في ديار النياندرتال
تهمس الريح: «سارعوا بالذهاب.» تهمْهم الغزلان، وأنفاسها تتصاعد كالضباب في الهواء البارد: «لقد حان الوقت.» يقول صقيع الفجر، ورسالته تتغلغل في العشب: «غادروا الآن.» يستمع الناس. تزداد الظلال داخل الملجأ الصخري برودة، وتتشكَّل قشرة صلبة على البرك. تتقلص رحلات صيدهم، ويقتنصون فقط ما هو قريب، وهم يعلمون أنهم سيغادرون قريبًا. يستسلم آخر غزال، ويؤخذ ليُقَطَّع هناك بجوار النيران. اللقالق ترفرف في الأعلى مثل قصاصات من الصيف تلاحق الشمس رافعات ترفرف فوقها مثل بقايا الصيف التي تطارد الشمس؛ يؤكل نصف الغزال. سرعان ما ستتصلب قطرات من حافة السقف وتتحول إلى أصابع جليدية. صباح مفعم بالإثارة؛ صيد رقيق يتدلى، ذيله يتمايل كمسار حجر عبر الماء. يقلبون باطن أقدامه العريضة ذات المخالب ليتعرفوا عليه، وينتزعون أطراف أنيابه بأصابع إبهامهم، ويمسدون شواربه الطويلة: إنه قط. حيوان حلموا به أكثر مما رأوه، هذه هي الرسالة الأخيرة، الوجبة الأخيرة. على نار أخيرة، يمتصون شحمه في أفواههم، ويلفون جلده الغزير الفراء ويحزمونه. ثم ينهض الناس، ويبدءون في المشي. شيئًا فشيئًا يخفت ضجيجهم حتى يتلاشى؛ ويخلو الملجأ الصخري.
الزمن يدور ويبدأ يفقد تركيزه. تأتي طيور السُّمْنِية لتخربش في الرماد وهي تُحني رءوسها. تتسلل الأرانب جيئةً وذهابًا بينما ينقض صقر لأسفل؛ ويبقى حتى الشتاء تحت النتوء الصخري. تحت نظرته الحادة كالنصل، يستقر جسد القط البري في الأرض. تتماوج الأغشية والأحشاء مع رقصة اليرقات تحتها. لا تأبه سوى القوارض ذات الفراء بعظام الصيف المجففة المغطاة بأوراق العام الماضي. وإذ يتحول لون الأشجار من الأخضر إلى الأصفر إلى البرتقالي، يعود الناس. ولكن، تمامًا كما تنبأ الشيوخ، أصبحت الأرضية رطبة جدًّا لدرجة لا يمكن معها إشعال نيران، ولن يرحب الملجأ الصخري بأي سكان آخرين. يغادرون، تاركين الجذور والطحالب لتطرز حواف أكوام العظام. تتدفق السنوات بينما تتسرب المياه عبر الحجر الجيري وتتصاعد حول الهيكل العظمي للقط البري، والأيائل، والخشب، والرماد، والحجارة. لقد حان وقت النوم.
المكان ثابت، لكن الزمن هو الخيط الرفيع الذي ينسل من بين أصابع علماء الآثار مختفيًا حين نحاول الإمساك به. تتجاوز التفاصيل المذهلة التي جُمعت الآن عن النياندرتال أحلام الرواد من علماء ما قبل التاريخ إلى حد أنها توشك أن تكون من الخيال العلمي. ومع ذلك، فإن إعادة بناء النسيج الغني لحياتهم بالكامل — ليس فقط رؤية الخيوط، ولكن نسيجها — أمر صعب للغاية. يمكن رؤية الظواهر مثل المجمعات التقنية الحجرية على نطاقات زمنية جيولوجية، ولكنها تتطلب تفسيرات تعمل على نطاقات زمنية بشرية. ولفترة طويلة تعثَّر الباحثون في الرمال المتحركة للزمن السحيق، حيث كان اكتشاف الروابط بين الأشياء أمرًا بعيد المنال دون معرفة عمرها. أحدثَ ظهور طرق التأريخ المباشر تحولًا جذريًّا، ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك كان التطور في فهم كيفية تكوين الزمن للمواقع.
إن فهم ما يعنيه أي موقع معين لسلوك النياندرتال يتطلَّب فهمًا أساسيًّا لكلٍّ من نشاطاتهم فيه والمدة التي قضوها هناك. ومع ذلك، حتى باستخدام طرق التأريخ العالية الدقة التي يمكن تطبيقها على عينات صغيرة، فإنه من غير الممكن في الغالبية العظمى من المواقع التمييز بين مراحل الاستيطان التي تقل عن الألف عام، ناهيك عن القرن. وذلك لأن الطبقة الأثرية يمكن أن تبتلع كميات مدهشة من الوقت؛ إذ يمكن للرواسب التي تفصل بين طبقات من القطع الأثرية أن تتآكل أو تنزلق بعيدًا، تاركة كتلة مختلطة من الأشياء. وبهذه الطريقة، يمكن أن يكون سُمك راحة اليد عبارة عن مخطوطة مُعاد كتابتها فوق أخرى، تشمل تاريخ ألف صيف.
إنها في الأساس طبقات دقيقة صنعها السخام، تشكلت عندما «دَخَّنَت» نيران النياندرتال المقيمين السقف والجدران، تاركة وراءها طبقات رقيقة من السخام. وإذا لم يكن أحدٌ هناك، كانت كربونات الكالسيوم العادية تغطيها، ثم تتكرر الدورة وتتراكم الطبقات. وهي، على غرار رموز الباركود الشريطية، فريدة من نوعها، وتسمح بمطابقة الأنماط بين أجزاء مختلفة داخل الطبقات وفيما بينها.
يوفر هذا الأرشيف السخامي الوسيلة الوحيدة المعروفة لحساب الحد الأدنى لعدد المرات التي مكث فيها النياندرتال خلال طبقات أثرية كثيفة إلى حد ما، والنتائج مذهلة. إذ يغطي مستوًى واحد بسُمك ٥٠سم (٢٠ بوصة) في كهف مندرين ما لا يقل عن ثماني فترات على الأقل من الاستيطان، وهو عدد كبير حقًّا. لكن المستوى الأدنى — الذي له نفس السُّمك تقريبًا — يمثل ما يصل إلى ٨٠ عملية استيطان. إنه تحذير صارخ من أن مظهر الطبقات يمكن أن يكون خادعًا، وتذكير بأن أكثر من ٩٩ في المائة من جميع التجمعات التي يدرسها علماء الآثار ليست من استيطان واحد ولكنها تمثل أنماطًا سلوكية على مدى جيل واحد على الأقل إن لم تكن أجيال عديدة. إن التجمعات «المعدلة زمنيًّا» كهذه ليست عديمة الفائدة البتة، ولكن لفهمها بشكل أفضل نحتاج إلى تمييز أدق لتفاصيل حياة النياندرتال.
