أجساد تنمو
ينبلج الفجر عاليًا فوق المنحدرات، وتصطبغ الفروع باللون الأخضر حينما يشعر قومها بالحاجة إلى التحرك مجددًا. شعرت الكائنات المكسوَّة بالفراء التي تعيش في الجوار بالقلق، فلم تترك آثارًا لتُقتَفى. ظلَّ الجسد الضئيل، الذي دفعته بنفسها إلى خارج جسدها حين ولادته، نحيفًا، ولم يكن يرضع إلا بوهن. في النهاية توقف، وأصبح صلبًا مثل وتر جَفَّ. لكنها ظلَّت تحمله، بينما تقلص الجلد حول الأطراف العصوية وتمدد فوق لوحي الكتف. الآن تجمع المجموعة الأغراض لتغادر، وهي تشعر بانجذاب للانضمام إليهم. لكن طرحها لحملها أمر مخيف. تستنشق رائحة الولادة المُسكِرة لجسد رضيعها، التي لا تزال عالقة في شعره الداكن، وهي تنحني عند حافة الملجأ. تُنزِل الرضيع، المنكمش كالقبضة، على الأرض، ولأول مرة يرقد منفصلًا عن جسدها. يقترب الآخرون بفضول، ويمدون أيديهم لينكزوه، وليجذبوه، وليربتوا عليه؛ ليعرفوا. لكن الوحوش ستأتي لاحقًا ويجب حماية هذا الشيء الثمين. تُجَرِّف فجوةً، وتُنزِل فيها الجسد الذي كان مترَّبًا بالفعل، وتغطِّيه. وبعدما يكتنفه التراب الناعم المليء بمخلفاتهم الحجرية، تتراجع وتنضم إلى القوم لمتابعة المسير.
تومض السماوات مع مرور الأيام والسنين والقرون. تتكثَّف التربة وتمسك العظام الرقيقة بإحكام. يغدو آخرون ويروحون في الأعلى ولكن في النهاية تتوقَّف اهتزازات وقع الأقدام. حتى المحالق الجليدية الناتجة عن البرد القارس لا يمكنها أن تتغلغل إلى الهيكل العظمي الصغير. تمرُّ عشرات الآلاف من فصول الشتاء الأخرى، ثم يُسمَع صوت غير واضح لضربات عميقة متواصلة نحو الأسفل. الوزن ينقص. تنبعث أصوات: أشخاص جدد يبنون منزلًا لم يعِش فيه أحد لفترة طويلة. تقعقع أقدام تنتعل قباقيب صعودًا وهبوطًا على سلالم خشبية فوق البقايا الصغيرة، وكأنها تهويدة الحياة فوق الموت. في غمضة عين، يختفي المنزل أيضًا، ثم تهتز الرواسب وتتحرَّك بينما تسحب الأيدي التراب. تنهار الكتل الترابية، ويمس بصيص من ضوء الشمس في أوائل الصيف الحطامَ الأبيض لجمجمة في رقة قشر البيض. يصرخ صوت بالفرنسية: «توقف! عظام!» بعد مُضيِّ وقت طويل جدًّا، تمتد للأسفل لالتقاطها يدان خشنتان ولكنهما رفيقتان، مثل تلكما اليدين اللتين كانتا آخر ما لمس هذا الصغير الوحيد.
بحلول عام ١٨٩٤، كان قد بدأ التعاون مع لوي كابيتان، عالِم الأمراض الذي تحوَّل إلى عالِم أنثروبولوجيا عصور ما قبل التاريخ، وبعد سبع سنوات اكتشفا رسوم العصر الجليدي المذهلة في كهف فون دي جوم. وبنهاية ربيع عام ١٩١٤، كان بيروني قد صار حفَّارًا متمرِّسًا لمواقع النياندرتال، بما في ذلك الهياكل العظمية في ملجأ «لا فيراسي» الصخري الكبير. وعندما كُشِف عن رفات بشري في شهر مايو من ذلك العام في موقع لو موستييه، قَدَّر على الفور أنها لطفل صغير جدًّا. كان سيُفقَد الطفل المعروف الآن باسم «لو موستييه ٢»، الذي ظل على حاله بمعجزة ولم تمسه أعمال البناء والهدم بسوء، ويُعثَر عليه مرَّة أخرى خلال الثمانين عامًا التالية. إنه واحد من العديد من النياندرتال الذين لديهم تاريخ مذهل من الاكتشاف.
جميع عظام أسلاف البشر، سواء كانت متحجرة أم لا، هي عظام خاصة ومميزة. فكونها التمثيل الجسدي لحياة أناس عاشوا منذ عشرات أو مئات الآلاف من السنين، فإن وجودها الحالي يأسر الألباب. لكن ذلك يرجع أيضًا إلى ندرتها: فلدينا «ملايين» القطع الأثرية التي صنعها النياندرتال، أكثر من عظام الأيدي التي لمستها يومًا ما. ومع ذلك، فإننا، إجمالًا، نعرفهم على نحو وثيق أكثر من أيٍّ من صِلاتنا الوثيقة الأخرى. فقد تزايد اليوم عدد الأحافير التي تهمس بقصص نوع آخر من البشر، من حفنة من الرفات منذ مائة عام إلى آلاف الأحافير من العديد والعديد من المواقع. وهي تمثل بضع مئات من الأفراد، من أطفال حديثي الولادة إلى بالِغين مُسنِّين، الذين — على الرغم من أنهم لم يكونوا هَرِمين بمعايير اليوم — ربما كانوا كبار السن في مجتمعهم. وتسمح لنا هذه العيِّنة الغنية بإعادة بناء الطابع البيولوجي للنياندرتال وتنوعهم.
