الأدب العربي بين أمسه وغده
لست أدري أكان النَّاس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ النَّاس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية، وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد النَّاس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم، ولكل سؤال جواب، كما يقول جميل لصاحبته بثينة، ومن أجل هذا أخذ النَّاس يتنبئون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف، ومن رقي أو انحطاط، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض، أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
وقد كذبت الحوادث كثيرًا من هذه النبوءات وصدقت منها كثيرًا، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجيب عن سؤال من هذه الأسئلة ألقي عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية، بأنه لا يعلم أن للحرب أثرًا في الأدب أو أن للأدب أثرًا في الحرب، وليس هذا الجواب إلا نوعًا من أنواع الشك وفنًّا من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق، فليس من سبيل إلى أن ننكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام أثرها البعيد في حياة الناس، ومتى تأثرت حياة النَّاس فقد تأثرت آدابهم؛ لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيرًا عن هذه الحياة وتصويرًا لها، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه.
ولو أنَّ اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم ما نلتمس، لجاز أن يسأل بعضهم بعضًا عما كان يمكن أنْ تحدثه الحرب الميدية من الأثر في آدابهم، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنَّها ستحدث آثارًا بعيدة جدًّا لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها النَّاس على اختلاف العصور وتباين الظروف، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعًا عنيفًا، وستنتج للإنسانية كلها آيات إيسكولوس وسوفوكل وأوريبيد، وبأنها ستدفع أحاديث القصاص دفعًا عنيفًا إلى التطور، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت، وتنشئ للإنسانية فنًّا من أجلِّ الفنون الأدبية خطرًا وهو فن التاريخ، وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي أنتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين، ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى، لجاز أن يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلوبونيز من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية، ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التَّاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند أوريبيد، وستمكن أرستوفان من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه الفلسفة العميقة التي كان أرستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب، ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم، وكانوا يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح من الطير، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفرًا قاصدًا أو غير قاصد، فطلبوها عند «أبلُّون» في «دلف» أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الأصفياء من الرجال والنساء، فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولا يفكرون فيها، وحسبهم أنْ يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر، وبما ينتج أصحاب الفن لهم من روائع التَّصاوير والتَّماثيل والبناء.
والشيء الذي لا شك فيه أنَّ الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شررًا أذكى نارهم العقلية المقدسة، ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علمًا ونورًا، وأن حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولًا وبأقطار أوروبية أخرى ثانيًا، فكشفت لهم عن ذوات أنفسهم وأظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية فأحسوا وشعروا وفكروا، كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون، ثم صوروا وعبروا، كما لم يكونوا يصورون ويعبرون، وتستطيع أن تقول مثل هذا بالقياس إلى حروب الإسكندر، ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في إيطاليا وفي غير إيطاليا من أقطار الشرق والغرب، كل هذه الحروب أثرت في الآداب القديمة تأثيرًا عميقًا، وأنتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة ما نزال نستمتع بها إلى الآن، وستستمتع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأي رمز لذلك أبلغ من أن الإلياذة والأوديسا إنما هما نتيجتان لحرب لا يكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئًا، وهي حرب طروادة.
ومثل هذا يمكن أن يُقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم، فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والتعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية، ومن فتوح خارج هذه البلاد من التأثير في حياة الأدب العربي، ولكان من الممكن أن يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأنَّ هذا كله سيذهب بالشعر العربي مذاهب لم تخطر لهم على بال، وسينشئ لهم فنونًا من النَّثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب، ولكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولا يقفون عنده، ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير، ويشقون بما تقدم إليهم من شر، فإذا أبعدوا في التماس الغيب أسرفوا في الإبعاد فالتمسوا الغيب عند السوانح والبوارح من الطير، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين، وعند الأنبياء وما يُلقَى إليهم من وحي وما يُهيَّأ لهم من معجزات، ثم هم كانوا كاليونان والرومان لا يلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة، ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد أنشأ لها أدبًا واحدًا، ووُجِّه هذا الأدب توجيهًا جديدًا، وليس من شك في أنَّ اصطدام العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم، وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم، فامتلأت الأرض معرفة ونورًا، بفضل هذا الاصطدام، وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج، ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينها وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون عليه من شئون الحياة.