لإنشاء موقع أثري مثالي، أنت بحاجة إلى ظروف «عالية الدقة» تمنع طمس الحدود الفاصلة بين الأدوات الحجرية والعظام من فترات استيطان مختلفة. تُعتَبَر الرواسب الدقيقة، التي تتراكم بسرعة ولكن برفق وتبقى غير متآكلة، مثالية. هذه المواقع ثمينة ليس فقط لأنها تمثل مراحل زمنية قصيرة، ولكن أيضًا لأنها، في حالة عدم المساس بها، تحافظ على أنماط مكانية تكشف عما كان يفعله النياندرتال في أجزاء مختلفة من الموقع.
كان «حجر رشيد» لفك رموز السجل الأثري الأوسع للنياندرتال يتمثل دومًا في العثور على وقائع «فردية» من الفعل أو الوجود، تدوم بشكل مثالي لبضعة أيام أو حتى دقائق. تمثل مجموعات الأدوات الحجرية الفردية المُرَمَّمة بالطبع أُطرًا زمنية قصيرة جدًّا، ولكن العثور على طبقة كاملة بنفس الدقة الزمنية أمر لم يحدث من قَبل تقريبًا. ومع ذلك، بفضل أساليب التنقيب في القرن الحادي والعشرين، نعلم أنها موجودة بالفعل.
لدراسة مثل هذه المواقع، فإن التكنولوجيا الحديثة إلى جانب الصبر اللامحدود ضروريان للغاية. تسجل أجهزة الليزر مواقع الأشياء بتقنية ثلاثية الأبعاد، مما يوفر بيانات لإعادة بناء رقمية للانتشار الرأسي أو الأفقي للقطع الأثرية. تظهر على الشاشة تفاصيل مثل تراكمات الأدوات الحجرية حول المواقد أو الطبقات المجهرية غير المرئية أثناء الحفر. تتمثل إحدى المقاربات الأساسية في البحث عن أشياء «خاصة»؛ حجارة غير عادية أو أنواع نادرة من الحيوانات تبرز مثل توهج للأشعة فوق البنفسجية مقابل كتل من الشظايا الأخرى. وعند دمج هذا مع ترميم القطع الأثرية وتحليل الرواسب المجهرية، فإننا الآن أقرب ما نكون إلى «مشاهدة» النياندرتال وهم يمارسون حياتهم اليومية.
حيثما يوجد الموقد
يُعتبر القط البري اكتشافًا مذهلًا، لا يمثل أكثر من صباح أو بعد ظهر أحد الأيام منذ أكثر من ٥٠ ألف عام. حتى في المواقع العالية الدقة مثل أبريك روماني، لا تزال الطبقات النموذجية صعبة؛ كيف يمكن فصل بقايا النشاط المتداخلة من داخل الانتشارات الكثيفة للقطع الأثرية وشظايا العظام؟ الإجابة هي بأن تبدأ من القلب وتتحرك لولبيًّا إلى الخارج: جزيء كربون أسود، جمرة متوهجة، هالة رمادية، شبكة من الفروع. دائرة من العيون تتوهج في الظلام. المواقد هي معايير أثرية. إنها تقع في المركز، حيث يترابط نسيج الزمن مع خيوط المكان. ومثل منارات تسطع عبر ضباب آلاف السنين وضباب مربك من البيانات، تقدم نقاط ارتكاز على وجه التحديد لأنها كانت أيضًا جوهر حياة النياندرتال.
تُعتبر النار من أقوى الرموز في القصة الكبرى لتطور الإنسان. فهي توفر الضوء والدفء، ولكنها تفعل أكثر من ذلك بكثير، حيث تحمي من الحيوانات المفترسة وتطهو الطعام وتحول مواد أخرى. إنها حتى تطيل أمد الحياة الاجتماعية من خلال إبعاد الظلام. ومثلما بُنِيَت منازلنا حول النيران عبر التاريخ، شكلت المواقد أيضًا وجود إنسان نياندرتال: فهي مركز مكاني يمكن إدراكه على الفور. لسنا بحاجة إلى تخيلهم جالسين وجهًا لوجه؛ يمكننا أن نرى ذلك حرفيًّا في الطريقة التي تحيط بها القطع الأثرية بالرماد والفحم.
عُثِر على شظايا الفحم والقطع الأثرية المحروقة والرواسب المسخنة في مئات المواقع، لكن استكشاف ما تعنيه يمثل تحدِّيًا. المواقد هي قطع أثرية هشة، وهياكلها هشة مثل الرماد بداخلها. يمكن تلطيخها أو طمسها من خلال التآكل أو الدوس أو التشويه بواسطة الطبقات العلوية. تُظهِر الدراسات التجريبية أنه في بعض الأحيان تبقى الرواسب المسخنة موجودة حيث لا توجد أدلة أخرى على النار، وأن الطبقات المجهرية من مراحل الاحتراق المختلفة هي دليل قوي جدًّا على نشاط أسلاف البشر.
يُعتبر موقع إل سالت، بأليكانتي، من المواقع الرئيسية التي ساهمت في تطوير معرفتنا بتقنية النياندرتال في استخدام النار. يقع هذا الملجأ الصخري على بعد حوالي ٣٥٠ كيلومترًا (٢٢٠ ميلًا) جنوب أبريك روماني، وبالإضافة إلى كونه معاصرًا له إلى حد كبير من حيث العمر، فقد استضاف مشروعًا مشابهًا لعقود عديدة. عندما بدأ التنقيب يُظهِر دوائر سوداء بدت مثل المواقد، أراد الباحثون محاولة فهم ماهية هذه السمات بشكل أفضل. سمح لهم إنشاء مداخن تجريبية بجوار منحدرات الحجر الجيري بإجراء مطابقة وثيقة مع الظروف التي عاشها النياندرتال في إل سالت.
وجدوا أن المواقد الجديدة عادة ما تُظهِر بنيةً ثلاثية الطبقات: تربة مُحمرَّة بالحرارة في القاعدة، ثم طبقة سوداء، يعلوها رماد من الوقود المحروق. في العديد من المواقع الأثرية، اختفت طبقة الرماد بسبب العمليات الطبيعية، وهو ما كان يحدث غالبًا في إل سالت. لذلك، كانت الطبقات السوداء التي تم التنقيب عنها بقايا متفحمة لأي شيء كان على الأرض «أسفل» النار، وهو ما أكد التحليل المجهري أنه بالأساس أعشاب ونفايات أوراق. ولذلك، فمن المرجح أن تكون أي قطع أثرية في تلك الطبقات السوداء من عمليات استيطان «أقدم».
وعلى الرغم من التقدم في تحديد المواقد، لا تزال مهارات النياندرتال في تقنية استخدام النار محل جدل شديد. لا ينكر أحد اليوم أنهم استخدموا النار (كما فعل أسلاف البشر لأكثر من مليون سنة)، ولا شك أن المواقد أصبحت أكثر شيوعًا خلال العصر الحجري القديم الأوسط. ومنذ حوالي ١٢٠ ألف سنة، كان من الواضح أن النار جزء من الحياة اليومية. لكن السؤال حول ما إذا كان النياندرتال يحصلون عليها ببساطة من مصادر طبيعية أم أنهم كانوا قادرين على إشعالها بأنفسهم يبقى، بشكل مفاجئ ربما، محل نقاش.