حتى مع هذه الأعداد الهائلة، لا تزال كل قطعة من هيكل عظمي تستحق أن تُعامَل بالتبجيل الذي تحظى به قطعة نادرة لا تُقَدَّر بثمن. تُحفظ القطع وتُنقل في صناديق مُغلَقة مثل الماس أو الآثار المقدسة. تكمن قيمتها التي لا تقدر بثمن في كونها كنزًا دفينًا من البيانات حول حياة الأفراد، وهي في الوقت نفسه بمثابة نوافذ على مجموعات سكانية بأكملها. يطبق المتخصِّصون مجموعة واسعة من التقنيات من الكيمياء الحيوية إلى التجسيد المرئي العالي التقنية، التي يفحصون بها الأجسام بأكملها أو يركِّزون على الطبقات شبه اليومية داخل الأسنان. أيضًا يشكل رفات النياندرتال، من خلال الحمض النووي الذي تحتويه، صلتنا المباشرة بهؤلاء الأناس المندثرين.
قد تكون الصلة بيننا وبين عظامهم الجافة متباعدةً للغاية — بفعل الزمن، وزجاج واجهات العرض في المتاحف — ولكن عندما نواجههم، من الصعب ألا نشعر بقشعريرة تمرُّ عَبْر جلدنا الذي لا يزال نابضًا بالحياة. ربما يكون الأمر كذلك بخاصة عندما يكون في صورة مصغَّرة: حياة الطفل انتهت بشكل مفاجئ للغاية، بغض النظر عن الزمن الذي مضى.
إنسان نياندرتال الناشئ
إن بقاء أي عظام خلال مثل هذه النطاقات الزمنية الهائلة لهو أمر مُذهِل، والأمر الأكثر إثارة للذهول، هو بقاء أجساد الأطفال الهشَّة. هذا هو الحال تحديدًا في موقع لو موستييه، وهو ملجأ صخري يقع حيث تبرز سلسلة من تلال جيرية شبيهة برصيف بحري بين واديين. وعلى مدى أكثر من قرن، شهدت هذه المنحدرات العديد من النظريات حول النياندرتال التي دارت حولهم مثل فيضانات النهر. شهد موقع لو موستييه المعاناة المتزايدة التي استلزمها الاعتراف بعصور ما قبل التاريخ كفرع من فروع العلم؛ إذ عُثِر عليه قبل أن يُفهَم حقًّا كيف تكشف أعمال التنقيب عن السجل الأثري وكذلك تدمره. فلن تكون جميع التقنيات البارعة في العالم لدراسة القطع الأثرية الفردية مهمة إذا أُخلي موقع دون تسجيل بُعد بالِغ الأهمية، ألَا وهو: المخططات التي تخبرنا من أين أتت الأشياء، وبأي ترتيب حدثت الأمور.
يميِّز علم الآثار بين الأجزاء أو السمات المختلفة للموقع. تعد «التجميعة» أعلى بدرجة من القطع الأثرية المنفردة، وهي في الأساس أصغر مجموعة يمكن التعرُّف عليها من المكتشفات التي يبدو أنها تنتمي بعضها إلى بعض. عادةً، تنتمي التجميعات إلى طبقات، وهي ترسُّبات ينتقيها المنقِّبون وفقًا للونها أو قوامها أو محتواها الأثري. يُسمى تسلسُل الطبقات بتراصُف الطبقات الجيولوجية. إنه أرشيف للأشياء التي حدثت في ذلك المكان، سواء كانت بقايا بشرية أو صخورًا متراكمة بشكل طبيعي أو حمأً موحلًا أو غبارًا تذروه الرياح. الحفر يعني إزالة الطبقات، وستكون الطبقات الأدنى أقدم تدريجيًّا.
لكنه أرسل البقايا على الفور إلى عالِم التشريح الباريسي مارسيل بول، الذي كان بالفعل خبيرًا في النياندرتال. وبعد أسبوع فقط تلقَّى رأيه، الذي كان يؤكد أن الرفات كان يخصُّ وليدًا. عند هذه المرحلة، وبشكل لا يُصدَّق، يختفي الهيكل العظمي من السجلات. لم يرِد ذكره في يوميات بيروني مرَّة أخرى أبدًا، وفي غضون شهرَين، توقَّف العمل الميداني لأن الحرب العالمية الأولى اكتنفت أوروبا بأسرها. افتُرِض لعقود عديدة أن أحفورة الرضيع كانت ضحية أخرى لسنوات الصراع الطويلة، سواء بفقدها أو تدميرها.
