الصخور تبقى
تتلألأ أشعة الشمس على صفحة بحر يزخر بأغطية جليدية قطبية متلاشية. كان ذلك قبل ثمانين مليون سنة: الصورة اليوم غير مكتملة، فجبال الألب وجبال البرانس لم ترتفع باسقةً بعدُ. عوضًا عن ذلك، في الموضع حيث ستكون أوروبا يومًا ما، يظهر مشهد شبه استوائي من الأرخبيلات ويختفي مع مد المحيطات وجزرها. ترج خطوات تيتانوصور الأرض الصلبة، بينما على السواحل المالحة ترتفع التيروصورات بأجنحتها الضخمة فوق سطح البحر. وتندفع ظلالها فوق الأمواج الفيروزية بينما تتصاعد كتلة داكنة تحتها. حشد من لافقاريات الأمونيت هاجمه زاحف بحري من نوع الموزاصور، مبعثرًا شظايا الأصداف التي أخذت تدور حلزونيًّا ببطء لأسفل. يتعالى طين ناعم بينما تستقرُّ الشظايا على قاع البحر، الذي هو عبارة عن أرض قفر طميية. تلك المساحة يجددها شلال لا ينتهي من الإسفنج المفصول، والرخويات وأشكال متحلِّلة من عوالق لا حصر لها.
دَوِّر الأرضَ مثل كرة مرمرية: القارات تزحف، والطين يثخن وينضغط، ويتصلب متحولًا إلى حجر جيري. تنضح الصخور الحديثة العهد هلام السيليكا في فراغات، بعضها داخل جحور قديمة، والبعض الآخر يملأ أصدافًا غير مهشمة بأعجوبة. ضع إصبعًا على الكرة المرمرية لتبطئ دوران الكوكب. لقد جفت البحار، وارتفعت سلاسل الجبال، والآن تتذبذب القمم الجليدية الشاسعة عند القطبين. ومع توالي العصور، اشتدَّ ثقل الضغوط الهائلة، مؤديةً إلى تخثر السيليكا وتنامي شبكات بلورية مجهرية تطورت وغيرت حالة مادتها. صارت صوانًا. وبعيدًا في الأعلى، تجري أرجل ذات حوافر عبر الأرض، وتتلاعب النسمات بجلود حيوانات مكسوة بالفراء. وتؤدي الدورات المناخية المتعاظمة والمضمحلة إلى تآكُل الحجر الجيري، بينما تنقله الصفائح التكتونية والأنهار إلى أخاديد متعرجة ومتدرجة.
كان عصر يوم عاصف منذ مائة ألف عام: عاصفة رعدية رمادية خضراء تندفع فوق أحد الوديان الضيقة. تفسح صخرة مبللة بالمطر الطريق، وتنزلق لأسفل وتُخرِج من بين الأنقاض لؤلؤةً صخريةً، سوداء مثل الغيوم. يسقط الصوان في النهر بالأسفل مرتطمًا بالماء، وينضم إلى طبقة الحصى المتدحرجة ببطء. وعلى مدى خمسين ألف عام، يندفع مع الفيضانات، ويتجمد متخذًا هيئة تيارات دوامية ثلجية، ويتوقف لقرون عند عوائق حصوية. في ربيع أحد الأعوام، يستقر الصوان، الذي صار الآن مُدَوَّرًا، على ضفة صغيرة، متلألئًا بعد هطول زخة مطر. وفوق الضفة، يكسو السماء دخانٌ بزرقة كئيبة، آتيًا من ملجأ واسع من الحجر الجيري. يتقاطر الناس إلى النهر محدثين صخبًا، وهم ينظرون كالعادة إلى الحجارة، وبريق الصوان يلفت نظر أحدهم. يلتقطونه ويفحصونه ويضربونه بحجر آخر ليكشف عن صوته الصافي. تكشف بضعة ضربات عن باطن أملس، مثل دهن قديم، وسرعان ما سيصبح زلقًا بدماء زاهية بعد أن يتحوَّل إلى أداة.
كانت الأدوات الحجرية هي العنصر الأساسي في حياة النياندرتال. كانت تربط بين كل جانب من جوانب عالمهم، وهي الوحدات الأساسية التي يحاول علماء الآثار من خلالها إعادة بناء ثقافاتهم. يعرفها الباحثون باسم «القطع الأثرية الصخرية»، ولكلٍّ منها قصة فريدة تنطلق من تكوينها الصخري إلى اليوم الذي التقطها فيه أحد النياندرتال، وتمضي قدمًا حتى إعادة اكتشافها بمجرفة. ويحدد سياقها الجيولوجي طابعها، سواء كان منشؤها تحت سطح البحر أو تحت قواعد الجبال أو في هيئة حِمم متدفقة. إنه أيضًا ما لفت انتباه أسلاف البشر منذ آلاف السنين، ولكن اليوم غالبًا ما تمرُّ أعين زوار المتاحف مرور الكرام على هذه الأغراض.
وهي محفوظة في صناديق زجاجية، من الصعب إدراك وجود ارتباط بينها وبين الزمن الذي حملت فيه قلة قليلة من الأشخاص أحدها، ناهيك عن صنعها والاعتماد عليها للبقاء على قيد الحياة يوميًّا. قد يكون جمالها الصارخ موضع تقدير، لدرجة أنها تُعرَض في صالات العرض باعتبارها فنًّا، لكن من منظور معظم الناس تظل حجارة بكماء. في الحقيقة، سواء كانت أغراضًا منفردة أو تجميعات كاملة، تعتبر تلك القطع الصخرية مصادر ثرية ثراءً غير عادي لفهم حياة النياندرتال.
ولكن بدا أن أول أحافير إنسان نياندرتال عُثِر عليها لم يكن معها أي قطع أثرية مصاحبة (لم يلحظ أحد القطع الصخرية في فيلدهوفر، ولم يُعَد اكتشافها إلا عند التنقيب في نفايات المواقع في تسعينيات القرن الماضي). ولما يقرب من ٣٠ عامًا كان صانعو الثقافة الموستيرية لغزًا، ولم يعرف أحدٌ ما إذا كان النياندرتال قد امتلكوا ثقافة مادية. أول ارتباط لوحظ بين الهياكل العظمية والقطع الأثرية من العصر الحجري الأوسط كان في موقع سباي، واستغرق الأمر وقتًا أطول بكثير حتى يدرك علماء ما قبل التاريخ أن النياندرتال قد عالجوا الحجارة بطُرق معقَّدة تعقيدًا مذهلًا.
