الخواتيم
ومضة شمس، وخفقة ذيل. ينتقل الوزن من حافر إلى آخر. تغلفهم رائحة العرق الهادئة للقطيع، وتحدق كل عين عبر الوادي الضيق نحو الجبال البيضاء الشامخة شرقًا. تتصاعد وتنخفض حركات نبضية صغيرة عند ملاحظة أي ظلال أو أصوات. تنخفض الرءوس مجددًا، وتلعق ألسنة ثيران البيسون الندى، وتمتد لتأكل حزمًا كبيرة من النجيل والأعشاب التي تُطحَن ببطء. تداعب تموجات الدخان حواف المرجة، وتنفصل بفعل إبر الصنوبر في طريقها إلى أسفل التل، وتتمدد بسبب النسيم حتى تكاد تختفي جزيئات السخام تمامًا.
لكن هذا يكفي؛ تنتفخ المناخير، وتتسع حدقات العيون، وتتيبس الأجساد، وتنطلق سلسلة من الشخير المتقطع. تلتف الذيول إلى أعلى، وتلوح باضطراب بينما تظهر أشكال من بين الأشجار. يقف القطيع راسخًا في مكانه، مطمئنًّا إلى بعد المسافة. لكنه لم يرَ طوال القامة هؤلاء من قبل، بروائحهم وألوانهم الجديدة. ينتشر الناس ببطء على طول المرجة ذات الشجيرات على حافتها، بينما تراقبهم ثيران البيسون، مبدية التشكك. هذا ليس من طبائع الأمور. تمتد لحظة من السكون؛ ثم ترتفع الأذرع المتوترة، وتتحرك بسرعة، ويطير كالطيور سرب من الأسلحة النحيلة كالبوص، تحمل الموت على أجنحتها. تغوص رءوس حجرية مدببة صغيرة عمق ذراع في بطون، ورقاب مغطاة بالفراء، ثم تتعثر الحوافر، وتنهار الجوانب. تتشتت ثيران البيسون غير المصابة، وقلوبها تكاد تصطدم بأضلاعها، بينما تُقَطَّع نفس تلك الأجزاء من أقاربهم على عشب المرجة الملطخ بالدم. وسرعان ما يترك هؤلاء الناس الجدد المكان مع حلول الغسق ومعهم طريقتهم الجديدة في الصيد والخوف.
لطالما تخيلنا «آخر إنسان نياندرتال» روحًا وحيدة، يمثل موته انقراض النوع في نقطة واحدة في الزمان والمكان. وعلى الرغم من أننا نعلم اليوم أنهم حققوا نوعًا من الخلود الجزئي على المستوى الخلوي، فإن اختفاءهم من السجل الأحفوري والأثري حقيقي. الأمر الذي ما زلنا لا نفهمه هو كيف تترابط هذه الحقائق. يمثل العثور على إجابات تحديًا كبيرًا: عظام أسلاف البشر نادرة، وعلى الرغم من الكثير من أوجه التقدم في التأريخ، فإن أعلى دقة لقياسات الكربون المشع الفردية تبلغ حوالي ٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ عام، وهو ما يتجاوز بكثير السجلات الزمنية للأجيال التي نتحرى عنها.
هذا فيما يتعلق ﺑ «متى»؛ فماذا عن «أين»؟ تاريخيًّا، كان يُعتقد أن أوروبا هي موطن النياندرتال ومكان صمودهم الأخير. لكن نطاقهم الحقيقي أكبر بكثير؛ فكهف دينيسوفا أقرب إلى عاصمة منغوليا أولان باتور بأكثر من الضعف من لو موستييه في فرنسا. وبينما لا يوجد فيه دليل على وجود نياندرتال متأخرين، تشير مواقع أخرى من المنطقة إلى أنهم نجوا حتى وقت متأخر تقريبًا كما هو الحال في أوروبا.
قد يكون دينيسوفا أقصى موقع معروف في الشرق فيما يخص النياندرتال، ولكن ربما لم تكن هناك حدود فعلية. كانت السهوب وغابة التايجا التي امتدت بين بلجيكا وبيرينجيا — المساحة الشاسعة من الأرض التي تربط شمال آسيا بألاسكا — بيئة كانوا متأقلمين عليها بشكل كبير، وفيما بين ما قبل ٦٠ و٤٥ ألف سنة كان سكانهم في أوروبا يتوسعون بالتأكيد، بما في ذلك إعادة استعمار بريطانيا.
وربما كان هناك أيضًا اندفاع نحو أفق الشرق، وربما وقفت أقدام النياندرتال ذات يوم على شواطئ المحيط الهادئ. يُظهِر الاختلاط المتكرر مع الدينيسوفان أن وجود أشباه بشر آخرين في شرق آسيا لم يكن بالضرورة عائقًا أمام الحركة. كما يرى بعض الباحثين سمات تشبه النياندرتال في بعض بقايا أسلاف البشر الصينيين، على الرغم من أنها تشبه بطرق أخرى الإنسان العاقل المبكر. علاوةً على ذلك، بجانب تقنية ليفالوا العامة، فإن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن شخصًا من نحو ٤٧ و٤٢ ألف سنة مضت في كهف جينسيتاي في الصين كان يصنع أدوات تشبه إلى حد بعيد مجموعات سيبيرياتشيخا من تشاجيرسكايا ومواقع نياندرتال الأخرى على بعد حوالي ٢٥٠٠ كيلومتر (١٥٥٠ ميلًا) غربًا في ألتاي. ليس من غير المعقول تمامًا أن نتصور أن آخر أنفاس ملأت رئتي إنسان نياندرتال لم تُستَنشَق في الطرف الجنوبي لأوروبا، بل في مكان ما في منطقة وسط أو شرق آسيا الشاسعة.
تخبرنا آخر بقايا نياندرتال واضحةٍ بالكثير، ولكن هل هناك أي حالات لأحافير هجينة؟ خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وقبل ظهور الأدلة الجينية على التزاوج بين الأنواع، ناقش الباحثون ما إذا كانت بعض عظام النياندرتال الأحدث من ٥٠ ألف سنة تبدو أقل كثافة في بنيتها. حتى إنه كانت هناك ادعاءات بوجود سمات تشبه الإنسان العاقل: دلائل على ذقون بارزة أو جماجم أكثر استدارة. يُعد موقع فينديا أحد المواقع التي نُظِر إليها بهذه الطريقة، إلا أن الجينوم أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه نياندرتال بالكامل.
كما ناقشنا في الفصل الرابع عشر، فإن نطاق الزمان والمكان الذي كان من الممكن أن يحدث فيه التزاوج توسع بشكل كبير أيضًا، مما يجعل من غير المحتمل أن يكون النياندرتال الأوروبيون المتأخرون هم المرشحون الوحيدون لإظهار سمات هجينة. تبدو منطقة الشرق الأدنى منطقة اتصال منطقية، كونها تقع جغرافيًّا بين أوروبا وأفريقيا، ولكن إثبات وجود النياندرتال هناك في نفس الوقت الذي وُجد فيه الإنسان العاقل المبكر يعتبر أمرًا صعبًا. بين ٢٠٠ و٩٠ ألف سنة مضت، ربما يكونون قد تناوبوا على الوجود، لكن جمجمة إنسان عاقل جزئية من كهف مانوت في إسرائيل يعود تاريخها إلى ما قبل ٥٥ ألف سنة تدل على أن النياندرتال اللاحقين في كهف العامود وأماكن أخرى كانوا معاصرين تقريبًا لأولئك السكان.
