتباط العاطفي على أنها قصة خيالية أكثر من تفسيرات أخرى.
ربما تكون الملاحظة الأكثر صلة هي حقيقة أنه بغض النظر عن كيفية الحمل بهم، فقد تمت تربية الأطفال الهجناء ليبقوا على قيد الحياة. يُفترض أن الرضيعة في أغلب الأحيان كانت تبقى مع والدتها، وكان يتم إطعامها وتنظيفها وتدفئتها؛ كانت تتلقى الحب. نشأ هؤلاء الأطفال من تراث مختلط، وفهموا الثقافات التي ولدوا فيها، وأنجبوا أطفالهم.
الموروثات
إن موروثات أولئك الأطفال الذين أصبحوا آباءً ثم أجدادًا عدة مرات هي أن خُمس — وربما ما يصل إلى نصف — الوصفة الوراثية الرائعة التي تجعل النياندرتال «نياندرتالًا» ما زالت قائمة اليوم. وفي حين أن ٢ إلى ٣ في المائة فقط من جينوم أي شخص حي هي من النياندرتال، فإنها لا تزال تمثل مقدارًا كبيرًا. هل يمكننا تتبع الآثار البيولوجية، أو حتى النفسية، لاستيعاب موروثهم؟
مع أن كمية الجينات التي ورثناها من النياندرتال قليلة جدًّا، ومن المؤكد أن عملية الانتقاء الطبيعي استبعدت جزءًا كبيرًا منها في كل عملية تهجين، فإن جينات النياندرتال (والدينيسوفان) تشكل نسبة كبيرة من الجزء «الفعال» الصغير من جينومنا. ومن المحتمل جدًّا أن يكون بعضها قد أفادنا.
هذا مجال علمي متطور للغاية؛ ولذلك لا تزال معرفتنا الحالية بما يعنيه هذا لأجسامنا وصحتنا وحتى عقولنا غير مكتملة. أشارت دراسات ربطت بين السلالة النياندرتالية في الحمض النووي للأفراد وسجلاتهم الطبية إلى وجود صلة بمشاكل الجهاز الهضمي والتهابات المسالك البولية ومرض السكري وفرط تخثر الدم.
من المغري اختلاق تفسيرات تطورية لهذه الأمراض، لكن الباحثين لا يزالون في مستهل فهم كيفية عمل جينات معينة فينا، ناهيك عن الكيفية التي كانت تعمل بها النسخ القديمة منها. ومن المهم أيضًا ألا ننسى أنه، مثلما حدث مع جينومنا الخاص، نُسِخَ العديد من جينات النياندرتال عشوائيًّا وكانت تأثيراتها محايدة على الأرجح.
ومع ذلك، قد تكون هناك بعض الحالات التي تكون فيها الجينات التي ورثناها منطقية فيما يتعلق بالعالم الأوراسي غير المألوف الذي دخله الإنسان العاقل. بلا شك، كانت الجماعات المشتتة ستواجه مسببات أمراض جديدة: ليس فقط الأمراض، ولكن أيضًا البكتيريا. يبدو أن الأشخاص الأحياء ذوي الأصول المزدوجة من النياندرتال والدينيسوفان قد «فضَّلوا» النسخة النياندرتالية لبعض الجينات المسئولة عن دفاعات الجلد ضد الالتهابات. وبالمثل، فإن الجين الذي يحمينا من البكتيريا المسببة لقرحة المعدة جاء من كلٍّ من النياندرتال والدينيسوفان، لكن الأشخاص الذين يحملون نسختين نياندرتاليتين يتمتعون بمقاومة إضافية.
طرحت أوراسيا تحديات أخرى أمام الإنسان العاقل الذي لم يتكيف لمئات الآلاف من السنين مع مستوياتها الأقل من الأشعة فوق البنفسجية وظلام الشتاء الموسمي. يتشارك كلٌّ من سكان شرق آسيا والأوروبيين في نسخ النياندرتال من الجينات المرتبطة بالكيراتين والتي تشكل الشعر والأظافر والجلد. ومن المحتمل أنها كانت أكثر فائدة من الأشكال التي طورناها في البيئات الاستوائية. ولكن من ناحية أخرى، كان للنياندرتال تصبغ متنوع للشعر والبشرة؛ لذلك لا بد أن الأمور كانت معقدة. تعد جينات ساعة الجسم منطقة أخرى احتفظنا فيها بنسخ النياندرتال، ومن المرجح أن يرتبط ذلك بحقيقة أن الإيقاعات اليومية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بطول النهار ومستويات الضوء. ربما نقل النياندرتال شيئًا ما ساعد الإنسان العاقل على تعلم التعامل مع فصول الشتاء الطويلة والمظلمة جدًّا.