ليس من المستغرب أن خبراء القطع الأثرية الصخرية في القرن الحادي والعشرين مختلفون اختلافًا كبيرًا للغاية عن علماء التصنيف. فهم لا يتجاهلون أي شيء، حتى الرقائق الصغيرة والشظايا، ويمكن لفحص تجميعة أن يستغرق مئات الساعات من العمل. ومع ذلك، إذا كان تسجيل القطعة الأثرية العشرة آلاف يصبح مضجرًا بسبب التكرار، فلا يحتاج المرء إلا إلى تذكر الامتياز غير المعقول المتمثل في الاحتفاظ ببساطة بهذه الأغراض. وتتزايد رقمنة وميكنة التنقيب والتسجيل، لكن تركيز الاهتمام لا يزال حاسمًا في التحليل. يُطبع كل غرض في الذاكرة حيث يُعاد بناء تكوينه عقليًّا من خلال قراءة الوسمات التكنولوجية على سطحه.
هنا يكون تعلُّم آلية التشذيب ضروريًّا. يُعرف الغرض المراد معالجته، مثل الحصاة الكبيرة، باسم «النواة» ويُطرق بشيء أصلب. الأجزاء التي تنفصل تُسمى رقائق؛ وكيفية حدوث هذا من الناحية العملية تعود إلى مزيج من المهارة والجيولوجيا والفيزياء. يحدد مدى قوة الطرقات ومكانها الشكل الذي ستصبح عليه الرقاقة. تنتشر الطاقة الحركية في شكل مخروطي من نقطة الطَّرْق، وحافتها هي ما يُشكِّل جانبًا واحدًا من الرقاقة. وغالبًا ما يتخلف عن هذه العملية تموُّجات مرئية على كلٍّ من «الندبة» السلبية للنواة والصورة المعكوسة للسطح الداخلي للرقاقة. ومن خلال البحث عن هذه السمات وغيرها من سمات التشذيب المميزة على الأنوية والرقائق، يمكن للباحثين إعادة بناء طريقة التشذيب وإلى حدٍّ ما تحديد تسلسلها، أحيانًا باستخدام قطعة أثرية واحدة.
ولأنهم كانوا حرفيين أكثر من كونهم خُرَقاء، كانوا يقدرون قيمة الأدوات المناسبة للمهمة. كان اختيار المطارق — الأشياء التي تضرب الأنوية — أمرًا بالِغ الأهمية. تمتلك الحصى الصغيرة الكتلة اللازمة لضربها بشدة للحصول على رقائق كبيرة، ولكن الحصى الصغيرة أفضل للحصول على عمل أكثر دقة. واستخدام المطارق «اللينة» بدلًا من المطارق الصلبة يُحدِث تأثيرات مختلفة. تنشر المواد العضوية المرِنة مثل قرون الوعل والعظام، أو حتى الصخور الأقل كثافة مثل الحجر الجيري، الطاقة الحركية وتنتج رقائق أرق وأطول. كان هذا بالغ الأهمية عندما كان التشكيل هو الهدف، وللتشذيب الثانوي (التهذيب). فالأدوات — المصنوعات الحجرية التي كانت تُستخدم في فعل أشياء أخرى — غالبًا ما كانت تُنَمَّق، أحيانًا لإعطاء شحذ معيَّن، ولكن غالبًا لإعادة شحذها: تصبح الرقائق ثَلِمة بسرعة كبيرة حتى عند تقطيع اللحم.
لقد أتقن النياندرتال بوضوح أساسيات تفتيت الأحجار، ولكن أين الموقع الذي يحتلونه في التطور الأوسع للتكنولوجيا الحجرية؟ بالعودة إلى ما قبل ٣٫٥ مليون سنة، كان الأسترالوبيثيسين صانعو أقدم القطع الأثرية المعروفة — رقائق غير مهذبة مُقتلَعة من قطع صخرية — كانوا سينظرون إلى تشذيب النياندرتال للحجارة بنفس القدر من الرهبة والإجلال الذي كانوا سينظرون به إلى تشذيب الإنسان العاقل المبكر لها. استغرق الأمر حتى ما يقرب ما قبل ٢٫٥ مليون سنة كي يطور أسلاف البشر مفاهيم هندسية، مما سمح لهم بالبدء في التحكم حقًّا في تكسير الحجر. ظهرت الأنوية «المركزية» الأولى، حيث أزيلت الرقائق بعناية وتتابع من حول المحيط، تاركةً أنماط قضبان العجلات.
بحلول ما قبل ١٫٨ مليون سنة، تظهر القدرة على تقسيم الأحجام عقليًّا من خلال أكثر القطع الأثرية من العصر الحجري القديم شهرةً بصريًّا: الأدوات الحجرية ذات الوجهَين. كان تصنيع هذه الأدوات الحجرية ذات الوجهَين (المعروفة أيضًا باسم الفئوس اليدوية) ممكنًا بسبب الاستخدام المتزايد للمطارق اللينة، مما سمح بتشكيل أسطحها عن طريق التقشير الضحل.
ترويض صخرتك
ورث النياندرتال هذه الطرق، التي هي أصلًا قديمة، لتشكيل الأحجار وصنعوا أيضًا أدوات حجريةً ذات وجهين، لكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك في التعامل مع الكتل المادية. بدأت تظهر أنظمة متنوعة لطرق أكثر منهجية ودقة في الحصول على رقائق كبيرة من الأنوية الصخرية، وهذه هي التي تُمَيِّز حقًّا العصر الحجري القديم الأوسط. وهي تظهر لأول مرة في أفريقيا قبل حوالي ٥٠٠ ألف سنة، ومن المحتمل أن تكون من صنع المجموعات السابقة للإنسان العاقل، لكنها في أوروبا تنتشر على نطاق واسع في نفس الوقت الذي أصبحت فيه السمات التشريحية لإنسان نياندرتال واضحة بالكامل بين ما قبل ٣٥٠ و٤٠٠ ألف سنة. ما يجعل تشكيل الرقائق الصخرية في العصر الحجري القديم الأوسط مختلفًا هو أنه طور أكثر التقسيم المفاهيمي للكتل الحجرية، مع معالجة أنوية الصخور باعتبارها نصفَين. وبتشكيل القاعدة وإعداد مناطق جانبية خاصة لطرقها، كان من الممكن توجيه كيفية خروج الرقائق من السطح العلوي، مع التحكم في شكلها وحجمها.
