الفصل الخامس

الثلج والنار

يتسرَّب الضوء الرمادي الباهت من خلال جذوع الأشجار بينما يلتف الفجر الخريفي حول ثمار جوز البلوط. ينتفش الفراء الدافئ في مواجهة البرد، وتتبدى أجساد قرود المكاك السمراء لتكشف عن صغار مستكينين محميين من الندى. تقطع صخبهم الصباحي أصوات ثرثرة طيور العقعق والصرخات الحادة لطير الزرياب التي تخترق هذه الغابة المتوهجة بألوان كالجمر. جُرْف الحجر الجيري الذي تغطيه هو الديار، ومع ذلك فإن الطيور والقرود على حدٍّ سواء حذرة من الملجأ الصخري. يمكن العثور على قطاف وافرة، لكن الخطر يكمن أيضًا. الأفراد الأشجَع ينزلون نحو ظلال الحافة البارزة؛ إذ يعرفون أن أسد الجبال ليس موجودًا هنا؛ لأن الناس موجودون. أو كانوا موجودين بالأمس؛ فقد بدأ الدخان يتلاشى.

تمتص قرود المكاك الانتهازية بشراهة البقايا الغضروفية الرخوة وجذاذات النخاع التي تربط شظايا العظام. وتطفو الأصوات متصاعدةً من الوادي الوعائي الشكل الذي يكتنفه الضباب بالأدنى: فأصوات التهشُّم والقرقعات العميقة تشير إلى تحرك الأفيال إلى النهر. وينجرف صوت أجش خافت بالأسفل من إعصار رافع صاعدًا إلى الأعلى. وفوق المنحنى الصاعد — أعلى من الجبال — يسافر قطيع من طيور سُمنة الشتاء غربًا، سعيًا إلى الغابات الغنية بالتوت عبر البحر. وبعد عدة ساعات من الطيران، يصل إلى جزيرة ستشتهر يومًا ما بمنحدراتها الجنوبية ذات اللون الأبيض العَظمي. لكن هذه الأرض، في الوقت الحالي، مِلك للوحوش.

تحط طيور السُّمنة وسط الأشجار الموجودة على امتداد أعظم نهر على اليابسة. تجري مياه النهر ذات اللون البني الفاتح بكثافة وبطء بالقرب من عيون جاحظة محدقة بعدوانية. تتدفَّق المياه كشلال من على كتلة رمادية منبثقة مثل غواصة أسطوانية الشكل، وبينما فرس النهر يجتر، متفحصًا المياه، تتحرك أذناه بسرعة وخفة. وعلى مسافة أبعد من مسافة الهجوم، يتلكأ جاموس ماء في الوحل، وتزيِّن القنابر الحشائشَ التي تتدلى من القرون الهلالية. يتجاهلون الأسد الرابض على الضفة المرتفعة، في انتظار أن تشرق الشمس لينقشع الضباب مثلما يغتنم الأيل الأسمر الفرصة لأخذ جرعة صباحية. ولكن لا يوجد مكان في هذا النهر — ولا في أي مكان على الجزيرة التي تستنزف روافده — يكلل فيه دخانُ الخشب هواءَ الفجر.

في مستقبل بعيد بعدًا لا يمكن تصوره، تتجمع طيور السُّمنة مرَّة أخرى، ومرةً أخرى يُلقي ضوء الصباح الذهبي وهجه على النهر العظيم. لكن امتداد انتشاره صار الآن محصورًا بمدينة عظيمة، والجسور تمتد عبر المياه مثل مشدات الكورسيه. أصبحت الأسود تماثيلَ جامدةً، بكماء على قواعد حجرية ضخمة. أمامها لا تصطف قطعان، بل حشد متعدد الألوان في مواجهة حركة مرورية متدافعة. تحت التماثيل والضوضاء، تمضي تيارات ضائعة متخللةً جذمور الأسلاك والمصارف والأنفاق في المناطق الحضرية. انظروا إلى القبر الحجري ﻟ «لندن البائدة»: مدينة مستلقية على مهاد ضخم من الحصى، معبَّأ ومبطن بتراب بُني غامق متعفِّن. هنا تقع مقابر عوالم كاملة زائلة: تتناثر فيها عظام ضخمة، وتخترقها أطمارٌ مُوحِلة من أزهار ماتت منذ زمن طويل، وتنتشر في أرجائها أجنحة خنافس لا تزال قزحية اللون.

في أوروبا القرن الحادي والعشرين، تمرُّ النظرات الجامحة للوحوش العملاقة من خلال الزجاج والقضبان. وتزدحم ضفاف نهر التيمز بأماكن يتجمَّع فيها سياسيو وستمنستر، ضفاف النهر الذي كان يومًا ما مترامي الأطراف والتي تعجُّ بآثار الحيوانات الضخمة قبل أكثر من ألفَي عام. أسود لندن اليوم مصبوبة من البرونز ولها لِبَّادات منتفخة مترفة كان يفتقر إليها أسلافها. وتسبح أفراس النهر هناك في خزانات خرسانية، وحتى الغزلان تُصْطاد من أجل التسلية الملكية. لكن انظر عبر القناة الإنجليزية وستجد الوحوش تتجهز للعودة: الدببة البنية تجول في سلاسل جبال البرانس، والخنازير البرية تتجول في ضواحي برلين وقريبًا ستظهر آثار أقدام الذئاب على شواطئ بحر الشمال.

في أغلب الأحيان نتأمل بتعجُّب الحيوانات البرية المتبقية لدينا من مسافة آمِنة؛ لذلك من الصعب تخيُّل هذه القارة المزدحمة عامرة بمخلوقات أكبر؛ وأصعب بكثير استحضار بيئات كاملة زائلة. تأتي معظم الكتابات حول النياندرتال بصبغة زرقاء ثلجية، حيث غالبًا ما يُصوَّر مواطنوهم ذوو الفراء على أنهم مخلوقات متكيِّفة على الحياة في المناطق المتجمدة. بالأساس كانت الاكتشافات المبكرة المستخرَجة من الكهوف أو مقالع الحجارة عبارة عن أنواع مثل الرنة أو نسخ مكسوة بالصوف من وحوش أخرى مثل الماموث ووحيد القرن. وترسخ مفهوم عالم النياندرتال المتجمد، لكن فهم تجربتهم الأصيلة يستلزم تفكيك تصور «العصر الجليدي» المبسط والمفرد واستكشاف العوالم الكثيرة المختلفة التي عاشوا فيها، والتي لكلٍّ منها مجموعة الكائنات الخاصة بها.