في الواقع، على الرغم من أن جمجمة مانوت تشبه إلى حد ما الإنسان العاقل من العصر الحجري القديم الأعلى من أوروبا، فإنها تحتوي أيضًا على عقدة قذالية؛ وهي إحدى النتوءات الموجودة فوق الرقبة والتي تُشاهد أحيانًا في البشر المعاصرين والقدماء، ولكنها توجد في جميع النياندرتال تقريبًا. لا يمكن استنباط أي شيء أكثر من ذلك حتى يصبح استخراج الحمض النووي من أحافير الشرق الأدنى ممكنًا؛ فالمناخ الحار يجعل الأمر أكثر صعوبة.
في الوقت الحالي، يظل فك أواسي هو الأحفورة الوحيدة الموجودة «في أي مكان» الممثِّلة للتزاوج المتأخر. ومع ذلك، نظرًا إلى أن هذا التزاوج حدث قبل ولادة صاحبه بستة أجيال على الأقل، فإن كيفية تجليه جسديًّا ستكون مخفَّفة.
كانت العظام والجينومات في طليعة الأبحاث الحديثة حول آخر النياندرتال، ولكن هل كان الحمض النووي الشيء الوحيد الذي تبادلوه مع أسلافنا؟ تختفي أيضًا الطبقات التي تحتوي على مجمعاتهم التقنية المميزة بين ٤٥ و٤٠ ألف سنة مضت. ما يأتي بعد ذلك ربما يكون قد تسبب في أكثر المناقشات إثارةً للجدل على الإطلاق. في أنحاء أوروبا وغرب آسيا توجد مجموعة من التجمعات الغريبة فوق آخر طبقات نياندرتال المعروفة. يبدو أنها تجمع بين تقنيات العصر الحجري القديم الأوسط القائمة على الرقائق مع تركيز أكبر بكثير على نمط العصر الحجري القديم العلوي في الشفرات والشفيرات. بالإضافة إلى ذلك، هناك أدوات مشَكَّلة أكثر بكثير مصنوعة من العظام والقرون والعاج.
كما اتضح في الفصل السادس، كان النياندرتال يعرفون بالطبع كيفية صناعة الشفرات والشفيرات، لكنها لم تكن أبدًا محور تركيزهم الرئيسي، وبالمثل، فإن الأدوات العظمية المشَكَّلة نادرة جدًّا. علاوةً على ذلك، تحتوي الثقافات الوسيطة أيضًا على أشياء رمزية بلا جدال تشمل أحجارًا مثقوبة وأسنان حيوانات وكذلك حلقات منحوتة غريبة.
تختلف التسلسلات الزمنية الدقيقة جغرافيًّا: أقدم التواريخ تأتي من الأطراف الشرقية لأوروبا من حوالي ٤٥ ألف سنة، ولكن في أطرافها الغربية تكون أحدث قليلًا، وتستمر حتى ما قبل حوالي ٤١ إلى ٤٠ ألف سنة. لكن من الناحية الطبقية، لا يبدو أن هناك تداخلًا. داخل أي موقع، تكون التجمعات الأثرية من العصر الحجري القديم الأوسط دائمًا أسفل المجموعات الوسيطة، والتي عادةً ما تتبعها بعد ذلك طبقات العصر الحجري القديم الأعلى. يبدو أن الثقافات الأثرية الوسيطة تتربع كفترات مؤقتة عابرة بين عهد النياندرتال وعهد الإنسان العاقل. وبسبب تمايزها الواضح كان علماء ما قبل التاريخ يميلون إلى تسميتها بمجموعة متنوعة من الأسماء، غالبًا تبعًا لموقع النسق. فهناك الثقافة السيليتية في المجر، والبوهونيسية في جمهورية التشيك، واليولوزية في إيطاليا، والباتشوكيرية في بلغاريا، والثقافة اللينكومبية-الرانيسية-الجيرزمانوفيشية المجمعة التي حُدِّدَت في بريطانيا وبلجيكا وأوروبا الشرقية.
السؤال المهم هو من صنع هذه الأدوات؟ لقد أنتجت الثقافة الأوريجناسية البدائية، التي تلي الثقافات الوسيطة في أوروبا، حمضًا نوويًّا ميتوكوندريًّا للإنسان العاقل من ضرس عُثر عليه في موقع فوماني. لكن بقايا الهياكل العظمية نادرة جدًّا قبل ذلك، والمزعج أن العديد من المواقع الرئيسية إما جرى التنقيب فيها منذ أكثر من ٤٠ عامًا، أو بها علامات واضحة على التشويش أو الاختلاط بين الطبقات. ومع ارتقاء فهم التاريخ الأحفوري، أصبح من الواضح احتمال حدوث تحول للرواسب بسبب التجمد والذوبان داخلها؛ ولذلك فإن فهم ما تعنيه هذه الثقافات حقًّا يتطلب سياقات أثرية ذات سلامة استثنائية، ومجموعة من أساليب التحليل العالية الدقة.
كانت الثقافة الشاتيلبيرونية من فرنسا وشمال إسبانيا واحدة من أولى الثقافات الوسيطة التي جرى التعرف عليها. كشفت أعمال السكك الحديدية في منتصف القرن التاسع عشر بين منجم فحم ومصنع صهر عن أحافير وقطع أثرية في موقع جروت دي فيي، بالقرب من شاتيلبيرون، بوسط فرنسا. وعلى مدار القرن التالي، صُنِّفَت معًا مجموعات مشابهة في مواقع أخرى، ولكن كان يُفترض أن النياندرتال كانوا أقل ذكاءً من أن ينتجوا الشفرات أو الأدوات المصنوعة من العظام التي كانت تلك المواقع تحتوي عليها.
ثم جاء اكتشاف مذهل. في منتصف الطريق تقريبًا بين بواتييه وبوردو، كان مزارعو الفطر يعملون على تجويف منحدرات روش-آ-بييرو بأنفاق. كشفت أعمال البناء عن شيء أثمن بكثير من الفطر: رواسب أثرية تحت ملجأ صخري منهار. بدأت أعمال التنقيب المحترفة، وفي عام ١٩٧٩، وبشكل غير متوقع تمامًا، ظهرت عظام النياندرتال مما بدا وكأنه طبقة شاتيلبيرونية.
في الوقت الحالي أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا. اكتُشِف الآن ما يقرب من ١٠٠ موقع من مواقع الثقافة الشاتيلبيرونية، تمتد من حوض باريس إلى شمال إيبيريا، ويعود تاريخها إلى ما بين ٤٤ و٤١ ألف سنة مضت. في فرنسا، تظهر هذه الطبقات مباشرةً بعد أحدث طبقات العصر الحجري القديم الأوسط، ولكن في جنوب جبال البرانس يبدو أن هناك فجوة تقدر بنحو ٢٥٠٠ سنة قبل ظهورها. وبغض النظر عن الموقع، كان هذا العصر قصيرًا، واستمر ربما لمدة ألف عام في أي منطقة معينة؛ وهي نفس الفترة الزمنية الفاصلة بينك وبين ظهور العملات الورقية الأولى.