أدَّت هذه الحقيقة إلى النظر إلى تقنية ليفالوا لبعض الوقت باعتبارها تقنية مُسرِفة إلى حدٍّ ما، لكن عقودًا من العمل المتأني كشفت أنها أكثر تعقيدًا ومرونة. فبإزالة رقائق تحضيرية صغيرة بأنماط مختلفة عبر السطح العلوي، ابتكر النياندرتال خطوطًا عريضةً وجهت الطاقة الحركية لعمليات الإزالة اللاحقة. ومن خلال التنويع والتبديل في مرحلة التحضير، كان يمكنهم أن ينتجوا رقائق ضخمة، أو شفرات طويلة أو حتى رءوسًا مستدقة مثلثة، وأحيانًا يصنعون العديد منها في تسلسل قبل الحاجة إلى إعادة تشكيل الأسطح. كما كانوا أحيانًا يبدلون الأنماط على نفس النواة الصخرية.
ما غيَّر فهمنا لتقنية ليفالوا، وتقنيات النياندرتال الأخرى، كان عندما بدأ علماء الآثار في ترميم القطع الأثرية المشذبة معًا مرَّة أخرى. إنه حقًّا «علم بطيء»، فهو عمل دقيق ويستغرق وقتًا طويلًا — أحجية هائلة رباعية الأبعاد — ويتطلَّب مواقع محفوظة جيدًا. لكن الأمر يستحق العناء: فهي تجعلنا كما لو كنا نراقبهم وهم يعملون. لأول مرَّة كان من الممكن إعادة تشكيل عمليات التفكير والخيارات التي أقدم عليها أفراد النياندرتال، مما يكشف عن استجابات ديناميكية لكل كتلة من الحجر.
الفائدة من الناحية التكنولوجية لتقنية ليفالوا وتقنيات «النواة المجهزة» الأخرى هي أن النياندرتال أصبح لديهم الآن طرق موثوقة للحصول على منتجات معينة، خاصة الرقائق الكبيرة الرقيقة. وعلى النقيض من الحال مع الأدوات الحجرية ذات الوجهين، لم تكن ذات نفع كبير لأدوات الخدمة الشاقة حقًّا، ولكن لنفس وزن الحجر، قدمت رقائق تقنية ليفالوا سهلة الحمل كميات أكبر بكثير من الحواف القاطعة. كان النياندرتال مَهرة بما يكفي لاستخدام تقنية النواة المجهزة على جميع أنواع الصخور، من الأحجار البركانية شديدة الصلابة إلى الحصى الصغيرة. وحيثما كان يوجد صوان جيد، كما هو الحال في بريطانيا أو شمال فرنسا، كانوا يصنعون أحيانًا رقائق عملاقة مذهلة ورءوسًا مستدقة يبلغ طولها من ١٠ إلى ١٥سم (من ٤ إلى ٦ بوصات).
ومع أن تقنية ليفالوا تُقَدَّم غالبًا على أنها المعيار الذهبي، فإنها ليست التقنية الوحيدة التي استخدمها النياندرتال. قد يتطلَّب الأمر مُؤلَّفًا كاملًا لوصف المجموعة الكاملة من طرق التشذيب — المعروفة باسم «المجمعات التقنية» — التي اخترعوها، ولكن التركيز على تقنيتين اثنتين فقط من أوروبا الغربية يوضح مدى التنوع الذي كان عليه حقًّا عالم الأدوات الصخرية الخاص بهم. كانت الطريقتان، المعروفتان باسم الطريقة القُرْصية (نظرًا إلى أن بعض الأنوية على شكل قرص) وطريقة كينا (سُمِّيَت باسم موقع النَّسَق)، منهجيتين بقدر تقنية ليفالوا، لكنهما كانتا تهدفان إلى إنتاج رقائق إحدى حافتيها حادة والأخرى ثلمة («الشفير»)، مما يوفر قبضة مريحة وملائمة للمستخدم. ومع ذلك، فمن جميع النواحي الأخرى، كانتا مختلفتين تمامًا عنها من الناحية التقنية.
بعد الحصول على حصاة كبيرة صوان من الجدول القريب، جلس إنسان نياندرتال وشَذَّب أكثر من ٦٠ رقاقة في ١٠ مراحل، حتى بقيت فقط كتلة صغيرة. كانت القطع اﻟ ١٤ المفقودة من الأحجية المُعاد تجميعها هي أفضل القطع كلها تقريبًا، بحواف طويلة ودقيقة مقابل ظهور ثَلِمة. لم يتطابق أيٌّ من القطع الحجرية الأخرى التي يزيد عددها على ٨ آلاف في الطبقة؛ لذلك لا بد أن تلك القطع قد أُخذت إلى خارج الموقع.
ما يجعل التقنية القرصية متميزة حقًّا عن تقنيتَي ليفالوا أو كينا أن الرقائق نادرًا ما كانت تُهذب. ليس من قبيل المصادفة أن نجد أنها بوجه عام غالبًا ما تكون مصنوعة باستخدام صخور من الجوار، في نطاق ١٥كم (١٠ أميال). على النقيض، في التجمع المعتاد لتقنيتَي ليفالوا وكينا، يُصنَع عددٌ من القطع الأثرية من صخور من مصادر بعيدة. هذا يُنبئنا بأمرَين. أولًا، أن التقنية القرصية كانت متخصصة، ولكنها إلى حد ما يمكن التخلُّص منها؛ فلم يكن الغرض من الرقائق أن تدوم طويلًا وأن تُنقَل إلى مكان آخر. ثانيًا، أن هذا النوع من المجمعات التقنية كان سيناسب فقط النياندرتال الذين كانوا يعرفون مصادر الصخور جيدًا، ولم يكونوا ينتقلون بانتظام لمسافات طويلة.