المواقع الأخرى الأكثر ندرة في القرن التاسع عشر كان بكلٍّ منها مزيج غريب من المخلوقات: في كهف فيكتوريا في يوركشاير،١ إلى جانب الضبع كان يوجد فرس نهر وفيل غريب ذو أنياب مستقيمة. لم يقتصر الأمر فحسب على أن أنواعًا من القطب الشمالي كانت قد عاشت في مناطق أبعَد جنوبًا، بل إن كائنات استوائية كانت قد تنقَّلَت أيضًا بعيدًا حتى وصلت إلى أوروبا. وعلى الرغم من أن الجيولوجيين أدركوا أن الماضي السحيق اشتمل على بيئات مندثرة، فإن الفهم الحقيقي لعمر الأرض الهائل تسلل مثل فجر يوم شتوي ملبَّد بالغيوم. وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت توجد أدلة جيدة على أن الامتدادات الشاسعة للجليد القطبي التي غطَّت الكثير من شمال أوروبا قد تخللتها فترات «بين جليدية»، كانت دافئة كما هو الحال اليوم.

لقد استغرق الأمر قرنًا آخر لإماطة اللثام عن التعقيد الحقيقي للمناخ القديم. فابتداءً من حوالي قبل ٣ ملايين سنة، ازداد تسارع الدورات العالمية للتبريد والاحترار، الخاضعة لرقصة الفالس الأبدية للأرض حول الشمس. وتفاصيل كيفية تأثير المدار الإهليلجي للأرض وميل محورها وتمايله على مناخنا هي تفاصيل بالِغة التعقيد ولكن يمكن التنبؤ بها؛ فبالأساس، يحدد مقدار ضوء الشمس إلى حد كبير درجات حرارة الهواء والبحر. فهذه هي المحركات التي تدفع تمدُّد الجليد في المناطق القطبية والجبلية وذوبانه، والتي تتسبب آثارها في إحداث تغير مناخي.

يكمن الدليل في الرواسب تحت المحيط وفي جليد جرينلاند والقطب الجنوبي. تحتوي الأنوية المنقبة من الأعماق على سجلات قديمة للغاية للمناخ القديم، وتكشف عن تغير في درجات الحرارة العالمية على مدى أكثر من ١٠٠ ألف عام، بدرجة استبانة بمقياس ألفي. وبتأريخها ومقارنتها بسجلات أخرى أقصر — متسلسلات حبوب اللقاح في قيعان البحيرات، أو تراكمات الغبار المنبعثة من التندرا القديمة، أو التكلسات الصخرية في الكهوف، أو الشعاب المرجانية الاستوائية — يمكن معايرة المناخ القديم بدقة على فترات زمنية هائلة.

النمط متَّسق اتساقًا ملحوظًا: تباينت الدورات المتموجة من التبريد والاحترار في شدتها وبعضها استمرَّ لفترة أطول من البعض الآخر، لكن قلب الأرض ينبض بنفس الإيقاع أيًّا كان السجل الذي ننظر إليه. وصنَّف الباحثون الدورات المناخية الطويلة المدى باستخدام نظام يُعرف باسم مراحل النظائر البحرية Marine Isotope Stages (اختصارًا MIS؛ وفقًا للأنوية المحيطية). نحن نعيش في المرحلة 1، وهي فترة دافئة — أو بين جليدية — تلي المرحلة 2، وهي المرحلة الباردة الأخيرة، والتي انتهت منذ حوالي ١١٫٧ ألف سنة.
fig3
شكل ٥-١: المناخ القديم خلال زمن النياندرتال، بما في ذلك الفترات الجليدية والإيميان؛ وهو عالم أدفأ بمقدار ٢ إلى ٤ درجات مئوية عما هو عليه عالمنا اليوم.
تُعَيِّن المرحلة 1 حد التسلسل الزمني الجيولوجي للعصر الهولوسيني؛ فكل شيء قبل ذلك (ما يقرب من مائة دورة) حتى ما قبل حوالي مليوني سنة هو العصر الجليدي المتأخر. عد بالزمن سريعًا إلى الوراء، وسيمكنك أن ترى أن قمم المناخ الدافئ هي المراحل التي أرقامها فردية (3, 5, 7 …)، في حين أن القيعان الباردة هي المراحل التي أرقامها زوجية (2, 4, 6 …). وحتى لو كانت ثمة عناصر تظهر في أوقات أسبق، فإن أجسام النياندرتال وثقافتهم المميزة لم تصبح واضحة خلال أي فترة جليدية، وإنما خلال المرحلة المعتدلة بين الجليدية MIS 9 بعد ٣٥٠ ألف سنة. علاوةً على ذلك، بتفحص الفترة الزمنية الكاملة بين تقريبًا ٤٠٠ إلى ٤٥ ألف سنة، نلاحظ، على عكس الصور النمطية، أن النياندرتال في الواقع عاشوا خلال فترات بين جليدية أكثر مما عاشوا في فترات جليدية.
ثمَّة تقدُّم مهم آخر في فهمنا وهو أن كل مرحلة مناخية كانت متفردة. احتوت كل مرحلة على تذبذبات أصغر وأقصر في درجات الحرارة: «مراحل جليدية» باردة و«مراحل بين جليدية» دافئة. تُمَيَّز هذه المراحل الفرعية بأحرف؛ واحدة سنعود إليها أدناه هي أول موجة دافئة خلال MIS 5، وتُعرَف باسم 5e.٢ قد تستمر عدة آلاف من السنين أو فقط بضعة قرون، وقد تكون التغييرات مفاجئة للغاية. وتحدث في بعض الأحيان تحولات جذرية في درجة الحرارة والبيئة وحتى في مستوى سطح البحر على مدى عمر الإنسان.
كل هذا يعني أنه يمكننا أن نعيد بتفصيل رائع للغاية بناء الظروف التي عاش فيها النياندرتال في أي مرحلة زمنية، وأيضًا الحال الذي كان عليه العالم عندما اختفوا. يقع هذا في الفترة ما قبل ٤٠ ألف سنة تقريبًا في MIS 3، مما يعني أن مناخها وبيئاتها قد خضعت لتدقيق خاص. وعلى الرغم من تصنيفها على أنها بين جليدية في حد ذاتها، فإنها في الواقع أشبه بمرحلة دافئة ممتدة في الفترة ما بين قبل ٦٥ و٣٠ ألف سنة تقريبًا، خلال فترة أطول من الظروف الأكثر برودة عمومًا بدءًا من MIS 4 حتى نهاية MIS 2.
بالمقارنة مع فترات بين جليدية حقيقية أقدَم، فإن مرحلة MIS 3 لمعظم النياندرتال لم تكن أبدًا أمرًا ممتعًا حقًّا. كانت فصول الصيف شمال جبال الألب مساوية تقريبًا لفصول الصيف في المرتفعات الاسكتلندية في الوقت الحاضر، والتي تليها فصول خريف رطبة تمامًا. عادةً ما نتخيَّل النياندرتال مُنحنِين ومولِّين ظهورهم لهبَّات ثلجية قارسة، لكن تخيُّلهم واقفين تحت أمطار غزيرة هو أمر بنفس الدقة. ومع ذلك، كانت فصول الشتاء أشد برودة بالتأكيد، مع تساقط الثلوج على الأرض لعدة أشهر، على ما يُرجح. ولكن مع ذلك، لم تكن البيئات الأوراسية في مرحلة MIS 3 أراضي قاحلة جليدية على الإطلاق. إلا أن ما يجعل دورة المناخ هذه مميزة هو عدم استقرارها، فدرجات الحرارة تتأرجح بسرعة صعودًا وهبوطًا.