في الواقع، كان بعض الرفات ينتظر بأمان على بُعد بضعة كيلومترات من الموقع، وإنْ ظلَّ مجهولًا. في عام ١٩١٣، قبل عام من عثوره على الهيكل العظمي، أسَّس بيروني متحفًا رائعًا في ليز إيزي. خلال جرد مجموعاته الضخمة بعد حوالي ٨٠ عامًا، ظهرت عظام تحمل اسم «هيكل عظمي» بين صناديق موقع لو موستييه. كان من الواضح أن تلك العظام تخصُّ مولودًا واحدًا، فراود الباحثين الأملُ في أن يكون طفل النياندرتال المفقود، الذي كان آخر ما عُرف عنه أنه كان في باريس. كشفت ستة أشهر من التحليل الشامل المستفيض أن الرواسب التي كانت لا تزال تغلِّف بعض العظام وتحتوي على أجزاء صغيرة من الحجر الصخري كانت مماثلة لتلك الموجودة في موقع لو موستييه.
يستمر إلى يومنا هذا ذلك الاجتماع الغريب لروحَين ضائعتَين صغيرتَين تفصلهما في الحياة آلاف السنين، بينما تظلُّ أطراف رضيع لو موستييه في باريس على بُعد أكثر من ١٦٠ كيلومترًا (١٠٠ ميل) من بقية جسده.
ونظرًا إلى أن عظام النياندرتال تُعامل اليوم كأشياء لا تُقدَّر بثمن، فإن مثل هذا التاريخ يبدو مذهلًا. لكن إعادة اكتشاف الهيكل العظمي الصغير لم تكن مجرَّد خاتمة سعيدة. فالوجود المقلوب المأساوي للرضيعَين الأحفوريَّين، مع حياة أخرى أطول بكثير مما أمضياه في حياتهما على الأرض، يوفر فرصًا. ولفهم ما إذا كان النياندرتال قد تطوَّروا جسديًّا ومعرفيًّا بنفس سرعة نمو أطفالنا، نحتاج إلى معرفة ما كانت عليه نقطة البداية. تذكرنا بقاياهم الهشة أيضًا أن مدة حياة كل فرد من النياندرتال كانت فريدة، وأحيانًا ما كانت تنقطع على المسار العظيم من الولادة إلى الشيخوخة التي تصدر فيها المفاصل صريرًا عاليًا.
دعونا نلتقي ببعض صغار النياندرتال الذين يسترخون الآن في متاحف حول العالم. كان من الممكن أن تناسب الملابسُ الأولى لأي مولودٍ رضيعَ لو موستييه، ولكن يوجد أطفال من أعمار كثيرة. تخيَّل صورة جماعية: في المقدمة رُضَّع في عمر ٧ أشهر بالكاد يجلسون باعتدال جنبًا إلى جنب مع رُضَّع أكبر قليلًا يَحْبون، بالإضافة إلى أطفال يتعلَّمون المشي بخُطى قلِقة وعصابة جامحة من أطفال في سن ٣ سنوات. في الخلف، يقف أطفال من سن ٤ سنوات فأعلى، ويفقدون سماتهم الطفولية الأخيرة. يأتون من إسبانيا وفرنسا وإسرائيل وسوريا؛ حتى إنه يوجد طفل في عمر ٨ سنوات من أوزبكستان.
لا يمكن تحديد ما إذا كان الأطفال من الإناث أو الذكور إلا بواسطة الحمض النووي، ولكن يمكن استنباط أعمارهم من الأسنان والعظام. هذا ما يُشير إلى أن النياندرتال كانوا يكبرون بوتيرة مختلفة قليلًا عن الإنسان العاقل، ولكن بطرق متباينة.
الأسنان في أغلبها معدنية، مما يجعلها مثل الأحافير الأولية التي تنجو من التحلُّل بينما لا تنجو منه العظام. عندما حسب الباحثون خطوط النمو الداخلية، والمعروفة باسم «البيريكيماتا»، وجدوا أن معدلات التكوين كانت في المتوسط أسرع بيوم في أطفال النياندرتال. وبالمثل، كان بعض أطفال النياندرتال يفقدون أسنانهم اللبنية أسرع بما يصل من سنة إلى ثلاث سنوات. لكن خطوط البيريكيماتا وتطوُّر الأسنان في الآخرين يتطابقان مع المعدلات المعتادة اليوم. يظهر هذا على واحد من أكثر النياندرتال الصغار اكتمالًا، والذي عُثِر عليه في عام ١٩٦١ في موقع روك دي مارسال، الذي يوجد على بُعد بضع ساعات سيرًا على الأقدام مع مجرى النهر من موقع لو موستييه. أظهرت التقديرات أن عمر الهيكل العظمي كان بين ٢٫٥ و٤ سنوات، لكن التصوير المجهري للإشعاع السينكروتروني — وهو نوع من الفحص بالأشعة السينية شديدة الكثافة — وجد أضراسًا أكثر تقدُّمًا جنبًا إلى جنب مع أسنان أمامية متأخرة في النمو عن أطفال اليوم المغايرين في السن.
يظهر انطباع متضارب مماثل من جسد صبي صغير من كهف إل سيدرون، في شمال غرب إسبانيا. كانت أسنانه الخلفية أقل تطوُّرًا مما أشارت إليه خطوط البيريكيماتا، كما بَدَا بعض عظامه أشبَه بعظام طفل أصغر منه بسنتَين أو ثلاث سنوات. ربما كان مجرَّد طفل ضئيل الحجم، لكن كل هذا يظهر أن النياندرتال كان لهم نطاقهم الخاص من التنوع والتعقيد فيما يتعلَّق بالنمو.
