الثلج والنار
يتسرَّب الضوء الرمادي الباهت من خلال جذوع الأشجار بينما يلتف الفجر الخريفي حول ثمار جوز البلوط. ينتفش الفراء الدافئ في مواجهة البرد، وتتبدى أجساد قرود المكاك السمراء لتكشف عن صغار مستكينين محميين من الندى. تقطع صخبهم الصباحي أصوات ثرثرة طيور العقعق والصرخات الحادة لطير الزرياب التي تخترق هذه الغابة المتوهجة بألوان كالجمر. جُرْف الحجر الجيري الذي تغطيه هو الديار، ومع ذلك فإن الطيور والقرود على حدٍّ سواء حذرة من الملجأ الصخري. يمكن العثور على قطاف وافرة، لكن الخطر يكمن أيضًا. الأفراد الأشجَع ينزلون نحو ظلال الحافة البارزة؛ إذ يعرفون أن أسد الجبال ليس موجودًا هنا؛ لأن الناس موجودون. أو كانوا موجودين بالأمس؛ فقد بدأ الدخان يتلاشى.
تمتص قرود المكاك الانتهازية بشراهة البقايا الغضروفية الرخوة وجذاذات النخاع التي تربط شظايا العظام. وتطفو الأصوات متصاعدةً من الوادي الوعائي الشكل الذي يكتنفه الضباب بالأدنى: فأصوات التهشُّم والقرقعات العميقة تشير إلى تحرك الأفيال إلى النهر. وينجرف صوت أجش خافت بالأسفل من إعصار رافع صاعدًا إلى الأعلى. وفوق المنحنى الصاعد — أعلى من الجبال — يسافر قطيع من طيور سُمنة الشتاء غربًا، سعيًا إلى الغابات الغنية بالتوت عبر البحر. وبعد عدة ساعات من الطيران، يصل إلى جزيرة ستشتهر يومًا ما بمنحدراتها الجنوبية ذات اللون الأبيض العَظمي. لكن هذه الأرض، في الوقت الحالي، مِلك للوحوش.
تحط طيور السُّمنة وسط الأشجار الموجودة على امتداد أعظم نهر على اليابسة. تجري مياه النهر ذات اللون البني الفاتح بكثافة وبطء بالقرب من عيون جاحظة محدقة بعدوانية. تتدفَّق المياه كشلال من على كتلة رمادية منبثقة مثل غواصة أسطوانية الشكل، وبينما فرس النهر يجتر، متفحصًا المياه، تتحرك أذناه بسرعة وخفة. وعلى مسافة أبعد من مسافة الهجوم، يتلكأ جاموس ماء في الوحل، وتزيِّن القنابر الحشائشَ التي تتدلى من القرون الهلالية. يتجاهلون الأسد الرابض على الضفة المرتفعة، في انتظار أن تشرق الشمس لينقشع الضباب مثلما يغتنم الأيل الأسمر الفرصة لأخذ جرعة صباحية. ولكن لا يوجد مكان في هذا النهر — ولا في أي مكان على الجزيرة التي تستنزف روافده — يكلل فيه دخانُ الخشب هواءَ الفجر.
في مستقبل بعيد بعدًا لا يمكن تصوره، تتجمع طيور السُّمنة مرَّة أخرى، ومرةً أخرى يُلقي ضوء الصباح الذهبي وهجه على النهر العظيم. لكن امتداد انتشاره صار الآن محصورًا بمدينة عظيمة، والجسور تمتد عبر المياه مثل مشدات الكورسيه. أصبحت الأسود تماثيلَ جامدةً، بكماء على قواعد حجرية ضخمة. أمامها لا تصطف قطعان، بل حشد متعدد الألوان في مواجهة حركة مرورية متدافعة. تحت التماثيل والضوضاء، تمضي تيارات ضائعة متخللةً جذمور الأسلاك والمصارف والأنفاق في المناطق الحضرية. انظروا إلى القبر الحجري ﻟ «لندن البائدة»: مدينة مستلقية على مهاد ضخم من الحصى، معبَّأ ومبطن بتراب بُني غامق متعفِّن. هنا تقع مقابر عوالم كاملة زائلة: تتناثر فيها عظام ضخمة، وتخترقها أطمارٌ مُوحِلة من أزهار ماتت منذ زمن طويل، وتنتشر في أرجائها أجنحة خنافس لا تزال قزحية اللون.