ما وراء الجليد

إذا كان تجول النياندرتال وهم يطئُون في الوحل وكذلك شقهم طريقهم بصعوبة في الثلج أمرًا غير متوقع، فثمَّة مفاجآت أكبر. كانت أحدث فترة بين جليدية مناسبة، MIS 5، «أدفأ» مما عليه الحال اليوم. فمع انتهاء المرحلة الجليدية السابقة MIS 6، ارتفعت درجات الحرارة بسرعة، وبلغت ذروتها قبل حوالي ١٢٣ ألف سنة وهي المرحلة الفرعية MIS 5e، والمعروفة باسم «الإيميان».٣ تظلُّ هذه المرحلة — حتى الآن — أدفأ مرحلة مرَّ بها أسلاف البشر عَبْر أوراسيا. استمرَّت هذه المرحلة قرابة ١٠ آلاف عام،٤ وهي فترة قصيرة بالمقاييس الجيولوجية ولكنها تُعادل حوالي ٥٠٠ جيل.

إذَن كيف كان هذا العالم المعتدل المناخ؟ على الأقل في وقت مبكِّر، كان الجو أكثر إشراقًا من وقتنا الحاضر. كان موقع الأرض بالنسبة إلى الشمس مختلفًا قليلًا، مما أدَّى إلى تعرُّض الكوكب إلى مزيد من الإشعاع الشمسي في الصيف. أدَّى هذا إلى ارتفاع متوسط درجات الحرارة بمقدار ٢ إلى ٤ درجات مئوية، مع تأثيرات ملموسة. فكانت كهوف جبال الألب، التي هي في وقتنا الحاضر عند خط الثلج، دافئة ورطبة بدرجة كافية لرؤية صواعد كهوف تنمو، وانتشرت غابات شاسعة في أنحاء القارة. والأمر الأكثر إثارة هو أن ذوبان الأنهار الجليدية والقمم القطبية أدَّى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بحوالي ٨ أمتار (٢٥ قدمًا).

ومع ازدياد درجة الحرارة، زحفت الشواطئ إلى أعلى واستُبدِلت مجموعة متنوعة من أنواع الأشجار بأخرى. فتُظهِر سجلات حبوب اللقاح أن غابات غنية بالبلوط، وتتناثر فيها أشجار الدردار والبندق والطَّقسُوس والزيزفون، حلَّت محل أشجار البَتولا والصنوبر، متحولةً في النهاية إلى غابة كثيفة من شجر النير. واستمرَّت هذه الأشجار حتى ظهور أشجار البيسية، والتنوب والصنوبر، إيذانًا ببداية المرحلة التالية MIS 5d الأكثر برودة. وقد سمع النياندرتال الذين عاشوا في نقاط زمنية مختلفة في سائر هذه الغابات المتحورة التي استمرَّت ١٠ آلاف عام أصواتًا متباينةً جدًّا في الفجر. فقد أفسحتْ طيورُ القرزبيلِ والقرقف ذي العرفِ المتشاحنةُ المجالَ لطيورِ أبو زُريق الخشنة والعندليب اللطيفة، إلى أن شهد صباح الأيام الباردة بخار أنفاس طيور الطهيوج الصاخبة في الهواء القارس البرودة.
أيضًا تُفسِد الحيوانات الأخرى في فترة الإيميان الأفكار التقليدية حول النياندرتال. فإلى جانب الأوروخس والحصان — اللذين وسعا نظامهما الغذائي من أكل العشب إلى الرعي — كانت توجد الخنازير البرية وحيوانات اليحمور وأقاربها السمراء المرقطة.٥ كانت القنادس تتغذى على الشجيرات، مما أدى إلى غمر الوديان بالمياه وشَكَّل موئلًا خصبًا جديدًا سبحت فيه السلاحف. وفي تحوُّل بيئي غريب، كانت حيوانات الغرير تصطاد هذه الزواحف.

وصلت الوحوش الكبيرة الأخرى مع الدفء: جاموس الماء، والفيل ذو الأنياب المستقيمة، وفرس النهر. لكن ثمَّة مهاجر مناخي جنوبي مثير للاهتمام بوجه خاص: وهو القرود، وتحديدًا قرود المكاك البربري.

ينحصر هذا النوع في وقتنا الحاضر في أجزاء منعزلة من شمال أفريقيا، وخاصةً الغابات الجبلية. ومع ذلك، خلال العصر الجليدي المتأخر كانت تلك الحيوانات أكثر انتشارًا بكثير، وكانت تظهر أحيانًا في مواقع النياندرتال السابقة واللاحقة. من المحتمل أن كهف هوناس الضحل في ألمانيا هو كهف من فترة الإيميان، وكان يحتوي على رفات قرود مكاك في نفس الطبقة التي كانت تحتوي على إحدى أسنان إنسان نياندرتال وقطع أثرية حجرية. من المؤكد أن هؤلاء الرفاق من الرئيسيات قد تواجهوا في بعض الأحيان. قرود المكاك البربري هي في الغالب من أكلة النباتات، ولكنها ستتغذَّى على الحشرات وحتى اللحوم مثل الطيور والأرانب الصغيرة عندما تكون الأوقات عصيبة. إنها تحب في وقتنا الحاضر أن تنبش القمامة البشرية، ومن الممكن جدًّا أنها كانت تفتِّش في مخلفات النياندرتال أيضًا.