والأهم من ذلك هو أن عمليات التنقيب في مواقع جديدة دون مشاكل من ناحية التاريخ الأحفوري كشفت عن صورة ثقافية مختلفة إلى حد ما. لا توجد رقائق وأدوات من العصر الحجري القديم الأوسط إلا في مجموعات شاتيلبيرونية من الأحافير القديمة أو الأماكن التي توجد بها علامات التشوش. وهذا يعني أن الطابع «الانتقالي» الواضح في التقنية لا يحظى بدعم كبير.
تُظهِر الدراسات التفصيلية لهذه الطبقات الشاتيلبيرونية «النظيفة» أنها كانت حقبة سيطرت فيها التقنية الصفائحية. حيث أُعيد تهذيب الشفرات من جانب واحد مقابل الحافة الحادة لصنع رءوس مدببة شاتيلبيرونية، وكان صانعوها يتمتعون بدرجة عالية من الانتقاء: كانوا يرفضون الشفرات التي لا تفي بالمواصفات من حيث الحجم. الموقع الرئيسي لهذه الأدوات هو ملجأ كينساي الصخري، الذي يبعد حوالي ١٠٠ كيلومتر (٦٠ ميلًا) شمال غرب روش-آ-بييرو. فمن بين أكثر من ٤٥٠ نواة صخرية، كان أقل من ١ في المائة منها يحمل ندبات تشظيف. وأكدت عملية إعادة تركيب القطع على هيمنة إنتاج الشفرات المسطحة، والتي كان المقصود منها على وجه التحديد إعادة تهذيبها وتحويلها إلى رءوس مدببة، والتي عُثِر على أكثر من ٣٠٠ منها.
تظهر المواقع الشاتيلبيرونية المفتوحة نفس الشيء. تتميز منطقة كانول ٢، بالقرب من بلدة برجراك، بانفصال واضح عن آثار العصر الحجري القديم الأوسط. لقد كانت ورشة عمل للإنتاج الضخم، تحتوي على آلاف القطع الأثرية شبه البكر من طبقة رقيقة جدًّا. أُعيد تركيب ما يقرب من ثلثها، ومرة أخرى كانت الفراغات النصلية المتخصصة للحصول على الرءوس المدببة هي الهدف بلا شك.
الأهم من ذلك، لا تتوافق التقنية الصفائحية الشاتيلبيرونية مع الطريقة التي كان يصنع بها النياندرتال الشفرات أو الشفيرات، بل تشبه إلى حد كبير أساليب المرحلة الأوريجناسية البدائية. في بعض الأحيان، كانت نفايات التشظيف الناتجة عن تحضير أو صيانة أنوية الشفرات تُستخدم بشكل اعتيادي، بل وفي بعض الأحيان كان يُعاد تهذيبها. ولكن على عكس النياندرتال تمامًا، لم يكن لدى الشاتيلبيرونيون أي اهتمام «منهجي» بإنتاج الرقائق.
رأى بعض الباحثين أوجه تشابه بين الأدوات التي تسمى «السكاكين ذات الظهر» الموجودة في بعض التجمعات الأثرية ذات الوجهين والقرصية، واقترحوها باعتبارها دليلًا على «سلالة» تقنية مباشرة للرءوس المدببة الشاتيلبيرونية. لكن آخرين لاحظوا أن السكاكين ذات الظهر مختلفة تمامًا من الناحية التقنية، حيث تتشكل ندوبها المتوازية الشبيهة بالشفرة عن طريق الصدفة عند تشذيبها عبر سطح أنوية الرقائق. والأكثر من ذلك، أنه يوجد في عدد من المواقع مرحلة ليفالوا نهائية من العصر الحجري القديم الأوسط بين طبقات السكاكين ذات الظهر والطبقات الشاتيلبيرونية. وهذا يعني وجود فاصل زمني كبير، مما يجعل الاتصال المباشر أقل معقولية.
حتى اليوم لا يزال موقعا سان سيزير وآرسي-سور-كيور هما الموقعان «الوحيدان» المرتبطان بالنياندرتال واللذان ينتميان إلى الثقافة الشاتيلبيرونية، أو إلى أي ثقافة انتقالية أخرى على الإطلاق. وعلى الرغم من طرق التحديد الجديدة باستخدام الحمض النووي، فكلا الموقعين يطرحان إشكاليات كبيرة. جرى التنقيب في موقع جروت دو رين منذ أكثر من ٣٠ عامًا بممارسات جيدة مقارنةً بذلك الوقت، لكنها افتقرت إلى تسجيل دقيق للموقع ودراسات للرواسب. هذا يعني أن شظايا الهياكل العظمية لما لا يقل عن ستة من النياندرتال لم يُسجل منها سوى الطبقة والمربع الشبكي. وُجد معظمها بالقرب من قاع الطبقة الشاتيلبيرونية، لكن البعض الآخر جاء من مستويات أعلى، وهو ما فُهِم على أنه يُشير إلى وجود النياندرتال خلال المدة الزمنية الكاملة لهذه الطبقة.
ومع ذلك، بالإضافة إلى وجود كتل حجرية وأدوات تعود تقنيًّا إلى العصر الحجري القديم الأوسط في مناطق مرتفعة داخل الطبقة الشاتيلبيرونية، توجد أيضًا سكاكين شاتيلبيرونية ومخاريز (أدوات ثاقبة منحوتة) عظمية في الطبقة الأساسية التي تعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط. يشير هذا بقوة إلى حدوث اضطراب أو تحركات بين طبقتَي الرواسب. وبينما ظلَّت عمليات إعادة تركيب الأدوات الحجرية محدودة حتى الآن، إلا أنها حددت تحرك الشظايا أيضًا لمسافة عشرات السنتيمترات بين الطبقات الشاتيلبيرونية المختلفة. علاوةً على ذلك، أنتج تأريخ الكربون المشع نتائج قديمة بشكل شاذ — أقدم من ٤٨ ألف سنة — من مستويات متقدمة داخل الطبقة الشاتيلبيرونية.
إجمالًا، يحتوي موقع جروت دو رين على أدلة مقلقة على حدوث تحركات لأشياء مختلفة داخل الطبقات الحاسمة وعبرها. استخدمت أحدث الأبحاث تقنية «تحليل دراسة بقايا الحيوانات بواسطة قياس الطيف الكتلي» للتعرف على المزيد من بقايا النياندرتال، بما في ذلك الرضيعة التي كانت قد ذُكرت سابقًا، ويعود تاريخ تلك البقايا إلى حوالي ٤٢ ألف سنة مضت. قد ترتبط هذه العظام الجديدة بتلك المعروفة بالفعل من رضيع، بما في ذلك الجمجمة والفك العلوي وأجزاء الجسم العلوية، مما قد يعني تشوُّشًا ضئيلًا نسبيًّا. ولكن بالنظر إلى الأدلة الأخرى على تحرك الأشياء، فليس من المستبعد تمامًا أن تكون عظام النياندرتال قد اختلطت لأعلى من سياقها الأصلي في العصر الحجري القديم الأوسط.