ربما كان التكيف مع المناخات الأكثر برودة مشكلة كبيرة، وحتى لو كانت الأجسام محمية بالملابس، فربما ساعدتنا جينات النياندرتال أيضًا. يرتبط جزء من إرثهم الباقي في جينومنا بعملية التمثيل الغذائي، وبالتبعية بالكفاءة الحرارية. يؤثر أحد الجينات على كيفية انتقال الدهون إلى الخلايا، مما يتسبب لحامليه اليوم في خطر أعلى للإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. ولكن في مجتمعات الصيادين-جامعي الثمار، ربما ساعد ذلك في إدارة الطاقة والتعامل مع حالات المجاعة. يمكن أن يفسر شيء مشابه أيضًا الجينات التي تعزز السمنة، وجينًا آخر مرتبطًا بالإدمان. في الماضي، ربما كان من المفيد تشجيع استهلاك الأطعمة الغنية بالدهون التي تمنح شعورًا بالرضا.
أجزاء كبيرة من جينومنا ليست لها مساهمات إنسان نياندرتال، مما قد يعني أن ما كان لدينا كان بالفعل يستحق الاحتفاظ به. هل كان هذا لأن نسخ النياندرتال كانت سيئة لهم أيضًا؟ عمومًا، لا يبدو حمضهم النووي أكثر مراوغةً، ولكن تم تحديد بعض المتغيرات الأكثر خطورة.
تتعلق إحدى الحالات بالتلوث. تخبرنا المواقد وحتى الفحم الدقيق في جير أسنان النياندرتال أنهم عاشوا أحيانًا في مواقف مليئة بالدخان. إن حدوث طفرة في جميع الأحياء يجعلنا أقل عرضة بنسبة تتراوح بين ١٠٠ إلى ١٠٠٠ مرة للدخان وتسمم الطعام المتفحم. ونظرًا إلى أن استنشاق الدخان من النيران المكشوفة أو المواقد ذات التهوية السيئة هو السبب الرئيسي لوفاة الأطفال دون سن الخامسة على مستوى العالم، فهذه ليست مشكلة صغيرة.
لكن نظرًا إلى أن علماء الوراثة أمضوا عقودًا في التعلم، فإن الحمض النووي لا يتصرف بطرق بسيطة. غالبًا ما تشبه الجينات الأعشاب أو التوابل في الوصفة، فتتنوع نكهاتها اعتمادًا على المكونات الأخرى وطريقة الطهي. ومع تقدم الأبحاث حول كيفية عمل جينات البشر، سنكون قادرين على سرد المزيد من القصص الدقيقة حول موروثات النياندرتال في أجسادنا.
وينطبق الشيء نفسه على العقول. لطالما كان تحديد علامات الحمض النووي للاختلافات المعرفية في النياندرتال هدفًا رئيسيًّا لعلم الوراثة القديم. هل من المحتمل أنه حدثت حقًّا «لحظة تنوير» عندما أدت طفرة جينية جديدة أو تضافر ما إلى زيادة كبيرة في ميول الإنسان العاقل نحو تقاليد فنية أكثر موثوقية، أو عمليات دفن أكثر بهرجة؟ مرة أخرى، الواقع غير مؤكد على نحو غير مريح. تشارك بعض جينات النياندرتال التي ورثناها في وظائف الدماغ الأساسية مثل إدارة الطاقة، لكن الاختلافات المعبر عنها اجتماعيًّا هي القضية الأساسية. قد يعاني الأشخاص الذين لديهم جينات معينة من النياندرتال من معدلات أعلى من اضطرابات المزاج أو الاكتئاب، ومع ذلك فإن التأثير ضئيل من الناحية الإحصائية، ولا نعرف ما إذا كانت هذه الجينات تعمل بشكل مطابق في الماضي.
تحظى النسخ النياندرتالية للجينات التي تؤثر على بنية الدماغ باهتمام خاص. يبدو أن بعضها يشارك في توسيع مؤخرة الجمجمة، وبناء كميات أكبر من مادة الدماغ وطيات سطحية أكثر كثافة. إذا كانت النسخ النياندرتالية لا تزال موجودة في البشر اليوم، فإنها إما لم تؤثر على بقاء الهجناء وذريتهم، أو أنها كانت مفيدة بالفعل.
ترتبط مناطق أخرى من أدمغتنا من تلك «التي تأثرت بجينات النياندرتال» بعمليات التفكير المتقدمة بشكل أكبر، بما في ذلك تعلم تسلسلات تحركات الأصابع، بالإضافة إلى تصور وحساب الكميات والأرقام النسبية. فجأة، بدأت تلك التسلسلات المنقوشة من الخطوط والنتوءات على عظام مختلفة تبدو أكثر أهمية بكثير.