تبدو فترة الإيميان وكأنها جنة خصبة، ومع أن النياندرتال لم يكونوا بحاجة إلى القلق بشأن الإصابة بقضمة الصقيع، فإنها لم تكن بالضبط «جنةً استوائية». تعتبر الغابات النفضية من الأماكن التي يصعب فيها على نحو مدهش أن يكون المرء فيها صيادًا-جامعًا للثمار، نظرًا إلى أن الكثير من المواد النباتية الصالحة للأكل تستغرق وقتًا وطاقة لجعلها كذلك. فالأشياء التي تُجمَع بسهولة مثل ثمار الجوز والتوت غالبًا ما تكون موسمية. وكانت الطرائد الكبيرة موجودة، ولكن كان العثور عليها في الغابات أصعب بكثير.

ولفترة طويلة، ظهرت شكوك في أن النياندرتال قد تكيفوا بالفعل مع فترة الإيميان، لعدم وجود مواقع تعود لهذه الفترة بها بقايا لهم، ولكن في الواقع ربما أدَّت تعرية لاحقة في التربة إلى إزالة معظم رواسب هذه الفترة. في وقتنا الحاضر، يوجد حوالي ٣٠ موقعًا معروفًا، على الرغم من أن القليل منها عبارة عن كهوف أو ملاجئ صخرية. هذه المواقع في الغالب محفوظة في قيعان بحيرات مدفونة أو ينابيع سطحية غنية بالكربونات. في ذلك العالم، البقاء على مقربة من الماء أمر منطقي، باعتباره المورد الوحيد الذي تحتاج إليه جميع الفرائس.

تُظهِر الأبحاثُ الحديثة أيضًا أن الغابة البرية في فترة الإيميان لم تكن ظُلَّةً عملاقةً متصلة. يتمتع قاع بحيرتين عميقتين في نويمارك-نورد، بشرق ألمانيا، بمستوى حفظ مذهل، وبأخذ عيِّنات من كل ٥سم (بوصتين) لفُتات صغيرة من نباتات وحشرات ورخويات، وجد الباحثون أن الضفاف كانت مُحاطة بمزيج من النباتات. وإلى جانب منطقة الغابات الخفيفة كانت توجد أدغال بنية وعرة ومناطق عشبية جافة بها نباتات عِرْق إنْجبار وحبق الراعي والأقحوان تحت الأقدام. اجتذبت هذه البيئة الزاهية الألوان مجموعة من الحيوانات: مخلوقات الغابة مثل الخنزير والفيل ذي الأنياب المستقيمة، جنبًا إلى جنب مع حيوانات رعي مثل ثيران البَيْسون أو الأوروخس. وكانت توجد أيضًا بعض الحيوانات العاشبة، مثل الحصان، التي تتنقل بين البيئات الإيكولوجية الملائمة، لكن الهياكل العظمية وحتى المسارات تُظهِر أن جميع الأنواع كانت تنجذب إلى البحيرات.

كيف تأقلم النياندرتال مع هذا العالم المليء بالأشجار؟ يغطي تسلسل نويمارك إلى حد كبير المرحلة الأولية الحارة والأكثر جفافًا من فترة الإيميان عندما لم تكن الغابة الكثيفة قد تطوَّرَت بعد. كانت هذه الفترة تضم أنواعًا حيوانيةً ونباتيةً أكثر تنوُّعًا، وفيها نجد معظم الأحافير. لاحقًا مع اقتراب الأشجار، تقلَّصَت البحيرة، وربما أصبحت الفرائس أكثر تفرقًا وبدأت أعداد النياندرتال تتضاءل تدريجيًّا. لكنهم لم يختفوا تمامًا: تضم طبقة عُليا تشكَّلَت خلال فترة غابات كثيفة أكثر من ١٢٠ ألف قطعة من عظام الحيوانات. إنه سجل ثَري وفريد من عمليات التقصيب (أي، نزع الأوصال والتقطيع عضوًا عضوًا) المكثفة لفترة الإيميان، ويثبت أن النياندرتال ظلوا موجودين حتى عندما كان ضوء الشمس يتسلَّل عَبْر أوراق تزداد كثافة باستمرار، وأصبح من الصعب اكتشاف خواصر الحيوانات ذات الفراء خلف الجذوع الكبيرة.

بينما كان النياندرتال يطاردون الغزلان في نويمارك-نورد، يبدو أنه لم يكن يوجد أحد يزعج الوحوش غربًا على الجهة الأخرى من القناة الإنجليزية. في الواقع، يبدو أن بريطانيا كانت خاليةً تقريبًا من أسلاف البشر لمدة ١٥٠ ألف عام، بين نهاية مرحلة MIS 7 وبداية مرحلة MIS 3. كانت نافذة محتملة لإعادة الاستعمار ستأتي تمامًا مع انحسار البرودة الشديدة لمرحلة MIS 6، ولكن ربما تكون كارثة طبيعية هائلة قد اعترضت الطريق حرفيًّا. إذ تشكَّلَت بحيرة شاسعة، تغذيها المياه الجليدية الذائبة من الغطاء الجليدي بأكمله وفاضت بسبب فيضانات أنهار استنزفت معظم أوروبا، خلف سلسلة من التلال الطباشيرية تمتد من شرق بريطانيا إلى فرنسا. لم تستطع الصخور الناعمة تحمل الضغط وانهارت، وأطلقت فيضانًا هائلًا دمر قاع القناة. كشفت عمليات المسح الزلزالية عن الندوب الناتجة عن شلالات عملاقة جرفت وديانًا ضخمةً مدفونة حاليًّا تحت الترسبات البحرية. وكان الطوفان هائلًا لدرجة أن أقرب نظير له هو الأخاديد التي تشق نصف محيط المريخ. لا بد أن النياندرتال قد سمعوا من على بُعد كيلومترات صوت الهدير المرعب الذي يفوق العادة، بينما شعرت قطعان الماموث من على مسافات أكبر بكثير بموجات تحت صوتية تدوي عبر الأرض.
تُرِكَت دوجرلاند — المنطقة المغمورة الآن بين بريطانيا والقارة الأوروبية — قاحلةً وجرداءَ تمامًا: أرض مُقفِرة. كانت توجد أخاديد عميقة وانهيارات أرضية غادرة ومناطق شاسعة من الصخور والحصى بين النياندرتال ومرتفعات بريطانيا. ربما كان هذا كافيًا لأن يردعهم، ولكن يبدو أن بداية مرحلة MIS 5 شهدت أيضًا ارتفاعًا سريعًا في مستويات سطح البحر. وصارت بريطانيا معزولة قبل أن يتمكَّن أسلاف البشر من الوصول إليها. ربما كانت الأنواع المحبة للدفء مثل الفيلة وأفراس النهر التي نجت هي تلك التي كان يمكن أن تعبر بأمان الأراضي الرطبة والأنهار المتضخمة وحتى الامتدادات القصيرة للبحر. واستغرق الأمر ٦٠ ألف سنة أخرى قبل أن يبرد المناخ وينخفض مستوى سطح البحر بدرجة كافية حتى ظهرت دوجرلاند مرة أخرى في نهاية مرحلة MIS 4. وإذ امتدت بيئة سهوب الماموث مرة أخرى من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، عاد النياندرتال والخيول إلى مناطقهم الشمالية الغربية. والإشارة الوحيدة على أن أسلاف البشر الأوائل ربما يكونون قد عبروا في وقت أسبَق تأتي من بضع قطع أثرية صخرية محتملة في جنوب شرق بريطانيا خلال مرحلة باردة متأخرة في MIS 5. ومع ذلك، إذا كانت أصلية، فمن المرجح أن مستويات سطح البحر لم تكن منخفضة بما يكفي للمشي فوقها؛ لذا ليس واضحًا بأي وسيلة وصل النياندرتال.