في حين يُقترح أن الشاتيلبيرونيين أنفسهم ربما يكونون قد تسببوا في هذه المشكلة عن طريق الحفر، إلا أن العمليات الجيوحرارية الناجمة عن تجميد الرواسب يمكن أن تحرك الأشياء أيضًا لأكثر من ١٫٥ متر (٥ أقدام) عموديًّا، وهناك أدلة كثيرة على أن الثقافة الشاتيلبيرونية حدثت خلال فترة باردة قاسية بشكل استثنائي. إن أكثر ما يلزم تفسيره بشكل آمن في موقع جروت دو رين هو تحليل إعادة تركيب كامل.
على النقيض من ذلك، بدا أن إنسان نياندرتال سان سيزير حالة أكثر رسوخًا. فعندما عُثر عليه لأول مرة، أُزيل ككتلة من الرواسب يبلغ عرضها ١ متر (١٫١ ياردة) لدراستها في المختبر. ومع ذلك، لم تُنشر قَط تفاصيل كاملة عن موضع الهيكل العظمي وحالته، على الرغم من أن التأريخ المباشر قد أنتج نتائج تتراوح بين ٤٢ و٤٠٫٦ ألف سنة؛ والتي قد تكون أقل من قيمتها الحقيقية بسبب انخفاض الكولاجين.
ولكنه خضع مؤخرًا لإعادة تحليل نقدي أيضًا، ما أثار المزيد من الشكوك حول ما إذا كان إنسان نياندرتال هنا كان موجودًا حقًّا في طبقة شاتيلبيرونية سليمة. تشير العظام المهشمة بشدة إلى ظروف تحجر وتعرية معقدة، حيث الجانب العلوي بأكمله من الوجه مفقود، على الرغم من بقاء الأسنان، إلا أن البحث الدقيق للقطع الأثرية الذي نُشر في عام ٢٠١٨ يشير أيضًا إلى أن الأمور ليست بسيطة كما كانت تبدو في السابق.
توصل برنامج إعادة تركيب ضخم إلى أنه لا يمكن إعادة تجميع سوى ٤ في المائة فقط من شظايا القطع الحجرية، مقارنة بموقع كانول ٢، الأعلى بتسعة أضعاف. وقد أشار هذا بالفعل إلى أن الطبقات لم تكن سليمة، وهو ما أكدته بيانات إعادة التركيب المكانية التي كشفت عن أن القطع الأثرية كانت قد تحركت عدة أمتار على طول الجرف وصولًا إلى المنحدر. وبالإضافة إلى حقيقة أن كل شيء في الطبقة الشاتيلبيرونية المفترضة كان أكثر تآكلًا بكثير، يبدو وكأن نوعًا من تدفق الرواسب الهائل قد جاء من المنحدرات وخلط الأشياء معًا.
اقترح الباحثون تفسيرًا جديدًا لموقع سان سيزير: كانت هناك طبقة شاتيلبيرونية، لكنها كانت رقيقة وتقع مباشرةً فوق طبقة غنية من العصر الحجري القديم الأوسط. أدى اضطراب جيولوجي لاحقًا إلى خلط الطبقتين تمامًا. ومع ذلك، لا يزال الهيكل العظمي لغزًا إلى حد ما. لا بد أن يكون الجسم قد رُسِّب «قبل» الخلط، حيث إن القطع الحجرية والصخور المحيطة به تضررت تمامًا مثل أي شيء آخر، وهذا من شأنه أن يفسر أيضًا تآكل الجانب الأيسر للجمجمة. ولكن على الرغم من أن السجلات الميدانية التي تعود لسبعينيات القرن الماضي تُظهر أنه عُثِر عليه عند قاعدة ما كانوا يعتقدون أنه الطبقة الشاتيلبيرونية، فإنه من المستحيل حاليًّا التأكد مما إذا كان يبرز من طبقة العصر الحجري القديم الأوسط، أو أنه قد رُسب بالفعل خلال فترة الطبقة الشاتيلبيرونية.
استحوذت الثقافة الشاتيلبيرونية على الاهتمام لفترة طويلة، لكن على مدى عقود، تطورت أيضًا المناقشات حول إمكانية أن يكون النياندرتال هم صانعو ثقافات انتقالية أخرى. إحداها هي الثقافة الأولوزية، التي توجد بشكل رئيسي في إيطاليا، وقد تقدم فهمنا لها بفضل كارثتين طبيعيتين هائلتين حدثتا بين ٤٦٫٥ و٣٩٫٧ ألف سنة مضت. نشأت الأولى في جزيرة بانتيليريا الصغيرة، وهي كتلة بركانية صخرية كانت نشطة لآخر مرة سنة ١٨٩١ وتقع قبالة صقلية. حدث ثوران بركاني ضخم بين ٤٦٫٥ و٤٤٫٥ ألف سنة مضت، وأدَّى إلى فوهة بركانية ضخمة واندفاع الرماد إلى السماء. غربلت الرياح السائدة هذه الرواسب على أجزاء كبيرة من إيطاليا، وهي ظاهرة في المواقع الأثرية على شكل «الطَّفلة البركانية الخضراء». وإلى الشمال الشرقي من بانتيليريا تقع الحقول الفليجرية الشهيرة بالقرب من نابولي بإيطاليا، والتي شهدت أيضًا ثورانًا بركانيًّا هائلًا في وقت ما بين ٤٠ و٣٩٫٧ ألف سنة مضت. وكان الرماد أكثر سُمكًا وأكثر انتشارًا من الطَّفلة البركانية الخضراء، حيث تساقط على الناس في جنوب إيطاليا، وعبر البحر الأبيض المتوسط وصولًا إلى أجزاء من روسيا. تُعرف هذه الطبقة بأنها طبقة الإجنيمبرايت الكامبانية، وهي مميزة بما يكفي للتعرف عليها مجهريًّا وكيميائيًّا.
للطَّفلة البركانية الخضراء وطبقة الإجنيمبرايت الكامبانية قيمة هائلة عند علماء الآثار؛ لأنهما علامتان زمنيتان قصيرتان جدًّا محددتان للثقافة الأولوزية. في البداية، كانت الثقافة الأولوزية تُعتبر ثقافة نياندرتالية محلية المنشأ، لكن الأبحاث الجديدة حولها تشير إلى أن الأمور ليست بهذه البساطة. ثمة عدد أقل بكثير من المواقع مقارنةً بالثقافة الشاتيلبيرونية — أقل من ٣٠ موقعًا — لكنها توجد في جميع أنحاء إيطاليا، باستثناء الشمال الغربي. كما تمتد شرقًا إلى البلقان واليونان. وبناءً على الطَّفلة البركانية الخضراء وطبقة الإجنيمبرايت الكامبانية وتأريخ الكربون المشع، يبدو أن الثقافة الأولوزية الأقدم لم تبدأ إلا من ٤٤٫٥ ألف سنة مضت.