في أوروبا القرن الحادي والعشرين، تمرُّ النظرات الجامحة للوحوش العملاقة من خلال الزجاج والقضبان. وتزدحم ضفاف نهر التيمز بأماكن يتجمَّع فيها سياسيو وستمنستر، ضفاف النهر الذي كان يومًا ما مترامي الأطراف والتي تعجُّ بآثار الحيوانات الضخمة قبل أكثر من ألفَي عام. أسود لندن اليوم مصبوبة من البرونز ولها لِبَّادات منتفخة مترفة كان يفتقر إليها أسلافها. وتسبح أفراس النهر هناك في خزانات خرسانية، وحتى الغزلان تُصْطاد من أجل التسلية الملكية. لكن انظر عبر القناة الإنجليزية وستجد الوحوش تتجهز للعودة: الدببة البنية تجول في سلاسل جبال البرانس، والخنازير البرية تتجول في ضواحي برلين وقريبًا ستظهر آثار أقدام الذئاب على شواطئ بحر الشمال.
في أغلب الأحيان نتأمل بتعجُّب الحيوانات البرية المتبقية لدينا من مسافة آمِنة؛ لذلك من الصعب تخيُّل هذه القارة المزدحمة عامرة بمخلوقات أكبر؛ وأصعب بكثير استحضار بيئات كاملة زائلة. تأتي معظم الكتابات حول النياندرتال بصبغة زرقاء ثلجية، حيث غالبًا ما يُصوَّر مواطنوهم ذوو الفراء على أنهم مخلوقات متكيِّفة على الحياة في المناطق المتجمدة. بالأساس كانت الاكتشافات المبكرة المستخرَجة من الكهوف أو مقالع الحجارة عبارة عن أنواع مثل الرنة أو نسخ مكسوة بالصوف من وحوش أخرى مثل الماموث ووحيد القرن. وترسخ مفهوم عالم النياندرتال المتجمد، لكن فهم تجربتهم الأصيلة يستلزم تفكيك تصور «العصر الجليدي» المبسط والمفرد واستكشاف العوالم الكثيرة المختلفة التي عاشوا فيها، والتي لكلٍّ منها مجموعة الكائنات الخاصة بها.
لقد استغرق الأمر قرنًا آخر لإماطة اللثام عن التعقيد الحقيقي للمناخ القديم. فابتداءً من حوالي قبل ٣ ملايين سنة، ازداد تسارع الدورات العالمية للتبريد والاحترار، الخاضعة لرقصة الفالس الأبدية للأرض حول الشمس. وتفاصيل كيفية تأثير المدار الإهليلجي للأرض وميل محورها وتمايله على مناخنا هي تفاصيل بالِغة التعقيد ولكن يمكن التنبؤ بها؛ فبالأساس، يحدد مقدار ضوء الشمس إلى حد كبير درجات حرارة الهواء والبحر. فهذه هي المحركات التي تدفع تمدُّد الجليد في المناطق القطبية والجبلية وذوبانه، والتي تتسبب آثارها في إحداث تغير مناخي.
يكمن الدليل في الرواسب تحت المحيط وفي جليد جرينلاند والقطب الجنوبي. تحتوي الأنوية المنقبة من الأعماق على سجلات قديمة للغاية للمناخ القديم، وتكشف عن تغير في درجات الحرارة العالمية على مدى أكثر من ١٠٠ ألف عام، بدرجة استبانة بمقياس ألفي. وبتأريخها ومقارنتها بسجلات أخرى أقصر — متسلسلات حبوب اللقاح في قيعان البحيرات، أو تراكمات الغبار المنبعثة من التندرا القديمة، أو التكلسات الصخرية في الكهوف، أو الشعاب المرجانية الاستوائية — يمكن معايرة المناخ القديم بدقة على فترات زمنية هائلة.
ما وراء الجليد
إذَن كيف كان هذا العالم المعتدل المناخ؟ على الأقل في وقت مبكِّر، كان الجو أكثر إشراقًا من وقتنا الحاضر. كان موقع الأرض بالنسبة إلى الشمس مختلفًا قليلًا، مما أدَّى إلى تعرُّض الكوكب إلى مزيد من الإشعاع الشمسي في الصيف. أدَّى هذا إلى ارتفاع متوسط درجات الحرارة بمقدار ٢ إلى ٤ درجات مئوية، مع تأثيرات ملموسة. فكانت كهوف جبال الألب، التي هي في وقتنا الحاضر عند خط الثلج، دافئة ورطبة بدرجة كافية لرؤية صواعد كهوف تنمو، وانتشرت غابات شاسعة في أنحاء القارة. والأمر الأكثر إثارة هو أن ذوبان الأنهار الجليدية والقمم القطبية أدَّى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بحوالي ٨ أمتار (٢٥ قدمًا).