من الميلاد، بدأت جماجمهم تُشبه حجم جماجمنا إلى حد كبير، ولكن لو أمسكت رأس رضيع لو موستييه الملساء، ستجد أن شكله غير متوقَّع إلى حدٍّ ما. يُظهر الجمع بين عمليات المسح لتلك الجمجمة وجمجمة مولود آخر أن الأجزاء الوسطى من وجوههم كانت بالفعل مسحوبة قليلًا، وأنها كانت تفتقر إلى الذقن اللطيف الذي يمتلكه أطفالنا الرضَّع. ويوجد الكثير من الجدل حول الطريقة التي كانت تتطوَّر بها أدمغتهم خلال السنوات الأولى الحاسمة، وبعض توقُّعات الحجم تشبه بشكل ملحوظ توقُّعاتنا، وإنْ كانت تنمو بوتيرة أسرع قليلًا. ومع ذلك، فإن الهيكل نفسه لم يتطوَّر بسرعة أكبر. ينبئنا ذلك بأن أطفال النياندرتال الرضَّع كانوا يصِلون إلى المراحل السحرية المتمثِّلة في الابتسام والإمساك بالأشياء وإصدار الأصوات في نفس الوقت تقريبًا الذي يفعل فيه أطفالنا الرضَّع ذلك. ومع ذلك تتراكم الفروق الصغيرة في نهاية المطاف؛ لذلك ربما تكون الطفولة الفسيولوجية قد انتهت في وقت أبكر، مما يترك وقتًا أقل لتعلُّم المهارات الاجتماعية والتكنولوجية المعقَّدة. لكن ما كان يحدث مع الأدمغة يتسم بالتوازن في أجزاء الجسم الأخرى.
العظام تتحوَّل إلى أجساد
إنه لأمر مدهش حقًّا أنه، إجمالًا، في حين أن بقايا أقل من ٠٫٠١ في المائة من كل النياندرتال الذين عاشوا على وجه الأرض في أي وقت مضى قد نجحت في الوصول إلينا مجتازةً طاحونة الزمن ومراحل التحلُّل، فإنها تمثل ما يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ فرد. تتألف الغالبية من أجزاء عظام أو أجزاء فك توجد بها أسنان، ولكن ما بين ٣٠ إلى ٤٠ منها هي هياكل عظمية أكثر اكتمالًا، ولا بد أن تكون قد توارت أصلًا في التراب بكاملها. سنتناول النقاشات حول التعامل مع الموتى في الفصل الثالث عشر، ولكن مهما كانت خلفيتها، فإن كل هيكل عظمي يعني فرصة «لمعرفة» صاحبه عن كثب. وحتى الأجزاء والقطع مهمة، فهي تساعدنا على استكشاف فئات السكان: أنماط الإصابة، والأعمار عند الوفاة، وما إذا كان الرجال والنساء يستخدمون أجسادهم على نحو مختلف.
تُظهِر هذه الحالات أنه لا يوجد موقعان أحفوريان متشابهان. يتطلَّب استنتاج تأويلات من تلك المواقع قدرًا من الحذر، خاصةً عند محاولة تأمل أنماط الوفيات. يميل التوزيع العمري بين السكان إلى أن يعكس المخاطر الصحية المتغيرة على مدى الحياة: يوجد الكثير من الأطفال، وعدد أقل من البالغين وبعض كبار السن. لكن الأحافير ليست بالضرورة انعكاسًا للسكان. فمثلما استُبعِدَت شرائح معيَّنة من المجتمع من الدفن في مدافن الكنائس، يُظهر السجل الأثري أن حفظ أحافير جميع النياندرتال كان أمرًا مستبعدًا، وهذا يختلف من موقع إلى آخر.
مع وضع ذلك في الاعتبار، فإن ما لدينا لا يزال متنوعًا تنوُّعًا مذهلًا وكافيًا لأن يدل على أن فهمنا لتكوينهم — بالمعنى الحرفي والمجازي — شامل إلى حد كبير. فيمكننا، أكثر من أي وقت مضى، إعادة تشكيل ما جعلهم مختلفين عنا، وحتى كيف تعايشوا مع العالم.
قف وجهًا لوجه أمام إنسان نياندرتال، وسيبدو كنوع من البشر، لكنه بالتأكيد غير تقليدي. فقد كانوا إلى حدٍّ ما أقصر من المتوسط، ولديهم صدور أعرض وخصور أوسَع، وكانت أبعاد أطرافهم مختلفة قليلًا أيضًا. فتحت الفخذين العضليتين بشدة كانت عظام الساق أكثر سُمكًا واستدارةً ومنحنيةً قليلًا، ومع ذلك، وعلى النقيض من عمليات إعادة البناء غير الدقيقة التي لا تُعد ولا تُحصى، فقد ساروا قطعًا منتصبين مثلنا.