هل من الممكن أن النياندرتال كانوا قادرين على استخدام النار بمجرد الحصول عليها، لكنهم نسوا أو لم يعرفوا مطلقًا كيفية إشعالها؟ النظريات التي تقول إنهم ببساطة كانوا يتحملون البرد بملابس أكثر سُمكًا وأنظمة غذائية نيئة لا تبدو فقط مستبعدة، بل يتناقض معها أيضًا وجود «بعض» الفحم والأدوات الحجرية المحترقة والعظم المحروق، وإن كان ذلك أقل بكثير مما في طبقات أخرى في نفس المواقع. هل ربما كان النياندرتال يقتنصون النار فقط من الحرائق الطبيعية؟ لكن في بيئات التندرا العالية مثل تلك التي تراكمت فيها الطبقات الخالية من المواقد في بيتش دي لازي ٤ وروك دي مارسال، تكون صواعق البرق غير شائعة جدًّا. وإذا كانت حرائق الغابات متقطعة للغاية، فسيحتاج النياندرتال إلى أن يكونوا مهرة للغاية في الحفاظ على الجمر؛ وفي هذه الحالة يمكنهم بسهولة نقل اللهب المتسلسل من موقد إلى آخر.
هناك تفسير آخر لكل هذا. ربما كان النياندرتال قادرين تمامًا على إشعال النار كلما أرادوا، لكن ببساطة غيروا كيف استخدموا النار وأين استخدموها وفقًا لأساليب الحياة المختلفة. إذا كانوا يميلون خلال مراحل كينا إلى صنع مواقد خارج الكهوف، فلن يكون هناك أي أثر في الداخل باستثناء القليل من الفحم وبعض البقايا المحترقة؛ وهو بالضبط ما عُثِر عليه.
تقنيات النياندرتال لإشعال النار
سواء كانت القدرة على إشعال النار متى أرادوا أمرًا شاملًا بين جميع النياندرتال أم لا، فإن تقنية قطران البتولا تقدم حجة قوية بأن هذا كان الحال بالنسبة إلى العديد من المجتمعات منذ ٣٠٠ ألف سنة على الأقل. ما كانت عليه بالضبط مهاراتهم في إشعال النيران هو أمر أقل يقينًا، ولكن لكونهم فضوليين ومبتكرين ومحاطين بصناعة أدوات التشذيب الحجرية، فلا بد أن يكون بعض النياندرتال على الأقل قد لاحظوا كيف يصبح الصوان المطروق ساخنًا ويولد شررًا طبيعيًّا. لفترة طويلة، لم يعثر علماء الآثار على أي أدوات خاصة ﻟ «إشعال النار» تقريبًا، ولكن يبدو الآن أنهم كانوا ببساطة مقتصدين. في بعض المواقع، يُظهر ما يصل إلى ٧٥ في المائة من الأدوات الحجرية ذات الوجهين تآكلًا في مركز أحد الوجهين أو كليهما. وتُظهر الدراسة المجهرية والتجارب أنها تكونت عندما اصطدم صوان آخر أو ما يُحتمل أن يكون بيريت حديدي — وكلاهما معروف بإنتاج الشرر — بزاوية ثم سُحِب على طول المحور الطويل للأداة الحجرية ذات الوجهين.
ربما مُورِسَت أيضًا طرقٌ أكثر تعقيدًا. وتمامًا مثلما تسرع عملية شواء اللحوم باستخدام ولاعة الشواء الكيميائية، يقترح بحث جديد أن النياندرتال ربما فعلوا شيئًا مشابهًا. ثاني أكسيد المنجنيز معدن ذو لون أسود كالح يوجد بشكل طبيعي بتركيزات صغيرة في العديد من المواقع. لكن تحتوي بعض المواقع على كميات كبيرة جدًّا، على سبيل المثال تصل إلى ١كجم (٢٫٢ رطل) عبر عدة طبقات في بيتش دي لازي ١.
عند الفحص الدقيق، يتضح أن العديد من القطع الصغيرة التي عُثر عليها بالمئات في هذا الموقع وفي مواقع أخرى قد فُرِكَت. علاوة على ذلك، فإن الاكتشافات العرضية لكتل من الحجر الجيري مع بقايا مسحوق أسود تشير إلى أن النياندرتال كانوا يطحنون المنجنيز في بعض الأحيان. يأتي أحد التفسيرات من حقيقة أن هذا المعدن له خصائص صبغية سنتطرق لها لاحقًا. ومع ذلك، فهو أيضًا مسرِّع رائع لإشعال النار، خاصةً عند طحنه، مما يجعل الخشب يشتعل أسرع ويحترق بكفاءة أكبر. حتى الآن لا يوجد دليل مباشر على أن النياندرتال استخدموا المنجنيز بهذه الطريقة، لكنه احتمال مثير للاهتمام.
يحتوي موقع إل سالت على نمط أكثر تنوعًا، ربما يرتبط ببيئته المحلية الأكثر اعتدالًا وتنوعًا. بالإضافة إلى الصنوبر والعرعر، يوجد أيضًا خشب القيقب والبلوط دائم الخضرة وحتى خشب الطقسوس. لكن المثير للاهتمام أن الأنواع تختلف باختلاف المواقد. يتضح هذا بشكل خاص في الوحدة ١٠، حيث كان القيقب أقل شيوعًا أو انتشارًا بين مواقد تعمل في الغالب بالصنوبر، ويبدو أن خشب البلوط وخشب البَقْس الأكثر ندرة قد أُحرقا فقط في بضع نيران. من المحتمل أن تعكس مثل هذه التركيزات بقاء النياندرتال لفترات قصيرة، ولكن يصعب معرفة ما إذا كان اختيار النوع متعمدًا أم لا.
الفحم وقود غير متوقع تمامًا لمواقد النياندرتال. سبق أن ذُكِر ملجأ ليه كاناليت الصخري في الفصل الثامن كدليل ممتاز على صيد الأرانب، وهو أيضًا موقع غير معتاد لأن النياندرتال كانوا يحرقون الفحم البني هناك. لم تكن المسألة مسألة نقص في خشب العصر الجليدي، حيث إن الفحم كان أكثر وفرة في المواقد خلال الفترات التي نمت فيها أنواع الأشجار المحبة للدفء مثل الدردار والقيقب والجوز محليًّا. هناك احتمال آخر: كان النياندرتال «يتعمدون» تجربة الوقود الأحفوري. يصعب إشعال الفحم البني، ولكن بمجرد اشتعاله، فهو يحترق ببطء وحرارة وبشكل متساوٍ؛ إن إضافة ٥٠٠ جرام (١٫١ رطل) إلى رماد الخشب سيطيل عمر النار بشكل كبير.