كان المقصد إنتاج رقائق مثالية يمكنها تحمل عمليات إعادة شحذ مكثفة ومتكررة. حتى التهذيب — الذي يشكل على نحو شبه دائم حافةً كاشطةً، وليس حافة مسنَّنة — كان محددًا بشكل غريب، باستخدام حركة فريدة كانت بشكل أساسي تقتلع الحجر. في بعض المواقع، كان يُفضَّل استخدام مطارق الحجر الجيري بالإضافة إلى أدوات التشذيب المصنوعة من العظام، ولكن في كل مكان كانت شِدة إعادة الشحذ واضحةً: في بعض الأحيان يمكن تحديد أربع من مراحل التشذيب أو أكثر. في كل مرَّة كانت الحافة تزداد انحدارًا حيث كانت تتحرَّك للخلف باتجاه الحافة الأسمك.
جمعت تقنية كينا للنياندرتال بين ميزتَي النفايات المنخفضة والرقائق الوفيرة الجاهزة للاستخدام التي يمكنها تحمل الاستخدام المكثف وإعادة الشحذ. يتعلَّق الأمر بشكل أساسي بتوقُّع صيانة الأداة في المستقبل، سواء داخل المواقع أو أثناء التحرُّكات الأطول عَبْر المشهد الطبيعي.
بغض النظر عن مدى براعة النياندرتال في صنع الرقائق، فقد بدا لعقود كثيرة أنهم كانوا غير قادرين على إنتاج شفرات حجرية، وهي ما يحدِّد الثقافة اللاحقة للعصر الحجري القديم التي صنعها الإنسان العاقل. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فقد طور النياندرتال بالفعل شفرات قبل حوالي ٣٠٠ ألف سنة، منتجين أمثلة كبيرة وواسعة كجزء من نظام ليفالوا. ولاحقًا، بدءوا أيضًا في تجربة تقنية الشفرة الحقيقية — أو التقنية الصفائحية: والتي تحددها منتجات طولها ضعف عرضها. لقد استخدموا حواف خطية مشكلة سابقًا تمتد من أحد طرفَي النواة (أو كليهما)، والتي كان يمكن أن توجه الطاقة الحركية وتضمن أن يكون شكل كل إزالة ممتدًّا للغاية. هذه عملية منتظمة وشبه مستمرة، حيث تجهز كل شفرة المكان الذي ستكون فيه الضربة التالية.
على الرغم من ذلك، كان لا يزال ثمة «نكهة» نياندرتالية واضحة في هذه التكنولوجيا: فعلى عكس مشذِّبي الحجارة في العصر الحجري القديم المتأخر، استخدم النياندرتال مطارق حجرية بدلًا من العظم، وبوجه عام أعدُّوا أنوية أقل عددًا بكثير. لكن هذه الأنوية لم تكن متدنية المستوى، وكان يمكن أن تكون كبيرة بشكل مثير للإعجاب: فقد أدَّت عمليات الترميم في موقع تورفيل-لا-ريفيير القديم إلى تجميع شفرات يزيد طولها على ١٠سم (٤ بوصات).
ساد لمدة طويلة، بناءً على مغالطةِ أنَّ اللاحقَ نتيجةٌ للسابق، افتراضٌ مفاده أن التقنية الصفائحية يجب أن تكون أفضل بما أن الإنسان العاقل اللاحق صنع المزيد منها، ولكن ما الذي قدمته في الواقع؟ تشير التجارب إلى أن الشفرات ليست أفضل من الناحية الاقتصادية من الرقائق، ولا أفضل في التقطيع إلى شرائح. علاوةً على ذلك، لا يكاد يمكن إعادة شحذها وهي بحد ذاتها لا تصلح للاستخدام على المدى الطويل.
ما تفتقر إليه الرقائق في المتانة يعوضه شكلها المستطيل الموحد. من المحتمل جدًّا أن يكون بعضها على الأقل — خاصة الشفيرة — قد استُخدِم في أدوات مركبة، كانت، كما سنرى في الفصل التالي، ضمن قدرات النياندرتال بالتأكيد. ولأنه من السهل دمجها واستبعادها، تمامًا مثل الشفرات الموجودة على سكين حِرَفي، فقد وفرت حوافَّ حادة من نوع مختلف. وحيث إن آلافًا من السنين تفصل المراحل الصفائحية المختلفة في موقع كومب جرينال والعديد من المواقع الأخرى، فهذا يعني ضمنًا أن النياندرتال ربما يكونون قد اخترعوا استخدام الشفرات عدة مرات.
طغت الطرق المتنوعة لصنع الرقائق — وبدرجة أقل الشفرات — على تقنية النياندرتال من نواحٍ عديدة، لكن الإرث الأقدم للرقائق لم يُنسَ. وعلى الرغم من ندرة الأدوات الحجرية ذات الوجهين عادةً في العصر الحجري القديم الأوسط السابق، فإنه من حوالي ١٥٠ ألف سنة شهدنا عودتها للظهور كجزء من التنوُّع التكنولوجي المتزايد. ومع ذلك، فإن هذا لا يحدث في كل مكان، كما لم تكن أدوات نياندرتال الحجرية ذات الوجهين متطابقة تقنيًّا مع تلك الموجودة في العصر الحجري القديم الأدنى. وتمامًا مثل نظرائهم الأقدم، استخدموا الأدوات الحجرية ذات الوجهين باعتبارها أدوات متعددة الأغراض ذات حواف يمكن بشكل فعَّال أن تخترق المواد أو تقطعها أو تكشطها. ويُظهر التآكل بالاستخدام أنها استُخدمت على مواد من اللحم إلى الخشب، ولكنه يظهر أيضًا أن هذا حدث من خلال العديد من مراحل الاستخدام، وأحيانًا مع أكثر من مادة واحدة على نفس الأداة.
ويرجع ذلك إلى أن النياندرتال كانوا يعيدون شحذها كثيرًا جدًّا، تمامًا مثلما كانوا يفعلون مع بعض أنواع الرقائق. لكنهم استخدموا أسلوبًا مختلفًا، غالبًا بضرب طرف الحافة العاملة الرئيسية أو أسفلها برقائق مسطحة جدًّا. كان من الممكن بهذه الطريقة تجديد الحد عدة مرات مع الحفاظ على الزاوية حادة نسبيًّا. كان هذا يعني أن الأدوات الحجرية ذات الوجهَين يمكن أن تكون طويلة العمر وبعيدة المدى بما يُضاهي تقريبًا أشياء مثل رقائق ليفالوا أو كاشطات كينا.