لم يكن لدى الأولوزيين تقنيات منهجية متسلسلة مثل ليفالوا أو التقنية القرصية. هناك عدد قليل من أنوية الحجر التي تمت صياغتها بشكل مركزي، لكنها بشكل عام تمتزج فيها عملية تشذيب عشوائي مع تقنية غير عادية. تُعرف هذه التقنية بالتقنية «الثنائية القطب»، وتشمل موازنة أحد طرفي النواة على سندان حجري، ثم الطَّرق لأسفل مباشرةً. لا يعطي هذا الأمر أي تحكم تقريبًا في شكل المنتجات، والتي تميل أيضًا إلى أن تكون لها نهايات مشققة. لكنها مناسبة للأحجار غير المثالية، مثل ألواح الحجر والحصى الصغيرة المستوردة الموجودة في كهف كافالو. تعتبر الرقائق الثنائية القطب جاهزة للاستخدام مثل رقائق التقنية القرصية أو الشفرات، وإذا كنت تبحث عن أجزاء مسطحة صغيرة جدًّا، فهي مثالية.
وهذا «بالضبط» ما أراده الأولوزيون. أهم أدواتهم المميزة هي الأدوات الهلالية الشكل المُسمَّاة «المُهَلَّلات»، والتي صُنعت على قطع مسطحة من الرقائق أو الشفرات الحجرية عن طريق التهذيب الداخلي باتجاه النقطة الأكثر سمكًا. أنتج هذا «ظهرًا» منحنيًا مقابل الحافة الطويلة الحادة. امتلك الأولوزيون أيضًا أدوات مصنوعة من مواد عضوية، لكنها ليست شائعة جدًّا. بالإضافة إلى أدوات التهذيب العظمية، صنعوا أيضًا أجسامًا أسطوانية مدببة بدقة من طرف واحد أو كلا الطرفين، وغالبًا ما تكون صغيرة جدًّا وبعضها دقيق للغاية: يقل عرض اثنين منها عن ٥مم (٠٫٢ بوصة). كل ما تعرَّف الباحثون عليه حتى الآن مصنوع من عظام الخيل أو الغزلان، وقد أعيد شحذ بعضها بشكل متكرر. على الأرجح لم تكن رءوس أسلحة، بل كانت على الأرجح مخاريز لحفر ثقوب في مواد ذات صلابة متوسطة مثل الجلد ومواد أكثر ليونة مثل الفراء؛ ربما يكون بعض أصغرها حجمًا أدوات لصيد الأسماك.
هناك أيضًا بعض الأدلة على وجود أدوات تجميلية ورمزية. عُثِر على أصداف صغيرة، تبدو بعضها مثقوبة، في كهف كافالو. كما كُسِّرَت وقُطِّعَت أنواع أخرى ذات أصداف أنبوبية لعمل قطع صغيرة، يُحتمل أنها استُخدمت للزينة. ومع ذلك، لم يُعثر حتى الآن على أي منحوتات من العظام أو قرن الوعل، أو خرز، أو أشياء مزخرفة أو مطلية.
لعل ثقافة الأولوزيين مثيرة للاهتمام لأنها تكشف التعقيد في تحديد الاختلافات والتشابهات التقنية مع العصر الحجري القديم الأوسط الذي سبقه. نجد تقنية التشذيب الثنائي القطب أحيانًا في تلك التجمعات، لكنها ليست الطريقة السائدة مطلقًا. اللافت للنظر للغاية أن هناك أيضًا طبقات من العصر الحجري القديم الأوسط في كافالو تحتوي على أدوات ناتجة عن تقنية الطَّرق الثنائي القطب بالإضافة إلى تقنية لفالوا، مما يوضح أن النياندرتال كانوا قادرين تمامًا على استخدام الأحجار ذات النوعية الرديئة لطرق التشذيب الأكثر تعقيدًا. وعلى عكس النياندرتال الذين كانوا يختارون بين أنواع الصخور لأنشطة مختلفة عند توفر الخيارات، ركز الأولوزيون بشكل كبير على تقنية التشذيب الثنائي القطب والقطع الصغيرة والمُهَلَّلات لدرجة أنهم استخدموها على جميع أنواع الصخور المختلفة.
ما سر هذا التركيز؟ كان فهم وظيفة القطع الصغيرة أمرًا رئيسيًّا، وأدى إلى استنتاج لافت للنظر. ثُبِّتَت بعض القطع الصغيرة واستُخدمت باعتبارها أدوات لقطع وكشط مواد نباتية وحيوانية، لكن تشير آثار التلف الناتجة عن الارتطام بقوة إلى أن معظمها كانت أسلحة.
عملت بعضها كرءوس مدببة، وربما البعض الآخر كشوكات على طول ساق الرمح. يشير صغر حجمها — حيث يبلغ متوسط طولها أقل من ٣سم (١٫٢ بوصة) وهي ضيقة للغاية — إلى أنها ليست رءوس رماح طويلة، بل رءوس رماح خفيفة أو حتى سهام. عُثر على كتل من الصبغة الحمراء والصفراء في موقعين أولوزيين، وبما أن معظم المُهَلَّلات في كافالو لديها بقايا حمراء خاصة على ظهورها المنحنية، يبدو أن المغرة كانت تستخدم في تثبيت الرءوس المدببة، لنوع خاص جدًّا من الصيد.
ولكن ما تتقاسمه الثقافة الأولوزية مع الشاتيلبيرونية هو الجدل الذي ظهر مؤخرًا حول من صنعها. في عام ٢٠١١، حدد تحليل لسِنَّين عُثر عليهما في الستينيات من القرن الماضي في كهف كافالو أنهما تعودان إلى الإنسان العاقل، ولكن استنادًا إلى التشريح وليس الحمض النووي.
لسوء الحظ، لا يمكن تحديد عمر السِّنَّين المكتشَفتَين بدقة بسبب حالتهما، وكما توجد انتقادات حول أمان الموقع الأصلي الذي عُثر عليهما فيه. يُفترض أن إحدى السنَّتين كانت بجوار موقد في قاع الطبقات الأولوزية، وكانت تمر جزئيًّا عبر طبقة الطَّفلة البركانية الخضراء إلى طبقة العصر الحجري القديم الأوسط. ويبدو أن السِّن الأخرى كانت أعلى بمقدار ١٥ إلى ٢٠سم (٦ إلى ٨ بوصات)، لكن بما أنه كان قد نُقِّبَ عنهما قبل ٦٠ عامًا ولم يُنشَر الاكتشاف بالكامل، فإن موقعيهما الدقيقَين غير مؤكدين.
علاوة على ذلك، أشار علماء التنقيب الأصليون إلى تشوش كبير في الموقع بسبب عمليات الحفر القديمة والنهب الحديث، بالإضافة إلى عوامل التعرية التي امتدت في بعض الأماكن عبر الطبقات الأولوزية. يصعب الجزم بأن هذه العوامل لم تؤثر على السِّنَّين، وعلى الرغم من قبول معظم الباحثين بأنهما تعودان للإنسان العاقل، فإن قلة منهم يعتبرونهما أدلة موثوقة على هوية الأولوزيين بسبب عدم وجود تأريخ مباشر ويفضلون وجود الحمض النووي.
هناك تشابه آخر مع الثقافة الشاتيلبيرونية يتمثل في تلميحات مثيرة للاهتمام حول وجود روابط ثقافية مع العصر الحجري القديم الأوسط لا تتعلق بتشذيب الأدوات الحجرية. في كهف لا فابريكا بالغرب الأوسط لإيطاليا، حُلِّلَت بقايا صمغ على أدوات أولوزية، وأظهر التحليل أنها تحتوي على مزيج من راتنج الصنوبر/الصنوبريات والدهن الحيواني. لم يُعرف عن النياندرتال استخدام هذا المزيج، ولكن في عام ٢٠١٩، كشف تحليل جديد لبقايا على قطع كافالو الصغيرة عن وصفة من ثلاثة مكونات. حيث تُخلَط فيها مغرة مع راتنج نباتي وشمع عسل، وكما رأينا في الفصل السابع، فقد استخدم إنسان نياندرتال الإيطالي المكونين الأخيرين «بالفعل».