وصلت الوحوش الكبيرة الأخرى مع الدفء: جاموس الماء، والفيل ذو الأنياب المستقيمة، وفرس النهر. لكن ثمَّة مهاجر مناخي جنوبي مثير للاهتمام بوجه خاص: وهو القرود، وتحديدًا قرود المكاك البربري.
ينحصر هذا النوع في وقتنا الحاضر في أجزاء منعزلة من شمال أفريقيا، وخاصةً الغابات الجبلية. ومع ذلك، خلال العصر الجليدي المتأخر كانت تلك الحيوانات أكثر انتشارًا بكثير، وكانت تظهر أحيانًا في مواقع النياندرتال السابقة واللاحقة. من المحتمل أن كهف هوناس الضحل في ألمانيا هو كهف من فترة الإيميان، وكان يحتوي على رفات قرود مكاك في نفس الطبقة التي كانت تحتوي على إحدى أسنان إنسان نياندرتال وقطع أثرية حجرية. من المؤكد أن هؤلاء الرفاق من الرئيسيات قد تواجهوا في بعض الأحيان. قرود المكاك البربري هي في الغالب من أكلة النباتات، ولكنها ستتغذَّى على الحشرات وحتى اللحوم مثل الطيور والأرانب الصغيرة عندما تكون الأوقات عصيبة. إنها تحب في وقتنا الحاضر أن تنبش القمامة البشرية، ومن الممكن جدًّا أنها كانت تفتِّش في مخلفات النياندرتال أيضًا.
تبدو فترة الإيميان وكأنها جنة خصبة، ومع أن النياندرتال لم يكونوا بحاجة إلى القلق بشأن الإصابة بقضمة الصقيع، فإنها لم تكن بالضبط «جنةً استوائية». تعتبر الغابات النفضية من الأماكن التي يصعب فيها على نحو مدهش أن يكون المرء فيها صيادًا-جامعًا للثمار، نظرًا إلى أن الكثير من المواد النباتية الصالحة للأكل تستغرق وقتًا وطاقة لجعلها كذلك. فالأشياء التي تُجمَع بسهولة مثل ثمار الجوز والتوت غالبًا ما تكون موسمية. وكانت الطرائد الكبيرة موجودة، ولكن كان العثور عليها في الغابات أصعب بكثير.
ولفترة طويلة، ظهرت شكوك في أن النياندرتال قد تكيفوا بالفعل مع فترة الإيميان، لعدم وجود مواقع تعود لهذه الفترة بها بقايا لهم، ولكن في الواقع ربما أدَّت تعرية لاحقة في التربة إلى إزالة معظم رواسب هذه الفترة. في وقتنا الحاضر، يوجد حوالي ٣٠ موقعًا معروفًا، على الرغم من أن القليل منها عبارة عن كهوف أو ملاجئ صخرية. هذه المواقع في الغالب محفوظة في قيعان بحيرات مدفونة أو ينابيع سطحية غنية بالكربونات. في ذلك العالم، البقاء على مقربة من الماء أمر منطقي، باعتباره المورد الوحيد الذي تحتاج إليه جميع الفرائس.
تُظهِر الأبحاثُ الحديثة أيضًا أن الغابة البرية في فترة الإيميان لم تكن ظُلَّةً عملاقةً متصلة. يتمتع قاع بحيرتين عميقتين في نويمارك-نورد، بشرق ألمانيا، بمستوى حفظ مذهل، وبأخذ عيِّنات من كل ٥سم (بوصتين) لفُتات صغيرة من نباتات وحشرات ورخويات، وجد الباحثون أن الضفاف كانت مُحاطة بمزيج من النباتات. وإلى جانب منطقة الغابات الخفيفة كانت توجد أدغال بنية وعرة ومناطق عشبية جافة بها نباتات عِرْق إنْجبار وحبق الراعي والأقحوان تحت الأقدام. اجتذبت هذه البيئة الزاهية الألوان مجموعة من الحيوانات: مخلوقات الغابة مثل الخنزير والفيل ذي الأنياب المستقيمة، جنبًا إلى جنب مع حيوانات رعي مثل ثيران البَيْسون أو الأوروخس. وكانت توجد أيضًا بعض الحيوانات العاشبة، مثل الحصان، التي تتنقل بين البيئات الإيكولوجية الملائمة، لكن الهياكل العظمية وحتى المسارات تُظهِر أن جميع الأنواع كانت تنجذب إلى البحيرات.