ومن يدري؟! لعل القدماء كانوا أدنى منَّا إلى الحق وأقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثارًا للقصد والاعتدال؛ فهم كانوا لا يكلفون أنفسهم ما لا تطيق ولا يحملونها ما لا تحتمل، وإنما كانوا يتلقون الحياة ويحيونها، ثم يسجلون ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر، فقدماء العرب قد عرفوا ما كان من تطور الأدب العربي بعد وقوعه، كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه، وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلًا مقاربًا يسيرًا لا تكلف فيه ولا إبعاد، وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حينًا وتكذبها أحيانًا، وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي أتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول: إنه لا يعلم أن للحرب أثرًا في الأدب أو أن للأدب أثرًا في الحرب، والأمر كله يرجع، فيما يظهر، إلى أن الرقي الذي أتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى ألوان من الغرور وخُيِّل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء، وما دمنا قد استطعنا أن ننهب الأرض بالقطار والسيارة، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه، وننهب الجو بالطائرات، وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق وبالراديو، ما دمنا قد استطعنا أن نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف أستارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو أن ينتهي إلى غاية، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان، وقد قيل: إن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يُعلَم من حقائق الماضي، ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه، وقليل جدًّا من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل، وأكبر الظن أن هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة، ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية، وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول — أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون، ولكننا لا نحب صوابهم هذا ولا نكلف به، بل لا نطمئن إليه؛ لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال، ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الإغراق في الغرور، وما قيمة الإنسان إذا لم يعبث به الغرور فيُخيِّل إليه أنه قادر على كل شيء، وأن من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء!
من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن أشياء كثيرة، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي ستدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وقاربت بين الأجيال المتباعدة، وألغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب، وغيرت كثيرًا من صور الأشياء، ثم غيرت كثيرًا من قيم الأشياء، ثم غيرت كثيرًا من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون، فأما المقتصدون من الأدباء الأوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفًا، أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حسابًا لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أبعد الأثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة، وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شك في أننا لم نؤتَ من العلم إلا قليلًا، وفي أن ما نجهله أكثر جدًّا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئًا كثيرًا في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جدًّا بالقياس إلى ما يُنتظَر أن نحققه.
وهذا الذي يُنتظَر أن نحققه قد يفاجئنا بعضه مفاجأة وعلى غير انتظار، وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد، فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة، ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعًا، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون من مستقبل الحياة الأدبية، ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط.
وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لن أتنبأ بشيء لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ، وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في الأيام المستقبلة، فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد، وبين غده القريب دون البعيد، وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولًا، وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق؛ لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما يكن هذا الفصل طويلًا.
وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب، فقد عمر الأدب اليوناني القديم قرونًا طوالًا ثم ألقى بينه وبين النَّاس ستارًا، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدبًا مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءًا منه ولا استمرارًا له، فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه، أريد أنه لا يستمد حياته من أمة حية، تنميه وتقويه وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار أو أفلاطون لا نفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر، وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها، ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال، وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالًا بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها، فلست أعرف مثلًا أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعرًا كراسين أو كاتبًا كجيرودو أو شاعرًا كاتبًا كبول فاليري، وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد، ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني، فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية، إن صح هذا التعبير، وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرنًا إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألوانًا من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه ما زال حيًّا قويًّا يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لا تزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لا تزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيدًا فهي تمنحه وتأخذ منه، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع ما يقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار، فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع، ويظهر أنها لن تنقطع، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد — هذه الصلة ما زالت قائمة متينة خصبة، كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء، ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية متينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظه ملاحظة مباشرة، ونستقصي أطواره استقصاءً حسنًا، فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعًا مرة مستأنيًا مرة أخرى متثاقلًا مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلًا بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف.
ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا، سالكين معه نفس هذه الطرق، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث.
فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جدًّا وحديث جدًّا قد اتصل قديمه بحديثه اتصالًا مستقيمًا لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض.
أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواز السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون وما زال ماء الحياة فيها غزيرًا يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء.
فلنتتبع هذا الأدب تتبعًا يسيرًا مقاربًا، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام.
وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره، أنه يأتلف من عنصرين خطيرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي أنتجته، والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور، ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد، والتجديد.
فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم ما بذل الأدباء وما سيبذلون من الجهود الهائلة المضنية، مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرها في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائمًا عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التحول عنها؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها، فأنا لا أبحث الآن عن العلل والأسباب، وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلًا. لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز بها الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، كل ذلك ممكن، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لا يستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها.
فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من النَّاس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث عن هذه اللغة المعربة الفصحى، فأنتجوا آثارًا فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدبًا، ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح، وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبنا العربي لا يهمل الأسماع إهمالًا قليلًا أو كثيرًا، وإنما يُعنى بها أشد العناية؛ فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدبًا مكتوبًا مقروءًا، وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه.
وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يُعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه، أساسًا لكل هذه الخصال.
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر، هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا عليه أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يُقَلْ في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع؛ فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائمًا بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزانًا يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء، ثم لم يستطيعوا على كثرة ما عابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية على شعرائها البادين، وقد كان أبو نواس من أشد النَّاس عيبًا للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم، ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولًا، كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء، وحنَّ حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الأعرابي القديم يحنُّ إلى ديار هند وأسماء، فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ، وقد أنكر أبو نواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل، ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين، وقد هَمَّ الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا، ولكن تكلفهم يُرَد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء، كما أن مبالغتهم تُرَد إلى قصد القدماء واعتدالهم، أو تصبح مصدرًا للسخر والاستهزاء.
وقد حاول الموشحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة، فيزاوجوا بين أوزان وأوزان، ويخالفوا بين قوافٍ وقوافٍ، ولكن فنهم لم يستطع أن يعمر طويلًا، ففني في الزجل، وأصبح لونًا من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين.
فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم أستقصها، وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها، وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئًا من التجديد، فلا ينجحون نجاحًا صحيحًا إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار، والنثر مع أنه استُحدِث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام، قد اتخذ لنفسه أصولًا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة المعربة، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصافة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالًا ساذجًا لا يخلو من روعة وجلال.
ومع أن كثيرًا من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية، فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصًا شديدًا واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إمامًا أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك، وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء، واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم، ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء، وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية؛ فكما أنك لا تسمع قصيدة ولا تقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب، فأنت لا تقرأ كتابًا ولا فصلًا إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكاتب أو ذاك من كتاب العصر القديم.
ما زال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر: تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل، للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل ما يكوِّن هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى، مع الحرص كل الحرص على الإعراب، والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظًا غاليًا في المحافظة، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحًا معتدلًا، وقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد، وقد يبلغ بهذا الغلو أقصاه، فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف، أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول، ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لا يخرج بالعربية عن أصولها، وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرب ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة، مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى، ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفًا عناصر التجديد، وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لسانًا ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها.
فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية، مكون من هذين العنصرين اللذين كان «أوجست كونت» يسمي أحدهما ثباتًا واستقرارًا، ويسمي ثانيهما تحولًا وانتقالًا. والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار، أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور، وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة، فكان الأدب في بعض العصور مسرعًا إلى التطور ممعنًا فيه، وكان في بعضها الآخر مؤثرًا للثبات حريصًا عليه، فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن، حين نشأ الجيل الجديد من العرب، واتصل بالأمم الأجنبية منتقلًا إليها ومستقرًّا في أرضها غازيًا أو مرابطًا أو عاملًا في مصالح الدولة أو مستعمرًا وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد، سبيًا وموالي، تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شئون الحضارة والثقافة ما لم يكن يعلم. في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء، ولم يكن الأدب بطيئًا في الاستجابة لهذا التجديد، فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، واستحدث النثر خطبًا مطولة وقصصًا مفصلة، ورسائل موجزة مجملة، ثم كثرت أحداث السياسة، فتطورت النفس العربية بدوافع جاءتها من داخل، واشتد الاتصال بين الأمم الإسلامية فتطورت النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج، ثم قوي الاتصال، فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شئون الحياة المادية، وإنما قرأ العرب ما كان عند غيرهم، وقرأ المستعربون ما كان عند العرب، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور العباسية في القرن الثاني والثالث والرابع.
ولست محتاجًا إلى أن أفصل هذا التطور أو أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة من جهة أخرى، فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في إسبانيا، اتصلت كل هذه الثقافات اتصالًا يختلف قوة وضعفًا ويتفاوت سعة وضيقًا ويتمايز سرعة وبطئًا، ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف المعقد الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الإسكندر وقيام الدولة العربية، فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها، وإنما ورثت حضارتهم أيضًا، وورثت معها ما كان عند هذه الأمم من ثقافات متباينة، نقلتها كلها إلى اللغة العربية، وصبتها كلها في القالب العربي، بحيث يمكن أن يقال: إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العرفي في القرون الأربعة الأولى للهجرة، ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الأحداث، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف، وتفوق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور، ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولًا ثم الاتصال الدقيق المنظم بينها ثانيًا.
والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستُؤنِف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه، ثم ألغيت المسافات الزمنية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة، الآن وقد كان كل هذا، ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟ أما الذي حدث فمعروف يقرؤه النَّاس في الكتب، ويدرسه التلاميذ في المدارس، وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولًا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيًا، وما كان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر منها بنوع خاص.
كل هذا قد غيَّر كثيرًا من خصائص النفس العربية، واضطرها إلى أنحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد، ولكنه كان تطورًا رائعًا حقًّا. كان تطورًا يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه، وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب، فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال.
والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع، وكان يُخشَى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن، أن يتم التقاطع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام في غير أناة، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكستين، ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها، كما ثبتت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفًا للعواصف المتنافرة المتدابرة، وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يُعدُوا بجمودهم أحدًا، وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان، ولكن غلوهم لم يلبث أن رُدَّ إلى الاعتدال والقصد.
والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، على نحو ما تحقق في العراق والشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعصِ على التطور، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين.
وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ اللغة العربية له لسانًا، وعرض كثيرًا من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة، ثم استقر في البلاد العربية، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حينًا، وباللغات الأجنبية حينًا آخر. يذهب العرب لطلبه في أوروبا وأمريكا، ويحمله الأوروبيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم.
وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، فقد كان الاتصال القديم ضيقًا أشد الضيق، محدودًا لا يكاد ينهض به إلا أفراد يمكن إحصاؤهم، وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان، وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العربي المختلفة، أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينًا وبالترجمة المكتوبة حينًا آخر، فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث، وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشأوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم.
وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم، وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشرًا في أكثر الأحيان، وإنما كان يتم بالواسطة، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل، ومن هنا صُرِف بعض المذاهب الفلسفية اليونانية عن موضعه، وأُضِيف بعضها إلى غير أصحابه، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية، أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة، فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضًا فينقلون عن فهم وبصيرة في كثير من الدقة والإتقان، وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينتشر درسها في الشرق العربي، فقد ينقل الأدب الفرنسي من طريق الفرنسية والإنجليزية، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك من طريق هاتين اللغتين.
ولكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها، والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الإتقان من النقل بالواسطة في العصر القديم، فالذين ينقلون كتابًا ألمانيًّا من طريق الفرنسية مثلًا يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الإنجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ، ولم يكن شيء من هذا ممكنًا في العصر القديم، ولعلها أن تكون أجل خطرًا من الخصال الأخرى، فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودة، وكان اتصالهم بها بطيئًا ضيقًا قليل الإتقان. كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضًا، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلًا، فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه، وهم قد عرفوا الأخلاق وما بعد الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئًا، أما الآن فنحن نتصل من طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لا تكاد تحصى، وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية، وقد نتصل بالثقافة الإسبانية والإيطالية.
وقد نقرأ كتبًا تُنقَل إلينا من بلاد أوروبا الشمالية، وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد! ولكن الأوروبيين قد زاروها واستعمروها وكتبوا عنها ونقلوا إلينا كثيرًا من أنبائها، ثم إن ثقافتنا لا تتصل بالثقافات الأجنبية من طريق المكان وحده، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضًا، فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم، وعُرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم، وليس من شك في أن علمنا بتاريخ المصريين القدماء الآن، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ، وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند، وما شئت من أقطار الأرض المتحضرة، فلا غرابة إذن في أن هذه الأبواب التي فُتِحتْ لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، تباعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى، وقد استطاع أبو العلاء أن يقول:
ولو قد نشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده، لم تكن شيئًا مذكورًا بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن، ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن، إلى علمنا نحن في هذه الأيام، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه، ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، خليقة أن تنشئ فروقًا خطيرة بين الأدبين في أنفسهما، وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها قد أخذت تظهر شيئًا فشيئًا أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه، ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسيين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياة الأدبية في فرنسا إنما يبتدئ بالحرب العالمية الأولى، وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية، ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبئ بما كان أدبنا مشرفًا عليه من تطور خطير. ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي وعبد الله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران، وكان هؤلاء جميعًا وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر، يصورون طورًا من أطوار الانتقال؛ فهم كانوا يحافظون على كره، ويجددون على استحياء، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها، وأن فجر حياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئًا فشيئًا، ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا وإكبار، ولكن فيها كثيرًا من الإشفاق والرثاء، وفيها ما يدفع أحيانًا إلى الثورة والغضب، فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشئ في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم، ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سرًّا دائمًا وإعلانًا بين حين وحين، والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل، ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ، ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي، ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي، في الصحف السيارة اليومية، وفي المجلات الشهرية والأسبوعية، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك، فقد كان هذا كله إنباء بأن تطورًا خطيرًا يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله، وفي تصوره وتصويره، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس، وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشارًا وتغلغلًا في طبقات الشعب، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبهًا، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيرًا شديدًا، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته، وكان هذا لا يزيده إلا استيقاظًا وتنبهًا وإسراعًا إلى التطور، ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين، وانجلت عنه الغمرة، وإذا كثير جدًّا من شئونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لا بأس به، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جدًّا.