يتضح هذا عمليًّا من اكتشاف بعض مواقع «ورش» الأدوات الحجرية ذات الوجهَين، غالبًا بالقرب من مصادر حجر صوان جيدة جدًّا. تحتوي طبقة واحدة في موقع بيتش دي لازي ١ على ما يقرب من ٢٥ ألف رقاقة تشكيل مميزة للأدوات الحجرية ذات الوجهَين. ينتج المشَذِّب المتوسط أقل من ٥٠ أثناء الإنتاج الأوَّلي، لذلك يجب أن يكون قد صُنع أكثر من ٥٠٠ أداة حجرية ذات وجهَين هنا. ومع ذلك، فقد عُثر على القليل جدًّا في الواقع؛ من الواضح أنه بعد صنعها، كان النياندرتال يأخذونها إلى مكان آخر.
في أماكن أخرى، من الممكن رؤية ما حدث في رحلات تلك الأدوات الحجرية ذات الوجهين. في عام ٢٠٠٢ في محجر لينفورد، شرق بريطانيا، تحت أمتار من الحصى، لوحظت قطع أثرية من العصر الحجري القديم الأوسط تأتي من حمأ عضوي أسود. جاءت هذه الرواسب من مجرى نهر صغير كان، قبل ٦٠ ألف سنة، على أطراف سهل كبير مغمور الآن تحت القناة الإنجليزية. أنتجت هذه الرواسب آلافًا من الأدوات الحجرية، بما في ذلك حوالي ٥٠ أداة حجرية ذات وجهين. صُنِع بعضها سريعًا على حصى كبير من النهر القريب، لكن معظمها شُذِّب في مكان آخر باستخدام صوان أسود جميل قبل استخدامه في لينفورد ثم التخلص منه.
لماذا يترك النياندرتال هذا العدد الكبير من الأدوات الحجرية ذات الوجهين، التي لا يزال معظمها صالحًا للاستخدام؟ في الواقع، إنها، للمشذبين ذوي الخبرة، سريعة وسهلة الصنع؛ أقل عناءً بكثير من نواة ليفالوا. بالنسبة إلى النياندرتال الذين أتقنوا التشذيب منذ الصغر وعرفوا موقع الحجر الجيد مثل كفوف أيديهم، لم يكن تحمُّل مشقة حمل الأدوات الحجرية ذات الوجهين الخيار الحكيم دائمًا؛ إذ كان من الأفضل بكثير حمل المزيد من اللحم أو الدهن أو غير ذلك من المواد.
ومع ذلك، في الأماكن التي كانت فيها الأحجار الجيدة نادرة، كانوا يخزنون الأدوات الحجرية ذات الوجهين ولا يتخلَّصون منها إلا في شكل هياكل أعيد شحذها كثيرًا جدًّا في نهاية عمرها الافتراضي. يمكننا حتى أن نجد الأماكن البينية حيث تكون رقائق إعادة الشحذ شاهدة على بقاء النياندرتال ربما لليلة واحدة فقط، وشحذهم أدواتهم وحملها إلى مكان أبعد.
أجيال صخرية
سواء كانوا يصنعون أدوات حجرية ذات وجهين أو شفرات أو رقائق، فإن الشيء المشترك بين العديد من النياندرتال هو ولعهم بالأدوات المستعملة الجيدة. يمكن أن تكون عملية إعادة التدوير بسيطة، لكن دراسة ترميمية رائدة منذ ثلاثة عقود تُظهر كيف كانت إعادة التدوير في حالات أخرى معقدة للغاية. على غرار نواة الطريقة القُرصية المميزة في كهف فوماني، رصد منقِّب في كهف كوستال، جنوب وسط فرنسا، مجموعة من الأدوات من اليشب، وهو حجر غير عادي لم يكن متاحًا محليًّا. كانت جميعها تقريبًا في حدود ١ متر مربع (١٫٢ ياردة مربعة)، وعند إعادة تجميعها أظهرت عملية إعادة تحول غير عادية. كان إنسان نياندرتال قد أحضر في الأصل أداة تقشير مسننة طويلة إلى الموقع ومن المرجح أنه استخدمها، ثم حوَّلَها إلى نواة وعاد وحوَّلَها مجددًا إلى أداة خلال «ثماني» مراحل. يسلط هذا الغرض المنفرد الضوء على الكيفية التي يمكن بها للنياندرتال أن يبدلوا بسهولة طريقتهم في التعامل مع الأدوات باعتبارها فئة أو أخرى، بتغيير طرق التشذيب المستخدمة. لكن هذه ليست حالة شاذة. إذ يُظهر الترميم في كومب جرينال كيف أنقذ إنسان نياندرتال آخر نواة شفرة غير متقنة من خلال تسنين الحافة، محولًا الخطأ إلى أداة مفيدة.
ربما كان ما حدث في كوستال هو عمل الصانع الأصلي للأداة، ولكن في سياقات أخرى، من الممكن أن نرى أن وقتًا طويلًا مَرَّ قبل حدوث إعادة التدوير. يحتوي موقع لو موستييه على أدلة مذهلة على هذه العادة المتمثلة في إعادة استخدام الأدوات القديمة بالفعل. وجدت عملية إعادة تقييم جرت مؤخرًا لأدوات حجرية ذات وجهين من قاع طبقة واحدة داخل الموقع اختلافاتٍ لونية مميزة تظهر أنها لم تكن أدوات سيئة الصنع، وإنما كانت قد انتُزِعَت من المستوى السفلي وأُعيد تدويرها إلى أنوية. وعلى الرغم من التركيز الكامل على التقنية القُرصية، من غير المعقول أن هؤلاء النياندرتال اللاحقين لم يتعرَّفوا على الأدوات الحجرية ذات الوجهين باعتبارها كانت فيما مضى أدوات، حتى لو كانوا مهتمين بها فقط كمصدر سهل للصوان الجيد.
في حين أن عادة النياندرتال في إعادة تدوير الأدوات الحجرية معروفة منذ فترة طويلة، فإنه لم يتم تقدير قيمة شيء مذهل أكثر من ذلك بكثير إلا مؤخرًا. يُسمَّى هذا الاكتشاف الجديد ﺑ «التفريع»، وقد تمكن الباحثون بفضل عملية ترميم البقايا المهشمة من كشف وجود نظم فرعية «خفية» لعملية التشذيب. وفيما يشبه تفرعات نهر، كان النياندرتال يأخذون الرقائق التي صنعوها بالطرق الأولية، ثم يصغِّرونها إلى «جيل ثانٍ» من رقائق صغيرة جدًّا.
