الأدب المظلم
ليست حياة الناس كلها وردًا، وليست حياة الناس كلها شوكًا، وقد أنبأنا شاعرنا القديم منذ عشرة قرون بأنَّ العاقلَ يشقى بعقله في النعيم، وبأنَّ الجاهلَ يسعد بجهله في الشقاء، ومعنى هذا أنَّ الحياةَ شوكٌ بالقياس إلى العاقل الذي يُحَلِّل ويُعَلِّل، ويُحصِي ويَستقصِي، ويُحاول أن يَرُدَّ كلَّ شيء إلى عِلَّته، ويستخرج من كل شيء نتيجته، وأنَّ الحياة ورد بالقياس إلى الجاهل الذي يأخذها كما تُساق إليه لا يُحاول لها فهمًا ولا تأويلًا.
وتستطيع أن تعرض هذه القضية عرضًا آخر فتقول: ليست الحياة كلها مشرقة كما يُشرق النهار، وليست الحياة كلها مُظلمة كما يدلهم الليل، وأكبر الظن أنها تُظلم وتدلهم حين يريد العاقل أنْ يحياها عن بصيرة وفهم، وأنها تُشرق وتضيء حين يُريد الجاهل أن يَقْبلها كما تُهْدَى إليه.
وأكبر الظن كذلك أن إشراقها بالقياس إلى الجاهل نفسه لا يخلو من ظلمة تغشاها بين حين وحين؛ فتُخفي معالمها وتُشوه مَحاسنها وتَرُدُّ صاحبها على جهله إلى الحيرة حينًا وإلى القنوط حينًا آخر؛ وأنَّ ظلمتها بالقياس إلى العاقل لا تخلو من ضوء ضئيل نحيلٍ ينفذ إليها أو ينفذ منها كما ينفذ السهمُ فتُشرق له بعض جوانبها لحظات تقصر أو تطول.
وليس في ذلك شيء من الغرابة! فضوء الشمس يحجبه السحاب، وظلمة الليل يجلوها ضوءُ القمر أو تخترقها أشعة النجوم، والنَّاسُ كلهم يعلمون أن حياتهم مزاجٌ من الخير والشَّر، ومن السرورِ والحُزن، ومن الرَّجاء واليَأس، ومن الابتهاج والابتئاس، تختلف حظوظهم من هذه النقائض باختلاف الطباع والأمزجة، وباختلاف البيئة والظروف، وباختلاف هذه المزايا التي رُكِّبَت في نفوسِهم والتي تعكس لهم الحياة نقية صافية حينًا، وكَدِرَةً قَاتِمَةً حينًا آخر.
ولكنهم بعد ذلك يختلفون، أو قُل إنَّ أدباءهم وفلاسفتهم يختلفون حين يُريدون أن يُصوروا لهم هذه الحياة فيما يُحدِثون من فلسفة، وفيما يُنْشِئون من أدب؛ فبعضهم لا يُصوِّرُ منَ الحياة إلا صَفوها وعفوها، وما يُشيع فيها من نقاء وجمال، وبعضهم لا يُصَوِّر منَ الحياة إلا شَرَّها ونكرها وما يجثم عليها من فساد وضلال، وبعضهم يتوسط بين ذلك فيُصَوِّرها شائقة رائقة حينًا، ويُصورها قاتمة بغيضة حينًا آخر.
وليس في شيء من هذا كله جديد؛ فمن الكُتَّاب من يتفاءل دائمًا، ومنهم من يتشاءم دائمًا، ومنهم من يأخذ من التفاؤل والتشاؤم بِطَرَفٍ، ولكنَّ الجَدِيدَ هو أنَّ من الأوروبيين من يلوِّنون هذه الآداب المُتباينة ألوانًا مُختلفة، ويُسمونها بهذه الألوان؛ فالأدب الخالص للتشاؤم أدب أسود، والأدب الخالص للتفاؤل، والأدب الملائم بين التفاؤل والتشاؤم يأخذان ما يريد الكاتِبُ أو المُتحدث أن يُسبَغ عليهما من الألوان حين يُريد العبثَ أو الدعابة، وهذا كله لا يزيد على أن يكون نحوًا من أنحاء التحذق، وفنًّا من فون الإغراب.
ولأمر ما لا يكاد الأوروبيون في هذه الأيام يحفلون بأدب التفاؤل، ولا بالأدب الذي يتوسط بين التفاؤل والتشاؤم، وإنما يعنون العناية كلها بالأدب الأسود الذي يخلص للتشاؤم، ويُصَوِّر الحياةَ في أبشع صورها وأقبح مَنَاظرها، لا يخْفي ولا يُحاول أنْ يُخفي من ذلك شيئًا، بل يجتهد في إظهار الخفي وتوضيح الغامض، واستكشاف ما لا يهتدي الإنسان إليه من سيئات الحياة، ومن ضعة الحظ الذي كُتِبَ للإنسان في هذه الحياة.
وأكبر الظن أنَّ المِحَنَ التي امتُحِنت بها أوروبا في هذا القرن، والخطوب التي صُبَّت على الإنسانِيَّة في الحربين العالميتين، وما تكَشَّفتْ عنه نفوس الأفراد والجماعات من أثرة لا حد لها، وضعة لا سبيل إلى وصفها، وضعف أمام الأحداث، وتخاذل أمام الكوارث كل ذلك قد أظهر الإنسانية على سيئاتها، وكشف لها مخازيها، وعلمها أنها ليست من الرفعة والسمو ولا من الطُّهر والنَّقاء بحيثُ كانت تظن حين كانت حياتها مُطمئنة راضية.
وهذه الظاهرة التي نراها الآن في أوروبا، ظاهرة الإقبال على التشاؤم، والإنتاج للآثار القائمة، والإعجاب بالأدب الأسود؛ هذه الظاهرة نفسها ليست جديدة، وإنما هي شيء أَلِفَتْهُ الإنسانيةُ منذ أقدم عصورها؛ فهي مُتفائلة مُبتهِجَةً حين تكونُ حَيَاتها راضية مُطْمَئِنَّة، وهي مُتَشَائِمَة مبتئسة حين تعصف بها الخُطُوب ويشيع في حياتها القلق والخوف.
وقد نستطيعُ أنْ نُسَجِّلَ في هذا الحديث السريع بعضَ الظُّروف التي بدت فيها هذه الظَّاهِرَة قَوِيَّة جامحة تُوشك أن تكتسح كل شيء، وتوشك أن تسبغ على الأدب بنوع خاص هذه الظلمة القاتمة، وهذا السواد المُخيف.
والأدب اليوناني بالطبع قد سبق إلى الخضوع لهذه الظاهرة في القرن الخامس قبل المسيح، حين اضطربت حياة العالم المُتحضر في ذلك الوقت بالاصطدام بين اليونان والفرس، وحين اضطربت حياة اليونان أنفسهم بالاصطدام بين الأتينيين والإسبارتيين، وليس من شك في أن الهول الذي انتشر في بلاد اليونان بحكم هذه الحروب المُتَّصِلة قد حمل العقل اليوناني قبل كل شيءٍ على أن يُفَكِّر في الحياة، ويُحَاولَ أنْ يُعَلِّل ما فيها من خير وشر، ومن نعيم وبؤس، وهو لم يكد يعرض لهذا الموضوع حتى ثارت أمامه هذه المُشكلات الإنسانية الخالدة التي تتصل بالعلاقة بين الإنسان والآلهة، بل بين الإنسان والقضاء الذي يسيطر على حياته ويُصَرِّفها كما يشاء هو لا كما يشاء الإنسان.
وليست المأساة اليونانية وآياتها الخالدة إلا مظهرًا من مظاهر هذه الحيرة، التي سيطرت على العقل اليوناني حين صور لنفسه هذه المُشكلات، وأراد أن يَجِدَ منها مخرجًا ويلتمس لها حلًّا.
وكان الجوابُ الأولُ الذي ألقاه العقل على الإنسان وصَوَّرَته المأساةُ أروع تصوير، هو أنَّ هناك قوة قاهرة ماكرة ليس لأحد عليها سُلطان، لا من الناس، ولا من الآلهة أنفسهم، وهذه القوة هي القضاء المحتوم الذي لا يستطيع أحد لأحكَامه نقضًا ولا تغييرًا.
وكل ما في الأمر أنَّ في الوجود طبقتين تتمايزان من جهة، وتتشابهان من جهة أخرى؛ إحداهما: طبقة الآلهة التي لا تخضع لغير القضاء، والتي تمتاز بشيء من القوة وظاهر من الحرية.
والثانية: هي الإنسانُ الذي لا يخضع للقضاء وحده، أو قل: لا يخضع للقضاء مباشرة، وإنما يخضع له من طريق الآلهة الذين ينفذون فيه الأمر، ويمضون فيه الإرادة المحتومة؛ فالأقدار مثلًا قد كتبت على أويدبوس أنه سيقتل أباه، وسيتزوج أمَّه، وسيكونُ له منها ابنان يقتل كل منهما صاحبه في موقعة حاسمة، وابنتان تموت إحداهما في سبيل أداء الواجبات الدينية لأحد أخويها حين يُدركه الموت، وتأبى الدولة إلا أن تتركه بالعراء نهبًا لسباع الطير.