ثم تتقدم الأعوام شيئًا، وإذا قرارات تُتخَذ، ونظم تُوضَع، من شأنها أن تغير الحياة الأدبية في الشرق العربي تغييرًا خطيرًا، فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى، ولكن انتشار التعليم كان محدودًا ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقتير، ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب، فيتنوع ويزداد انتشارًا، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جميعًا مقدارًا من العلم يمكنهم من أن يقرءوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة، وتجدُّ الدولة في تنفيذ هذا الدستور منجحة حينًا مخفقة حينًا آخر، ولكنها تزيد عدد القارئين على كل حال، وقد ظفرت مصر منذ ثورتها في أعقاب الحرب بحظ من حرية التفكير والتعبير لم تعرفه من قبل، واشتدت فيها الخصومات حول المثل العليا في السياسة والأخلاق والاقتصاد والأدب والفن، فكان هذا كله أشبه شيء بالحطب الجزل يُلقَى في النار المضطرمة فيزيدها تلظيًا واضطرامًا، وقد صُدِمت مصر بألوان من الكوارث في حياتها السياسية حدت من حرية الرأي والقول بين حين وحين، ولكنها زادت العقل المصري قوة وأيدًا؛ لأنها علمته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانًا من الحيل للتعبير عما كان يريد أن يعبر عنه، ولست أدري أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثر في حياتها السياسية، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئًا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات.
ولم تكن مصر منفردة بهذا التطور العنيف ولا بهذه الأزمات التي كانت تكبو بها مرة وتنهض بها مرة أخرى، وإنما كان هذا كله حظًّا شائعًا لبلاد الشرق العربي كله تقريبًا، فجرى التطور الأدبي متوازنًا شيئًا ما، ولكن مصر امتازت بمكانها من السبق في السياسة وفي الاقتصاد، وبما أتيح لها من الثروة التي مكنتها من الإسراع إلى نشر التعليم على اختلاف فروعه، ويكفي أن نلاحظ أن مصر أنشأت جامعتين في أقل من ربع قرن، ونشرت التعليم الثانوي في جميع عواصم الأقاليم، ونشرت التعليم الابتدائي في جميع المدن، ونشرت التعليم الأولي في كثير جدًّا من القرى. ذلك إلى تنوع هذا التعليم واختلاف فروعه، وإلى ما أنشئ من المؤسسات المختلفة التي تُعنى بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة، وإلى إرسال الشباب إلى العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعاء الأساتذة من هذه العواصم على اختلافها. كل هذا جعل مصر مركزًا خطيرًا من مراكز الثقافة العالمية في الشرق، وكل هذا فتح للأدباء أبوابًا من التفكير وشق لهم طرقًا إلى الإنتاج ما كانوا ليعرفوها لو جرت الأمور في مصر على ما كانت تجري عليه أثناء الاحتلال وقبل إعلان الاستقلال وإصدار الدستور.