هناك مادة أخرى وفيرة لها تأثير مماثل لتحسين الحرائق وهي العظام. وعلى الرغم من صعوبة إشعالها وسرعة احتراقها، فإن إضافتها ستضاعف عمر النار الموقدة بوقود خشبي، مما قد يكون ميزة كبيرة في التندرا المفتوحة. يحتوي العديد من المواقع والمواقد بالفعل على عظام محروقة، ولكن تحديد ما إذا كان النياندرتال استخدموها كوقود أمر صعب. في بعض الأحيان، يتبين بعد تحليل مفصل أن ما يبدو أنه نار موقدة بالعظام يحتوي أيضًا على الكثير من الخشب، والذي يتم الحفاظ عليه فقط كبقايا مجهرية أو آثار كيماوية.
من ناحية أخرى، كان النياندرتال يراقبون نارهم دائمًا، ونظرًا إلى أنهم — كما سنرى لاحقًا — كانوا يحرقون في بعض الأحيان نفايات الجزارة، فمن المحتمل أنهم لاحظوا أن العظم يمكن أن يجعل اللهب يدوم لفترة أطول.
كان إشعال النار يتطلَّب مهارة، ولكن كان على النياندرتال أيضًا الحفاظ على ألسنة اللهب، خاصة مع وجود أكثر من نوع واحد من النار. عبر العديد من مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار، هناك طيف واسع فيما يتعلَّق بكيفية استخدام النار: شعلات كبيرة في الهواء الطلق للحماية، وحُفَر نيران لشيِّ الطعام، ونيران طهي صغيرة، ونيران تدخين الجلود، ومواقد للنوم من أجل الدفء، وحتى نيران ﻟ «طرد» الحشرات. تُظهِر مواقع النياندرتال تطابقًا لافتًا للنظر مع التنوع في البيانات الإثنوجرافية. أصغر النيران يبلغ عرضها حوالي ٢٠ إلى ٣٠سم (٨ إلى ١٢ بوصة) وغالبًا ما تبدو مؤقتة، وربما يتم إشعالها ليوم واحد أو حتى لمهمة واحدة. تظهر هذه النيران كدوائر فردية من الفحم والرماد في بعض الأماكن مثل أبريك روماني، ولكن في المواقع التي لا تحتوي على حفظ عالي الدقة، فإنها تتلاشى بفعل الزمن إلى طبقات سميكة من الفحم والرماد تتخللها عظام محترقة صغيرة وأدوات حجرية.
ومع ذلك، صنع النياندرتال أيضًا مواقد أكبر وأكثر ديمومة. في أبريك روماني، تم التنقيب عن «مناطق احتراق» كبيرة بعرض متر واحد (١٫١ ياردة) أو أكثر، وحيث إنها كانت محاطة بكميات كبيرة من الحطام الحجري والحيواني، فمن الواضح أنها كانت مركز الأنشطة على مدى عدة أيام أو حتى أسابيع.
الأمر لا يتعلَّق بالحجم فقط. فعند فحص شظايا العظام الصغيرة الموجودة داخل المواقد، نجد أن التنوع في لونها وحالتها يعكس احتراقًا بدرجات مختلفة تمامًا. كانت بعض المواقد تتأجج فقط عند أقل من ٣٠٠ درجة مئوية، بينما اشتعلت مواقد أخرى عند أكثر من ٧٥٠ درجة مئوية. تشبه بعض الأمثلة ذات درجات الحرارة المنخفضة إلى حد كبير مواقد النوم الإثنوجرافية: إذ كانت صغيرة وتقع بالقرب من الجدران الخلفية، فتنعكس حرارتها على الحجر لإبقاء النياندرتال النائمين دافئين.
في بعض الأحيان، توجد لمحات حول أنواع المهام التي شاركت فيها مواقد معينة. في الوحدة ١٠ في موقع إل سالت، كان الكثير من خشب القيقب الذي يتم حرقه فاسدًا. الخشب المتحلل تمامًا — فيما يتجاوز الخشب الميت — هو خيار وقود سيئ، إلا إذا كنت تريد الكثير من الدخان. ما يدعم احتمال أن النياندرتال قد اختاروه عمدًا، أن هناك أكثر من ٢٠٠ شظية من بذور القيقب، على الأرجح من أغصان طازجة. وعلى الرغم من أنها صالحة للأكل من الناحية الفنية، فإن حرق الأغصان المورقة كان من المؤكد سيعزز من دخان الموقد: مما يجعله مثاليًّا لدباغة الجلود.
حتى الآن، فكرنا فقط في استخدام النياندرتال النار في مواقع معينة، ولكن هناك احتمال آخر. يستخدم العديد من الصيادين-جامعي الثمار النار كأداة مختلفة في الطبيعة، أحيانًا للتواصل، وفي أحيان أخرى على نطاق أوسع. وبتقليد لحرائق الغابات، يمكنهم قيادة الحيوانات وحتى التحكم في البيئة، حيث يؤدي الحرق إلى فتح الغطاء النباتي، مما يجبره على إنشاء نمو خضري جديد يجذب الحيوانات العاشبة.
قد تكون هناك مجرد تلميحات حول هذا الأمر بين النياندرتال الذين كانوا يعيشون في غابات فترة الإيميان، على وجه التحديد عندما نتوقع رؤية هذا النوع من السلوك. في رواسب نويمارك-نورد، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه أدوات النياندرتال الحجرية، هناك ارتفاع حادٌّ في جزيئات الفحم: ١٠ أضعاف مستوياتها في الطبيعة. تُظهِر حبوب اللقاح أيضًا المزيد من الأنواع المحبة للشمس، مثل البرقوق الشائك والبندق؛ شيء ما كان يفتح الغابة. ما يصعب تحديده هو ما إذا كان هذا حرقًا طبيعيًّا خلَق بيئةً جذابةً للنياندرتال، أو كانوا هم مَن أشعلوا النار. ومع ذلك، فمن الواضح أن هناك صلة، نظرًا إلى أن النمط يستمر من ألفين إلى ثلاثة آلاف عام، وبعد ذلك مع اختفاء أحافيرهم، تبدأ الغابة في الإغلاق مرة أخرى.
زمن الاحتراق
تراصف الطبقات الجيولوجية هو المفتاح للكشف عن ذلك: إذا كانت المواقد تتداخل عموديًّا، فمن الواضح أنها استُخدمت في أوقات مختلفة. ومع ذلك، إذا بدا أنها تقع تقريبًا على نفس المستوى ولكنها منتشرة أفقيًّا، فإن المشكلة تصبح أكثر تعقيدًا. يكمن الحل في تحليل انتشار الأغراض المحيطة، والبحث عن عمليات إعادة تركيب أو تجميع أو اتصالات أخرى بين مواقد مختلفة، خاصة في كلا الاتجاهين. إذا تحرك العديد من الأشياء ذهابًا وإيابًا، فهذا دليل جيد على أن تلك النيران كانت مشتعلة في نفس الوقت.