أزمة مناخية

مع زيادة الدقة في أبحاث المناخ القديم والأبحاث البيئية، اكتُشِف أنه حتى فترة الإيميان اشتملت على تغيُّر مناخي قصير ولكنه جذري. كانت أعلى درجات حرارة وأعلى مستويات لسطح البحر موجودة لمدة ٤ آلاف عام فقط فيما بين ما قبل ١٢٦ إلى ١٢٢ ألف عام حتى بدأ التبريد التدريجي، ولكن هذا كان بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. ما حَلَّ بعد ذلك يُعرَف باسم «موجة الجفاف المتأخرة في فترة الإيميان» وكان وقتًا عصيبًا. يأتي الدليل على موجة الجفاف المتأخرة في فترة الإيميان من رواسب البحيرات داخل الحفر البركانية التي غمرتها الفيضانات قديمًا. وبمرور الوقت تراكمت طبقات رواسب سنوية بسمك دقيق للغاية تسمى «الرواسب الرقائقية الحولية»، بسُمك ١مم (٠٫٠٤ بوصة)، وفي هذا السِّجِل المُوحِل عند مرحلة ما قبل ١١٨٫٦ ألف سنة تقريبًا يظهر أمرٌ غريب: لمدة ٤٦٨ عامًا بالضبط، أمطرت السماء غبارًا. أحصى الباحثون أكثر من ٥٠ موجة غبار كثيفة، كلٌّ منها شاهد على أراضٍ طبيعيةٍ غرقت في البرد والجفاف المفاجئين. أدَّت الخسارة الفادحة للغطاء النباتي إلى تآكُل كبيرٍ للتربة وعواصف ترابية اخترقت الهواء. تسجل مصادر أخرى هذه الصدمة المناخية الهائلة، من تكلسات توقفت فجأة عن التعاظم إلى ألباب حبوب اللقاح حيث تختفي الغابات الدافئة وتظهر التندرا في أقل من قرن. وتظهر طبقات متكرِّرة من الفحم: كان المناخ جافًّا جدًّا، فكانت تضطرم حرائق الغابات.

لا يسعنا إلا أن نتخيَّل ما صنعه النياندرتال مع دمار غاباتهم المعهودة على مدى جيلين فقط، أو مع الطقس المخيف وغير المتوقَّع. انتهت موجة الجفاف المتأخرة في فترة الإيميان بسرعة كما بدأت. ومع ذلك، على الرغم من أن درجة الحرارة والرطوبة تحسَّنَتا لفترة وجيزة وأتاحتا الوقت لبعض الأشجار المحبة للدفء لإعادة الاستيطان، لم تتعافَ أبدًا مناطق أخرى. بدلًا من ذلك، نمَتْ غابات صنوبرية، إيذانًا ببداية الانخفاض في درجة الحرارة الذي استمر حتى نهاية العصر الجليدي المتأخر. سادت التندرا الحقيقية في شمال أوروبا قبل حوالي ١١٥ ألف سنة، وبدأت قمم جليدية قطبية متضخمة في إرسال مجموعات كبيرة من الجبال الجليدية وصلت إلى أقصى الجنوب حتى إيبيريا. وكانت مرحلة MIS 5 بين الجليدية تلفظ أنفاسها الأخيرة، متضائلة تدريجيًّا جرَّاء تعاقبات سريعة غير منتظمة من الدفء والبرودة، متتبعةً موجتها المختلة. ومع ذلك، تابع النياندرتال مضيهم قدمًا. وخلال اللحظات الأخيرة من الفترة بين الجليدية، يزداد عدد المواقع، ويظهر تنامي في الابتكارات التكنولوجية.

الفترات الجليدية

لم تكن الغابات ولا الحرارة ولا الغبار كافية للقضاء على النياندرتال. ولكن ماذا عن العصور الجليدية الحقيقية خلال الفترات الجليدية؟ كان متوسط درجات الحرارة في أشد مراحلها حوالي ٥ درجات مئوية أقل من وقتنا الحاضر. كان ذلك كافيًا لجبهة جليدية شاسعة تبلغ سماكتها مئات الأمتار لتزحف بعيدًا عن القطبين. اختلف مدى القمم الجليدية خلال كل فترة جليدية، ولكن في ذروة مرحلة MIS 6، وصلت إلى منطقة ميدلاندز البريطانية وإلى دوسلدورف، بألمانيا في الجهة المقابلة.٦ وأثناء التجمد الشديد الأخير لمرحلة MIS 2، حتى منطقة الجنوب الغربي الفرنسية — حيث تصل درجات الحرارة في الصيف الآن إلى ٤٠ درجة مئوية — كانت أرضًا دائمة التجمد وصحراء قطبية. وبالإضافة إلى البرودة، تسببت المحيطات المحبوسة على هيئة جليد في حدوث انخفاضات هائلة في مستوى سطح البحر على الصعيد العالمي، أحيانًا أقل من ١٠٠ متر (٣٠ قدمًا). شَكَّل هذا إحدى الفوائد القليلة للعيش في الفترات الجليدية: أراضٍ جديدة شاسعة تحيط بها مصبات أنهار غنية.

ومع ذلك، حتى عندما كُبِحَت القمم الجليدية، كانت الأزمنة لا تزال قاسية للغاية. على الأرجح كانت أنماط الطقس غريبة، مع تساقط ثلوج وعواصف جليدية على نطاق لم نشهده من قبلُ. وبالإضافة إلى البرودة، جلبت الفترات الجليدية الجفاف. أدى الهواء الجاف القارس البرودة إلى جانب المياه الجوفية الصلبة المتجمدة في مناطق التربة الصقيعية إلى جعل الجفاف خطرًا حقيقيًّا.