من المستحيل الجزم بما إذا كان هذا تقاربًا ملحوظًا أم دليلًا على اتصال ثقافي ما، ولكن من المؤكد أن باقي الثقافة الأولوزية لا تشترك حقًّا في أي سمات مميزة للعصر الحجري القديم الأوسط سواء في الأدوات الحجرية أو المواد العضوية. صحيح أن النياندرتال شكلوا أحيانًا أدوات من العظام، لكن لا يوجد مثيل للأشكال المدببة الصغيرة جدًّا والرفيعة الموجودة في الثقافة الأولوزية.
إذَن، يبدو أن الثقافة الأولوزية لم تتطور بشكل مباشر من العصر الحجري القديم الأوسط، ومع ذلك فهي ليست صفائحية مثل الثقافة الشاتيلبيرونية ومعظم ثقافات العصر الحجري القديم الأعلى. ما تتشاركه الثقافة الأولوزية بالفعل مع هذه الأخيرة هو التركيز على الأدوات «المصممة» للتهذيب (ما إذا كانت الرءوس الشاتيلبيرونية المدببة رءوس أسلحة مثبتة في مقابض هو احتمال مثير للاهتمام).
في إيطاليا، اختفى آخر النياندرتال مما لا يتجاوز ٤٣ إلى ٤٢ ألف سنة مضت، ومهما كان صانعو الثقافة الأولوزية، فقد انتهت هي نفسها بعد ألف إلى ألفَي سنة على الأكثر. ولكن في مناطق أخرى من جنوب شرق أوروبا، هناك دلائل على أن الأمور لم تكن دائمًا على هذا النحو من الدقة. في بعض الأماكن، يوجد أفق رماد طبقة الإجنيمبرايت الكامبانية أسفل طبقات تبدو وكأنها من العصر الحجري القديم الأوسط، مما يوحي باحتمالية بقاء النياندرتال لبضعة قرون أخرى بعد ٣٩ ألف سنة مضت. وفي موقع بوران-كايا، على امتداد جبال القرم من زاسكالنايا، عُثِر على ثقافة وسيطة أخرى — الستريليتسكية/السيليتية الشرقية — أسفل طبقة من العصر الحجري القديم الأوسط يعود تاريخها إلى ٤١٫١ إلى ٤٣٫٩ ألف سنة مضت. المواقع اللاحقة بها بقايا للإنسان العاقل مرتبطة بالستريليتسكية، لذلك يبدو هنا أيضًا كما لو أن النياندرتال قد تشبثوا بالبقاء بعد أن كان آخرون قد دخلوا إلى أراضيهم.
على مدى العقدين الماضيين، أثبتت الأدلة القاطعة أن الثقافات الهجينة «الحقيقية» المرتبطة بالنياندرتال كانت ضئيلة للغاية. لا يعني هذا أنهم لم يكونوا مهرة بما فيه الكفاية لصنع مُهَلَّلات أولوزية أو رءوس مدببة شاتيلبيرونية، لكن الاختلاف الحقيقي يكمن في المفهوم. صُنعت تلك الأدوات بشكل منهجي وفقًا لمعايير دقيقة وهُذبت بطريقة منظمة لأنها كانت جزءًا من نظام متكامل للصيد باستخدام أسلحة مركبة بمساعدة ميكانيكية: رماح خفيفة أو رءوس رماح أو حتى سهام. وهذا يختلف تمامًا عما نراه عند النياندرتال؛ إذ حتى لو وجدت بعض الأسلحة التي لها مقابض، كانت رماح طعن أو مقذوفات تشبه الحربة.
لا يُعتبر التقارب المحتمل في مواد أخرى قويًّا بشكل خاص أيضًا. إن استخدام كلٍّ من النياندرتال الإيطاليين والثقافة الأولوزية للصمغ وشمع العسل كمادة لاصقة أمر مثير للاهتمام للغاية، ولكنه ليس جزءًا من نمط أو اتجاه أوسع. في المقابل، تحتوي الثقافتان الأولوزية والشاتيلبيرونية — اللتان تغطيان بضعة آلاف من السنين على الأكثر ومواقع أقل بكثير — على أدوات عظمية مشكلة أكثر من العصر الحجري القديم الأوسط «بأكمله». والأكثر إثارة للدهشة هو تكرار الأشياء الجمالية والرمزية في الثقافات الوسيطة وتنوعها بالمقارنة بالعصر الحجري القديم الأوسط. إنها لا تزال نادرة جدًّا مقارنة بثقافات العصر الحجري القديم الأعلى اللاحقة، لكن لم يُعرف عن النياندرتال أنهم صنعوا شيئًا مثل العظام أو الحجارة أو الأسنان المثقوبة أو الأدوات المزخرفة أو المنحوتات.
هناك ثقافة أخيرة وأكثر غموضًا تستحق المناقشة، وهي من جنوب شرق فرنسا. ما يجعلها محيرة للغاية هو أنها أقدم بنحو ١٠ آلاف سنة من الثقافة الشاتيلبيرونية، وربما تكون من صنع النياندرتال. قدم الفصل التاسع بالفعل الموقع الرئيسي، كهف مندرين، حيث تراكمت تسجيلات تاريخية سخامية عالية الدقة على الجدران. كما يحتوي الكهف على أغنى وأفضل مثال على الثقافة النيرونية. إنها ليست غير معتادة فقط بسبب تقنيتها، ولكن أيضًا لأنها تقع بين تجمعات مرتبطة بالنياندرتال بشكل نموذجي. يسبقها مستوى كينا، وبعد ذلك تأتي «خمس» طبقات أخرى من العصر الحجري القديم الأوسط، يعود تاريخها إلى حوالي ٤٧ ألف سنة.
وثراء المجموعة غير عادي: فهي تضم حوالي ١٣٠٠ رأس مدبب، وهو عدد مذهل يفوق مجموع ما عُثِر عليه في جميع مواقع العصر الحجري القديم الأوسط الأوروبية مجتمعة. وعلى الرغم من اختلاف أشكال هذه الرءوس، فقد صُنعت بشكل منهجي على ما يبدو بثلاثة أحجام، مع ترك بعضها كما هي، وتهذيب البعض الآخر بشكل حاد.
ويقل طول ثلثها عن ٣سم (١٫٢ بوصة) مما يجعلها دقيقة، ولكن ثمَّة رءوس أخرى بالغة الصغر — حيث يصل طولها من ٨ إلى ١٥مم (٠٫٣ إلى ٠٫٦ بوصة) وسمكها ٢مم (٠٫٠٨ بوصة) — لدرجة أن الباحثين أطلقوا عليها اسم «الرءوس المدببة النانوية». وأكد تحليل التآكل بالاستخدام أنه حتى أصغرها قد تعرضت لصدمات قوية وعالية السرعة، ولكن نظرًا إلى أن أعمدة الأسلحة يجب أن تكون أصغر من الرأس المدبب، فهي تعتبر صغيرة جدًّا بحيث لا يمكن استخدامها مع الرماح. علاوة على ذلك، تشير التجارب إلى أنها خفيفة جدًّا بحيث لا يمكن أن تحقق مدى مفيدًا دون تعزيز ميكانيكي: نحن ننظر هنا إلى شيء مثل الحِراب الصغيرة التي تُقذَف باستخدام قاذفة حِراب، أو في حالة الرءوس النانوية، هي شيء مثل رءوس السهام.