وحظ الآلهة من القُدرة إنما هو إنفاذ هذا القضاء، تُسَخِّر الإنسان له تسخيرًا، تنصح له قليلًا وتُضلله كثيرًا وتعبث به دائمًا؛ فهي تُوحي إلى لايوس ملك ثيبة أن سيكون له ابن يُرديه، وهي تلقي في روعه أنه إن استطاع أن يتخلص من هذا الابن حين يُولد؛ فقد يفلت من هذا القضاء المحتوم. وما تزال تُغريه بذلك وتزينه في قلبه حتى يدفع بالصبي حين يُولد إلى أحد الرُّعاة ليقتله، وقد عاد الراعي إليه فأنبأه بأنه أنفذ إرادته، فيطمئن الملك وينعم بحياة قوامها الغرور؛ لأنَّ الراعي لم ينفذ أمره ولم يصدقه الخبر، ألقت الآلهة في رُوعِه حبَّ الصبي والعطف عليه فلم يقتله، وإنما تركه في حيث استطاع راعٍ آخر أن ينقذه ويكفل له الحياة.
وكذلك عبثت الآلهة بالملك فغرَّته وأمْلَتْ له، وعبثت بالرَّاعي فزينت في قلبه الحبَّ والرَّحمة، وأتاحت للصبي أن ينشأ وينمو ويبلغ أشده ويُصبح قادرًا آخر الأمر على أن يقتل أباه ويستأثر بعرشه، ويتزوج من أمِّه وينفذ حكم القضاء؛ فحُكْمُ القضاء إذن ضرورة محتومة لا يفلت من سلطانها أحد، وليس الآلهة أنفسهم إلا أدوات لإنفاذ هذا الحُكم مهما يظهر من سلطانهم على الناس ومداورتهم لهم، ولكنهم على كل حال يستمتعون بظاهر من الحرية يُتيح لهم هذه المداورة.
وقد استطاع العقل اليوناني في هذا الطور من أطواره أن يمنحَ الإنسانَ شيئًا من الحرية الظاهرة، لا أقولُ في تغيير حُكم القضاء، ولا أَقُول في التَّخلص من سُلطان الآلهة، وإنَّما أقول في الثبات لهذا القضاء، والحَزْمِ أمام سُلْطَانِ الآلهة؛ فأويدبوس لا يُغير من الضرورة المحتومة شيئًا لأنه لا يستطيع تغييرها، وهو ينخدع بوحي الآلهة، فيفر من منفاه مُعتقدًا أنه سيظفر بالحُرِّية كل الحرية نتيجة لهذه المغامرة، وهو يحل اللغز الذي يُلقيه عليه ذلك الكائن الغريب أمام مدينة ثيبة، ويظفر بالعرش، ويتخذ الملكة لنفسه زوجًا، ويرى أنه قد ظفر بالسعادة كل السعادة، ولكنه لا يلبث أن يتبين أنَّ الآلهة إنَّما سلكت به هذه الطرق كلها لتنفذ على يده حكم القضاء فتضطره إلى قتل أبيه، ثم لتنفذ فيه هو حكم القضاء فتضطره إلى أن يتزوج أمه ويعقب منها الولد.
فحريته إذن أمام القضاء وأمام الآلهة ليست شيئًا، ولكنَّ له مع ذلك نصيبًا من الحُرِّية فهو يثبت للكارثة، قد فقأ عينيه، ونفى نفسه من الأرض، ولكنه لا يتهم نفسه بشيء ولا يلومها على شيء، فهو لم يأثم، وإنما كتب القضاء عليه الإثم وضللته الآلهة حتى تورط فيه، ولو خُيِّرَ لاختار، ولو عرف أن هذا الشخص الذي لقيه في الطريق هو أبوه لما قتله، ولو عرف أن هذه الملكة التي أهدت إليه نفسها وعرش زوجها هي أمه لما تزوجها.
وإذن فهو مُجْبَرٌ لا مُختار، وإذن فهو لا يحتمل تبعة ولا يستحق لومًا، وهو في حقيقة الأمر لا يُعاقِبُ نفسه حين يفقأ عينيه ويُهاجر من وطنه، وإنما يُنَفِّذ حكم القضاء، ويخضع لسلطان الضرورة، لم يكن يَمْلِكُ إلا هذا، ولكنَّه على ذلك ينكره ويثُور عليه، ويرى نفسه بريئًا أمام الآلهة وأمام القضاء.
وكذلك نرى الإنسانَ يعرف نفسه أولًا ويعرف ضَعْفَه ثانية، ويعرف أنَّ هذا الضعف لا يأتيه من عند نفسه، وإنَّما يأتيه من عند هذا السُّلطان الأعلى الذي يتحكم فيه ويُصَرِّف أمره كما يريد، لا يستشيره ولا يستأمره، وإنما يُسَخِّره لما يريد تسخيرًا.
والمهم بعد ذلك هو أنَّ الإنسان يُحقِّق هذا كله، ويُصَارحُ القضاءَ بأنَّه غير ملوم.
ومهما يكن من شيء فقد ألقيت المسألة الخطيرة، مسألة الصلة بين الإنسان وبين الآلهة، بل مسألة الصلة بين الإنسان وبين القضاء، والذي يحدث بالقياس إلى أويدبوس هو بعينه الذي يحدث بالقياس إلى غيره من أبطال المأساة، فهم جميعًا يُمتحَنون لا في قدرتهم على الخير، ولا في ترجيحهم بين الحسنة والسيئة، وإنَّما يُمتحَنون في احتمالهم للمكروه، وإذعانهم لحكم القضاء، وثباتهم لما ينزل بهم من الملمات؛ فمنهم من يُذعن في غير اعتراض، ومنهم من يُذعن في شيء من المُقاومة، ومنهم من يَودُّ لو يَثُور، فإذا أعجزته الثورة احتفظ بحريته كاملة بينه وبين نفسه، وحَمَّل الآلهة والقضاء تَبِعَة ما يتورط فيه من شَرٍّ، وما يجري على يديه من أحداث.
فالمأساة إذنْ في حقيقة الأمر ليستْ إِلَّا لونًا من ألوانِ التشاؤم حين ينظر الإنسانُ إلى الصِّلَةِ بينَهُ وبين هذه القُوَّة المُتسلطة التي تحكم لا مُعَقِّب لحكمها.
ومع ذلك فهذا اللون من ألوان التشاؤم ليس سوادًا كله، بل فيه شيء قَلِيلٌ أو كَثيرٌ منَ الإشْرَاق؛ لأنَّ فيه شيئًا قليلًا أو كثيرًا من الأملِ الذي يأتي من معرفة الإنسان نفسه، من شجاعته عند اليأس، وقُدرته على المُقاومة، وصَبْرِه على المَكْرُوه صبرًا يأتيه من إرادته لا من شيء آخر، ومن هنا كانت المأساة اليونانية تصويرًا لبؤس الإنسان من جهة، ولبطولته من جهة أخرى.
وقد يُخَيَّلُ إلى الناسِ أنَّ المأساة اليونانية هي وحدها الأدب الأسود في الحياة العقلية اليونانية، ولكنَّ شيئًا من التفكير اليسير يُظهرنا على أنَّ السوادَ كان يُجَلِّلُ الأدبَ اليُونَانِي كُلَّه في ذلك العصر المَجيد الذي أورث الإِنْسَانِيَّة هذا التراث الخالد العظيم.
ففلسفة السفسطائيين في القرن الخامس قبل المسيح لم تكن إلا نوعًا من التشاؤم؛ لأنها كانت تُنكِرُ الحَقائِقَ، وتُقيم أمْرَ الحَياةِ كلِّهِ على التَّخَيِيل والخِدَاع، لم يكن المُهِمُّ عِنْدَ الفلاسفة السفسطائيين أنْ يَعْرِفُوا الحقَّ لِأَنَّهم يئسوا من معرفة الحق، وإنما كان المهم أن يُلبِسُوا الحقَّ بالباطل، ويَخْدَعوا نظراءهم من الناس، وواضح جدًّا أن الفلسفة التي تقوم على اليأس ليست من الإشراق ولا من السطوع في شيء.
والملهاة اليُونانية التي كانت تملأُ المَلاعِبَ ضَحكًا وتُخرج النظارة عن أطوارهم، لم تكن في حقيقة الأمر مُشرقة ولا نَاصِعة، وإنما كان إشراقها تكلفًا ونصوعًا وخداعًا؛ فهي كانت تُضْحِك النظارة من أنفسهم، وتعبث أمامهم بما كانوا يُكْبِرون من القيم، وهي كانت تظفر منهم بالرضا وتضطرهم إلى الإعجاب، ومعنى ذلك أنها كانت تكشف لهم عما في حياتهم الفردية والاجتماعية من السُّخف الذي لا يستحق منهم إعجابًا ولا إكبارًا، وإنَّما يستحق منهم سخرية واستهزاءً.