وعلى الجانب الآخر من التزاوج، كان من المفترض أن تنتقل بعض جينات الإنسان العاقل المبكر إلى النياندرتال أيضًا. ومع ذلك، ليس لدينا معلومات عن هذا الأمر حاليًّا؛ لأنه لا يوجد أي جينوم نياندرتال متأخر يُظهر أي مساهمة من الإنسان العاقل. تؤكد هذه الحقيقة على مدى أهمية كل جينوم ودراسة مختبرية جديدة، ويجري العمل على توسيع العينات.
ما أهمية التزاوج الداخلي؟ لا تؤدي الاقترانات الوثيقة جدًّا في بعض الأحيان إلى زيادة كبيرة في المخاطر الصحية، ولكن على المدى الطويل يمكن أن تؤدي إلى تركيز الطفرات الضارة، وتزيد من مشاكل مثل ضعف المناعة. معظم ثقافات الإنسان العاقل، التاريخية والحالية، لديها تحريم للاقتران بشكل وثيق مع الآباء والأمهات، ويبدو أن أنواعًا عديدة من الحيوانات تتبع قواعد مماثلة.
لكن الصورة تغيرت مع وجود المزيد من البيانات. عندما تم عمل تسلسل الجينوم ذي التغطية العالية من فينديا، لم يكن به علامات مهمة للتزاوج الداخلي في الأجيال السابقة، ولم يكن والدا هذا الفرد من الأقارب القريبين. وهذا يعني أن حدوث التزاوج الداخلي، وحتى زنا المحارم، لم يكن العرف المتبع عند النياندرتال، بل على الأرجح كان بسبب قلة الخيارات وليس تفضيلًا. كما كشف جينوم فينديا أنه لم تكن كل مجموعات النياندرتال اللاحقة تتقلص، وستتضاعف تقديرات السكان للنياندرتال الأوائل إذا لم يكن الحمض النووي الميتوكوندري من هولنشتاين-ستادل مستوردًا من تزاوج قديم للغاية مع الإنسان العاقل.
كشفت أحدث الدراسات عن مزيد من التعقيد. في عام ٢٠٢٠، لم يُظهر الجينوم ذو التغطية العالية من تشاجيرسكايا، في سيبيريا، أي تزاوج داخلي بين أقارب، ولكنه جاء من مجموعة سكانية تناسلية صغيرة مثل امرأة ألتاي القريبة نسبيًّا، بمتوسط حوالي ٦٠ فردًا لعدة أجيال. في تناقض صارخ، يحتوي الجينوم الأقدم للإنسان العاقل من أوست-إيشيم على حمض نووي أكثر تنوعًا من أي إنسان نياندرتال أُخذت عينات منه حتى الآن. هذا يعني أن الترابط بين الشبكات الاجتماعية للإنسان العاقل ربما كان مختلفًا منذ البداية.
•••
إن الثورة التي شهدها فهمنا للنياندرتال بفضل تحليل الحمض النووي القديم خلال عشر سنوات فقط مذهلة. لطالما أشارت القطع الأثرية إلى انقسامات عميقة داخل مجتمعاتهم، لكن علم الجينات فتح عالمًا تحرك فيه أفراد من سلالات نياندرتال مختلفة عبر القارات. لم يكن الإنسان العاقل وحده هو المستكشف.
وتأتي النتيجة الأكثر جذرية من إدراك أن جوهر النياندرتال لا يزال باقيًا على المستوى الخلوي، ويسري في عروقنا، وربما يتطاير مع الريح في شعرنا. لا يؤثر إرثهم فقط على ما نحن عليه، بل على «من» نكون أيضًا. ومع ذلك، لم نتمكن حتى الآن من تحليل الحمض النووي إلا لأقل من ٤٠ فردًا من النياندرتال — ولدينا فقط ٣ عينات جرى تحديد تسلسل جينومها ذي التغطية العالية — من بين «آلاف» الأجزاء الهيكلية الموجودة في المتاحف والتي تمثل مئات الأفراد. من المؤكد أن العَقْد المقبل سيشهد الباب ينفتح على تاريخهم وطبيعتهم البيولوجية المعقدَين وهو ما نلقي عليه الآن نظرة خاطفة. ستتلقى بعض الأسئلة، مثل تواتر التزاوج بين النوعين، إجابات أكثر دقة، لكن البعض الآخر، مثل من قام بتربية الأطفال المهجنين، يتطلب دمجًا مع علم الآثار. ومع ذلك، فإن ما هو أوضح من أي وقت مضى هو أن «نهاية» النياندرتال كانت عملية شملت استيعابًا جسديًّا وثقافيًّا على الأرجح.