كل هذه الميزات تجعل الثقافة النيرونية ظاهرة مفاجئة ومميزة. ففي جميع مجموعات أدوات النياندرتال المعروفة، حتى لو كانت مصنوعة بكفاءة، لم تكن الشفرات تسيطر على المشهد بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، في كهف مندرين، يرتبط حوالي ٧٥ في المائة من جميع القطع الأثرية بإنتاج الرقائق والرءوس المدببة. وبالمثل، صنع النياندرتال رقائق صغيرة جدًّا، بما في ذلك استخدام تقنية ليفالوا والشفيرات في سياقات عديدة، ولكن هذا عادةً ما يكون استجابة للموارد الحجرية المتاحة. وعلى مدار مئات الآلاف من السنين، لم يُعثر سوى على قطعة أثرية واحدة «قد» تكون مرتبطة بتقنية القذف: وهي رأس زالتسجيتر العظمي المدبب. إنها صغيرة الحجم ومشكلة بشكل واضح ومُرقَّقة عند القاعدة، ويجب أن تكون قد ثُبِّتَت على عصا، على الرغم من أن الطريقة غير واضحة. ولكن في أوروبا بعد كهف مندرين، لا توجد رءوس حجرية مدببة صغيرة قابلة للمقارنة ومصممة لأسلحة القذف لأكثر من ١٠ آلاف سنة.
تُظهِر عمليات التأريخ الشاملة أن الطبقة النيرونية ترسبت على الأرجح بين ٥٠ و٥٢ ألف سنة مضت، ويشير تسلسل السخام إلى أنها لا تفصلها عن طبقة كينا السابقة سوى بضعة عقود، وربما حتى بضع سنوات فقط. وحتى لو كان هناك أي تشابه تقني، فلا يوجد وقت كافٍ لتطور إحداهما إلى الأخرى. وبصرف النظر عن عدد قليل من الطبقات النيرونية الأخرى في نفس المنطقة، فلا يوجد شيء مشابه لها على مدى آلاف السنين ومئات الكيلومترات.
ولكنها تشبه إلى حد ما بعض ما يسمى بثقافات «العصر الحجري القديم الأعلى المبكر» في الشرق الأدنى وحدود أوروبا. ويعود تاريخها إلى حوالي ٤٥ إلى ٥٠ ألف سنة، وهي أقدم من الثقافات الأوروبية الوسيطة، والثقافة البوهونيسية في جمهورية التشيك ذات صلة خاصة. حيث تشتمل على رءوس سهام ليفالوا مصنوعة على أنوية الشفرات، وفي بعض المواقع نجد الأدوات الحجرية مصغرة.
صنع الإنسان العاقل المبكر على الأقل بعض ثقافات العصر الحجري القديم الأعلى المبكر. فعلى سبيل المثال، تشتمل الثقافة الباتشوكيرية في بلغاريا على عظام يعود تاريخها إلى حوالي ٤٦ ألف سنة، على الرغم من أنها ليست قريبة تقنيًّا من الثقافة النيرونية. كما أنه من الواضح أنها أصغر بعدة آلاف من السنين. من الناحية النظرية، ربما كانت هناك هجرات «مخفية» سابقة للإنسان العاقل المبكر إلى غرب أوروبا. بدلًا من ذلك، يمكن أن يكون السكان الهجناء القدامى احتمالًا آخر. يشير الحمض النووي المأخوذ من أحفورة أوست-إيشيم وغيرها من عظام الإنسان العاقل المبكر إلى أنه كان يحدث تزاوج قبل ٥٥ ألف سنة؛ لذلك ربما انتقلت المجموعات السكانية المرتبطة بهذا إلى أوروبا من مكان ما في آسيا. ولكن لا بد أن أعدادهم كانت صغيرة؛ إذ لم يتركوا أي أثر آخر حتى وادي نهر الرون.
لكن على الرغم من كل ما سبق، هناك بصيص صلة ثقافية محتملة مع النياندرتال. فقد استُخرِج من كهف مندرين النيروني أحد أكبر مخالب العقبان الذهبية التي تعرضت للتقصيب في أي مكان بأوروبا. ولم يكن التركيز على مخالب الجوارح من سمات العصر الحجري القديم الأعلى على الإطلاق؛ لذا فإن وجود هذا المخلب في العصر الحجري القديم الأوسط، في الطبقات النيرونية وفي موقع شاتيلبيروني واحد، يُعد أمرًا مثيرًا للاهتمام، خاصة مع اختلاف هذه المواقع تمامًا بعضها عن بعض من حيث الأدوات الحجرية.
ستظل السيناريوهات حول الثقافة النيرونية نفسها تخمينية حتى يحدث استخراج للحمض النووي، ومن المحتمل أن يكون ذلك من الرواسب. ولكن حتى إذا اتضح أن النياندرتال لم يكونوا مسئولين، فإن الأمر لا يزال مثيرًا للاهتمام للغاية بسبب ما ينطوي عليه من ديناميكيات سكانهم. يُظهر التسلسل الزمني لسخام كهف مندرين تحوُّلًا سريعًا للغاية من تقليد كينا السابق إلى الثقافة النيرونية: لا يستغرق الأمر أكثر من عمر إنسان، أو حتى أسرع من ذلك. ثم تبدو الطبقات النيرونية نفسها قصيرة جدًّا: طبقة رقيقة تتطابق مع حوالي ١٨ فترة استيطان فقط ضمن سجلات السخام.
بعد انتهاء هذه الفترة، تُرِك الكهف لعدة أجيال، وربما لآلاف السنين. ومع ذلك، لم تكن الطبقات النيرونية نهاية المطاف. فعندما اشتعلت النيران مرة أخرى في كهف مندرين، جلس حولها أشخاص — يُفترض أنهم من النياندرتال — يصنعون أدوات العصر الحجري القديم الأوسط مرة أخرى. في المرحلة الأولى التي تلت الطبقات النيرونية، ينخفض عدد الشفرات والرءوس انخفاضًا كبيرًا، بينما يزداد إنتاج الرقائق، على الرغم من أنها لا تزال غالبًا صغيرة بشكل غير معتاد. تغطي المرحلة الثانية أربع طبقات، وتصبح الرقائق أكبر بوضوح وتبدو بشكل أساسي مثل أي سياق آخر من العصر الحجري القديم الأوسط.
هناك نقطتان ملحوظتان أيضًا في فترة ما بعد الطبقات النيرونية. يتغير النطاق الجغرافي للمواد الحجرية، بناءً على مصدر الأحجار، تغيُّرًا كبيرًا، حيث ينكمش في الحجم ولم يعُد يعبر إلى الضفة الغربية لنهر الرون. والأكثر من ذلك، يشير التسلسل الزمني للسخام إلى أكثر من ٩٠ فترة استيطان؛ ومن ثَمَّ فترة من الاستقرار.