فأرستوفان حين كان يُضْحِكُ الشَّعْبَ من حُكومة الشَّعْبِ، وحين كان يعبث بفلسفة الفلاسفة، وسياسة الساسة، وأدب الأدباء، إنَّما كان يَسْخَرُ ويَحْمِل الأتينيين على أن يسخروا معه من هذه القيم الفلسفية والسياسية والأدبية التي كانوا يُقدرونها ويُكْبِرونها خارج الملعب صادقين فيما بينهم وبين أنفسهم أو كاذبين.
لم يكن أرستوفان يزيد على أن يثبت للأتينيين أنَّ ما كانوا يزهون به على المُدن اليونانية، ويزينون به حياتهم لم يكن إلا سخفًا وباطلًا. ومن هنا نفهم ما يُقال في تاريخ الفلسفة من أنَّ سُقْرَاط وتلاميذه إنَّما أنفقوا جُهُودَهَم الهَائِلَة الخَصْبَة ليُقاوموا هذه النزعات السفسطائية التي تؤيس الإنسان من نفسه، وتُفْسِد الصِّلة بينه وبين آلهته، وتدفعه إلى نوع من الفوضى لا ينتج له إلا العبث والشك والاستهانة بكل شيء والانتقاض على كل سلطان، وليس يعنيني أنْ أُبَيِّنَ الآن ما أُتيح لسُقْراط وتلاميذه من الفوز بقدر ما يعنيني أنْ أُلاحظ أنَّ الجُهود التي بذلها سُقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس لرد الإنسان إلى شيء من النِّظام والاستواء، ولتنظيم الصلة بينه وبين هذه القوة العُليا التي تدبر أمره، هذه الجهود نفسها قد انتهت إلى الإخفاق.
وقد يكون الأدب اليوناني في عصر سُقراط وتلاميذه بعيدًا عن التشاؤم، ولكن الشيء المُحَقَّق هو أنَّ هذا العصر قد انتهى آخر الأمر إلى تَشَاؤم الرواقيين والأبيقوريين وأصحاب الشك، وعادت القضية الإنسانيةُ سِيرَتها الأولى، ووقف الإنسانُ منَ الآلهة موقفه القديم الذي كان يملؤه اليأسُ، ويَشيع فيه الإذعان الخالص أو الإذعان الذي تشوبُه المُقاومة أو الذي كان يَدْفع إلى الثورة الصريحة التي دفع إليها أبيقور وتلاميذه، والتي أورثت الإنسانية في العصر القديم أروع نماذِج الأدب الأسود، ذلك الذي يقطع الصلة بين الإنسان وبين آلهته.
والذي يُعَلِّم الإنسان ألا يؤمن إلا بنفسه، ولا يعتمد إلا عليها، ولا يأمل إلا فيها، والذي يُعلم الإنسان كيف يبرئ نفسه من الوهم، ويُخَلِّصها من خوف الآلهة، ويَعْصِمُها من رَهْبة الموت، ويُزَهِّدُها في لذات الحياة، ويأخذها بأنْ تنظر إلى حقائق الأشياء كما هي في غير خداع ولا انخداع.
والذين يقرءون «طبيعة الأشياء» للشاعِر اللاتيني العظيم لوكريس يتبيَّنونَ أنَّ سُقْراط وأصحابَه لم يقهروا الأدبَ الأسودَ إلا وقتًا قَصيرًا، وأنَّ هذا الأدبَ الأسودَ لم يلبث أن استأنف فوزه وانتصاره وتسلطه في أشكال مُختلفة متباينة على عقول الخاصة والعامَّة جميعًا، وواضح جدًّا أني هنا لا أستقصي ولا أتعمق، وإنما أكتفي بالإشارة والإجمال عن التلميح والتفصيل.
وقد يكون من الخير أن أتجاوز اليونانيين والرومانيين وأدبيهما العظيمين، إلى أدب شرقي ما أظن أنه قد كان أقلَّ منهما تصويرًا لهذا الموقف الخطير، موقف الإنسان العاقل من هذه المُشكلة المعقدة؛ مُشكلة الصلة بينه وبين القضاء — وهو الأدب اليهودي، ويكفي أن يَستمتع القارئُ بالنَّظر في سِفر أيوب ليَرى كيف أُلقيت المَسْألة، وكيف عُرِضت المُشكلة، وكيف ثار حولها الشكُّ، وكيف اقتُرِحت لها الحلول، وكيف انتهى أمرها بالإذعان لقضاء الله الذي لا يستطيع الإنسانُ أن ينفذ إلى أسراره، ولا أن يتعمق حكمته البالغة.
فشِعْرُ الشيعة المُضطهدين، وشعر الخوارج الثائرين، لا يروق لأنه يظهر الحياة جميلةً خَلَّابة، ولا يُعجب لأنَّه يُظْهِر لنا مَحاسن هذا العالم، وإنَّما يُؤثِّر في النَّفس لأنه يُبين لنا أنَّ هذه الحياة بعيدة كل البُعد عن أن تُرضِي أو تَسُر، قريبة كل القرب من أن تُسخط وتَسُوء؛ لأنَّ الظلم عليها غالب والفساد فيها شائع، ولأنها قد فقدت شيئًا خطيرًا لا تطيبُ الحياة إلَّا به ولا تستقيم إلا عليه، وهو العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويُسوي بين الناس في مواجهة الحياة واحتمال خطوبها، والاستمتاع بما فيها من نعيم ولَذَّة، والشقاء بما فيها من بؤس وألم.
فالشيعة يطلبون العدل الذي يَرُدُّ السلطان إلى مُستحقيه من أهل البيت، والذي يُمَكِّن الأئمة أن يملأوا الأرض عدلًا بعد أن مُلِئت جورًا، وشعر الشيعة في ذلك الوقت إنَّما يكتسب سواده وإظلامه من تصوير هذا الظلم الذي صُبَّ على المختارين من أهل البيت، فحرمهم الاستمتاع بحقهم، وحرم الناس ما كانوا وحدهم قادرين على أن يشيعوه بينهم من العدل، وعلى أن يَسُوسوهم سياسة تَحْمِلهم على الجادة، وتَسْلُك بهم السبيل الواضحة إلى نعيم الدنيا والآخرة جميعًا.
وشِعْر الخوارج بل أدب الخوارج كله، لا يُعجِب ولا يَرُوق إلا لأنَّه يُصَوِّر ما ينقص حياة الناس من إقرار العدل في الأرض، وتحقيق المُساواة بين المسلمين، وهم حين يتغنون بلاءهم في الحروب، وجهادهم لأصحاب السلطان، وسفكهم لدماء المصانعين للحكام، وبيعهم أنفسهم لله يُجاهدون في سبيله فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ، لا يُصَوِّرون حياة ناصعة رائعة، ولا عيشًا ناعمًا سعيدًا.
والذين يُؤثرون منهم القعود، ويُحاولون الاعتذار عن أنفسهم من إيثار العَافية، لا يُحِبُّون الحياة لأنها خير في نفسها، ولا لأنها تُتيح لهم نعيمًا يستحقُّ أن يحرصوا عليه، وإنما يؤثرون الحياة؛ لأنَّهم يرونها وسيلة إلى دفع شر لا يدفعه الموت، وإلى تحقيق قليل من الخير قد لا يُعينهم الموت على تحقيقه.
فهذا القاعد يُؤْثِرُ الحياة بأنَّ له بنات عاجزات يخاف عليهن البؤس والشقاء، ويُريد أن يعصمهن من الذل والابتذال، وهذا القاعد الآخر يُؤثر الحياة لأنه يَمتحن بها نفسَه ويُعَوِّدها احتمال المكروه، والصبر على الفتنة، والنفاذ من الخطوب، وهو يراها عبئًا ثقيلًا يتقرب إلى الله باحتماله، ويتنقل بهذا العبء بين أحياء العرب في البادية، وبين مُدِنِهم في الحاضرة، لعله أن يُذيع فيهم كلمة الحق، ولعله أنْ يَحمل بعضهم على الخروج.
فالحياة الواقعة بغيضة إلى الشيعة؛ لأنها قائمة على الظلم، والحياة الواقعة بغيضة إلى الخوارج؛ لأنها قائمة على الظلم أيضًا، وأولئك وهؤلاء، وغير أولئك وهؤلاء، يُفكرون ويُقدرون، ويلتمسون للظلم علله، لعلهم يستطيعون أن يُزيلوها فيُتاح لهم إزالة الظلم ويَلتمسون إلى العدل سُبله لعلهم يستطيعون أن يسلكوها؛ فيتاح لهم تحقيق العدل.
وهم حين يُفكرون ويُقدرون يُلقون على أنفسهم هذه المسألة الخالدة: ما موقف الإنسان من القضاء والقدر؟ أحرٌّ هو فمِنْ حَقِّه ومن الحق عليه أن يَحتمل التبعات، ويخوض إلى الحق والخير والعدل غمرات النِّضال والجهادِ والموت؟ أمُجبرٌ هو فينبغي له أن يستسلم وأن يُذعن، وأنْ يستقبل الحياة لا راضيًا عنها ولا ساخطًا عليها؛ لأنها لا تستحق رِضًا ولا سُخطًا، ولأنَّ الرضا والسُّخط لا قيمة لهما إذا لم يصدُرا عن إرادة حُرَّة تستطيع أن تختار وأن تغير من شئون الحياة ما لا تحب؟
وكذلك ألقيت هذه المسألة على العقل الإسلامي وشقي بها الناس، قَبْل أن يتجاوز القرن الأول للهجرة ثلثيه.