كيف تأقلم النياندرتال مع هذا العالم المليء بالأشجار؟ يغطي تسلسل نويمارك إلى حد كبير المرحلة الأولية الحارة والأكثر جفافًا من فترة الإيميان عندما لم تكن الغابة الكثيفة قد تطوَّرَت بعد. كانت هذه الفترة تضم أنواعًا حيوانيةً ونباتيةً أكثر تنوُّعًا، وفيها نجد معظم الأحافير. لاحقًا مع اقتراب الأشجار، تقلَّصَت البحيرة، وربما أصبحت الفرائس أكثر تفرقًا وبدأت أعداد النياندرتال تتضاءل تدريجيًّا. لكنهم لم يختفوا تمامًا: تضم طبقة عُليا تشكَّلَت خلال فترة غابات كثيفة أكثر من ١٢٠ ألف قطعة من عظام الحيوانات. إنه سجل ثَري وفريد من عمليات التقصيب (أي، نزع الأوصال والتقطيع عضوًا عضوًا) المكثفة لفترة الإيميان، ويثبت أن النياندرتال ظلوا موجودين حتى عندما كان ضوء الشمس يتسلَّل عَبْر أوراق تزداد كثافة باستمرار، وأصبح من الصعب اكتشاف خواصر الحيوانات ذات الفراء خلف الجذوع الكبيرة.
أزمة مناخية
مع زيادة الدقة في أبحاث المناخ القديم والأبحاث البيئية، اكتُشِف أنه حتى فترة الإيميان اشتملت على تغيُّر مناخي قصير ولكنه جذري. كانت أعلى درجات حرارة وأعلى مستويات لسطح البحر موجودة لمدة ٤ آلاف عام فقط فيما بين ما قبل ١٢٦ إلى ١٢٢ ألف عام حتى بدأ التبريد التدريجي، ولكن هذا كان بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. ما حَلَّ بعد ذلك يُعرَف باسم «موجة الجفاف المتأخرة في فترة الإيميان» وكان وقتًا عصيبًا. يأتي الدليل على موجة الجفاف المتأخرة في فترة الإيميان من رواسب البحيرات داخل الحفر البركانية التي غمرتها الفيضانات قديمًا. وبمرور الوقت تراكمت طبقات رواسب سنوية بسمك دقيق للغاية تسمى «الرواسب الرقائقية الحولية»، بسُمك ١مم (٠٫٠٤ بوصة)، وفي هذا السِّجِل المُوحِل عند مرحلة ما قبل ١١٨٫٦ ألف سنة تقريبًا يظهر أمرٌ غريب: لمدة ٤٦٨ عامًا بالضبط، أمطرت السماء غبارًا. أحصى الباحثون أكثر من ٥٠ موجة غبار كثيفة، كلٌّ منها شاهد على أراضٍ طبيعيةٍ غرقت في البرد والجفاف المفاجئين. أدَّت الخسارة الفادحة للغطاء النباتي إلى تآكُل كبيرٍ للتربة وعواصف ترابية اخترقت الهواء. تسجل مصادر أخرى هذه الصدمة المناخية الهائلة، من تكلسات توقفت فجأة عن التعاظم إلى ألباب حبوب اللقاح حيث تختفي الغابات الدافئة وتظهر التندرا في أقل من قرن. وتظهر طبقات متكرِّرة من الفحم: كان المناخ جافًّا جدًّا، فكانت تضطرم حرائق الغابات.
الفترات الجليدية
ومع ذلك، حتى عندما كُبِحَت القمم الجليدية، كانت الأزمنة لا تزال قاسية للغاية. على الأرجح كانت أنماط الطقس غريبة، مع تساقط ثلوج وعواصف جليدية على نطاق لم نشهده من قبلُ. وبالإضافة إلى البرودة، جلبت الفترات الجليدية الجفاف. أدى الهواء الجاف القارس البرودة إلى جانب المياه الجوفية الصلبة المتجمدة في مناطق التربة الصقيعية إلى جعل الجفاف خطرًا حقيقيًّا.