تتجاوز الاختلافات الأمور السطحية. تحسَّس مكان الْتِقاء فكك برأسك، وتظاهر بالمضغ؛ تشكَّلَ هذا المفصل المتحرِّك في النياندرتال بطريقة مختلفة تمامًا؛ إذ كان يشتمل على فجوة غير عميقة وغير متماثلة وبروز عظمي إضافي. حَرِّك لسانك إلى الجزء الخلفي من فمك حيث توجد (أو كانت توجد) ضروس العقل؛ ترتفع معظم أسنان الإنسان العاقل مقابل قوس الفك، ولكن في النياندرتال هي مسحوبة إلى الأمام أكثر، مما يشكل فجوة. ربما كان يمكنهم طي لسانهم في تلك المساحة، وكانوا أيضًا سيتحسَّسون الحواف الخلفية الملتوية قليلًا لأسنانهم الأمامية الكبيرة التي كان شكلها يشبه المجرفة. داخل فكهم، كانت أسنانهم الخلفية مختلفة أيضًا، وغالبًا ما كانت ذات جذور مدمجة ضخمة. حتى «براعم» أسنان الأطفال حديثي الولادة كانت مميزة بما يكفي للتعرُّف عليها في حالة عدم وجود عظام أخرى.
مُدَّ يدكَ مُحَيِّيًا، وسترى أنه في حين أن طرف إبهامك أقصر من العظمة الثانية، ففي النياندرتال — حتى الرضَّع منهم — كلاهما له نفس الطول تقريبًا. واليد التي تمسك يدك بقبضة ثابتة قوية أعرَض، وأطراف أصابعها أغلَظ.
تحب عقولنا الفضوليَّة اكتشاف أسباب كل شيء، لكن في الحقيقة، التطور عَبْر الانتقاء الطبيعي يتعلَّق ببساطة بنجاح التكاثر، وليس بصياغة تكيُّف مثالي. غالبًا ما تركز تفسيرات بيولوجيا النياندرتال على المزايا المحتملة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا مع وجود تأثيرات متعددة جارية. إن بناء الأجسام عملية مترابطة، ويمكن أن يؤدي تغيير جزء إلى تحوُّل في موضع آخر. والطفرات الجينية هي مجرَّد أخطاء نَسْخ عشوائية، ويمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى سمات تشريحية، إنْ لم تؤثر سلبًا على البقاء، تستمر في مجموعات صغيرة ومعزولة.
في حين أن المخطط الجيني مهم للغاية، فإن كيفية عيش أسلاف البشر تؤثر أيضًا تأثيرًا عميقًا على الأجسام، من العظام وصولًا إلى المستوى الخلوي. ويمكن للبيئة المحيطة والأنشطة المنتظمة أن تترك آثارًا دائمة؛ فَكِّر في الكيفية التي يمكن بها لعضلات ممارسي الرياضات العنيفة بمرور الوقت أن تغير هيكلهم العظمي.
يُعد التعرُّف على تأثير الجينات مقابل السلوك أمرًا بالِغ الأهمية لفهم تشريح إنسان نياندرتال وطرق حياته. على سبيل المثال، هل الاختلافات في أطوال الأطراف متأصلة أم ناتجة عن الاستخدام أم كلاهما؟ هذا هو السبب في أن أطفال ورضَّع إنسان نياندرتال مهمون للغاية، وكذلك أولئك الذين في سنوات المراهقة الحرجة. لدى فرد واحد تحديدًا، والذي يساعدنا على فهم هذه الفترة التطورية الثانية من الحياة، قصة مقنعة بشكل خاص: وهو «أول» هيكل عظمي عُثِر عليه في موقع لو موستييه.
من الجليد إلى النار
كان هاوزر قد رتَّب عملية بيع مُربِحة للمتحف الإثنوجرافي ببرلين، حيث عُرِض الهيكل العظمي لعقود باعتباره قطعة ثمينة. انتهى ذلك الاستقرار في أوائل الحرب العالمية الثانية، فلأنه كان كنزًا لا يُعَوَّض، أُخفِي داخل مخبأ ضخم في برج الدفاع الجوي بالقرب من حديقة حيوان برلين. كان البرج واحدًا من العديد من الأبنية المحصنة التي تحتوي على أنظمة مضادة للطائرات وملجأً واسعًا من الغارات الجوية، كما كان يمثل مخزنًا آمنًا للمواد الثقافية التي لا تُقدَّر بثمن.
لم ينجُ إلا بضع مئات من الحيوانات من بين آلاف كانت موجودة، وإلى جانب إنسان نياندرتال في ظلام البرج، تُركت حاميةٌ غريبة من العصر الجليدي المتأخر — أسود وضباع وفيل وفرس نهر — في انتظار الجيش الأحمر. دمَّرَت لجنة الغنائم السوفييتية المدينة ونهبت ما يقرب من مليونَي قطعة من أبراج الدفاع الجوي ومن أماكن أخرى في جميع أنحاء ألمانيا. في مرحلة ما، نُقلت جمجمة لو موستييه ١ في قطار آخر، مكدسةً جنبًا إلى جنب مع اللوحات القديمة لكبار الرسامين والكنوز الذهبية من طروادة، وكانت كلها متجهة إلى موسكو.