فأما مسألة العدل، فقد ألقيت على العقل الإسلامي في أيام النبي نفسه، وكان الإسلام هو الذي ألقى هذه المسألة حين دعا إلى إنصاف الضعيف من القوي، وإلى تحقيق المُساواة بين المسلمين، لا ينبغي أن يتفاضلوا إلا بالتقوى، وقد عرض القرآن وعرضت سيرةُ النبي على المسلمين صورة رائعة للعدل حببته إلى نفوسهم، وزينته في قلوبهم، ودفعت فريقًا منهم إلى الغلو في طلبه، وإلى التشدد في تحقيقه؛ فوُجِد بينهم من أغضب النبي نفسه حين ألح عليه في تحقيق العدل، حتى قال له النبي: ويحك! ومَنْ يعدل إذا لم أعدل؟!
ووُجِد بينهم من خاصم الخلفاء وأنكر سيرتهم وأذاقهم مُعارضة مؤذية، ولقي منهم مقاومة مؤذية؛ فسعد بن عبادة ينفي نفسه من وطنه ويموت غريبًا؛ لأنه يرى أنَّ الجماعةَ لم تعدل حين جعلت الخلافة إلى المهاجرين، وأبو ذر يضطر إلى أن يعيش وقتًا من حياته غريبًا، وإلى أن يموت غريبًا؛ لأنَّه يُنكر سيرة عثمان وعماله في أموال المسلمين.
وكذلك عرف المسلمون منذ القرن الأول للهجرة المُشكلتين الخطيرتين اللتين شَقي بهما الإنسانُ دائمًا: مُشكلة العدل الاجتماعي من جهة، ومشكلة الصلة بين الإنسان وبين القضاء والقدر من جهة أخرى. وظهر أثر هاتين المشكلتين في مقدار عظيم من الأدب الإسلامي، حتى أصبح من الممكن أن نقول: إنَّ المسلمين قد عرفوا هذا الأدب الأسود قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة.
على أنَّ هناك أدبًا أسود آخر يستحقُّ شيئًا غير قليل من العناية؛ لأنَّ مُؤرخي الآدابِ العربية لم ينظروا إليه إلا هذه النظرة اليسيرة السريعة التي لا تُحَقِّق شيئًا ولا تتعمق شيئًا، فهذه الأزمة العنيفة التي ثارت بين الشعراء التقليديين في العراق، والتي أنتجت لنا هذا الهِجاء الرَّائع المُرَوِّع بين الفحول الثلاثة ومن شايعهم من الشعراء، ما مصدرها؟ وما غايتها؟ وما طبيعتها؟ أكانت لهوًا سخيفًا يرجع كما يقول المؤرخون إلى هذه الخصومات السخيفة بين حيَّين من أحياء تميم؟ أَمِنَ الحَقِّ أن الهجاء قد ثار بين الفرزدق وجرير لهذا السبب اليسير البسيط الذي يذكره المؤرخون؟ أَمِنَ الطبيعي أن تُثار خصومة غير ذات خطر بين حيين من أحياءِ العرب في البادية؛ فتنشأ عنها هذه الأزمة الهجائية التي انتشرت في بادية العراق وأمصاره، كما تنتشر النارُ في الحَطَبِ الجزل، والتي فرضت نفسها على جميع البيئات العربية في جميع أقطار الدولة، ثم فرضت نفسها، وما زالت تفرض نفسها، على الأدب العربي كله إلى اليوم وإلى آخر الدهر؟
ألا يمكن أن يكون هذا الهجاء ظاهرة لما كان في الحياة العربية في ذلك الوقت من اضطراب خطير مصدره الانتقال من حياة جاهلية سَاذَجة إلى حياة إسلامية مُعَقَّدة، ومَصْدَرُه أيضًا كل هذه المشكلات التي واجهها العرب حين أُدِيل لهم من الفرس والروم، وفُتِحت عليهم أقطار الدنيا، وأُتِيحَ لهم سُلطان لم يكونوا يحلمون به، وثراءٌ لم يكونوا يستطيعون أن يحققوه في أنفسهم، ثم نظروا فإذا هذا السلطان تحتكره قلة ضئيلة من دون سائر العرب على ما كان لبعض قبائلها وأحيائها من سابقة في الشرف والمجد.
ونظروا فإذا هذا الثراء الضخم يتاح لفريق دون فريق، وإذا جماعة منهم ينعمون حتى يبطرهم النعيم، وإذا جماعات أخرى منهم تُحْرَم حتى يَضَّطرهم الحِرْمَان إلى البؤس والاستجداء، وإذا الحفيظة تملأ الصدور، وإذا الغيظ يستأثر بالنفوس، وإذا الحسدُ يُفسِد الصلات، وإذا التنافس يجعل بعضَ الأصدقاء لبعضهم عدوًّا، وإذا الحياةُ مُظلِمة يسبغ الحرمان عليها سوادًا حالكًا بالقياس إلى بعض الناس، ويسبغ الخوف عليها ظلمة قاتمة بالقياس إلى بعضها الآخر.
وإذا بعض الناس يتتبع مثالب بعض ويُحصِي عليهم السيئات، وإذا بعضهم الآخر يكيل لهم صاعًا بصاع، وإذا الشرُّ يَشيع بين هذه الأحياء العربية؛ لأنَّ اللهَ أخرجهم بالإسلام منَ الظُّلمات إلى النُّور، ولكنَّ الزمن لم يكد يتقدم حتى غشيتهم ظُلُمات جديدةٌ منَ الفِتَنِ وما استتبعت من ظُلم وعسف، ومن تنافس حول أعراض الحياة؟
وليس من الضروري أن يكون الشُّعراءُ، والذين كانوا يستمعون لهم حين ينشدون، مُحققين لهذه المعاني كلها في أنفسهم تحقيقَ الشاعرِ بها المُسَجِّل لها، وإنما يكفي أن تكون هذه الحقائق واقعة في نفسها مُؤَثِّرة في نفوسِ الناسِ؛ لتؤثر في نظرتهم إلى أنفسهم أولًا، وفي نظرتهم إلى الناس ثانيًا، وفي نظرتهم إلى الحياة كُلِّها آخر الأمر. ولِأمرٍ ما يَحْرِصُ العربُ على أن يَسْتقصي بعضُهم مَثالبَ بعض، وعلى أن يُحصي بعضهم على بعض السيئات، وعلى أن يذكروا القديم ليُحيُوا منه ما يسوء الخصم ويسرُّ الصديق، في نفس الوقت الذي بلغ فيه التنافس في السياسة والسلطان وفي المال والثراء أقصى غاياته وأبعد آماده.
والشيءُ المُحَقَّقُ هو أنَّ الفرزدق حين يهجو جريرًا بهذه الخصلة أو تلك من الخصال البغيضة، لا يُريد شخص جرير وحده، وإنما ينصب جريرًا مثلًا لقومه أولًا، ولجميع الذين يتصفون بهذه الخصلة من الناس بعد ذلك؛ فهو لا ينحو نحو الفرد، وإنَّما ينحو نحو الجماعة ونحو الجماعة في أوسع حدودها.
وتستطيع أن تقول مثل ذلك في جرير حين يهجو الفرزدق، وفي غير هذين الشاعرين من الهجَّائين في ذلك الوقت، فهجاؤهم نوعٌ من النَّقد العام، ومن الاستقصاء لما كان في الأخلاق من نقصٍ، ولما كان في النِّظام الاجتماعي من عيب، وليس أدلَّ على ذلك من أنَّ هذا الهجاءَ قد وجد صداه في النفوس العربية كلها، فتهالك العرب على روايته وحفظه، واختصموا في تقديره وفي تفضيل بعض الهجَّائين على بعض.
وعُنيت السياسة العليا للدولة بهذا الهجاء، فآثر بعضُ الخلفاء وعمالهم جريرًا، وآثر بعضهم الفرزدق، واستطاع عبد الملك أن يُؤْثِر جريرًا على الفرزدق، وأن يُؤْثِر الأخطل على جرير، وليس لهذا كله معنى إلا أن تكون هناك صلة بين هذا الهجاء، وبين حقائقِ السياسة التي كانت تُدَبَّر في قصور الخلفاء والأمراء.
فهذه العيوبُ التي يُحصيها بعضُ الهجَّائين على بعضٍ عيوبٌ اجتماعية لا فردية في أكثر الأحيان، وهذه القصائدُ التي تفيضُ بهذا الهجاء ليست إلا صورًا قاتمة لحياة العرب في العراق، كما كان يراها الهجَّاءون. من هذه الصور ما يسوء ويملأ القلوب حزنًا، ومن هذه الصور ما يُثير السخرية ويدفع إلى الضحك العريض.
وقد رأيت في أول هذا الحديث أنَّ الأدب الأسود ليس كله حزنًا، وأنَّ من الملاهي المُضْحِكة ما هو أشد سوادًا من المأساة؛ فالهِجَاء إذن في ذلك العصر قد كان فنًّا من فنون الأدب الأسود ابتكره العرب الإسلاميون ابتكارًا قبل أن ينتصف القرن الأول.