من الأسهل إجراء ذلك على القطع الأثرية السميكة، وكان استخدام أشياء كبيرة، مثل رقائق ليفالوا أو كينا الكبيرة ذات القواعد أو الحواف الضخمة، مثاليًّا. في بعض السياقات، يكون التفريع منظمًا لدرجة أنه كان من الواضح أن النياندرتال لم يكونوا ينظرون إلى تقنيتهم الحجرية على أنها تتعلَّق بتفتيت الحجارة فحسب، ولكن باعتبارها وسيلة لإنتاج احتياطيات محمولة من الصخور يمكن بعد ذلك التعامل معها على أنها أنوية صغيرة.
كان هناك العديد من مقاربات الجيل الثاني، التي كان بعضها يهدف إلى صنع نسخ مصغرة من الرقائق الأصلية. من خلال إخراج فجوات بادئة من رقائق أو أدوات كينا، حصل النياندرتال على رقائق الجيل الثاني الصغيرة التي كان لها نفس خصائص منتجات الجيل الأول التي شُذِّبَت مباشرةً من النواة: حافة حادة في مقابل حافة غير حادة بطبيعتها.
يسلط بحث رائع، يجمع بين الترميم والتآكُل بالاستخدام، في موقع جونزاك غير البعيد عن سان سيزير، الضوء على الاتساق المذهل في بعض أنظمة الجيل الثاني. فإحدى الطبقات، التي ظهرت في الأصل عندما اخترقت عملية استخراج الحجارة في القرن التاسع عشر طبقات أثرية عميقة مقابل جرف من الحجر الجيري، تحتوي على كميات كبيرة من عظام الحيوانات، معظمها من الرنة، التي كانت تُقصَّب بشكل مكثَّف. استُخدمت أدوات كينا الحجرية لتقطيع الجثث وكشط الجلود لفصلها عن اللحم، وعادةً ما كان يُعاد شحذها مرَّة واحدة على الأقل قبل استخدامها بعد ذلك في أعمال شاقة للغاية، ربما كانت تقطيع العظم. أدَّى ذلك إلى تفتُّت الحواف، وعند هذه النقطة كان يُزال من حواف بعض الأدوات فجوات بادئة حتى يمكن استخدامها مجددًا، بينما كانت أدوات أخرى تصبح مطارق أو سَنَادِين.
ولكن هذا هو التسلسل الرئيسي فحسب؛ إذ كانت هناك أيضًا دورة جيلٍ ثانٍ باستخدام جميع الرقائق الأصغر التي انفصلت أثناء تشكيل الأدوات وإعادة شحذها. كان النياندرتال يستخدمون نصف هذه الرقائق تقريبًا، والذي كان بعضه قد جرى تهذيبه. ولكن الأمر الأكثر إثارة للذهول هو أنه كانت تُجري عمليات انتقاء أخرى من أجل استخدامات محددة لرقائق الجيل الثاني. كانت الرقائق، التي نتجت من عملية تشكيل الأدوات، تُستخدَم في التقصيب وتنظيف الجلود الطازجة، تمامًا مثل كاشطات كينا الأصلية. في المقابل، كانت الرقائق التي نتجت من إعادة الشحذ تُستخدَم «فقط» في تقطيع اللحوم، وأحيانًا كانت هي نفسها يُعاد شحذها. حتى القطع الصغيرة التي انفصلت عند عمل فجوات بادئة في أدوات كينا البالية كان يُعاد توظيفها، ولكن مجددًا في تقطيع اللحوم فقط.
قد تكون هذه الأنماط المحددة مقتصرة على المجموعات التي زارت جونزاك، لكنها تجسد كيف كان النياندرتال في جميع الأماكن والأوقات شديدي الإدراك للإمكانيات المادية لكل شيء صنعوه. لقد استبان سلوك «التصرف بحكمة يغني عن الحاجة» هذا عبر جميع المجمعات التقنية تقريبًا؛ فبالعودة إلى كهف فوماني، نجد أنه في إحدى الطبقات كان النياندرتال المقتصدون يفصلون شفيرات من حواف الرقائق. وفي بعض الأحيان تجد حتى جيلًا ثالثًا. في كومب جرينال، بعد تحويل الرقائق القُرصية إلى أنوية بالغة الصغر لصنع أدوات صغيرة مدببة، كانوا بعد ذلك يشذبونها ليستخرجوا منها شفرات صغيرة وشفيرات.
في بعض الأماكن، يبدو أن النياندرتال استخدموا التفريع للتحكم في الأحجار النادرة العالية الجودة، ولكن كان يمكن أيضًا أن يعمل كأداة لتوفير الوقت، وتحقيق أقصى استفادة من القطع الجيدة المتوفرة من بين كمية كبيرة من الصخور الرديئة. ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن توافر الأحجار ليس هو الدافع دائمًا. ففي مواقع مثل جونزاك، نجد أن التخصص في الأنشطة هو الذي يفسر السبب وراء أن النياندرتال صنعوا أدوات صغيرة جدًّا. ففي حين أنه يمكن استخدام بعضها باليد، فإن البعض الآخر مثل رقائق ليفالوا الصغيرة التي يبلغ طولها ٢سم (٠٫٨ بوصة) فقط من موقع بيتش دي لازي ٤ كانت بالتأكيد مثبتة في مقابض، ومن الجدير بالذكر أن «جميع» الشفيرات التي صنعها النياندرتال أُنتِجَت ضمن أنظمة الجيل الثاني. يشير هذا بقوة إلى أن الشفيرات لم تكن منتجات ثانوية للتشذيب، ولكنها كانت مُدمَجة في أنظمة تقنية؛ أي إنها كانت جزءًا من مجموعة متنوعة من الأدوات التي كانوا يهدفون إلى صنعها منذ البداية.