ثم صُدِم العالم صدمته الثانية، وكانت الحرب العالمية الأخيرة، وذاقت مصر من مرارتها غير قليل، واصطلت بعض نارها ست سنين، وكان أهم ما مس الأدب من هذا كله فرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولست أدري إلى أي حد ضاق الأدباء بهذه الرقابة، ولكن الذي أعلمه هو أن هذه الرقابة لم تمنعنا من الإنتاج الأدبي الخالص، ولعلها صرفت بعضنا عن الأدب السياسي فاضطرته إلى إنتاج آخر لعله أن يكون أبقى وأجدى من الأدب السياسي، ولأضرب لذلك مثلًا الأستاذ العقاد، فقد صرفته ظروف الحرب عن عنفه السياسي وقتًا ما، ولست أعرف أضاق بذلك أم لم يضق، ولكني أعلم أنه دُفِع إلى ألوان جديدة من البحث والتفكير، وأنتج كتبًا ما أشك في أن قراءه يؤثرون أيسرها على أدبه السياسي كله، وجملة القول أن الأدب العربي الحديث خضع أثناء ربع قرن لمؤثرات كثيرة مختلفة دفعته إلى تطور خطير من جميع نواحيه، دفعته إلى التطور في شكله وفي موضوعه، ودفعته إلى التطور سعة وعمقًا وتنوعًا واختلافًا. ويكفي أن نستعرض الفنون التي يمارسها الأدباء لنتبين صدق هذا التقدير؛ فقد أدركنا هذا القرن وأدبنا العربي ينقسم إلى شعر ونثر، وكان شعرنا قديمًا يحاول التجديد، وكان نثرنا كتبًا يسيرة وفصولًا تنشرها الصحف، بعضها يمس السياسة، وبعضها يمس الحياة اليومية، وبعضها يحاول التعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها كان يفرغ للأدب الخالص فراغًا تامًّا، وكان عندنا تمثيل نستعير قصصه من أوروبا ولا نكاد نجيد عرضه على النظارة، ولعلنا كنا نسيء إلى فن التمثيل أكثر مما كنا نحسن إليه، وكنا نحاول النقد فنذهب فيه مذاهب القدماء، وكان الشباب يريدون أن يجددوا هذا النقد فلا يظفرون إلا بالإعراض والإنكار، وقد حاول بعضنا أن يحدث في الأدب فنًّا جديدًا، فحاول المويلحي رحمه الله أن ينشئ قصة فأنشأ مقامة طويلة، وحاول حافظ رحمه الله أن يتحدث إلى سطيح فلم يصنع شيئًا.
أما بين الحربين فقد دُفِعَ أدباؤنا إلى الأعاجيب، وكان أول هذه الأعاجيب هذه الخصومات السياسية التي يسرت اللغة تيسيرًا غريبًا، ومنحت العقول حدة رائعة ونفاذًا بديعًا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة والاهتمام لها والتفكير المتصل فيها، وأحدثت — أو قُلْ أحيت — في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
على أن هذه الخصومة السياسية لم تمس النثر وحده، وإنما ردت إلى شعرائنا الشيوخ شيئًا من شباب، فاضطرمت نفس حافظ وشوقي رحمهما الله واستطاعا أن يتصلا بالجمهور بعد أن كانا قد بعدا عنه شيئًا، وهذا الشباب الذي رُدَّ إلى شوقي في أعقاب الحرب العالمية الأولى دفعه إلى تقليد الشعراء التمثيليين الأوروبيين فأنشأ شعرًا تمثيليًّا قد نرضى عنه أو لا نرضى عنه، ولكن كثيرًا منه فتن الذين قرءوه وسمعوه في دور التمثيل.
وهذه الخصومة السياسية دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس فافتنت فيما جعلت تنشر من الفصول، وإذا الأدباء يستعرضون الأدب القديم يحيونه حياة جديدة بالنقد والتحليل، وإذا هم يستعرضون الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول حتى تصبح كتبًا تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولًا تُنشَر في الصحف والمجلات، ثم يُجمَع بعضها إلى بعض فإذا هي أسفار قيمة يجد فيها القارئ نفعًا ولذة ومتاعًا، فهذا نوع جديد من الأدب عرفه الأوروبيون منذ زمن بعيد ولم نعرفه نحن إلا في هذا العصر الحديث، ثم ننظر فإذا تمثيل شعبي ينشأ فجأة يصور حياة الثورة وما استتبعته من تطور الأخلاق، وتغير القيم، وإذا نحن نشغف بهذا التمثيل الشعبي، ولكنا نشهده للهو وقطع الوقت ولا نرقى به إلى مرتبة الأدب الرفيع، فيشعرنا ذلك بأن للتمثيل مكانة أدبية يجب أن تُعرَف له في مصر، وإذا نحن ننشئ فرقة للتمثيل، وإذا القصص التمثيلية توضع لها حينًا وتترجم لها أحيانًا، وإذا أدبنا التمثيلي قد نشأ متواضعًا ولكنه قد نشأ على كل حال، وكل هذا لا يكفينا، فقد قرأنا القصص الأوروبي طويله وقصيره ومتوسطه، وقرأناه في اللغات المختلفة، وسألنا أنفسنا شاعرين بذلك أو غير شاعرين: ما بالنا لا نقص في لغتنا كما يقص الأوروبيون والأمريكيون في لغاتهم؟ ثم حاولنا مقلدين أول الأمر، مبتكرين بعد ذلك، وإذا نحن نبلغ من الإجادة في هذا الفن الجديد حظًّا عظيمًا، وإذا قصصنا يشيع في الشرق العربي ثم يُنقَل إلى الغرب الأوروبي، وإذا قصصنا يختلف في موضوعه وأغراضه ومذاهب الكتاب فيه على نحو ما يختلف القصص الأوروبي في هذا كله، وإذن فنحن قد دُفِعنا شاعرين أو غير شاعرين إلى أن نسمو بأدبنا العربي إلى مكانة الآداب الحية الكبرى، وبلغنا من ذلك حظًّا ليس به بأس وإن لم نبلغ من ذلك ما نريد، ومتى بلغ النَّاس ما يريدون؟!