ولم يكن هؤلاء الهجَّاءون منَ الشيعةِ ولا منَ الخوارج، وإنَّما كانوا من الجماعة المُحافظة، وإذن فقد كان الأدب الأسود غالبًا على حياة العرب أيام بني أمية، على عكس ما يقدر الذين يؤرخون الآداب العربية.
وما أريد أن أتجاوز العِراق إلى الحِجاز، ولا أنْ أسأل عن لونِ الأدب الحجازي في ذلك الوقت؛ فقد بينت في غير هذا الحديثِ أنَّه لم يكن صافيًا ولا ناصعًا، وأنَّ غزلَ الغزلين ولهو اللاهين إنما كان نوعًا من التسلي عن الهم، والتعزي عن الخطوب، والاستعانة بالحب الواقعي أو العذري على نسيان ما كان أهل الحجاز يَشقَون به من فراغ في الطبقة الغنية وحرمان في طبقة الفقراء، ومعنى ذلك أن أدب الحجاز لم يكن أقل سوادًا من أدب العراق.
ولم يكد القرنُ الثاني يتقدَّمُ حتى انتهت هذه الاضطرابات إلى غايتها، فكانت الثورة، وأُدِيلَ لبني العباس من بني أمية، وأُدِيلَ للفُرس من العرب، فهل عفَّى هذا كله على آثار الأدب الأسود، وأنشأ مكانه أدبًا أبيض ناصعًا جميلًا؟ مسألة فيها نظر، وأحسَبُها تنتهي بنا إلى شك مُريب؛ فقد نشأ جيل جديد من الشعراءِ والكُتَّابِ، استقبلوا فنونًا جديدة منَ الشِّعْرِ والنثر، ولكنْ أكانت نفوسُ هؤلاءِ الأُدباء مُشْرِقة؟ أكانت آثارهم صورًا لهذه النُّفوس المُشرقة؟ لقد لها أهل العراق في القرن الثاني كما لها أهل الحجاز في القرن الأول.
وأكاد أعتقد أنَّ لهو أهل العراق لم يكن أقل سوادًا من لهو أهل الحجاز؛ فقد خيبت الثورة آمال كثير من المثقفين الذين كانوا ينتظرون منها خيرًا كثيرًا، ومن أجل ذلك وجدت الدولة العباسية الجديدة مُقاومة من أنصارها بعد أن ظفرت بخصومها، مُقاومة بالسيفِ أحيانًا وباللسان دائمًا؛ فالمنصور يَقتل أبا مسلم، ويمكر بعلي بن عبد الله حتى يقتله، والشيعة العلويون يُعارضون الدولة الجديدة بسيوفهم وألسنتهم كما كانوا يُعارضون الدولة القديمة، والخوارج ماضون في ثورتهم يَظْهَرُون ليَسْتَخفوا، ويستخفون ليظهروا.
والمُطالبة بالعدل ما زالت قائمة، والنَّظر في المُشكلات الفلسفية يزدادُ قوة وتعمقًا وانتشارًا، وبَشَّار يهجو المنصور والمهدي، وابن المقفع يُتَرْجِمُ الكتب في التخويف من السُّلطان، وينتهي أمره إلى موت شنيعٍ، والزَّنْدَقة تشيع في أمصار العراق، والدَّولة تنصب لهذه الزَّندقة وأصحابها حربًا لا هوادة فيها ولا لين، وكثيرٌ منَ المُثقفين المُمْتازين يُقدَّمون وقودًا لهذه الحرب، وأظن أن شيئًا من هذا كله ليس من شأنه أن يدعو إلى إشراق النفوس، ولا إلى إنتاج الأدب المُشرق.
ونظرة سريعة إلى الأدب الذي كان ينشأ في ذلك الوقت تُظهرنا على أنَّه لم يكن في جُملته صَفوًا ولا عَفوًا ولا رَائقًا؛ لأنَّ حَياة الأُدَبَاءِ لم تَكُن صَافية ولا رَائقة؛ فقد قُتل بشار وقُتل ابن المقفع وقُتل غيرهما وسُجن آخرون؛ فإذا رأيتَ ابن المقفع يخوِّف من السلطان، وإذا رأيت بشارًا يهجو السلطان، ويسخر من الرعية، وينكر الدين، أو يُفضل النار على الطين والشيطان على الإنسان، وإذا رأيت أبا العتاهية يُزَهِّد في الحياة ويُبَغِّضُها إلى الناس، وإذا رأيت أصحاب المجون يُسرفون على أنفسهم ويَسخرون من كل شيء في غير تحفظ ولا احتياط — إذا رأيت هذا كله فسل نفسك: أكانت الحياةُ رائقة تُنْتِج أدبًا رائقًا، أم كانت قاتمة تُنْتِج أدبًا قاتمًا شديد الإظلام؟
وما ينبغي أن تخدعنا ظواهر الأمور عن حقائقها؛ فنحن نرى في الشعرِ مَدحًا للخُلفاء والوزَرَاء وقادة الدولة وسادتها، فنَسْتَنْبِط مِنْ هذا المَدْح، كما تَعَوَّد مُؤرخو الآداب أن يستنبطوا أنَّ الأدباء كانوا راضين عن الخلفاء والوزراء، وعن القادة والسادة، وأنَّهم كانوا يُهدُون إليهم المدح مخلصين.
ونحن نقرر في الوقت نفسه أنَّ المدح كان يُشترى بالمال، وأن الشعراء كانوا يتنافسون في إرضاء القادرين على منح الجوائز الضخمة، ثم نحنُ لا نلائم بين هاتين الحقيقتين الواقعتين، أو لا ننتهي من هذه الملاءمة إلى غايتها، فنقرر حقيقة واقعة ثالثة، وهي أنَّ كثرة هذا المدح لم تكن إلا رياءً ووسيلة إلى كسب الحياة، وإلى كسب ما يحتاج إليه الأحياء من ألوان الترف والنعيم.
وليس أدل على ذلك — إن احتاج ذلك إلى دليل — من أنَّ بشارًا كان يمدح الخلفاء والسادة ليأخذ جوائزهم، وكانَ يهجوهم إذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه.
ونحن نرى في شعرِ الشُّعراء في ذلك العصر لهوًا وعبثًا ومجونًا، فنستنبط من هذا كله مُتعجِّلين أنَّ الحياة كانت رائقة شائقة وجميلة خلَّابة، وننسى أنَّ الإِسْرَاف في العبث والغلو في المجون والإغراق في اللذات، كل ذلك لا يدل إلا على اختلال الموازين وفساد القيم، وانحراف النَّاس عن الجَادَّة، وحاجتهم إلى أن ينسوا أنفسهم ويتسلوا عن همهم.
وأقل ما يُمكن أن تدل عليه موجة الاستهتار التي اكتسحت بيئات الأدباء في البَصرة والكوفة وبَغداد، هو أنَّ هؤلاء الأُدَباء كانُوا قد انتهوا إلى لونٍ من ازدراء التقاليد والاستخفاف بالسُّنن المَورُوثة والاكتفاء أو الاستعانة بانتهاز الفرص على احتمال الحياة.
ونحن إذا استقصينا الشِّعر الذي كان يُقال في ذلك العصر رأيناه ينحل إلى مدح يُصَوِّر الرِّياء في جملته، وإلى هجاء يُصَوِّر ما في الحياة من خلال تَستَحقُّ المقت، وإلى مُجون يُصَوِّر الحاجة إلى الهرب من هذه الحياة والتخفف من أثقالها، ثم إلى زُهد يُصَوِّر النظر إلى الحياة على أنها جد، ولكنه جد يُشِيعُ اليأس في النفوس، ويدفع العاقل إلى أن ينسى حاضره ويتسلى عن يومه ليُفكر في غده، وليستعد لما يُهيَّأ له بعد الموت.
ومع هذا كله فقد أخذ العقل الإسلامي يُظهِر عناية شديدة بالمشكلة الفلسفية الكبرى، مُشكلة الاختيار والجبر، وما تستتبع من مُشكلة الأمل واليأس، كما أخذ العقل الإنساني يتعمق النظر في شئون الحياة اليومية على اختلاف فروعها، فيُنْكِر أكثرها، ولا يكاد يعرف منها إلا القليل.
ونكاد نُحسُّ مُنذ هذا العصر أن التشاؤم قد أخذ يتصور مذهبًا مُستقلًّا له عماده الفلسفي، وله في الوقت نَفْسِه وسائله الأدبية؛ فلم يَكُن بشار مُتفائلًا، بل لم يكن بشار من التفاؤل في شيء، وإنَّما كان سَاخطًا مُتشائمًا، يُقِيم سُخطه وتشاؤمه على إخفاقه في إرضاء عقله حين التمس إرضاء هذا العقل في مذاهب الفلاسفة والمُتكلمين، فلما لم يظفر بشيء صار إلى هذا الشك البغيض.
وكل ما في الأمر أنَّ التشاؤم يكون باسمًا أحيانًا، وعابسًا أحيانًا أخرى، وقد يتحول ابتسامه إلى ضحك شيطاني عريض، وقد يتحول عُبوسه إلى يأس من كل شيء وقنوط حتى من روح الله، يختلف هذا كله باختلاف المزاج والطبع والبيئة.