وعندما تكون المواقد متباعدة على نطاق واسع، مما يجعل من الصعب تحديد تسلسلها، فإن إعادة تركيب القطع الأثرية إلى عُقَد حجرية فردية — تُعرف بوحدات المواد الخام — يعني أنه لا يزال من الممكن تحديد مراحل التشذيب الفردية. ومن خلال رسمها مكانيًّا، يمكن للباحثين أن يروا أن وحدات المواد الخام تتجمع حول مواقد معينة، ولا يبدو أنها تربط بينها. يبدو أن كل موقد ينتمي حقًّا إلى فترة استيطان مختلفة.
مضى التحليل أبعد من ذلك. أدى جمع كل وحدات المواد الخام وغيرها من القطع الأثرية المعزولة (الأدوات التي صُنعت في مكان آخر وتُرِكَت في الموقع، أو الرقائق الصغيرة التي تُظهِر أن قطعة أثرية قد جُلِبَت وأُعيد شحذها ثم أُخذت) إلى إنتاج أكبر عدد ممكن من «الأحداث» التي حدثت عند كل موقد. وتوخيًا للحذر، أحصى الباحثون كل تسلسل تشذيب وكل أداة منفصلة كأحداث منفصلة، لكن هذا بالتأكيد مبالغة. في الواقع، ربما يكون إنسان نياندرتال قد جلس وشذَّب أكثر من كتلة حجرية واحدة — مما أدى إلى إنشاء العديد من وحدات المواد الخام — وربما ترك أيضًا وراءه أداة أو اثنتين غير حادتين. علاوةً على ذلك، من المحتمل أنه لم يتنقل بمفرده. يعني الجمع بين هذا أنه حتى لو كان متوسط عدد الأحداث لكل موقد يزيد على ١٠٠، فمن المحتمل ألا يكون ذلك سوى نشاط لبضعة أيام من عدد قليل جدًّا من النياندرتال.
من المستبعد أن نتجاوز هذا المستوى من الدقة الزمنية. ولكن إلى جانب القدرة المذهلة على «رؤية» أمسية واحدة من أكثر من ٩٠ ألف سنة مضت، يقدم التحليل الكامل من أبريك ديل باستور إجابة على معضلة ما إذا كانت المواقد المتعددة تعني زيارة واحدة أو أكثر. عند دراستها بالتفصيل باستخدام وحدات المواد الخام والرسم الثلاثي الأبعاد، اتضح أن «كل» مستوًى في أبريك ديل باستور به نيران متعددة يتكون من مراحل فردية، كلٌّ منها تحتوي على موقد واحد. يوحي هذا بشدة بأنه لم يزُره سوى مجموعات صغيرة جدًّا من النياندرتال.
تصميم البيت
تشكل المواقد ركائز زمنية ومكانية لفهمنا كيفية استخدام النياندرتال مواقعهم. لقد كانت بمثابة الأنوية التي حدثت حولها الحياة، مع تناثر القطع الأثرية التي نُفذت بها المهام اليومية حولها مثل الإلكترونات. من الناحية التطورية، تمثل المواقد عتبةً مهمة، حيث تكشف عن ظهور أنماط ثابتة في كيفية إدارة المكان نفسه.
لكن إلى جانب ذلك، هل امتلك النياندرتال «مدافئ» كما نفهمها، حيث يعيدون بناء المواقد في نفس المكان بسبب تقليد ثقافي؟ يصعب للغاية تحديد هذا بثقة. في كهف مندرين، جاءت بعض «محفوظات» السخام التي ترسبت على الجدران من سلسلة من المواقد المبنية في نفس المكان تمامًا، أمام الملجأ وفي وسطه. ولكن ربما كان لا يزال اختيار هذا الموقع لأغراض تتعلق بالتهوية. في أماكن أخرى مثل أبريك روماني، كان النياندرتال يزيلون الرماد من المواقد بين كل استخدام وآخر، وإن كان ذلك على ما يبدو خلال فترة استيطان واحدة. وبالمثل، فإن تباين شدة الاحتراق على أحجار المواقد — كما يتضح من اختلافات اللون — قد يحدث خلال زيارة واحدة إذا كانت النار قد استُخدمت لأغراض مختلفة.
ومع شروق الشمس على يمينك، تظهر كتلة دائرية تقريبًا تضم آلاف الشظايا الحجرية والعظمية؛ بقايا متناثرة من مراحل تقطيع العظام النهائية، بالإضافة إلى المزيد من المطارق. تشير الرائحة الدهنية إلى أن الطهي كان يحدث هنا أيضًا. الأرض مضغوطة؛ مشى عليها الكثير من الأقدام، وانثنت الأرجل المتعبة للجلوس، وفي الأماكن التي كان يعبث فيها الأطفال بالعصي في الأرض، توجد قطع صغيرة من العظام مضغوطة في الرواسب السفلية. انظر إلى حواف الملجأ الصخري؛ الأرض صافية نسبيًّا، لكن لا تزال هناك أشياء تحدث، وعلى الجانب الغربي يوجد هيكل عظمي لقِطة لا يزال ملطخًا بالدماء؛ إذ كانت تلك القطة قد جُرَّت وهي تزمجر من شجرتها تحت قمر الليلة الماضية.
من المحتمل جدًّا أن صيد ثيران الأوروخس والخيول كان يتطلب استراتيجيات صيد مختلفة. عاشت ثيران الأوروخس في مجموعات أصغر ولم تهاجر، بينما ربما ظهرت الخيول موسميًّا في قطعان كبيرة. هل يمكن أن تكون نفس مجموعة النياندرتال هي التي تقوم بكل هذا الصيد، وتزور أبريك روماني فقط في أوقات مختلفة على مدار الفصول؟ يأتي أحد التلميحات إلى أن هذا قد يكون صحيحًا من الاستخدام الشائع لركن تحطيم الرأس وموقد حرق العظام في الجزء الخلفي من الموقع. وعلى الرغم من أن البقايا تتراكم بوضوح بمرور الوقت، فإن حقيقة معالجة جميع الأنواع هنا تبعث على الذهول؛ علاوةً على ذلك، فإن أجزاء رأس الحصان المحطمة ليست تمامًا في نفس البقعة التي فيها شظايا جماجم ثيران الأوروخس، والتي توجد بدلًا من ذلك مع أجزاء رءوس الغزلان الحمراء. يبدو حقًّا أن هناك أماكن محددة داخل الملجأ الصخري حدثت فيها مراحل معينة من تقطيع العظام؛ وربما حتى توقعات بشأن من قام بذلك.