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أيسر الموازنة بين أدبنا هذا الحديث الذي لا نكاد نرضي عنه أو نقنع به وبين أدبنا ذلك القديم الذي فُتِنَّا به فتونًا، يدل على أننا قد وثبنا بالأدب العربي وثبة لم يكن القدماء يحلمون بها ولم تكن تخطر لهم على بال، وقد كان العصر العباسي عصرًا ممتازًا في التاريخ الأدبي من غير شك، ولكن عصرنا نحن أشد منه امتيازًا وأكثر منه خصبًا وأعظم منه استعدادًا للبقاء.
على أن هناك تطورًا آخر لأدبنا الحديث أعظم خطرًا وأبعد أثرًا من كل ما قدمت، وهو الذي سيوجه الأدب في المستقبل القريب إلى غاياته التي لا يستطيع عنها تحولًا أو انصرافًا فيما أعتقد، ولهذا التطور الخطير وجهان: أحدهما يتصل بأشخاص الأدباء، والآخر يتصل بالموضوعات التي يطرقها الأدباء، فأما الوجه الأول فنستطيع أن نتبينه في سهولة وَيسر إذا نظرنا إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، وإلى العقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى، فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم. أريد أنهم كانوا يتخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة لا تمتاز بالاستقلال، كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له ما يحب من العيش والمكانة، ولا بد له من «مِسين» كما يقول الأوروبيون، يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب، أما الثلاثة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب، يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك ويكبرون أدبهم أن يرعاه هذا القوي أو ذاك. هم يعيشون أولًا ويعيشون أحرارًا، ثم ينتجون أولًا وينتجون أحرارًا، وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حسابًا لهذا أو ذاك. هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها.
وقد تقول إنهم ينتجون للجمهور، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا شيء شائع مجهول لا يستطيع أن يعبث بحرية الأديب ولا أن يعرض كرامته لما لا يحب، وكل إنسان في بيئة متحضرة إنما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما أن الجمهور نفسه يعيش لكل إنسان وبكل إنسان، فالظاهرة الخطيرة في أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي مكنتهم من أن يكونوا أحرارًا فيما يأتون وفيما يدعون.
أما الوجه الثاني لهذا التطور فهو أن هذه الحرية نفسها قد فتحت للأدباء أبوابًا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعًا للسادة والعظماء، وقد أثرت ظروف التطور الإنساني في توجيه هذه الحرية، فقد كان الأدباء القدماء يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون، فأصبح الأدباء المحدثون يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف الأدباء على أنفسهم فحللوها وعرضوها، واستخرجوا من هذا التحليل علمًا كثيرًا ومتاعًا عظيمًا، وكذلك فرغ الأدباء لفنهم فجودوه كما يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفن، لا كما يريد هذا السيد أو ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشعب، فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار، وهذا كله قد رفع الأدب إلى الصدق والدقة، وجعله إنسانيًّا لا فرديًّا، ووضعه حيث وضعت الآداب الحية الكبرى نفسها بحكم التطور الذي دفعتها إليه ظروف الحياة الحديثة.
فإذا أردنا أن نتبين الاتجاهات التي سيدفع إليها الأدب العربي غدًا، بعد أن عرفنا اتجاهات الأدب العربي في ماضيه القريب والبعيد، وبعد أن رأيناه يحيا بين أيدينا في حاضره الذي نشهده الآن، فقد يُخيَّل إليَّ أننا نستطيع أن نستنبط هذه الاتجاهات من بعض الحقائق الواقعة، وأول هذه الحقائق الواقعة هو هذا الاستقلال الذي كسبه الأدباء لأنفسهم ولأدبهم، فهم قد أخذوا بحظ من الحرية وهم لن يكتفوا بما أخذوا، ولكنهم سيمعنون في استقلالهم وحريتهم حتى يرتفعوا عن كل رقابة مهما يكن مصدرها، وحتى يتعرضوا — وقد تعرضوا بالفعل — لبعض الأذى في سبيل هذه الحرية.