كل هذا تسبَّب في تأثيرات بيئية هائلة. في العديد من أنحاء شمال أوراسيا تبددت غابات الصنوبر. امتدَّت التندرا في مناطق التخوم الجليدية جنوب الغطاء الجليدي، مشكِّلةً بساطًا متنوعًا من الطحالب والأشنات والأشجار المتقزمة القوية التي قد تتجاوز ارتفاع الكاحل إذا حاولت جاهدةً. جنوبًا، خفت حدَّة هذه التأثيرات فتشكلت سهوب تندرا، تشبه أجزاءً من سيبيريا اليوم، ولكنها تحتوي على مزيج من أنواع لا مثيل لها في العصر الحديث. اجتاحت الرياح فسيفساء من الأعشاب العطرية والحشائش والشجيرات الخفيضة؛ كانت الأرض خضراء مصفرَّة في الربيع، وتتوهَّج كاللهب والدم في الخريف.

كانت هناك موائل صغيرة توجد بها نباتات أكثر كثافة، وتنبئنا حبوب اللقاح والفحم أن «بعض» الأشجار ظلَّت صامدة. احتشدت أشجار البتولا المرنة على الأنهار، وحتى النباتات بين الجليدية المتفردة — البلوط والزيزفون — كانت تختبئ في أخاديد محمية. وشرقًا باتجاه آسيا، كانت السهوب مزركشة بالتايجا: وهي غابة صنوبرية سبخية تفضلها حيوانات الإلك،٧ ولكن يصعب الترحال خلالها. وحتى في الجنوب الأكثر عزلة حول البحر الأبيض المتوسط، تغيرت المجتمعات النباتية لمسايرة ظروف الجفاف.
تجنب النياندرتال حقًّا في معظم الأحيان ظروف القطب الشمالي. على سبيل المثال، في شمال فرنسا، يتضاءل حقًّا السجل الأثري الغني في أواخر مرحلة MIS 5 ما إن يبدأ البرد القاسي والمستمر في مرحلة MIS 4. ربما انتقل البعض جنوبًا، وانقرض البعض الآخر، ولكن ربما تكون مواقع MIS 4 النادرة مرتبطة بالارتفاعات المفاجئة القصيرة في درجة الحرارة. كذلك ترك وحيد القرن والماموث المكتسيان بالوبر أقسى مناطق التندرا لمتخصصين في القطب الشمالي مثل الرنة أو الثعلب القطبي. الحيوانات الأصلب هي ثيران المسك، المتكيفة مع البرد القارس والثلوج العميقة، والتي اتسعت رقعة وجودها جنوبًا فقط خلال الفترات الجليدية البالغة الشدة. من المذهل أن المواقع العابرة التي عثر فيها على الأدوات الحجرية مع عظام ثور المسك موجودة بالفعل. وهي تشهد على أن النياندرتال كانوا مرِنين بما يكفي للتعامل، مؤقتًا على الأقل، مع بيئات العصر الجليدي الصعبة. لكن النياندرتال كان أكثر سعادة في سهوب التندرا التي تتجلى في مرحلة MIS 3، التي سكنتها قطعان تقترب في وفرتها من تلك الموجودة في الأراضي العشبية الأفريقية الكبرى في وقتنا الحاضر. إن الفهم الحالي الأكثر دقة للمناخ والبيئة في العصر الجليدي المتأخر يطرح بالتأكيد التفسيرات «القطبية المفرطة» للبنية التشريحية للنياندرتال في إطار أقل يقينًا.

من الساحل إلى القمة

عاش النياندرتال تجارب التغيرات المفاجئة في مناخ الأرض لمئات الآلاف من السنين، حيث تأقلموا مع الظروف المناخية المتطرفة التي صاحبت ذلك. علاوةً على ذلك، فإن تحطيم الأساطير التي نُسِجَت حول عالمهم يتخطى مسألة درجة الحرارة إلى نطاقهم البيئي الواسع. لقد عاشوا بعيدًا عن المناطق الأوروبية حيث اكتُشِفوا لأول مرة، وكان يُعتقَد طويلًا أنها معقلهم. يُظهر استكشاف اتساع جغرافيتهم أنه على الرغم من تكيفهم بسعادة مع سهوب التندرا، فإنه من الناحية البيئية، يجب في الوقت نفسه اعتبار النياندرتال مخلوقات من غابات البحر الأبيض المتوسط. بقيت أشباه جزر مثل جنوب إيطاليا دافئة بما يكفي لبقاء أفراس النهر على قيد الحياة حتى بعد مرحلة MIS 5، وحسب علمنا، كانت هذه المناطق الطبيعية دائمًا معقلًا للنياندرتال، حتى النهاية.
لنبدأ من الطرف الجنوبي الشرقي لأوروبا: جبل طارق. هنا نجد الصخرة العظيمة ناتئةً في البحر الأبيض المتوسط، وهي المكان الوحيد في أوروبا الذي لا تزال فيه قرود المكاك البرية تتسلق الصخور. يُظهِر الحمض النووي أنها ليست موجودة منذ القِدَم ولكنها تاريخيًّا أتت من الجزائر والمغرب؛ يمكن رؤية شمال أفريقيا جنوبًا عَبْر ضباب البحر.٨ لكن الرئيسيات في العصر الجليدي المتأخر ممثلةً في النياندرتال عاشت هنا. وعلى الرغم من صغر مساحته — إذ لا يتجاوز طوله ٦ كيلومترات (٤ أميال) — فإن جبل طارق هو عالم مصغر غني بالموائل، عزَّزَته ظروف مستقرة استقرارًا فريدًا حتى خلال أسوأ الاضطرابات المناخية. لقد بقيت بساتين الزيتون والوزغ وحتى ضفادع الأشجار لعشرات الآلاف من السنين، ولم تتأثر بالظروف القاسية والقاحلة التي عانت منها الكائنات في أقصى الشمال في إيبيريا. وفيما يخص النياندرتال، كان هذا المكان موئلًا رائعًا لها: إذ تتوفر به موارد وفيرة ومتنوعة وكهوف تغمرها أشعة الشمس المشرقة.
لطالما انجذب البشر إلى الصخرة. تأتي القطع الأثرية من العصر الحجري الحديث والعصر الروماني من بعض من الكهوف التي يزيد عددها عن ٢٠٠ كهف، على الرغم من أنه منذ القرن الثامن عشر، أصبح استخدام هذه الكتلة الضخمة من الحجر أكثر كثافة. في وقتنا الحاضر، تتزاحم التحصينات العسكرية مع التلفريك والمحمية الطبيعية حيث تزعج قرود المكاك السياح للحصول على وجبات خفيفة. ولكن تحت كل هذا، توجد أنفاق أطول عشر مرات من كامل طول الرأس البحري الذي يتخلل الحجر الجيري. بدأ الحفر العسكري في القرن الثامن عشر، مما أدى في النهاية إلى اكتشاف جمجمة فوربس. وبعد ذلك بوقت طويل، قاد تمركز معلم دوروثي جارود، مؤرخ ما قبل التاريخ، هنري بروي، هناك خلال الحرب العالمية الأولى، إلى اكتشافها لطفل موقع برج الشيطان.٩ ولكن لم يبدأ التنقيب في الكهوف الكبيرة على امتداد المنحدرات حتى ثمانينيات القرن الماضي، فكشفت كيف كانت الحياة في «كوستا ديل نياندرتال» (ساحل النياندرتال).