وقد كان تشاؤم بشار هادئًا باسمًا أحيانًا، وشيطانيًّا مقهقهًا في أكثر الأحيان، وليس لهو بشار وتصويره لهذا اللهو فيما رُوي لنا من شعره إلا مظهرًا لهذا التشاؤم، وأحسبُ أن العابثين من أصحاب بشار كانوا يذهبون مذهبه حين يحسون الإخفاق في إرضاء العقل، وينتهون إلى الشَّك فيستهزئون بكلِّ شيء، ويسخرون من كل شيء، وينتهزون فرص الحياة.
وما أرى إلا أن حمَّادًا، ومُطِيعًا، ووالبة، وأمثالهم من أصحاب الخلاعة والمجون قد تعرضوا لنفس الأزمة الفلسفية التي تعرض لها بشار، وخرجوا منها على نفس النَّحو الذي نحاه بشار حين خرج من أزمته.
ومن شباب هذا العصر من تعرض لمثل ما تعرض له بشار، ولكنه لم يخرج من أزمته إلى اللهو والمجون والشك، وإنَّما خرج منها إلى الجد، فعني بفنون منَ الحياة يستطيع العقل أن يُنتج فيها دُون أن يتعرض لمِحْنَة، أو يُواجه هذه المُشكلات التي لا حل لها، والمؤرخون يحدثوننا عن فقهاء وزهاد عاصروا بشارًا وأصحابه، وسلكوا معهم طريقهم الفلسفية، وكادوا يتعرضون لليأس، فشغلوا أنفسهم بالفقه والزُّهد والنُّسك عن مواطن الزلل هذه.
ثم يتقدم القرن الثالث، وإذا أمور المسلمين تزداد تعقُّدًا، ويشتَدُّ فيها الحرج، وينتشر فيها الاضطراب؛ ثقافة ممتازة تتغلغل إلى بعض طبقات الشعب، وثراء ضخم يزداد انحصاره في أيدي قلة ضئيلة مُستأثرة بالحكم، وضعف للسلطان السياسي، وتعمق لمُشكلات الفلسفة، وشعورٌ واسعٌ عميقٌ بهذا التفاوت المُنكر بين الطبقات، ثم تبرُّم بهذا التفاوت، ثم إنكار له، ثم ثورة عليه، وإذا ثورة الزنج توشك أن تثل عرش الخلافة، وأصحاب الأقاليم ينتهزون هذا الضعف فيستقلون بأقاليمهم، والأدباء يرون هذا كله ويُفكرون فيه ويتأثرون به، ومِنْهم من شارك في بعضه، وإذا هم يُصَوِّرون هذا فيما يقولون من شعر وما يكتبون من نثر.
وقد يكون ابن الرُّومي مضطرب الأعصاب، فاسد المِزاج، قد خُلِقَ مهيأً للتشاؤم، ولكنَّ الشيء الذي ليس فيه شكٌ هو أنَّ الحياة من حوله لم تكن تصده عن التشاؤم وتغريه بالتفاؤل، وآيةُ ذلك أنَّه أنفق حياته متشائمًا، وأنَّ حياته هذه المُظلمة قد انتهت به إلى أن يموت مَسْمُومًا.
وقد يَكُون ابنُ المُعْتَزِّ قوي الأعصاب، معتدل المزاج، قد خُلِقَ مهيأً للتفاؤل، وحاول أن يتفاءل، ولكنَّ الشيء الذي لا شكَّ فيه أنه لم يجد في الحياة مِنْ حوله ما يُغريه بالتفاؤل العميق، وإنما وجد ما يُسليه عن هموم الحياة وأحزانها، فتسلى بالشعر والعلم والأدب وشيء من الترف، ثم بدا له ذات يوم أن يواجه الحياة كما تعوَّد بنو أبيه أن يواجهوها؛ فلم يكد يفعل حتى أدركته حرفة الأدب، وقُتِل قبل أن تتم له البيعة بالخلافة.
ولا يكاد القرن الرابع يُظِلُّ العالمَ الإسلامي الشرقي، حتى يكون الكتاب قد بلغ أَجَلَه، وحتى تُصبح حياةُ المسلمين في الشرق شرًّا كلها، لا يتفاءل فيها إلا خفاف العقول، أو الذين انتهى بهم الشك الفلسفي إلى أقصاه؛ فأمَّا الذين لهم حظ من عقل راجح وبصيرة نافذة فمتشائمون؛ لأن كلَّ شيءٍ يضطرهم إلى أن يتشاءموا.
لم تكد ثورةُ الزِّنج تَخْمَد حتى ثارت في أعقابها ثورة القرامطة، وإذا اللهب ينتشر في الشرق العربي كُلِّه، وفي الوقت نفسِهِ تنشأ دولة الشيعة في شمال إفريقية، ويكاد الشرقُ الأعْجمي ينفصل عن الخلافة انفصالًا.
وما ينبغي أن نُطِيل فيما لا يحتاج إلى الإطالة، فقد كان كل شيء في ذلك العصر يُمَهِّد لنشأة الشاعر المُتشائم العظيم أبي الطيب المُتنبي الذي لم يتشاءم بعقله ولسانه فحسب، وإنما هَمَّ أنْ يتشاءم بسيفه فلم يُفلح، وهو على كل حالٍ مُؤسس التشاؤم الفلسفي المُنظم في الشعر العربي، أسسه قبل أن يبلغ العشرين، وأتم بناءه قبل أن يُدركه الموت؛ نظر إلى الحياة اليومية فضاق بما كان يملؤها من فساد، وضاق بالنِّظام السياسي والاجتماعي الذي كان يُعَرِّض الناس لهذا الفساد، ثم احتقر الناس لأنهم قبلوا هذا النظام أو أذعنوا له، ثم سمت همته المُتشائمة إلى ما هو فوق الناس وفوق نُظُمهم السياسية والاجتماعية، وإذا هو يسأل عن الموت، ويسأل عن الحياة، ويسأل عن الحُرِّية، ويسأل عن الجبر، وإذا هو ينكر الحياة إنكارًا ويراها شرًّا قد أُكْرِه الإنسان عليه إكراهًا.
فلم يكن أبو العلاء إذن تلميذًا للمتنبي في فنِّه الشعري وحده، وإنَّما كان تلميذًا له في تشاؤمه الفلسفي قبل كل شيء، وقد بيَّنت في غير هذا الحديث أنَّ أكثر أصول الفَلسفة العَلائية المُظلمة قد سبق إليه المُتنبي، فألمَّ به إلمامات قصيرة دون أن يُحاول تفصيله أو تنفيذه.
وجاء أبو العلاء بعد موت المتنبي بعشر سنين، فلم يكد يفقه الشعر حتى قرأ المتنبي وتأثر به، وجعل يُلقي على نفسه الأسئلة التي كان يُلقيها المُتنبي على نفسه، وقد أحاطت بأبي العَلاء ظُروفه المَعروفة، فقاوم التشاؤم ما وجد إلى مُقاومته سبيلًا، ولكنَّه لم يبلغ الثلاثين حتى خطا الخطوات العقلية والعملية التي لم يُتَح للمُتنبي أنْ يَخْطُوها.
وإذا هو يتخذ من التشاؤم عقيدة وسيرة في وقت واحد، وإذا هو يذهب في تشاؤمه نفس المذهب الذي يذهبه كفكا المُتشائم الأوروبي الحديث فيما كتب بين الحربين العالميتين؛ فيرى أنَّ نفسه سجينة في جسمه، وأنَّ جِسْمَه سجين في الأرض، أو قُلْ في العالم.
فأبو العلاء يُحدثنا بأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يأبق من ملك الله، فيخرج من أرضه وسمائه، فنفسه سجينة في جسمه إذن، وجسمه سجين في هذا العالم المحدود مهما تتسع أرجاؤه وتبعد آفاقه؛ فما يمنع أن يجعل هذا السجن الفلسفي حقيقة عملية واقعة، وأنْ يُلزم نفسه سجنًا ضيقًا لا يعدوه، وأن يعيش في هذا السجن هذه العيشة الغليظة التي يُضَّطر إليها السجناء.
هذا الشعور العلائي هو الذي وجده كفكا وصوره في كثير من آثاره تصويرًا مُشابهًا أشدَّ المشابهة لتصوير أبي العلاء في اللزوميات، وفي الفصول والغايات، ولكنه لم يُلزم نفسه دارًا ضَيِّقة محدودة كما فعل أبو العلاء.
فأنت ترى مِنْ هذا كُلِّه أنَّ التَّشَاؤُم الفَلْسفي في الأدبِ بعيدٌ كُلَّ البُعْدِ عن أن يكون ظاهرة موقوتة بعصر منَ العُصور، أو مقصورة على جيل من الأجيال، أو مَحْصُورة في أمَّة من الأمم، وأنت ترى أيضًا أن ما يُسميه الأوروبيون الآن أدبًا أسود ليس له من الجدة والطرافة هذا الحظ الذي يتصوره بعض الكُتَّاب الغربيين؛ فقد تشاءم اليُونان، وتشاءم الرُّومان، وتشاءم اليهود، وتشاءم العرب.