كل هذا تسبَّب في تأثيرات بيئية هائلة. في العديد من أنحاء شمال أوراسيا تبددت غابات الصنوبر. امتدَّت التندرا في مناطق التخوم الجليدية جنوب الغطاء الجليدي، مشكِّلةً بساطًا متنوعًا من الطحالب والأشنات والأشجار المتقزمة القوية التي قد تتجاوز ارتفاع الكاحل إذا حاولت جاهدةً. جنوبًا، خفت حدَّة هذه التأثيرات فتشكلت سهوب تندرا، تشبه أجزاءً من سيبيريا اليوم، ولكنها تحتوي على مزيج من أنواع لا مثيل لها في العصر الحديث. اجتاحت الرياح فسيفساء من الأعشاب العطرية والحشائش والشجيرات الخفيضة؛ كانت الأرض خضراء مصفرَّة في الربيع، وتتوهَّج كاللهب والدم في الخريف.
من الساحل إلى القمة
فقط خلال مستويات سطح البحر المرتفعة مثلما في وقتنا الحاضر، يتشتَّت ضوء الفجر قبالة البحر الأبيض المتوسط إلى داخل كهفَي فانجارد وجورام البارزين، ولكن المحيط كان مهمًّا دائمًا للنياندرتال الذين يعيشون هنا. عندما كان الشاطئ أقرب، كانوا يجمعون طعام البحر ويحقِّقون أقصى استفادة من اللُّقيَّات الأكثر ندرة والأكبر مثل الأسماك أو الثدييات البحرية. وخلال الفترات الجليدية، تراجع الساحل لمسافة تصل إلى ٥ كيلومترات (٣ أميال)، مما كشف عن سهل كثبان رملية جاف أمام الكهوف، ولكن حتى في ذلك الوقت جلب النياندرتال المحار، بما في ذلك بلح البحر الكبير الذي كانوا يلتقطونه من مصبات الأنهار الصخرية، والتي توجد على بعد مسافة طويلة مشيًا إلى الشرق.
كما سنرى في الفصل الثامن، فإن المواقع القليلة التي نرى فيها النياندرتال صيادين ساحليين على كلٍّ من ساحلَي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط هي على الأرجح غيض من فيض. من الممكن أن عدة مئات أخرى من الكهوف قد غرقت بسبب ارتفاع مستوى المحيطات: لا بد أنه توجد كهوف غارقة يماثل ساكنوها الحاليون من سرطانات البحر وثعابين الموراي المتشككة بقايا طعام البحر المدفون. وقد بدأت عمليات المسح الأثرية في الغواصات الآن في البحث في التخوم الصخرية لأوروبا، ولكن يجب علينا من الآن فصاعدًا أن نرى أن أقدام النياندرتال لا تخطو فقط عبر السهوب بل تترك آثارها على السواحل الرملية.
عُثِر على وعول في عشرات من مواقع النياندرتال الأخرى في بيئات وعرة. ولكونها رشيقة ومغرورة وقوية للغاية، لا بد أنه كان يستلزم اللجوء إلى تقنيات خاصة لصيدها، وعناية خاصة لتجنُّب قرونها المقوسة الهائلة. ربما كان صيد ظباء الشامواه أصعب، لكننا نجدها أيضًا، بما في ذلك موقع على ارتفاع حوالي ١٤٠٠ متر (٤٦٠٠ قدم) في لاس كاليخولاس، غرب وسط إسبانيا. الجو بارد وجاف جدًّا هناك حتى في يومنا هذا، ولكن ماذا عن الارتفاعات الأعلى؟ لا مشكلة: فالنياندرتال في سلاسل جبال الألب والكاربات وسلاسل جبال أخرى كانوا يتسلَّقون إلى ارتفاع لا يقل عن ألفَي متر (٦٥٠٠ قدم). خارج الفترات بين الجليدية الكاملة، لا بد أن هذه الأماكن الطبيعية السامقة قد اتسمت بوجود أنهار جليدية فائضة ومنحدرات ثلجية معظم العام.
لماذا اختاروا هذه الأماكن المتطرفة؟ أحد الاحتمالات هو تتبع أنواع مثل الغزلان الحمراء التي تنتقل موسميًّا إلى مناطق الرعي المرتفعة. لكن الجبال نفسها ربما كانت جذابة، وتقدم أحجارًا وفيرة وعالية الجودة: وهو مورد لا بد أن النياندرتال كانوا دائمًا متأهبين لاغتنامه. ربما حتى تتبعوا مصادر حصى الأنهار الكبيرة في عكس مجرى النهر، كما فعلت شعوب لاحقة من شعوب ما قبل التاريخ.
ربما كانت لديهم أهداف جبلية أخرى، مثل الدببة التي تقضي سباتها الشتوي، ولكن في أماكن أخرى يبدو أن النياندرتال كانوا نشطين على ارتفاعات مذهلة لأنهم ببساطة كانوا يشعرون بالراحة هناك. يقع كهف نوازيتييه في جبال البرانس الفرنسية على ارتفاع يزيد على ٨٠٠ متر (٢٦٠٠ قدم) ولا توجد به موارد جبلية واضحة ربما تكون قد اجتذبت النياندرتال إلى هناك قبل ما بين ١٠٠ إلى ٦٠ ألف سنة مضت. كانت الغزلان الحمراء والأغنام الجبلية التي كانوا يصطادونها شائعة أيضًا على ارتفاعات منخفضة، ولا يوجد أي حجر بجودة خاصة في الجوار. ولكن، يبدو هذا الكهف مثل العديد من الكهوف الأخرى عبر عالمهم: كان يُستخدَم بانتظام كمكان للإقامة، وإنْ كان لفترات وجيزة. إما أن النياندرتال هنا كانوا سكانًا دائمين للجبال، أو كانوا يستخدمونه محطةً في طريقهم إلى مناطق أخرى. إذا كان ذلك هو الحال، فنحن نرصد عمليات عبور لجبال البرانس. يدعم ذلك دراسات عن مصادر إمداد الحجارة تثبت أن النياندرتال قاموا بمثل هذه الرحلات عبر ممرات عالية في جبال البرانس، والماسيف سنترال، وسلاسل جبلية أخرى.
سواء كانوا بالأعلى بين قمم تغطيها ثلوج تكومها الرياح أو يبحثون بين الأعشاب البحرية، يبدو أن الأماكن الطبيعية التي تمثل عائقًا أمام النياندرتال قليلة حقًّا. حتى الصحاري تظهر على الخريطة العظيمة لعالمهم؛ على عكس ما كنا سنتوقعه من متخصصين في التعامل مع المناطق المتجمدة. ففي النهاية تتحول بيئة البحر الأبيض المتوسط الدافئة والصخرية التي امتدت بين جبل طارق وتركيا إلى بيئات أكثر جفافًا باتجاه آسيا الوسطى، وكلها غنية بأحافير النياندرتال وآثارهم. بيئيًّا يمكنهم أن يحولوا دفتهم، ويتكيَّفوا مع كل ما هو متاح، من تمر النخيل إلى الزيتون، ومن السلاحف إلى الغزلان؛ وحتى الجمال الضخمة على أطراف شبه الجزيرة العربية.
النوع الوحيد من المناطق في غرب أوراسيا الذي يفتقر حتى الآن إلى أدلة على وجود النياندرتال هو الأراضي الرطبة الحقيقية. فللقيام بأكثر من زيارة وجيزة لتلك الأماكن، ثمة حاجة إلى استثمار جادٍّ في مراكب مائية أو هياكل مرتفعة مثل المسارات والمنصات. لكن أي شيء يمكن أن يحدث. ربما توجد مفاجأة في مكان ما، في الأراضي الشمالية ذات التربة الخثية عميقًا تحت الأجساد التي ترجع إلى العصر الحديدي، المدبوغة بالطحالب والمحفوظة في مستنقعات الخث الراكدة.
•••
كانت صورة النياندرتال الذين يكافحون عبر الثلوج العميقة، وينفثون البخار في الهواء المتجمد، ثابتة على نحو ملحوظ منذ اكتشافهم. ولكن غمامات العصر الجليدي التي وضعناها أمام أعيننا حجبت عنَّا قدرتهم الفطرية على التكيف. لم تكن الصحراء القطبية وطنهم الحقيقي أبدًا، على الرغم من أنهم «في حالات الضرورة القصوى» ربما يكونون قد تأقلموا معها لفترة من الوقت. إنهم في أغلب الأحيان تجنبوا البرودة الشديدة، ويبدو أنهم كانوا أكثر نجاحًا في المناخات الأكثر اعتدالًا، سواء كانوا محاطين بسهول عشبية أو فُسَح وسط الغابات.