ثراء محير
المشكلة الأخرى المتعلِّقة بالتصنيفات هي الاعتراف الحديث العهد نسبيًّا بأمرَين. الأول، أن الكثير من التجمعات التي حلَّلَها بورد جاءت من طبقات سميكة جدًّا. في كل مكان تقريبًا، يشير التحليل الحديث القائم على الجيولوجيا إلى أن تلك الرواسب تحتوي على الكثير من المراحل المنفصلة. وموقع لو موستييه خير شاهد على ذلك؛ فقد تبيَّن أن أربع طبقات محددة أصلًا تحتوي على ٢٠ مستوًى رسوبيًّا على الأقل، وعند فحص تجمعات الأدوات الحجرية بهذا الدقة الأعلى، نجد اختلافات تقنية واضحة. ما رآه بورد على أنه مرحلة واحدة تهيمن عليها الأدوات الحجرية ذات الوجهين هي في الواقع مراحل متعددة تتبع في أغلبها تقنية ليفالوا. قد يبدو هذا الأمر قضيةً غامضةً أكاديميًّا، لكنه مهم لأنه لسنوات عديدة بنى علماء ما قبل التاريخ نماذج سلوكية واسعة النطاق تعتمد على ربط أنواع معيَّنة من الحضارة الموستيرية بالمناخ أو الحيوانات التي يجري اصطيادها.
ومع ذلك، فبدلًا من محو كل شيء، عاد الجيل الحالي من الباحثين بعد أكثر من قرن «للتنقيب في أعمال التنقيب». تقدم فتراتهم الميدانية نموذجًا للباحثين الآخرين من خلال إظهار فعالية أساليب القرن الحادي والعشرين المتطورة. فعلى مدى عدة أسابيع، قد يزداد العمق بأقل من شِبر؛ لأنه يتم الاحتفاظ بكل شيء. يُستخدَم الليزر لتحديد الموقع الدقيق الثلاثي الأبعاد لكل قطعة يزيد طولها على ٢سم (٠٫٨ بوصة)، في حين أن أي شيء أصغر يتم تعقبه داخل مربع شبكي بطول ٥٠سم (٢٠ بوصة). ويتم استرداد الشظايا الصغيرة للغاية من خلال الغربلة الرطبة.
أدَّت سياسة «الجمع الكلي» الحديثة هذه، المقترنة بالفحص الدقيق للتفاصيل التقنية، إلى تقدير جديد للتفاعل المعقد بين النياندرتال والحجر، على المستويين الفردي والجماعي. تفسر النظرية، التي صِيغَت بشكل رسمي في نظرية «الاقتصاد التقني»، إلى حدٍّ كبير سبب اختيارهم التشذيب بطرق معيَّنة وتنويعهم لشدة التهذيب. وتوجد أنماط متسقة في كل موقع تقريبًا، مما يؤكد أنهم لم يختاروا فحسب أحجارًا عالية الجودة بشكل تفضيلي عندما كانوا يتوقَّعون أن تتطلب القطع الأثرية إعادة شحذ بسبب الاستخدام الطويل المدى، وإنما أيضًا للسبب نفسه كانوا يختارون أكبر الرقائق التي غالبًا ما كان يُجرى لها عمليات تهذيب. وعندما كان النياندرتال ينقلون الأغراض بين المواقع، نقلوا الأغراض المصنوعة من أفضل الصخور لأبعد مسافة، ولم يكلفوا أنفسهم قَط عناء حمل الأحجار ذات النوعية الرديئة إلى مناطق أكثر ثراءً. هذا لا يعني فحسب إجراءهم عمليات تقييم واتخاذ قرار مستمرة، وإنما أيضًا امتلاكهم معرفة غير عادية للجيولوجيا في مناطق واسعة.
التغيير والزمن
هذا الازدهار في التنوع التقني من حوالي ١٥٠ ألف سنة فصاعدًا لم يحدث بنفس الطريقة في كل مكان. كان النياندرتال في مناطق أخرى يفعلون أشياء مختلفة في أوقات مختلفة. فبينما حصلت كهوف جنوب غرب فرنسا على نصيب الأسد من الأبحاث تاريخيًّا، كان من الصعب فهم انتشار الأدوات الحجرية عبر سهول شمال فرنسا. تغير ذلك على مدى العقود القليلة الماضية، حيث كشفت طرق التأريخ الدقيقة عن تسلسل تكنولوجي مختلف. وعلى الرغم من أن الأسباب الدقيقة لا تزال موضع نقاش، يبدو أن هناك ارتباطًا أوضح بكثير مع التقلبات المناخية والبيئية الأكثر حدة في المنطقة مقارنةً بجنوب فرنسا.
عندما بدأ المناخ يبرد بعد ذروة فترة الإيميان من حوالي ١٢٣ ألف سنة، فضَّل النياندرتال الذين عاشوا في ذلك الوقت أساليب تشظيف أبسط من تقنية ليفالوا النموذجية. وبعد ذلك، خلال فترة وجيزة كانت البرودة فيها أشد، من حوالي ١١٠ إلى ١٠٩ ألف سنة، حدث هذا الازدهار في الشفرات المذكور سابقًا. حدث تذبذب في الظروف على مدى العشرين ألف سنة التالية، ونمت غابات شمالية واختفت مرارًا وتكرارًا، لكن بوجه عام ازدادت البرودة بشكل مطرد. ظلت الشفرات موجودة ولكن بأشكال أكثر تنوعًا، واستكشف النياندرتال طرقًا جديدة لتقنية ليفالوا، كما ابتكروا نهجًا مبسطًا لعمل رءوس مدبَّبة.
عاش النياندرتال المشَذِّبون صانعو الأدوات الموستيريون وصانعو السكاكين الإسفينية في نفس الوقت، واستخدموا طريقة ليفالوا والطريقة القُرصية لإنتاج الرقائق واصطادوا أنواعًا مماثلة من الحيوانات. ومع ذلك، فقد كانت لديهم أفكار مختلفة تمامًا حول ماهية الأدوات الحجرية ذات الوجهين، من كيفية صنعها إلى طرق إعادة شحذها. من الواضح أنه كانت هناك حدود ثقافية من نوع ما، لكن تحديد ما إذا كان الأمر يتعلق بمجموعات سكانية معزولة بعضها عن بعض ولم تتواصل مطلقًا، أو بشيء أكثر تعقيدًا، يظل تحديًا كبيرًا.