بعد أكثر من عقد من الزمن، عادت الجمجمة من خلف الستار الحديدي إلى برلين. كانت إقامتها في روسيا قد حمتها، لكن بقية لو موستييه ١ التي تخلَّفَت لم تكن محظوظة بهذا القدر. قبل وقت قصير من نهاية الحرب، بدأت أكثر من ألفَي طائرة من طائرات الحلفاء قصفًا هائلًا، مما أدَّى إلى تدمير المتحف الذي كان من المدهش أن الهيكل العظمي كان لا يزال معروضًا فيه. لا بد أن الجسد مقطوع الرأس كان راقدًا هناك حينما ارتجَّت الجدران واجتاحتها نيران جحيم القصف. دُفن الجسد للمرة الثانية، وفُقِد وسط كتلة هائلة من الأنقاض والقطع الأثرية الذائبة، إلى أن أُجريَت بشق الأنفس أعمال تنقيب في الفوضى بأكملها بعد ١٠ سنوات.
لكن لم الشمل استغرق ثلاثة عقود أخرى. كانت غنيمة الحرب المُستعادة في حالةٍ من الفوضى ولم يُتَعَرَّف على الجمجمة إلا من خلال الإحالة المرجعية الشديدة التدقيق للصور والكتالوجات القديمة. وبعد هدم جدار برلين، والْتِئام شمل العائلات والأصدقاء المنفرط عقدهم، في عام ١٩٩١ تجمع مجددًا رفات هيكل لو موستييه ١ العظمي أخيرًا.
بدأ توافد بعثات العلماء لدراسة هذا الأثر الشهير، وبعد ٩٩ عامًا من اكتشافه الأصلي، نُشرت أخيرًا أول دراسة تامة لأحفورة لو موستييه ١. ربما تكون الأحفورة لصبي يتراوح عمره بين ١١ و١٥ عامًا، وهي أكثر الأحافير اكتمالًا لمراهق من نوع إنسان نياندرتال. كان لجمجمته شكل كلاسيكي طويل ومستدق، وأعرض منطقة فيها في الخلف، لكن يبدو أنه كان في خضم طفرات النمو. كان وجهه يتوسَّع للأعلى بشكل أسرع من الأمام؛ لذا فقد كان يفتقر إلى المساحة المميزة خلف ضروس العقل، ولم يكن حاجباه ولا أنفه بمثل قوة حاجبَي أو أنف شخص بالِغ. وبفضل تلك الأحفورة، نعلم أن المراهقين من النياندرتال قد مرُّوا بمرحلة مراهقة حرِجة؛ ربما كان الإفراط في إفراز الهرمونات يعني أنهم كانوا أيضًا عُرضة لحب الشباب وسرعة الغضب.
وكأن نقله عَبْر أوروبا، وتعرضه للقصف والحرق لم يكن كافيًا، فقد تحملت جمجمته خمس عمليات ترميم فعلية، بعضها أخف من البعض الآخر. لكن تقنيات القرن الحادي والعشرين أتاحت جهدًا افتراضيًّا أدق، باستخدام صورة معكوسة ﻟ «إزالة انحراف» الأجزاء المعوجة بفعل ضغط الرواسب. وكشفت النتيجة عن وجه، رغم أنه كان لا يزال غير ناضج، كان يطغى عليه بالفعل تجويفان ضخمان للعينَين، ويبدو مختلفًا تمامًا عن أي مراهق على قيد الحياة. غير أن الأمر المثير للاهتمام أن دماغه كان بالفعل كبيرًا نسبيًّا؛ لذلك ربما كان سينتهي به الأمر إلى أن يصير شخصًا بالغًا ضخمًا إلى حد كبير.
يبقى لغز أخير: في مرحلة ما بين نهاية الحرب وإعادة تجميع الهيكل العظمي في التسعينيات من القرن الماضي، فُقِدت سن أمامية وبعض عظام الوجه. هل حدث هذا في برلين عند إعادة تفريغ الغنائم المختلطة؟ أم ربما قبل ذلك، عندما فُتِحَت الصناديق المأخوذة من برج حديقة الحيوان في مكان ما في الاتحاد السوفييتي؟ قد يتخيل المرء أن الجمجمة تضرَّرَت بينما كان يُقَيِّمها جنود محاطون بسبائك ولوحات زيتية. لن نعرف أبدًا، على الرغم من أن فكرة أن سن إنسان نياندرتال مفقودة لا تزال كامنة في ظلام منجم ملح روسي هي فكرة ساحرة إلى حدٍّ ما.
الوجوه والحواس
جماجم النياندرتال آسِرة، ولكن حتى بدون اعوجاج من الصعب إعادة بناء الوظائف المعقَّدة لهياكلها. بشكل عام، ينطوي كشف أسباب الاختلافات التشريحية بينهم وبيننا على مشاكل بالِغة التعقيد. إذ تتقاطع هندسة الجمجمة بطرق معقدة، وقد بدأ الباحثون للتوِّ في فهم الجينات والكيمياء الحيوية المسئولة عن نمو العظام. ومن المُحتمَل أن يعود بعض الشكل العام للجمجمة إلى الانجراف العشوائي في الجينات على مدى آلاف الأجيال، ولكن دائمًا ما تكون السمات التي ربما كانت لها مزايا تطوُّرية هي التي تلفت الانتباه، لا سيما في عالم يسوده عصر جليدي. ومع ذلك فإنه في يومنا هذا يبدو أثر هيمنة الظروف الجليدية، كمحركات للتطور الجسدي للنياندرتال، أقل وضوحًا بكثير. بدلًا من ذلك، ربما يكون قدر كبير من أجسادهم قد تشكل وفقًا للطريقة التي عاشوا بها.