بدلًا من الخيول أو ثيران الأوروخس، كانت الحيوانات الأكثر شيوعًا في اصطيادها في أبريك روماني هي الغزلان، ولها قصة أخرى تُروى. توجد بقاياها في كل مكان، وأحيانًا حتى في مناطق صغيرة بدون عظام أخرى، وتأتي على مدار جميع الفصول. ومع أن النياندرتال كانوا يحطمون جميع البقايا الحيوانية تقريبًا بحثًا عن النخاع، فإن الباحثين كانوا لا يزالون قادرين على تحديد بعض الأجزاء التي تنتمي إلى كائنات فردية. أدركوا أنه ضمن تناثر للعظام في الجانب الشرقي الخارجي للملجأ الصخري، كانت هناك أجزاء من ذكر بالغ واحد. ولكن على عكس القط البري الذي برز على نحو مشابه، كان الغزال غير متوازن بشكل غريب؛ فباستثناء بعض أجزاء من القرون والجمجمة، لم يكن هناك سوى عظام من النصف «الأيمن» من الجسم.
ما الذي حدث؟ بشكل عام، تعكس الحيوانات التي تم اصطيادها في أبريك روماني نمط النياندرتال النموذجي المتمثل في إعادة الأجزاء الأغنى فقط، ومعظمها من الأطراف وبعض الرءوس. لذلك، فإن نصف الغزال غير معتاد جدًّا لوجود أجزاء أخرى من الجسم، وكلها في مكان واحد. أحد الاحتمالات هو أن الصيادين قد أسعدهم الحظ بعملية قتل بالقرب من المنزل، وقسَّموا الذبيحة على الفور، وإما تركوا نصفها وراءهم أو نقلوه إلى مكان آخر. وثمة احتمال آخر وهو أن يكونوا قد جلبوا الذبيحة كاملةً، وقطَّعوها وربما طهوها في المنطقة الخارجية، قبل نقل الجانب الأيسر المفقود إلى «مصانع» تفتيت العظام المتمثلة في المواقد الداخلية حيث أصبح غير مرئي من الناحية الأثرية. لماذا تركوا النصف الأيمن من الغزال وراءهم؟ ربما كانت هذه، مثل القط البري، عملية صيد أخيرة قبل التخلي عن الموقع، وببساطة لم يكونوا بحاجة إلى اللحم.
ومع ذلك فمن المثير للدهشة أن أجسام الخيول لا تُظهِر مثل هذا النمط وإنما تنتشر على نطاق واسع عبر المنطقة الخلفية بأكملها. إذا كان اصطياد القطعان يحدث في وقت واحد تقريبًا من الناحية الموسمية (وإنْ لم يكن بالضرورة في نفس العام)، فقد يعني ذلك وفرة متوقعة متاحة للتوزيع أو المشاركة بين الأفراد أو المجموعات، وأن عائلات مختلفة تعاملت مع ذبائح كاملة.
هذه تكهنات بالتأكيد، لكنها سيناريوهات معقولة تمامًا بناءً على كل الأمور الأخرى التي فعلها النياندرتال. وعلى الرغم من أن النمط ليس متطابقًا، فإن أماكن أخرى تؤكد أن تقسيم المساحة لتجهيز الذبائح ليس أمرًا يتفرد به موقع أبريك روماني، أو تتفرد به الثدييات الكبيرة. كشف رسم خرائط دقيق لبقايا الطيور في كهف فوماني أن النياندرتال كانوا يقطعون لحوم طيور الحجل والزُّمَّت باستخدام الأدوات واليد، وربما يطبخونها، ثم يتركون معظم أجزاء الجسم في مكب مركزي. لكن شيئًا مختلفًا حدث للأجنحة. أُزيل بعضها بالكامل، وفُصِل البعض الآخر، وسُلِخ وقُطِّع، ربما من أجل الأوتار والريش، ولكن فُصِلَت «جميع» نفايات الجناح عن بقية مخلفات الطيور، ووُضعت مقابل الجدار الشرقي. يشير هذا التقسيم الواضح للمهام في حيز الكهف إلى أن الأفراد المختلفين كانوا يتعاملون بشكل متزامن مع كل مرحلة من مراحل الذبح، مما أدى إلى تكوين أكوام القمامة الخاصة بهم. علاوةً على ذلك، لا بد أنها كانت ممارسة تكررت عدة مرات على مدار زمن تلك الطبقة.
التخلص من النفايات
إن إعادة بناء دقائق تحريك النياندرتال للأشياء وتنظيم الحيز — جوهريًّا، السكن — ليست بالأمر الهين. ولكن بأكثر التقنيات الأثرية تقدمًا، يمكن للمواقع العالية الدقة أن تتعمق أكثر من ذلك وتستكشف كيف انغرست عادات النياندرتال في الأرض نفسها. فبمرور الوقت، يؤدي الأفراد الذين يتحركون في أعمالهم اليومية إلى ضغط رواسب الأرضية، مما يضغطها إلى طبقات دقيقة لا يزيد سمكها على بضعة مليمترات. يُعرف تحليل تلك الطبقات باسم «الدراسة المورفولوجية الدقيقة»، حيث تُستخدم عينات معززة بالراتنج مقطعة بشكل رقيق للغاية، ثم تُضاء تحت عدسة مثل الزجاج الملون الجيولوجي. تتيح الهياكل الصغيرة الموجودة في الداخل تحليل محتوى مواقد النياندرتال وأرضياتهم، بناءً على المقارنات مع مواقع ما قبل التاريخ اللاحقة والمشاريع التجريبية.
بدمج هذه التقنية مع البيانات المكانية حول المواقد ومناطق النشاط، تمكن الباحثون من إظهار أنه عبر الملجأ الصخري في أبريك روماني، كان هناك تنوع كبير في الأرضيات كما هو الحال في منازل العصر الحجري الحديث. كانت الطبقات المُداسة شائعة، لكنها لم تكن موجودة في جميع أنحاء سطح الموقع. كانت المناطق التي تحتوي على انتشار أكثر ثراءً للقطع الأثرية تحتوي على عينات مورفولوجية دقيقة تشير إلى استخدام أكثر كثافة، وكان العكس صحيحًا أيضًا. وهذا يعني أن النياندرتال كانوا يستخدمون الحيز بنفس الطريقة على المدى الطويل. بل كان من الممكن أن نرى كيف بدا أن الهندسة المعمارية الطبيعية مثل الصواعد الكبيرة والسمات المبنية بما في ذلك محاذاة صخور الحجر الجيري تحدد الحدود بين المناطق «الأنظف» والمناطق الأكثر فوضوية.
قدمت الدراسة المورفولوجية الدقيقة أيضًا دليلًا على أن النياندرتال، البعيدين عن أن يكونوا قذرين، كانوا يتخلصون بانتظام من نفاياتهم. ومع ذلك، ففي أبريك روماني، أظهرت بعض العينات المأخوذة من مواضع بعيدة عن المواقد «مزيجًا» من العظام الصغيرة وشظايا حجرية محترقة في درجات حرارة مختلفة. على الأرجح كُشِطَت من الداخل وحول النيران، ثم أُلقيت بعيدًا على مسافة ما. كانت عينات القمامة الأخرى مميزة جدًّا؛ كتل معظمها من عظام ودهون حيوانية مسحوقة وغير محترقة، بالإضافة إلى شظايا الكوبروليت (الروث المتحجر) (وظلت الأنواع غير واضحة). توافقت هذه الرواسب مع الرواسب المحيطة بمواقد معينة، ومن المحتمل أنها تعكس تنظيف النياندرتال لمخلفات التقصيب الفوضوية بشكل خاص ومخلفات أخرى. والأكثر إثارة للاهتمام أن هذا التنظيف كان منهجيًّا؛ كانت بعض مناطق التفريغ المتعددة الطبقات، ومن الواضح أنها استُخدمت بشكل متكرر.