هناك مجمع تقني واحد محصور جغرافيًّا بقدر كبير للغاية، ويُظهِر ارتباطًا مناخيًّا قويًّا ولا يمكن العثور عليه «مطلقًا» مع أي تقنية نواة أخرى، ألا وهو: مجمع كينا التقني. قد يمثل هذا بالتبعية سمة معيَّنة لأسلوب حياة النياندرتال، وسوف نستكشف ذلك بتوسُّع أكبر في الفصل العاشر. ولكن الأمر اللافت فيما يتعلَّق بالتفكير في التنوع التقني من ناحية أنه قد يكون مرتبطًا بثقافات مختلفة في أنحاء القارة هو أن كينا يظهر في جنوب فرنسا في وقت قريب من الفترة الزمنية التي «تختفي» فيها تقنية الشفرات في الشمال، ثم تتلاشى لاحقًا مع زيادة أهمية الأدوات الحجرية ذات الوجهين. وعلى مدى الأربعين ألف سنة الأخيرة من وجود النياندرتال، كانوا يعانون بشكل واضح من اضطرابات هائلة في المناخ وربما أيضًا من اضطراب سكاني، ولكن بدلًا من الفشل في التكيف، نجد أن سجلهم الأثري مليء بالأدلة على الابتكار والتطور الثقافي.
نسج القصة
على الرغم من جمع الأدوات الحجرية للنياندرتال لأكثر من قرن، فقد استغرق الأمر عقودًا حتى تُدرَس دراسةً منهجية. وبفضل التقدُّم المُحرَز في كلٍّ من التفكير والأساليب التحليلية، لدينا اليوم رؤًى غير مسبوقة حول ما كانوا يفعلونه بالحجر، ولماذا. يتعمَّق الباحثون في دراسة الأدوات الحجرية للنياندرتال بدءًا من نطاقات قارية إلى تسلسلات ترميم منفردة، في حين أن بعض أعظم الأفكار الحديثة جاءت من أكثر الأشياء تواضعًا: الفضلات الحجرية التي تخلصوا منها بالأطنان. كان الدرس المهم هو أنه في حين أن النياندرتال كان لديهم بلا شك معايير ثقافية، فإنهم كانوا أيضًا أفرادًا مبتكرين. تَطَلَّب الأمر في كل مرَّة «شخصًا ما» لابتكار وتحسين تقنيات مختلفة، سواء كان ذلك تكيفًا مع نوع غير مألوف من الصخور، أو بابتكار شفرات والذي حدث في العديد من الأوقات والأماكن.
إن الخرافة المستمرة القائلة بأن تقنيات النياندرتال كانت عالقة في نوع من الركود المعرفي، غارقةً في عقول غير قادرة على الإبداع، هي اعتقاد باطل. لم يكن هؤلاء أشخاصًا غير متطورين أو جامدين أو غير متغيرين. لقد كانت علاقتهم بالحجر علاقة ديناميكية، رقصة على إيقاعات مختلفة دمجت العوامل الخارجية مع الأفكار والخيارات والنقائص. من المؤكد أن الحدود الأولية — ما جعلته الجيولوجيا ممكنًا أو منعته — قد فرضت قيودًا، ولكن بفضل الإتقان التقني والتركيز الشديد على ما يريدون، كانت الاستجابات الإبداعية ممكنة. كان النياندرتال يهتمون بصخورهم، بشكل روتيني مثل التنفس؛ فينتقون أنواعًا مختارة، ويجربون طرقًا جديدة للتفتيت، ويغيرون مفاهيمهم ومهاراتهم حسب الحاجة.
ركزت تقنياتهم أيضًا على الجودة والكفاءة. وحتى لو كانت تقنية ليفالوا قد بدأت ثورة النياندرتال التقنية في العصر الحجري القديم الأوسط، فقد ازدهرت أيضًا مجموعة من المجمعات التقنية الأخرى وطرق معيَّنة. تدبر النياندرتال الوقت وكذلك الحجر، سواء من خلال التقنيات المستدامة التي يمكن حمل أدواتها وإعادة شحذها عدة مرات، أو الرقائق التي يمكن التخلُّص منها والمصنوعة لغرض وقتي. بالإضافة إلى ذلك، طوروا بمرور الوقت طرقًا أكثر تعقيدًا للحصول على ما يريدون. كان التتويج لجهودهم هو التفريع، حيث فُصِلَت المواد في الأجيال الثانية من الأدوات الحجرية بطرق أكثر تعقيدًا وتخصُّصًا من أي وقت مضى. لم يفعلوا أي شيء دون تفكير، وبينما اتبعوا أساليب راسخة، كانت المرونة موجودة أيضًا في التحول بين التصنيفات، مثل تحويل الرقائق إلى أنوية أو تحويل النفايات إلى أدوات.
كل هذه الميزات عززت كيفية نمو عالم النياندرتال ذاته. كانوا يحررون أنفسهم من الجيولوجيا، ونتيجةً لذلك فتحوا المجال لمزيد من الاستكشافات. من خلال الفصل المتزايد لمكان وزمان صنعهم الأدوات الأثرية واستخدامها وإعادة شحذها، امتدَّت أنشطتهم وعقولهم عبر المكان والزمان. ويشير تزايد الأنشطة والحركات المطولة إلى توسع الذاكرة والتخطيط. ومع العصر الحجري القديم الأوسط، نشهد، إنْ لم يكن ميلادًا، فنضجًا لعقول قادرة على التطلُّع إلى المستقبل وتخيل ما سيحدث بعد أيام أو حتى مواسم مقدمًا.
•••
عندما نأخذ كل هذا بعين الاعتبار، سنرى النياندرتال أسلاف بشر منتصبين في قمة تطورهم. يبدو أن تقنيات أدواتهم الحجرية قد وفرت لهم الحماية من جميع التحديات المناخية والبيئية، باستثناء أصعبها، وربما حفزتهم على ابتكارات جديدة. ومنذ نحو ١٥٠ ألف سنة فصاعدًا، ثمة انطباع قوي بأنهم طوروا حلولًا أكثر إبداعًا مع توسع نطاقهم الجغرافي.
قد يكون التفكير في النياندرتال على أنهم مجربون يتجاوزون الحدود فكرة غير مألوفة، لكن هذا المنظور الجديد يستند إلى أدلة من علم الآثار. ومن المثير أنه موجود أيضًا في مواد أكثر ندرة من الحجر؛ فقد بدأ يتكشَّف الآن فقط الحجم الحقيقي لعالمهم التقني العضوي شبه المتلاشي.