ومن هذه الحقائق الواقعة أن التعليم ينتشر انتشارًا هائلًا، ينشأ عنه كثرة القراء من جهة، واختلاف هؤلاء القراء في حظوظهم من الثقافة من جهة أخرى، وسيكون لهذه الحقيقة تأثير خطير في الأدب، فسيحرص بعضهم على كثرة القراء وانتشار آثاره، وسيضطر إلى ملاحظة هذه الكثرة كما كان الأدباء القدماء يلاحظون سادتهم ومواليهم، وسيضعف أدب هؤلاء حتى يصل إلى الابتذال أحيانًا، ولعلنا نشهد بعض ذلك منذ الآن، وسيحرص قوم آخرون من الأدباء على كرامة الفن وجودته أكثر مما يحرصون على انتشاره وشيوعه، فيجوِّدون أدبهم ويحفلون بهذا التجويد، ثم يرسلون أدبهم إلى القراء غير حافلين بالرضا أو السخط، ولا بما ينتجه الرضا أو السخط من الفقر والثراء.
وهؤلاء هم قوام الحياة الأدبية، وهم هداة النَّاس وقادتهم إلى الحق والخير والجمال.
وهناك حقيقة واقعة رابعة، وهي أننا نعيش في عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء — وقد أخذ يعرضهم بالفعل — لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الأناة التي تمكنهم من التجويد، وسيجدون أنفسهم بين اثنتين: إما أن يستجيبوا للراديو والصحف والمجلات فيضعف فنهم ويبتذل بعض الشيء، وإما أن يمتنعوا عليها فيشقوا على أنفسهم ويخلوا بين الجمهور وبين أصحاب الأدب الرخيص، وأكبر الظن أنهم سيلائمون بين هذا كله، فيؤثرون الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفلون به ويفرغون لتجويده ويذيعونه في النَّاس متى أرادوا هم لا متى أراد الناس، ويقدمون إلى الجمهور من طريق الراديو والصحف والمجلات أدبًا يسيرًا، مهما يكن من يسره فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرًا على الجمهور.
وهناك واقعة حقيقة خامسة، وهي أن هذه الثقافات الكثيرة التي تصل إلى أدبنا الآن من كل وجه ستوجه كتابنا اتجاهات مختلفة، فمنهم من يساير الثقافة الإنجليزية، ومنهم من يساير الثقافة اللاتينية، ومنهم من يذهب مذهب الروسيين في الأدب، ومنهم من يذهب فيه مذهب الأمريكيين، ويوشك هذا الاختلاف أن يفسد الأمر على أدبنا العربي، لولا أن أدبنا ليس بدعًا في ذلك من الآداب الكبرى، فكل أدب خليق بهذا الاسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه، والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته، ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور، وسيوجد بين أدبائنا من يتطرف في هذه الناحية أو في تلك، ولكن ستوجد بين أدبائنا هذه الصفوة التي تعرف كيف تلائم بين مصادر الثروة الأدبية على اختلافها، وكيف تستخلص منها هذا الرحيق الذي تقدمه غذاءً للعقول وشفاءً للقلوب والنفوس.
وهناك حقيقة واقعة سادسة، وهي التي أريد أن أختم بها هذا البحث الطويل، وهي أن الحياة الإنسانية على اختلاف بيئاتها تتجه الآن اتجاهات شعبية لا فردية، ومن طبيعة هذه الاتجاهات الشعبية أن تستغرق كل شيء وتلتهم كل شيء، ومن طبيعة الأدب الرفيع والفن الجميل أن يمتاز ويأبى الفناء في أي قوة مهما تكن، فسيُمتحَن الأدباء فيما يحرصون عليه من الامتياز، وسيتعرضون إما للعزلة المؤذية أو الخلطة التي تدعو إلى الابتذال، ولكنهم سيلائمون في أدبنا العربي كما لاءم زملاؤهم في الآداب الأخرى بين امتياز أدبهم الرفيع وطموح الشعوب إلى أن تستغرق كل شيء، وسيكون أدبهم الرفيع الممتاز مرآة صافية صقيلة رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه فيحب منها ما يحب ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح، وينظر الأدب العربي الحديث فإذا هو في مستقبل أيامه كالآداب الحديثة الكبرى، قائد الشعوب إلى مثلها العليا من الخير والحق والجمال.