بدءًا من الجزء العلوي من الجسم، يمكننا استكشاف كيف تغيرت الأفكار. تراوحت التفسيرات لتلك الحواجب الضخمة من الدعم الهيكلي للوجه الكبير، إلى أداء دور أقنعة طبيعية واقية من الشمس. تزعم إحدى النظريات الحديثة الغريبة قليلًا أن النياندرتال اعتمدوا عليها للتواصل، بطريقة مشابهة لقردة البابون التي تشير إلى حالها بهز الحواجب ذات الألوان الزاهية. لكن النمذجة كشفت أن النتوءات العظمية الضخمة في الواقع تجعل ذلك أصعب، وتُظهِر قردة الشمبانزي أنه يوجد الكثير من الطرق الأخرى لنقل المعنى بواسطة الوجه والجسم.
بعد ذلك يأتي دور العيون: كيف رأى النياندرتال العالم؟ كانت تجاويفها أكبر من أي نوع من أنواع الإنسان العاقل في الماضي أو الحاضر، ومن المُحتمَل أن تعني العيون الأكبر حجمًا شبكيةً أكثر استيعابًا للصور وحساسيةً أكبر للضوء. لماذا يحتاجون إلى هذا؟ بافتراض أن المَواطن الرئيسية للنياندرتال كانت تقع في غرب أوراسيا، فإن هذه المنطقة تقع عند خط عرض أعلى بكثير من معظم القارة الأفريقية، وتواجه فصول شتاء أقل ضوءًا وحتى مظلمة. بالفعل تنحو الحيوانات الشمالية إلى أن تكون ذات عيون أكبر، وفي المتوسط، حتى الأشخاص الذي ينتمون إلى خطوط العرض العليا لديهم مُقَل أكبر بنسبة تصل إلى ٢٠ في المائة من أولئك الذين يعيشون بالقرب من خط الاستواء. وتتطلَّب العيون المتسعة نظامًا بصريًّا أكبر، وهذه المنطقة، التي يحتويها نتوء العظم القذالي، أكبر بوضوح في النياندرتال.
وسواء كانت لديهم حاسة إبصار تشبه البومة أم لا، من المرجح أن النياندرتال تشاركوا معنا في مقل العيون البيضاء الغريبة (بين القردة) وفي مجموعة ألوان القزحية. ومع ذلك، فإن إعادة بناء تصبغ الأفراد — سواء في الأعين أو الشعر أو الجلد — أمر معقَّد تعقيدًا مدهشًا. إذ تتدخَّل جينات كثيرة، وتتفاعل بطرق مختلفة لإنتاج عدد هائل من التوليفات. وعلى غرار تاريخنا التطوري، من المستبعد أن يكون النياندرتال ذوي بشرة داكنة جدًّا؛ لأنه حتى مع التعرُّض المستمر لأشعة الشمس، فإن الحصول على ما يكفي من فيتامين (د) في خطوط العرض العليا التي عاشوا فيها سيكون أمرًا مستحيلًا.
لذلك من المحتمل جدًّا أن يكون النياندرتال قد اكتسبوا بشرةً أفتَح، لكن حمضهم النووي يُظهِر أنه لم يكن مطابقًا للآليات البيولوجية المتنوعة التي تسري اليوم في الأشخاص ذوي الأصول الأوراسية. تشير المقارنات الجينية الأساسية إلى أن الجمع بين الشَّعر الأحمر والنمش «ممكن» في بعض أفراد إنسان نياندرتال، لكن لا يمكننا أن نتأكد تأكدًا تامًّا من أن هذه الجينات كان مُعبَّرًا عنها تمامًا كما في البشر. الأمر الواضح، مع ذلك، هو أن تركيبتهم السكانية كانت متنوعة أيضًا: فعلامة النمش البني موجودة في بعض النياندرتال الإسبان والإيطاليين، بينما يُشير تحليل آخر إلى أن النياندرتال الكرواتيين كانوا ذوي بشرة وعينَين وشعر أغمق.
ومع ذلك، ففي حين أن أنظمة إنسان نياندرتال البصرية كانت أوسَع مقارنةً بأنظمتنا، فإن بُصَيلاتهم الشمية — منطقة الدماغ التي تتعامل مع الرائحة — كانت متقلِّصة. ومع ذلك، فإن تفسير هذا بأنه حساسية أقل أمرٌ يتطلَّب توخِّي الحذر، وهنا يأتي مرَّة أخرى دور علم الوراثة.