فقط خلال مستويات سطح البحر المرتفعة مثلما في وقتنا الحاضر، يتشتَّت ضوء الفجر قبالة البحر الأبيض المتوسط إلى داخل كهفَي فانجارد وجورام البارزين، ولكن المحيط كان مهمًّا دائمًا للنياندرتال الذين يعيشون هنا. عندما كان الشاطئ أقرب، كانوا يجمعون طعام البحر ويحقِّقون أقصى استفادة من اللُّقيَّات الأكثر ندرة والأكبر مثل الأسماك أو الثدييات البحرية. وخلال الفترات الجليدية، تراجع الساحل لمسافة تصل إلى ٥ كيلومترات (٣ أميال)، مما كشف عن سهل كثبان رملية جاف أمام الكهوف، ولكن حتى في ذلك الوقت جلب النياندرتال المحار، بما في ذلك بلح البحر الكبير الذي كانوا يلتقطونه من مصبات الأنهار الصخرية، والتي توجد على بعد مسافة طويلة مشيًا إلى الشرق.

كما سنرى في الفصل الثامن، فإن المواقع القليلة التي نرى فيها النياندرتال صيادين ساحليين على كلٍّ من ساحلَي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط هي على الأرجح غيض من فيض. من الممكن أن عدة مئات أخرى من الكهوف قد غرقت بسبب ارتفاع مستوى المحيطات: لا بد أنه توجد كهوف غارقة يماثل ساكنوها الحاليون من سرطانات البحر وثعابين الموراي المتشككة بقايا طعام البحر المدفون. وقد بدأت عمليات المسح الأثرية في الغواصات الآن في البحث في التخوم الصخرية لأوروبا، ولكن يجب علينا من الآن فصاعدًا أن نرى أن أقدام النياندرتال لا تخطو فقط عبر السهوب بل تترك آثارها على السواحل الرملية.

يختلط الشاطئ الآن أمام كهوف جبل طارق بحطام ناعم متفجر من أنفاق عسكرية تضمَّنَت إنشاء خزانات مياه ضخمة لحامية الحرب العالمية الثانية. لا تزال الإمدادات للمدينة مصدر قلق، وكشفت أعمال البنية التحتية في الثمانينيات من القرن الماضي على ارتفاع يزيد على ٢٥٠ مترًا (٦٥٠ قدمًا) فوق المنحدرات عن تجويف صغير. إنه محطة توقف للنياندرتال الذين كانوا يصطادون في أعالي هذه البيئة الجبلية الصغيرة، وكانت طريدتهم الرئيسية هي الوعول، وهي من أقارب الماعز ولكن أكبر بكثير. اشتُق من رفاتها اسم الموقع — كهف الوعل — إلا أنه يبدو أن النياندرتال لم يأتوا إلى هنا ليستقروا أو حتى ليُقَصِّبوا الذبائح، نظرًا إلى أنه يوجد عدد قليل جدًّا من الأدوات الحجرية. ولكن، ربما كان عامل الجذب الرئيسي هو المناظر الرحبة للسهل بالأسفل. لقد أخذوا الوعول التي اصطادوها وعادوا بها إلى كهوف جورام وفانجارد، ربما نزولًا على كثيب هائل من الرمال التي كومتها الريح قبالة الجرف: طريق مختصر جيد عندما يحمل المرء أوراكًا ثقيلة من اللحوم.١٠

عُثِر على وعول في عشرات من مواقع النياندرتال الأخرى في بيئات وعرة. ولكونها رشيقة ومغرورة وقوية للغاية، لا بد أنه كان يستلزم اللجوء إلى تقنيات خاصة لصيدها، وعناية خاصة لتجنُّب قرونها المقوسة الهائلة. ربما كان صيد ظباء الشامواه أصعب، لكننا نجدها أيضًا، بما في ذلك موقع على ارتفاع حوالي ١٤٠٠ متر (٤٦٠٠ قدم) في لاس كاليخولاس، غرب وسط إسبانيا. الجو بارد وجاف جدًّا هناك حتى في يومنا هذا، ولكن ماذا عن الارتفاعات الأعلى؟ لا مشكلة: فالنياندرتال في سلاسل جبال الألب والكاربات وسلاسل جبال أخرى كانوا يتسلَّقون إلى ارتفاع لا يقل عن ألفَي متر (٦٥٠٠ قدم). خارج الفترات بين الجليدية الكاملة، لا بد أن هذه الأماكن الطبيعية السامقة قد اتسمت بوجود أنهار جليدية فائضة ومنحدرات ثلجية معظم العام.

لماذا اختاروا هذه الأماكن المتطرفة؟ أحد الاحتمالات هو تتبع أنواع مثل الغزلان الحمراء التي تنتقل موسميًّا إلى مناطق الرعي المرتفعة. لكن الجبال نفسها ربما كانت جذابة، وتقدم أحجارًا وفيرة وعالية الجودة: وهو مورد لا بد أن النياندرتال كانوا دائمًا متأهبين لاغتنامه. ربما حتى تتبعوا مصادر حصى الأنهار الكبيرة في عكس مجرى النهر، كما فعلت شعوب لاحقة من شعوب ما قبل التاريخ.

