النهر يغمر الشجرة
أغمضي عينيكِ وتخلَّصي من حذائكِ. يتوهَّج احمرار الشمس الباهت على جفنَيكِ، والعشب يصيب أصابع قدمَيكِ بالخدر والتراب يكمن تحت باطنيهما. الدفء يمسِّد على ذراعكِ ويد تنسل وتحيط بيدكِ. بطريقة ما تعرفين يد مَن. افتحي عينَيكِ، وتحت سماء مشرقة بأشعة الشمس وبطريقة ما سوداء مرصَّعة بالنجوم، تجدين والدتكِ واقفة أمامكِ. هذا هو المكان الذي لا تسري عليه قواعد الزمن، حيث يجد جميع البشر بعضهم بعضًا. يقترب حفيف وقع أقدام، وتتقدَّم امرأة أخرى إلى الأمام: إنها جدتكِ من أمكِ. ربما تحدثتِ إليها الأسبوع الماضي، أو قبل عشرين عامًا، أو ربما تعرفينها فقط من خلال صور غير واضحة. تضم يد أمكِ بيدها، ثم تدير رأسها: في الخلف، يمتد على هيئة سلسلة في سهلٍ لا نهاية له صفٌّ من المزيد من النساء، المتَّحدات باليد والنظرات.
عيناكِ تُخفِقان في العد ولكنكِ تشعرين بأنهن بالمئات، بل بالآلاف. تصبح الوجوه غير مألوفة كلما بعدت المسافة، على الرغم من أنكِ تعرفين بطريقة أو بأخرى انحناءات الخدود أو تجاعيد الشعر أو انحراف في الورك. بعيدًا، تستمر السلسلة حتى الأفق وترتفع نظراتكِ إلى الزَّبَد اللبني بالأعلى: هناك، على بُعد عشرات الآلاف من السنين، حتى النجوم كانت قد تبدَّلَت. ثم تشعرين وكأن صاعقة مرَّت عَبْر أربعين ألف يد: دورات بلا نهاية من الحب والفقد تستمر في تقليب الصدور والعظام لخمسمائة ألف سنة في دمكِ، وقلبكِ. ينتابكِ دوار، لكن يد أمكِ تضغط يدكِ، وعندئذٍ، من خلال عينَين ترمشان، ترين ما يحدث. ينتشر من هذا الخيط المنفرد من الأسلاف من الأمهات تشابك بشري هائل، وشبكات من الفَناء (الخلود) تأخذ في الاندماج نحو الهضبة الزرقاء البعيدة على حافة الزمن. الآخرون جميعهم هنا. لقد كانوا دائمًا هنا.
نحن التراث المتجسِّد لجميع أمهاتنا. بينما تنظر عيناك بتركيز إلى هذه الكلمات فإن أعين أسلافك قد أبصرت النور لأول مرَّة قبل ٥٠٠ مليون سنة. إن الأصابع الخمسة الماهرة التي تحرك هذه الصفحات قد قبضت على أشياء، وأمسكت بأشياء، وخربشت أشياء طوال ٣٠٠ مليون سنة. ربما يمكنك سماع الموسيقى أو تسجيل لهذا الكتاب الآن؛ بينما بدأ ذلك الهيكل البديع الثلاثي العظام للأذن في الاستماع إلى أصوات الحب والرعب بينما كنا نعدو بسرعة على أقدام تمساحية. لقد تضخم الدماغ الذي يعالج هذه الجملة إلى حجم يكاد يساوي حجمه الحالي منذ ٥٠٠ ألف سنة، وشاركه في ذلك النياندرتال.
إن وضْعنا نحن وإياهم ضمن سياق بيولوجي وتطوري أعمق يبرز ما نتشارك فيه. ويكشف أيضًا كيف جانَبَ الصواب رؤى القرن التاسع عشر التي اعتبرت النياندرتال الحلقة المفقودة بيننا وبين القردة الأخرى. كانت أحافير الرئيسيات معروفة بالفعل: في عام ١٨٣٦ عثر إدوارد لارتاي بنفسه على أحفورة قرد قديم. ولاحقًا — في نفس العام الذي استُخرجت فيه عظام إنسان نياندرتال من كهف فيلدهوفر — اكتُشِفت أول أحفورة لقرد أوروبي من الرئيسيات، وسُمِّيَت «دريوبيثكس». وعلى الرغم من هذا، كانت أحافير البشر لا تزال بمثابة صدمة.
في وقتنا الحاضر تغيَّر الوضع تغيُّرًا كبيرًا. بينما لا تزال التفاصيل محل جدل، فإن شجرة عائلتنا أكثر ازدحامًا مما تخيله علماء مثل بوسك أو داروين: يوجد أكثر من ٢٠ نوعًا معروفًا من أسلاف البشر ينتمون إلى فترة ثلاثة الملايين ونصف المليون سنة الماضية فقط. تمضي جذور شجرة عائلتنا أعمق أيضًا. استغرق تحويل الثدييات الصغيرة المهرولة إلى أسلاف البشر وفي النهاية إلى النياندرتال وقتًا طويلًا للغاية. قبل ٢٥ مليون سنة عجَّت غابات هائلة بالقردة حيث كان الانقسام المؤدي إلى القردة العُليا جاريًا بالفعل. كان الممثلون الأوائل لهذه الرئيسيات العديمة الذيل، قردة «البروكونسول» العُليا، يلعبون بالفعل بعيدًا عن الأشجار في شرق أفريقيا. بعد ذلك، عندما انفتح الوادي المتصدِّع الكبير، بدأ تبريد عالمي هائل، وشرعت القردة العليا في عمليات تنويع وانتشار ضخمة. تطوَّرَت إلى ما لا يقل عن ١٠٠ نوع في الفترة ما قبل ١٥ إلى ١٠ ملايين سنة، وبحثت أصابع الدريوبيثكس الماهرة وقردة أخرى عن الطعام في الغابات الرطبة والسهول على حد سواء.
ما السبب وراء أهمية معرفة التاريخ التطوري السحيق للنياندرتال؟ لا يزال التصور الخاطئ بأنهم يمثلون حلقة وصل فعلية بالقرود شائعًا، على الرغم من ملايين السنين التي تقع بيننا وبين أقرب أبناء عمومتنا من الرئيسيات. من الناحية التشريحية البحتة، يمكننا أن «نرى» النياندرتال يظهرون في وقت أبكر قليلًا في سيما دي لوس ويسوس من أقدم أحافير تشبه الإنسان العاقل من أفريقيا من حوالي ٣٠٠ إلى ٢٠٠ ألف سنة، وهي فجوة زمنية ملأتها آلاف الأجيال. ولكن من منظور تطوُّري أوسَع، هم من أحدث أنواع أسلاف البشر، ومخلوقات مشابهة «جدًّا» لنا. بنفس القدر من الأهمية، يوضح اكتساب فهم أوَّلي لمنشئهم أن التطوُّر لم يتبع طريقًا سريعًا مستقيمًا من أسلاف البشر مؤدِّيًا إلينا. وإنما كانت توجد مسارات متزامنة كثيرة، بعضها ينتهي بطرق مسدودة، والبعض الآخر مثل النياندرتال يطوِّر أجسادهم وعقولهم الفريدة التي كانت مُناظِرةً لأجسادنا وعقولنا. ولم يكونوا الوحيدين: فكما اكتشفنا في العَقْد الماضي أو نحو ذلك، لدى سلالة «البشر» نفسها قصص أخرى ترويها. أحد الأمثلة التي تثبت ذلك «الهوبيت» في فلوريس، بإندونيسيا، الذين ربما يعودون إلى ٧٠٠ ألف سنة وعاشوا حتى قبل حوالي ٥٠ ألف سنة. في عام ٢٠١٣ ظهر المزيد من الهياكل العظمية غير المتوقَّعة في الناحية الأخرى من العالم في جنوب أفريقيا. اتسم أسلاف البشر هؤلاء، الذين أُطلق عليهم اسم إنسان ناليدي، ببعض السمات البدائية للغاية وكان من المتوقَّع أن يعود تاريخهم إلى مرحلة ما من ملايين السنين. ولكن تبيَّن أنهم كانوا يعيشون فقط منذ ٢٥٠ ألف سنة، مما يجعلهم معاصرين للنياندرتال وممثلينا الأوائل.
ولكن من بين جميع اكتشافات التطور البشري الحديثة، ربما كان أكثر ما يثير الدهشة في فهم طبيعة النياندرتال هو أنه كان يمكنهم التزاوج معنا وقد فعلوا ذلك بالفعل. يبدو الآن أنه، فيما يتعلَّق بمعظم سكان الأرض الحاليين، إن لم يكن جميعهم، أقدم أسلافنا من ناحية الأم — أرشيف من الأجساد والدم الذي ينبض حتى الوقت الحاضر — كان من ضمنهم النياندرتال. لقد أدَّى هذا الاكتشاف إلى عملية إعادة توجيه عميقة، نقلتهم في خطوة واحدة من فرع عائلي بدائي مسدود إلى أسلاف حقيقيين ساهموا فيما نحن عليه الآن.
•••
هذه هي المرحلة الجديدة التي يجب أن ننتقل إليها لنتأمل مرة أخرى السجل الأثري للنياندرتال. مثل الثوار، لقد اقتلعوا شجرة السلالة القديمة، التي كنا نضع تاجها بفخر، من جذورها. عوضًا عن ذلك، نجد أن تاريخنا السحيق أشبه بأوراق شجر منهمرة تتساقط في نهر عظيم. يسلك بعضها جداول سريعة، والبعض الآخر يمضي ببطء في روافد ضيقة. تنفصل وتتضام وتتجمع في تجاويف حتى تتسرَّب المياه وتعود لتتحد مع قنوات عميقة تخترق الأرض.