على الرغم من عدم التطابُق، فمن الواضح أنه يوجد بعض التداخل في جينات الكشف عن الرائحة بيننا وبين النياندرتال. ثمة جزيء مثير للاهتمام، هو الأندروستينون. يُساهم الأندروستينون في «رائحة» العرق والبول البشري، وبين الأشخاص الأحياء الذين يمكنهم اكتشافه، الذين تبلغ نسبتهم ما يقرب من ٥٠ في المائة، فإن النفور الشديد هو رد الفعل المشترك. إذا كان بوسع بعض النياندرتال أيضًا اكتشاف هذه الرائحة، فربما كانت لها وظيفة مفيدة. يؤثر الأندروستينون على الهرمونات والمشاعر لدى الناس، ولكنه ينبعث أيضًا من الخنازير البرية، ولرائحته المنبعثة من الخنازير تأثير كبير على الكلاب عندما تشمها. ربما يكون الأمر متعلقًا بالصيد: فالقدرة على شم رائحة قطيع فوق التل أو اكتشاف مرور حيوان من شأنها أن تكون لها مزايا قوية. وأيًّا كانت خصائص روائح معيَّنة، فمن المحتمل جدًّا أن النياندرتال قد اختبر الروائح — راتنج الصنوبر، وعرق الحصان، والدخان المنقشع — باعتبارها محفِّزًا قويًّا للذاكرة.
يطرح استنشاق الرائحة عبر أنوفهم الضخمة التساؤلَ عن سبب كونها ضخمة جدًّا. تطغى فتحات الأنف الضخمة على منتصف وجوههم، ومن الناحية الشكلية ربما كانوا سيُصبحون صورة متحمِّسة مشابهة للملك تشارلز الثاني. وجدت الدراسة المجهرية لجماجمهم أعدادًا ضخمة نسبيًّا من خلايا نمو العظام في منتصف الوجه، مما يوضِّح كم كانت المنطقة بأكملها بارزة إلى الأمام. ومع ذلك، لا تدعم النماذج الميكانيكية الحيوية النظريات القائلة بأن هذا الوجه البارز الأنف أعطى قوة متزايدة لمضغ شديد (على الرغم من أن الفصل التالي سيناقش أنهم بالتأكيد استخدموا أسنانهم لأكثر من الأكل). على النقيض من ذلك، فإن المظهر الأصغر والمنحسر الذي عليه وجوهنا ناتج عن خلايا ناقضة للعظام، وعلى غير المتوقَّع، فإننا في الواقع نمتلك عضَّة أقوى.
يؤدي الأنف نفسه وظيفته في التنفُّس مثلما يؤدي وظيفته في الشم. أعادت نمذجة تدفُّق الهواء في فتحتَي الأنف في إنسان نياندرتال بناءَ الأنسجة الرخوة للهيكل العظمي الذي عُثِر عليه في موقع «لا شابيل أو سان»، بفرنسا، مؤكدةً أن التركيبة بأكملها كانت أكبر من البشر الذين يعيشون حاليًّا بمقدار الثلث تقريبًا. عمومًا، تتمثَّل إحدى وظائف الأنف في «تكييف» الهواء بتسخينه وترطيبه قبل أن يصل إلى رئاتنا الحسَّاسة. يمكن لذلك أن يكون ذا أهمية خاصة في ظروف البيئات القاحلة والباردة، ومن بعض النواحي تُشبه الهياكل الأنفية الداخلية الكبيرة للنياندرتال نظيرتها لدى حيوان الرنة وظبي السايجا، والتي تحتوي على أغشية مخاطية مكثَّفة لتقليل الجفاف وفقدان الحرارة. ومع ذلك، فمن المدهش أن الهياكل الأنفية الداخلية في النياندرتال تبدو «أسوأ» في تكييف الهواء من هياكلنا (على الرغم من أنها أفضل من إنسان هايدلبِرج). ومع ذلك، فإن ما كان يمكن أن تفعله تلك الفتحات الأنفية الغائرة هو التحكُّم في تدفُّق الهواء، مما يسمح للنياندرتال بأن يستنشق ضِعف معدل الهواء الذي يمكننا استنشاقه.
•••
إن أكثر من ١٥٠ عامًا من التفرُّس في رفات النياندرتال بمقاييس تزداد دقة يستتبعه أننا نعرف عنهم قدرًا مذهلًا من المعلومات، وأحيانًا بتفاصيل هائلة. ويجعلنا تتبُّع كيفية نموهم وتطورهم واستشعارهم العالم نجد تطابقًا ملحوظًا معنا. فتصرُّفات مثل رَمْش العينَين في مواجهة الوهج المنخفض الارتفاع لشمس الشتاء، أو الإصغاء بالأذنَين لصوت لَعِبِ الأطفال، أو تقليص الأنوف عند اشتمام دخان الخشب، كانت تجارب بشرية مشتركة عَبْر آلاف السنين.
ومع ذلك، كان إنسان نياندرتال «بالفعل» مختلفًا تشريحيًّا، من نواحٍ عدَّة. إن تحليل السمات الكبيرة والصغيرة في سائر أجسامهم يستوجب إعادة التفكير في أدلة على عمليات تكيف تطورية مع عالمهم الشديد الخصوصية. ما زلنا بصدد الكشف عن وظائف أشياء مثل العيون الأكبر، لكن جوانب أخرى — مثل الأنوف — قد تكون أقل ارتباطًا بعمليات التكيُّف المتهيئة للبرد القارس أكثر مما كان يُعتقَد سابقًا. بدلًا من ذلك، قد يكون توفير جسم يحتاج إلى طاقة كبيرة لدعم أسلوب حياة يحتاج إلى بذل جهد بدني كبير أكبر تحدٍّ واجهوه للبقاء على قيد الحياة.