ربما كانت لديهم أهداف جبلية أخرى، مثل الدببة التي تقضي سباتها الشتوي، ولكن في أماكن أخرى يبدو أن النياندرتال كانوا نشطين على ارتفاعات مذهلة لأنهم ببساطة كانوا يشعرون بالراحة هناك. يقع كهف نوازيتييه في جبال البرانس الفرنسية على ارتفاع يزيد على ٨٠٠ متر (٢٦٠٠ قدم) ولا توجد به موارد جبلية واضحة ربما تكون قد اجتذبت النياندرتال إلى هناك قبل ما بين ١٠٠ إلى ٦٠ ألف سنة مضت. كانت الغزلان الحمراء والأغنام الجبلية التي كانوا يصطادونها شائعة أيضًا على ارتفاعات منخفضة، ولا يوجد أي حجر بجودة خاصة في الجوار. ولكن، يبدو هذا الكهف مثل العديد من الكهوف الأخرى عبر عالمهم: كان يُستخدَم بانتظام كمكان للإقامة، وإنْ كان لفترات وجيزة. إما أن النياندرتال هنا كانوا سكانًا دائمين للجبال، أو كانوا يستخدمونه محطةً في طريقهم إلى مناطق أخرى. إذا كان ذلك هو الحال، فنحن نرصد عمليات عبور لجبال البرانس. يدعم ذلك دراسات عن مصادر إمداد الحجارة تثبت أن النياندرتال قاموا بمثل هذه الرحلات عبر ممرات عالية في جبال البرانس، والماسيف سنترال، وسلاسل جبلية أخرى.

سواء كانوا بالأعلى بين قمم تغطيها ثلوج تكومها الرياح أو يبحثون بين الأعشاب البحرية، يبدو أن الأماكن الطبيعية التي تمثل عائقًا أمام النياندرتال قليلة حقًّا. حتى الصحاري تظهر على الخريطة العظيمة لعالمهم؛ على عكس ما كنا سنتوقعه من متخصصين في التعامل مع المناطق المتجمدة. ففي النهاية تتحول بيئة البحر الأبيض المتوسط الدافئة والصخرية التي امتدت بين جبل طارق وتركيا إلى بيئات أكثر جفافًا باتجاه آسيا الوسطى، وكلها غنية بأحافير النياندرتال وآثارهم. بيئيًّا يمكنهم أن يحولوا دفتهم، ويتكيَّفوا مع كل ما هو متاح، من تمر النخيل إلى الزيتون، ومن السلاحف إلى الغزلان؛ وحتى الجمال الضخمة على أطراف شبه الجزيرة العربية.

النوع الوحيد من المناطق في غرب أوراسيا الذي يفتقر حتى الآن إلى أدلة على وجود النياندرتال هو الأراضي الرطبة الحقيقية. فللقيام بأكثر من زيارة وجيزة لتلك الأماكن، ثمة حاجة إلى استثمار جادٍّ في مراكب مائية أو هياكل مرتفعة مثل المسارات والمنصات. لكن أي شيء يمكن أن يحدث. ربما توجد مفاجأة في مكان ما، في الأراضي الشمالية ذات التربة الخثية عميقًا تحت الأجساد التي ترجع إلى العصر الحديدي، المدبوغة بالطحالب والمحفوظة في مستنقعات الخث الراكدة.

•••

كانت صورة النياندرتال الذين يكافحون عبر الثلوج العميقة، وينفثون البخار في الهواء المتجمد، ثابتة على نحو ملحوظ منذ اكتشافهم. ولكن غمامات العصر الجليدي التي وضعناها أمام أعيننا حجبت عنَّا قدرتهم الفطرية على التكيف. لم تكن الصحراء القطبية وطنهم الحقيقي أبدًا، على الرغم من أنهم «في حالات الضرورة القصوى» ربما يكونون قد تأقلموا معها لفترة من الوقت. إنهم في أغلب الأحيان تجنبوا البرودة الشديدة، ويبدو أنهم كانوا أكثر نجاحًا في المناخات الأكثر اعتدالًا، سواء كانوا محاطين بسهول عشبية أو فُسَح وسط الغابات.

حتى الحيوانات التي تكيفت مع البرودة مثل حيوانات الماموث المكسوة بالصوف كانت مرنة بيئيًّا؛ إذ نشأت خلال المرحلة الجليدية MIS 6 ولكن عُثِر عليها لاحقًا جنبًا إلى جنب مع أفيال الغابات ذات الأنياب المستقيمة المحبة للدفء.١١ إن نزعاتنا المتسمة بالتصنيف هي التي تحصر النياندرتال في العوالم الجليدية، بينما الواقع أكثر تنوعًا بكثير. ولكن كان لديهم شيء لا تملكه المخلوقات الأخرى، سمح لهم بالتعامل مع أسوأ ما يمكن أن يُلقي به العصر الجليدي المتأخر في وجوههم، ألَا وهو: ثقافة تكنولوجية معقدة.
١  على غرار كهف لاسكو، عُثِر على كهف فيكتوريا عندما فُقِد كلبٌ في حفرة.
٢  تمضي الأحرف عكسيًّا؛ لذا فإن الحرف e هو الأقدَم من بين خمس مراحل جليدية وبين جليدية في MIS 5.
٣  الإيميان هو مصطلح مناخي غرب أوروبي للعصر القديم سُمي على غرار موقع نسق قديم وُجدت فيه أدلة متعلِّقة بحبوب اللقاح على هذا المناخ القديم، ويوجد العديد من المصطلحات الإقليمية المرادفة الأخرى — على سبيل المثال في بريطانيا، الإيبسويتشان.
٤  كان رد فعل الحياة النباتية في جنوب أوروبا أسرع، لذا فهي تدوم عدة آلاف من السنين أطوَل من شمال أوروبا.
٥  جميع أنواع الأيل الأسمر «البرية» في أوروبا في عصرنا الحاضر هي نتيجة أسلاف تاريخية.
٦  أعظم الفترات الجليدية كانت قبل عصر النياندرتال، خلال مرحلة MIS 12: حيث امتدت الجبهة الجليدية في بريطانيا شمال لندن مباشرةً، ودفعت نهر التيمز إلى مساره الحالي وأزالت نهرًا قديمًا استنزف الكثير من مياه ميدلاندز يُسمى بيثام.
٧  حيوان الإلك في أوروبا هو ما يُعرف باسم الموظ في الولايات المتحدة؛ ومع ذلك، ليس لدينا أي دليل على أن النياندرتال اصطادوه.
٨  من المفترض أنه كانت توجد خرافة مفادها أنه إذا غادرت قرود المكاك، فإن البريطانيين سيخسرون جبل طارق، مما دفع تشرشل إلى إصدار أوامر بإعادة أعدادها إلى ما كانت عليه خلال الحرب العالمية الثانية.
٩  لاحظ بروي الأدوات الحجرية على المنحدر أثناء مشيه في الخارج، واقترح أن تُجري جارود عملية تنقيب.
١٠  لضباط جبل طارق في القرن التاسع عشر، كان الكثيب الرملي مكانًا مفضَّلًا لعشاق علم النبات وكذلك طريقًا للفارين من الخدمة العسكرية.
١١  انقرضت هذه الأفيال في نهاية المرحلة بين الجليدية الدافئة MIS 5.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