ولم يقتصر فخر النياندرتال بكهوفهم على أبريك روماني فحسب. فموقع لاكونيس هو كهف منهار في جنوب اليونان يعود تاريخه إلى ما بين ٨٠ إلى ٤٠ ألف سنة مضت. ويشكل موقع تنقيب مذهل من الناحية الجمالية ببقاياه الأسمنتية، ويقع فوق البحر الأبيض المتوسط المتلألئ. وجدت الدراسة المورفولوجية الدقيقة هنا أيضًا مناطق نفايات، وفي هذه الحالة يبدو أن النياندرتال كانوا يحرقون عمدًا بقايا الذبح والطعام. بالإضافة إلى ذلك، تميزت مناطق النفايات الرمادية الخارجية في موقع إل سالت بسبب وجود خشب البقس، الذي لم يُوجَد محترقًا إلا في موقدين.
يأتي أقوى دليل على التدبير المنزلي للنياندرتال من موقع كيبارا. فإلى جانب تسلسل عميق من المواقد المكدسة، يشتهر هذا الموقع بأكوام القمامة الضخمة. فعلى الجدار الخلفي كانت هناك كومة كبيرة وسميكة للغاية من الرماد المستخرج، لدرجة أنها لا بد أنها تراكمت على مدى فترة زمنية طويلة. وجدت دراسة مجهرية للأرضية العارية ظاهريًّا حول المواقد كتلًا من شظايا العظام الصغيرة، مما يؤكد حدوث عمليات ذبح، لكن النفايات الكبيرة تُرِكَت كلها في مكب كبير بجوار كومة الرماد.
شيء آخر فريد حقًّا كان يحدث في المنطقة المركزية في كيبارا. أسفرت عمليات التنقيب عن استخراج ثلاث تراكمات دائرية مكتظة بكثافة من بقايا الحيوانات، بلغ عرض أغناها وأكبرها حوالي ١ متر (١٫١ ياردة). احتوت على أكثر من ٣ آلاف عظمة وآلاف الشظايا الصغيرة، وكلها مدمجة في كتلة صفراء من شظايا العظام الدقيقة. وبدا أن هالات الرواسب البنية الغريبة حول الدوائر العظمية قد تلطخت بنوع من المواد العضوية.
كيف تشكلت هذه الأشياء؟ يبدو أن النياندرتال، على مدى قرون، كانوا يضعون مخلفات التقصيب والطهي في نفس الأماكن تمامًا، ومع ذلك كانت القطع الموجودة في هذه التراكمات الدائرية أصغر من تلك التي ذهبت إلى المكب الخلفي، وجاءت من أجزاء أكثر لحمًا من الهيكل العظمي.
سؤال أخير: ماذا فعل النياندرتال بالنفايات من أجسادهم؟ سبق أن ذُكِر أنه كان هناك روث لأسلاف البشر في موقد في موقع إل سالت، وأجرى الباحثون عمليات التنقيب هناك على مستوًى تفصيلي ودقيق للغاية. فباستخدام خرطوم شفط لتصفية الرواسب حتى ١مم (٠٫٠٣ بوصة)، استُخرج التسلسل الطبقي الدقيق للموقد. أظهرت أسطح الاستيطان القديمة المحروقة باللون الأسود تحت النار بنية ثلاثية الطور، مع تركيز عالٍ لأدوات حجرية صغيرة وعينات براز أحفورية أكثر وفرة في الأعلى والأسفل.
يبدو أن النياندرتال قد أشعلوا النار أولًا عند وصولهم، ثم جرفوا الأرض وأحرقوا النفايات، التي تضمنت برازًا قديمًا مختلطًا بروث حيوانات ومواد نباتية. يبدو هذا مثل «تنظيف متعمق» عند الانتقال إلى منزل جديد، ولكن هناك أيضًا دليل من أبريك روماني على أن النفايات الجسدية كانت تُحرَق بشكل روتيني جنبًا إلى جنب مع العشب وربما الطحالب التي كانت بمنزلة بقايا فراش قديم على الأرجح.
جميع أنواع التأثيث
كلمة «فراش» لا تعني سريرًا بأربعة أعمدة، لكن لا أحد يحب الاستلقاء على صخرة صلبة. توجد في وقتنا الحالي أدلة متزايدة على أن النياندرتال، بالإضافة إلى كونهم دقاقًا بشأن أماكن قيامهم بأنشطتهم، كانوا يهتمون أيضًا بتأثيث مساحات منازلهم. ففي موقع إل إسكيليو الإسباني، تضمنت الرواسب الموجودة على جانب الموقد الكثير من السيليكا النباتية الكاملة؛ وهي قطع معدنية مجهرية من النباتات، وخاصة الأعشاب، المصنوعة من السيليكا ولذلك تقاوم التعفن. كان بعضها لا يزال متصلًا ببعض وربما كانت بقايا نوع من وسادات الأوراق السميكة. عُثِر أيضًا في موقع إل سالت على شيء مشابه حول النيران وداخلها، مما يدعم المزيد من الأدلة من أبريك روماني.
أراد النياندرتال أيضًا الدفء والراحة عند النوم تحت النجوم. منذ حوالي ٢٠ عامًا، كشفت أعمال بناء شمال بواتييه بفرنسا عن موقع تخييم محفوظ جيدًا بأعجوبة في موقع لا فولي. ففي وقت ما بين ٨٤ و٧٢ ألف سنة مضت، أقام النياندرتال بجانب نهر فاض بعد فترة وجيزة وخَلَّفَ وراءه عدة أمتار من الطمي الناعم مما ضمن حماية ما كان تحته. كانت الطبقة الأثرية بسماكة ١٠سم (٤ بوصات) فقط، لكنها امتدت لأكثر من ١٠ أمتار (١١ ياردة)، واحتوت على تفاصيل لا تُصَدَّق. فبالإضافة إلى المواقد والأدوات الحجرية المتناثرة، تبين أن البقع الداكنة التي يبلغ سمكها عرض راحة اليد كانت مادة نباتية متحللة. وبالنظر إلى سمكها وموقعها في منطقة خالية من القطع الأثرية، فإن أبسط تفسير هو أن هذا كان مكانًا للنوم.