ولست أشك في أنك لا تكاد تدرس أدبًا من الآداب على اختلافها وعلى اختلاف العصور والبيئات والأجيال إلا رأيت فيه ظلًّا من التشاؤم قويًّا أو ضعيفًا، ممدودًا أو مَقبوضًا، يختلف هذا كله باختلاف ما لأصحاب هذا الأدب من تعمق الثقافة، ومحاولة لحل المُشكلات الفلسفية الخالدة.
ومصدر هذا فيما يظهر أنَّ الفطرة الإنسانية مُرَكَّبة من عَناصر مُختلفة يمتاز منها عُنصران مُتناقضان؛ أحدهما: طموحٌ لا حدَّ له يدفعه إلى الأمام.
والآخرُ: قصورٌ لا حدَّ له يرده إلى وراء أو يقفه في مكان لا يعدوه.
فهو دائمًا موضوع للنزاع بين هذين العنصرين؛ فإنْ كان غافلًا أو محدود الثقافة قَبِل الحياة كما هي؛ فاندفع حين تدفعه الظروف، ورجع أدراجه حين تضطره إلى الرُّجوع، ووقف مكانه حين تكرهه على الوقوف، وإن كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، دقيق الحس، بحث واستقصى، وساءل عن مكانه من هذين العنصرين اللذين يتجاذبانه، وساءل كذلك عن حُريته أو عن حظه من الحُرِّية التي تتيح له إن أراد أن يستجيب للعنصر الذي يقوده إلى أمام، أو أن يستسلم للعنصر الذي يرده إلى وراء، أو أن يثور على العنصرين جميعًا فيمضي كيف يشاء وحيث يشاء؛ ولا يكاد يسأل عن هذا الحظ من الحرية حتى يُدركه التشاؤم؛ لأنَّه يرى أنَّ هذه الحُرِّية مَحْدُودة بحدود لا سبيل إلى تجاوزها، منها ما يأتي من الطبيعة، ومنها ما يأتي من الجماعة، وهو قد يُحاول الثورة على هذه الحدود أو تلك، ولكنَّه يُرَدُّ آخر الأمر مخذولًا مدحورًا.
وقد لاحظ أبو العلاء كما لاحظ المتشائمون من قبله ومن بعده أنَّه دُفِعَ إلى الوجود دون أن يُستأمَرَ أو يُستشار، وأنه يُدْفَعُ إلى الموت دون أن يُستأمَرَ أو يُستشار أيضًا؛ فسأل نفسه وسأل غيره، كما سأل المتشائمون من قبله ومن بعده: لماذا دُفع إلى الحياة؟ ولماذا يُدفع إلى الموت؟ وما الذي يُراد منه بين الحياة والموت؟ وما الذي يُراد به بعد أن يموت؟ وهو لم يتلقَّ على هذه الأسئلة جوابًا يُرضِي عقله ويُشْفِي حاجته إلى الوضوح، فوقف موقف الحائر الذي يضيق بكل شيء، ويضيق بنفسه قبل كل شيء؛ لأنه لا يفهم علة ولا غاية لشيء من الأشياء.
وقد أراد أبو العلاء أن يمتحن حُرِّيته ليَعرف أحقٌّ هي أم باطل؟ ففرض على نفسه ألوانًا من الشدة المادية والفلسفية والفنية، وخَيَّل إلى نفسه أنه إن احتمل هذه الشدة وصَبر لها كما ينبغي فقد يدل ذلك على أنَّ له من الحرية حظًّا، ولكنه لم يكد ينفق أعوامًا في احتمال هذه القيود التي فرض على نفسه وتمرن على احتمالها، حتى شك في حُرِّيته، ثم استيأس منها، ثم اعتقد أنه دُفع إلى هذه القيود بنفس القوة القاهرة التي دفعته إلى الحياة، والتي تدفعه إلى الموت.
وقد يُتاح لي، وقد يُتاح لغيري من الدارسين لأبي العلاء، أنْ نستقصي أصول فلسفته المُتشائمة، وأن نوازن بينها وبين فلسفة المُتشائمين المحدثين، وأكبرُ الظَّنِّ أنَّنا سنصل إلى نفس النتيجة التي وصلنا إليها حين وازنَّا بين الفلسفة العلائية المُتشائمة، وبين فلسفة المُتشائمين القدماء، وهي أنَّ المُحدثين لم يكادوا يزيدون على أصول الفلسفة العلائية شيئًا، ولكنهم زادوها تفصيلًا وتوضيحًا، كما أنَّ أبا العلاء لم يزد على فلسفة المتشائمين القدماء شيئًا، وإنما وضَّحَ منها الغامض، وفَصَّل منها المُجمل، أتيح له من الثقافة والتجربة ما لم يُتَح للذين سبقوه، كما أُتِيحَ للمُتشائمين المُحْدثين منَ الثقافة والتجربة ما لم يُتح لأبي العلاء.
فالمُشكلات التي تدفع إلى التشاؤم واحدة على اختلاف العصور والأجيال والبيئات، ولكنَّ الوسائلَ التي تُتَّخَذ لمواجهتها ومُحاولة حَلِّها، هي التي تختلف باختلاف حظِّ العَقل من الرُّقي ونفوذه إلى أسرار الطبيعة ودقائق الحياة، والغريب أنَّ هذه المشكلات لم تزل قائمة لم تجد لها الإنسانية حلًّا على اختلاف ما أُتِيح للإنسانية مِنْ رُقي العقل، وتقَدُّمِ العلم، واتِّساع المَعرفة، واختلاف وسائل البحث والاستقصاء.
ومن يَدري! لعل من الخير أن تظل هذه المشكلات غامضة مُلتوية لا سبيل إلى حلها؛ فأقل ما لهذا الغموض منَ المزايا أنَّه أنتج لنا هذه المُحاولات الرائعة، وأتاح لنا هذه الآداب الرَّفيعة التي نفزع إليها كلما ضقنا بالحياة أو ضاقت بنا الحياة، ونفزع إليها كُلَّما غرَّتنا الأماني وكادت الآمال تخدعنا عن أنفسنا، وكاد رقي الحضارة يورطنا في البطر والأشر.
فنحن مُحتاجون إلى أن نسعى، وإلى أن نتقدم مُبطئين ومُسرعين، ولكنا في الوقت نفسه مُحتاجون إلى عاصم يَعصِمُنا من الغُرور، ويُمْسِكُنا أن نندفع في إيماننا بأنفسنا إلى غير حد، ولستُ أدري إلى أي تهور تندفع الإنسانية، لو أنَّها وجدت لهذه المُشكلات حُلولًا نِهَائِيَّةً مُقْنِعَة يَطمئن إليها الناس جميعًا.
أكبر الظنِّ أنَّ الإنسانية إنْ أُتِيحتْ لها هذه الحلول فستُضَّطر إلى حياة راكدة خامدة، لا طَائِلَ فيها ولا غِناء. وما قيمة الحياةِ إذا خلت من الإشفاق والخوف، ومُواجهة المُشكلات ومُحاولة التَّخلُّص منها، وإلقاء الأسئلة والتماس الأجوبة لها! وأي غناء في هذه الجماعات الحية الميتة التي وجدت لكل مشكلة حلًّا، ولكل سؤال جوابًا، واطمأنت إلى حظ من العلم التقليدي المُغلق الذي يتعرض للنقص ولا يتعرض للزِّيادة! والغريبُ أنَّ التجارب تمر بالناس، وأنَّ العصور تختلف عليهم، وأنَّ الرُّقي يُتاح لهم، وأنهم يظفرون بالتقدم بين حين وحين، ولكنهم على ذلك كله يقفون من الفلسفة المُتشائمة مواقف متشابهة على ما بين الأجيال والعصور من الاختلاف.
فقد ضاق القدماء بتشاؤم أبيقور، واشتد نقدهم له ونعيهم عليه، وضاق المسلمون بتشاؤم أبي العلاء؛ فأكفره منهم من أكفره، ولا يزال كثيرٌ منهم إلى الآن يَرى تشاؤمه شرًّا، ويخاف منه على نشاط الأفراد والجماعات، وقد تعرض المتشائمون الأوروبيون لمثل ما تعرض له أبيقور وأبو العلاء، فضاق بهم من ضاق وأنكرهم من أنكر، وخيف من تشاؤمهم على عقول الناس، وعلى نشاط الأفراد والجماعات، وعلى إيمانِ الشبابِ بالحياةِ، وما ينبغي أن يملأ قلوبهم من الأمل والثقة بالنَّفس.
ولعلَّ الذي حملني على إملاءِ هذا الحديث الطويل إنَّما هو من جهة مظهر من مظاهر الفلسفة الحديثة في التشاؤم، ومظهرٌ من مظاهر المقاومة لهذه الفلسفة من جهة أخرى؛ فقد يُخَيَّل إليَّ أنَّ أُوربا لم تَشهد قطُّ موجة تشاؤم كهذه الموجة التي كانت تُلاعبُها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي طغت عليها طُغيانًا جارفًا في هذه الأيام.