إحدى طرق فهم هذا التسلسل الكامل هي أنه، بغض النظر عن هوية هؤلاء النيرونيين، فقد شَرَّدوا النياندرتال المحليين تمامًا لدرجة أن المنطقة خلت من السكان لعدة أجيال. لكن هذا لم يدُم طويلًا، ولم يَقْضِ عليهم. في كهف مندرين، لم يحدث ذلك إلا بعد آلاف السنين، عندما تلت الطبقة الأوريجناسية البدائية الطبقة الأخيرة من العصر الحجري القديم الأوسط مباشرةً وعلى مدى أقل من قرن.
أحلام النهاية
ما حدث في كهف مندرين يخبرنا أن نهاية العصر الحجري القديم الأوسط كانت بعيدة كل البعد عن كونها عملية بسيطة من الناحية الثقافية. وسوف تمر ١٠ آلاف سنة أخرى حتى آخر اتصال وطيد معروف بين النياندرتال والإنسان العاقل، كما هو موضح في الحمض النووي لرجل كهف أواسي. المحبط أننا لا نعرف بالضبط أين التقى أسلافه بالنياندرتال — في غضون قرنين من الزمان، كان من الممكن أن يتحركوا مئات أو آلاف الكيلومترات — ولا توجد قطع أثرية مرتبطة بفكه. ماذا يجب أن نطلق على شخص ما مثل رجل كهف أواسي؟ كم عدد أسلاف النياندرتال، وما مدى التقارب الزمني، الذي يحدد التهجين؟ هل كان سلفه المختلط هو الوحيد في مجموعتهم، أم أنه جزء من نمط أوسع؟ هل أصبحوا جزءًا من القصص المتوارثة حتى جيله؟
حتى العثور على مواقع أكثر اكتمالًا بها أحافير تحتوي على حمض نووي قابل للاستخلاص، يجب أن تظل هذه الأفكار مجرَّد تأملات في الغالب. لكن على الأقل ثمة شيء واحد واضح. لم يحدث اندماج شامل للسكان أو الثقافات. لا يوجد أي نياندرتال في نطاقهم بأكمله خلال الفترة الحاسمة بين ٨٠ و٤٠ ألف سنة مضت لديهم أي لمحات جينية دالة على التهجين، ولا يُظهر جميع الأفراد الأوائل من الإنسان العاقل ذلك أيضًا: لا الحمض النووي الميتوكوندري من كهف باتشو كيرو، ولا سِن المرحلة الأوريجناسية البدائية في فوماني التي تقريبًا بنفس عمر رجل كهف أواسي.
ولكن الأنماط الجينية في الأحياء تخبرنا أن الاستيعاب قد حدث بالفعل بدرجة ما. على الرغم من أن النياندرتال ظلوا متميزين جسديًّا حتى في بقايا هياكلهم العظمية المرئية الأخيرة، فإن حجم وتكرار التزاوج، بالإضافة إلى مجموعة الجينات المُحتَفَظ بها فينا، يعني أنهم كانوا — ولا يزالون — بشرًا. من الناحية البيولوجية، ينتمي الأفراد القادرون على التزاوج وخلق نسل قابل للحياة إلى نفس النوع. لم ينفصل الشمبانزي والبونوبو، اللذان يختلفان كثيرًا جسديًّا واجتماعيًّا، إلا منذ حوالي ٨٥٠ ألف سنة؛ وهو نفس الوقت تقريبًا الذي انفصل فيه أسلافنا عن السلالة التي ستؤدي إلى النياندرتال والدينيسوفان.
هناك موضوع آخر يحتاج إلى تحليل واستكشاف أكثر عمقًا، وهو العمليات التي أدت إلى لقاءات بين النياندرتال وأنواع أخرى، وخاصة الإنسان العاقل المبكر. نحن نميل إلى تصوير أنفسنا كمنتصرين، لكن خارج أفريقيا كدنا أن ننقرض مرة واحدة على الأقل، وعانينا من انخفاض كبير في عدد السكان من حوالي ٧٠ ألف سنة، وذلك قبل حدوث معظم عمليات التزاوج مع النياندرتال. علاوةً على ذلك، وعلى الرغم من انتشار السكان وتوسعهم الواضح حتى وصلوا إلى أستراليا بحلول ٦٥ ألف سنة مضت — والتكيف مع الصحاري القاحلة والغابات الجبلية الرطبة، وحتى عبور المحيط إلى إندونيسيا — فلا توجد علامة واضحة على وجود الإنسان العاقل في وسط أو غرب أوروبا حتى بعد أكثر من ٢٠ ألف سنة.
ربما كانت الأرض محتلة سابقًا، وكان النياندرتال ناجحين بدرجة كافية، على الأقل لفترة من الزمن، في منع آخرين من دخولها. ومع ذلك، فإن الثقافة النيرونية بمثابة «المفاجأة غير المتوقعة»، التي تُذَكِّرنا بأن ما نستطيع استنتاجه من علم الآثار بعيد كل البعد عن القصة الكاملة.
هذا يعني أن العديد من المجتمعات الأولى للإنسان العاقل انقرضت أكثر من النياندرتال؛ وهذه ليست علامة جيدة على الهيمنة التطورية. لا شك في أن تغييرات أكبر في المفاهيم تنتظرنا مع المزيد من عينات الحمض النووي العتيق. قد يكون دليلنا الحالي على التزاوج المشترك إلى حد ما مشابهًا للتاريخ المبكر لاكتشافات الكواكب الخارجية، حيث كان يُفترض أن مثل هذه الأجرام نادرة، ولكن بعد عدة عقود يبدو أن الكواكب في مجرتنا أكثر من النجوم. نعلم اليوم أن أوراسيا كانت «دائمًا» بوتقة انصهار، موطنًا لمئات وربما آلاف الأطفال الهجينة. ربما تحتضن مواقع النياندرتال سرًّا المزيد من الأدلة عليهم، أو على ذريتهم القريبة، متناثرة بين شظايا العظام غير المحددة أو رواسب الكهوف.
•••
لقد استحوذ مصير النياندرتال على قدر هائل من الاهتمام، إلا أنه قد يكون الشيء الأقل إثارة للاهتمام بشأنهم. من المفيد رؤية الأمور من زاوية مختلفة: لقد كانت آخر ١٠٠ ألف عام من حياة النياندرتال فترة تحديات كبيرة، ولكن بدلًا من أن تكون مقدمة لنهايتهم، كانت هذه الفترة مسرحًا للتفاعل مع فرص جديدة. قبل ٢٠ ألف سنة، صرنا وحدنا على سطح هذا الكوكب. ومع ذلك، ظل النياندرتال على قيد الحياة، بطريقة ما. وحتى مع انمحاء ذكرى جميع لقاءاتنا بهم، لا تزال دمائنا ودماء أطفالنا تحوي ثمار التفاعلات مع التجارب البشرية الأخرى في هذا الكون. لقد انتظرتنا العظام والحجارة طويلًا تحت الأرض لكي نعيد اكتشاف مستقبلنا المشترك. وعندما فعلنا ذلك أخيرًا، تغير كل شيء.