احتوى موقع لا فولي على شيء أكثر إذهالًا. كان يحيط بجميع التراكمات الأثرية سلسلة دائرية تقريبًا من حفر صغيرة مائلة، كلٌّ منها محاطة بكتل من الحجر الجيري. كانت تحتوي على آثار لمادة عضوية وجدران مضغوطة، وكانت أول حالة واضحة لمنشآت النياندرتال. ومن خلال تجميع كل الأدلة معًا، يبدو أن أعمدة خشبية كبيرة قد دُقَّت في الأرض، ثم تم تأمينها بكتل حجرية. بل إنه من الممكن أن نرى كيف انهارت الأحجار إلى الداخل قليلًا حيث أُزيلَت (أو تعفنت) الأعمدة.
من الواضح أن هذا المكان كان عبارة عن مساحة معيشة مبنية، حيث توفر المأوى — على الأرجح باستخدام جلود حيوانات مربوطة على الأعمدة — ومساحة مغلقة تشبه المنزل. المساحة كبيرة جدًّا بحيث إنه من المستبعد أنها كانت مسقوفة، ولكن ربما كان هناك مدخل رئيسي واحد مُعَلَّم بفجوة في الدائرة، مع وجود موقد بجواره. الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن عمليات الترميم تظهر أن القطع الأثرية تحركت بين مناطق مختلفة داخل المبنى؛ فحتى خلال إقامة قصيرة نسبيًّا، كان النياندرتال يقسمون الحيز. كانت عملية تشذيب الحجر تحدث بالخارج وحول الحواف الداخلية، بينما يبدو أن المنطقة المركزية كانت مخصصة لمعالجة الخشب والمواد النباتية والجلود. ومثلما هو الحال في الكهوف، كان الفراش مقابل المدخل مباشرة، أمام أي حاجز كان يُستخدم: أبعد نقطة عن الخطر.
لم يكن اكتشاف لا فولي أول ادعاء بوجود هياكل بناها النياندرتال، ولكن بدون عمليات التنقيب والتحليل الحديثة، كان هناك العديد من المشككين في أشياء مثل عظام الماموث المكدسة في لا كوت دي سانت بريليد. ومع ذلك، فإن الاكتشافات الحديثة الأخرى تؤدي إلى تحوُّل، إلى حدٍّ ما، في الاتجاه السائد للتفكير فيما يتعلق ﺑ «أثاث» النياندرتال. فعلى بُعد حوالي ٧٠ كيلومترًا (٤٠ ميلًا) جنوب باريس توجد ساحة تُسمَّى لي بوسا، بالقرب من قرية أورميسون. في الثلاثينيات من القرن الماضي، كُشف عن طريق الحرث عن أدوات من العصر الحجري القديم الأعلى صنعها الإنسان العاقل، على الرغم من أنه لم يُبلَغ عنها إلا بعد ٧٠ عامًا، مما أدى إلى بدء أعمال التنقيب. تحت تلك الطبقة، وجد علماء الآثار أن النياندرتال كانوا هناك أيضًا، في وقت ما بين ٥٣ و٤١٫٥ ألف سنة مضت. كان وجود غطاء رقيق من الرواسب يعني أن بقايا تشذيب الحجر كانت تقع تقريبًا حيث سقطت، وفي أغنى منطقة عُثر على أربع كتل كبيرة من الحجر الرملي. لا بد أن تكون قد نُقلت من رواسب قريبة، وعلى الأرجح كانت أسطحًا مفيدة؛ بعبارة أخرى، طاولات أو مقاعد للمخيم.
إلى جانب الفراش، تشير الدراسة المورفولوجية الدقيقة أيضًا إلى أن النياندرتال لم يجلسوا دائمًا فوق الأرضيات الحجرية الباردة. في أبريك روماني تتطابق الطبقات الدقيقة التي يبلغ سمكها من ٠٫٥ إلى ٢مم (٠٫٠٢ إلى ٠٫٠٨ بوصة) تطابقًا تامًّا مع الأرضيات المغطاة بالحصير في منازل ما قبل التاريخ اللاحقة. علاوةً على ذلك، تشير حالة الرواسب الموجودة تحتها مباشرةً إلى مادة غير مسامية، بدلًا من الحصير المنسوج: من المرجح أن تكون جلودًا، وهناك أيضًا بقايا صغيرة من جلد محروق محتمل في بعض العينات.
تأتي عينات الحصير من مواضع مجاورة للمواقد، بما في ذلك مناطق الطهي، بناءً على وجود دهون محترقة وشظايا عظام. وعلى غير المتوقع، كان بعضها موجودًا فوق مناطق التقصيب وحتى فوق رواسب القمامة.
•••
في الوقت الحالي أصبحت المزاعم بأن استخدام النياندرتال للحيز كان غير مدروس أو عشوائيًّا — مساويًا لاستخدام الضبع — قديمة حقًّا. فعلى العكس، كانوا من أوائل أسلاف البشر الذين أنشئوا تقسيمات معقدة ومتعمَّدة للحيز، بتصميم مألوف بشكل مدهش. المواقد هي الأنوية المستقرة التي ينجذب حولها كلٌّ من النياندرتال وعلماء الآثار. فهي تُلهِب خيالنا الجماعي، وتستحضر تفاصيل غامضة عن حياة إنسان نياندرتال وسلوكه. المواقد هي قطع أثرية تسافر عبر الزمن؛ حينما كانت مشتعلة، كانت تمتد لأيام أو حتى أسابيع. وبينما هي باردة ومدفونة، تكون بمثابة نصب تذكارية لأجساد اختفت كانت تتحرَّك حولها. ويحدد الترتيب الذي كانت تُستخدم به متى كانت الجدران متوهجة ومتى كانت مظلمة، وفي بعض الأحيان، يظهر مسافرون عبر الزمن: أغصان تُرِكَت مشتعلة عندما هُجِر الموقع، وطرف غير محترق يبرز كما لو أن السكان قد غادروا للتوِّ.
لوقت طويل، كانت المواقد بمثابة كلمة مشتركة واحدة بين لغات مختلفة: أي، يسهل ملاحظتها وفهمها، ولكنها تندمج مع ضوضاء الآلاف من الأشياء المحيرة الأخرى. ولكن اليوم، أصبح من الممكن أيضًا فك رموز السجل المادي الأوسع لبيوت النياندرتال. يمكننا إدراك تقاليد طويلة من مناطق العمل والأثاث الثابت وحتى المفروشات الناعمة. كل هذا يعيدنا إلى السؤال حول من كان موجودًا في أي مكان معين، ولأي مدة. إذا نَظَّم النياندرتال عالمهم المادي من خلال التفتيت والمراكمة، بدءًا من تسلسلات التشذيب الفردي إلى محتويات المواقع بأكملها، فمن المعقول أن مجموعاتهم الاجتماعية كانت تتفرق وتجتمع أيضًا. ومع ذلك، فإن الكيفية التي كان يعمل بها هذا الأمر مرتبطة بأنماط أساسية من الإعاشة والتقنية والتنقل. لفهم نظام عالم النياندرتال حقًّا، يجب الآن أن ننظر إلى نطاق المشهد الطبيعي.