وهذا التشاؤم الأوروبي الحديث هو الذي أنتج ما يُسميه الفرنسيون في هذه الأيام بالأدب الأسود، والحقُّ أنَّ هذا الأدبَ مُختلف أشدَّ الاختلاف، مُتنَوِّع أشد التنوع، كما كان أدب أبي العلاء مُختلفًا متنوعًا.
فقد عرض أبو العلاء علينا تشاؤمه شعرًا ونثرًا، وعرضه علينا فلسفة ووعظًا، وعرضه علينا نقدًا للسياسة والاجتماع، ونقدًا للأخلاق والديانات، وعرضه علينا واقعًا وخيالًا، ومن يَدْري! لَعَلَّه عَرَضه في ضُروب أُخرى منَ الفنِّ لم تَصل إلينا؛ لأنا لم نحفظ من أدب أبي العلاء إلا القليل.
والأدبُ الأورُبِّي مُختلف على هذا النَّحو، تراه يعرض فلسفة يَسْلُك فيها طرق الفلاسفة، وتراه يَعرض تَمثيلًا يشهده النظارة في الملاعب، وتراه يعرض قصصًا منها الواضح الجلي، ومنها الغامض الرمزي، ومنها ما يكون بين ذلك فيه كثير من الوضوح وفيه كثير من الغموض.
وقد أنفقت أكثر الوقت الذي قضيته في باريس مُعاشرًا لطائفة من هؤلاء الأدباء السود، لم ألقَ منهم أحدًا، ولكني قرأت لهم كثيرًا، ووجدت في قراءتهم اللذة العُليا أحيانًا، والضيقَ الشديد أحيانًا أخرى، والاشمئزاز الذي تنقبض له النفس في كثير من الظروف، وقد تعودت والحمد لله بفضل أبي العلاء أن أُعاشر المُتشائمين، فلا أضيق بتشاؤمهم لأنَّه مُظلم، أو لأنه يُسيء رأي الناس في الحياة.
ولكن عند الكُتَّاب الأوروبيين والأمريكيين لونًا من التشاؤم بغيضًا حقًّا لا أدري أيرْفع الأدبَ أم يَخفضه، وقد كِدْتُ أملي لا أدري أيتصل بالأدب أم يبعد عنه أشد البعد.
فمن التشاؤم الحديث ما يحاول عرض الحياة الإنسانية الواقعة كما هي، يُصَوِّرها في أبشع صورها، ويعرض عنها لأشياء لم يكن الأدبُ يعرض لها من قبل إلَّا عند القدماء من اليونان والرومان والعرب، وقد كنا نظن أنَّ الأدب العالمي الحديث قد استطاع أنْ يُنقي نَفسه من هذه الأوضار ويرتفع بها عن هذه النقائص، وكُنَّا نلتمس للقدماء العُذر، ونجد هذا العُذر في أنَّهم كانوا قدماء لم يبلغوا منَ الحضارة ومن ترف العَقل والشُّعور ما بلغه المُحدثون.
ولكنَّ الأدباء المتشائمين في هذا العَصر يُريدون أن يُصَوِّروا الواقع، فلا يَصُدَّهم عن تصوير هذا الواقع شيء، ولا يَجِدون في صُدُورهم حرجًا من أنْ يُصَوِّروا أشياء يُريد الإنسانُ المُتحضر عادة أنْ يُخفيها على نفسه، ويكفي أن ينظر القارئ في آثار جان بول سارتر الفرنسي، وفي آثار ميلر الأمريكي، ليُبغض هذا النوع من الأدب الذي لا يعتمد على فنٍّ مُترف، ولا يتجه إلى ذوق مُرهف، وإنما هو أدب غليظ يُصَوِّر حياة غليظة، ويتجه إلى عقول لا تحفل بالذوق، ولا بالفن، ولا بالشعور.
وهناك أدب مُتشائم ولكنه رفيع؛ لأنه لا ينحطُّ إلى تصوير الطبيعة الغليظة، ولا ينزل إلى تصوير الغرائز الجَامحة، وإنَّما يُصَوِّر الواقع من حياة الناس في غير مَظاهرها البشعة، كما يصورها غفلة الغافل، وعقل العاقل، وموقف هذا وذاك من المُشكلات الفلسفية والسياسية والاجتماعية العُليا.
وأنت تجدُ هذا عند جان بول سارتر نفسه، وإن كان يُؤذيك ما تفجأ به بين حين وحين من هذا الأدب الغليظ الذي تَزْوَرُّ عنه النفس وينبو عنه الذَّوق، وأنت تجد هذا عند ألبير كامو حين يعرض عليك تَشاؤمه قصصًا وتمثيلًا وفلسفة، وأنت تجد هذا عند كفكا حين يعرض عليك تشاؤمه في قصصه الرمزي الغامض الرفيع، وفي خواطره التي تملأ يومياته فلسفة وفنًّا.
فهذا هو مظهر الاختلاف في الأدب الأسود الحديث؛ فأمَّا مظهر المُقاومة لهذا الأدب الأسود فيشهد من يقرأ الصحف والمجلات الفرنسية، ورُبَّما كان من أطرف أشكاله هذا الحوار الذي اتصل بين الشيوعيين، أو قُل بين اليساريين من جهة، والمُعتدلين من جهة أخرى، حول آثار كفكا أتُحرَق أم لا تُحرَق، وواضح جدًّا أن الإحراق هنا ليس إلا رمزًا؛ فالمسألة التي يختلف فيها الأدباء الفرنسيون واليساريون والمُعتدلون هي هذه: أتباح قراءة كفكا للشباب أم تُحْظَر عليهم؟
فأمَّا المُعتدلون فيُؤْثرون الحُرِّية على كل شيءٍ ويثقون بقُدرة الشباب على مُقاومة ما يشيع في آثار هذا الكاتب من اليأس الذي يُثبِّط الهمم، ويفل العزائم، ويُميتُ القلوب، وقد يدفع إلى الانتحار. وأما اليساريون فيرون أنَّ الحياة أمل كلها، وأن تحقيق الآمال مُحتاج إلى الإيمان لا إلى الشك، وإلى الإقدام لا إلى الإحجام، وإلى العزم الصادق والهم البعيد، وهم من أجل ذلك يُشفقون على الشباب من هذا الأدب الأسود الذي يجعلُ الحياة كلها سوادًا.
وواضح كذلك أنَّ الكَلمة الأخيرةَ ستكون للحُرِّية دَائمًا؛ فلم تُفلح قوة من القوى في مُحاربة الرَّأي، ولم تَستطع النَّارُ مهما تكن مُضطرمة شديدة الالتهاب أن تَحْرق كتابًا، وهي قد تحرق ورقًا وحبرًا، ولكن الدخان الذي يثور من هذا الحريق يُضاعف الإغراء بالقراءة، ويملأ القلوبَ فتونًا بهذه الكُتب التي حُرقت ولكن لم تَمس روحها النار.
ولست أعرف إغراءً بالأدب أقوى من مُحاربته، ولست أعرف إحياءً للرأي أقوى من اضطهاده؛ فلن يُحرَق كفكا، ولن تُحرق آثار جان بول سارتر، وإن كانت آثار هذين الكاتبين قد دفعت بعضَ الشَّباب إلى الانتحار، ودفعت بعضَهُم إلى اقتراف الجرائم، ولن يكون القرنُ العشرون شرًّا من القرن الثامن عشر والتاسع عشر؛ فالناسُ يعلمون أنَّ قصة ڤرتر قد دفعت غير واحد من الشباب إلى الموت، ولكنها لم تُحرق، ولم تُحظر على القُرَّاء، والشباب يقرءونها الآن أو يَشهدونها في ملاعب التمثيل، فلا تُلقي في نفوسهم يأسًا، ولا تُحبب إليهم الموت، وإنما ترسم على ثغورهم ابتسامات لعلها لا تخلو من بعض السخرية.
وكذلك يُقاوَم الأدبُ الأسود الحديث كما كان يُقاوم الأدب الأسود القديم.
ولكنك توافقني بعد هذا الحديث الذي طال حتى بلغ الإملال على أنَّ التشاؤم الأوروبي الحديث كغيره من التشاؤم القديم، قد أنشأته ظروف مُتشابهة فخرج مُتشابهًا في أصوله وصوره ونتائجه وموقعه من نفوس الناس.
وإذا كان لهذا الحديث كله مغرى يَحْسُن أن أقف عنده، وأن أتمنى أن يتنبَّه إليه الأُدباء المُحدثون، والقُرَّاء المُحدثون أيضًا، فهو أنَّ الأدبَ الحديثَ مهما يختلف ومهما تتباين صوره، ليس إلا امتدادًا واستمرارًا للآداب القديمة، وأنَّ الرُّقي الأدبي الصحيح مُحتاج إلى ألا يقطع الأدباء والقراء صلتهم بالقديم؛ ذلك أحرى أنْ يعصمهم من الغرور، ويحميهم من أن يظنوا بأنفسهم الإعجاز والابتكار، على حين أنَّهم قد أضافوا الشيء الكثير إلى ما ترك القدماء، ولكنهم لم يعجزوا ولم يبتكروا، وإنما جهلوا إنتاج من سبقهم فغلوا في تقدير أنفسهم غلوًّا شديدًا. ورحم الله أبا العلاء؛ فقد كان شابًّا في أكبر الظن حين قال: