بين العدل والحرية
مسألة واحدة تُلقى في كل مكان مُتحضر وفي كل بيئة مُثقفة، يُلقيها بعضُ الناس على بعض، ويُلقيها الأفرادُ على أنفسهم عن إرادة وتَعَمُّد واختيار حينًا، وعلى غير إرادة ولا شُعور ولا اختيار حينًا آخر.
يُلقيها بعضُ النَّاس على بعض ويُلقيها الأفرادُ على أنفسهم، عامدين إلى الدرس والتحليل، مُحاولين أن يجدوا لها جوابًا، شاعرين بذلك مُريدين له، وتُلقيها الحياة العاملة على الأفراد والجماعات في كل لحظة وعند كل فرصة، ويعجز الناس في كثير من الأحيان عن أن يجدوا لها حلًّا حاسمًا حازمًا، أو جوابًا قاطعًا ساطعًا.
وهم من أجل ذلك يضطربون في حيرة مُتصلة، تظهر آثارها واضحة في أقوالهم حين يتحدثون، وفي أعمالهم حين يعملون.
أيمضي العالم إلى تحقيق العدل أم إلى تحقيق الحُرِّية؟ هذه هي المسألة، أو قُل هي المُشكلة التي ألقاها القرنُ التاسع عشر على بعض العقول في أوروبا، والتي جعلت تتسلط على هذه العقول قليلًا قليلًا حتى شغلتها واستأثرت بها، ثم تجاوزتها إلى عقول أخرى، ثم جعلت تَتَنَزَّل شيئًا فشيئًا من الطبقات المُفكرة الممتازة إلى الطبقات الوسطى ثم إلى الطبقات الدُّنيا، ثم استأثرت بالتفكير السياسي كله في أواخر القرن الماضي حتى انقسمت لها أوروبا شيعًا وأحزابًا.
ثم عظم استئثارها بالحياة الأوروبية في أوائل هذا القرن، ولا سيما في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى اضطربت لها أوروبا اضطرابًا شديدًا، واضطرب لها العالم خارج أوروبا اضطرابًا شديدًا أيضًا، كان مِنْ آثاره أنْ ثارت الحربُ العالمية الثانية، وصبت على العالم ما صبت من الشرِّ والهول.
وقد انتهت الحرب العالمية الثانية كما انتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تجد إحداهما جوابًا لهذه المسألة أو حلًّا لهذه المشكلة، وإنما كانت نتيجة الحربين أنَّ المسألة ظلت قائمة ولكنها ازدادت شدة وإلحاحًا، وأن المشكلة ظلت قائمة ولكنها ازدادت صعوبة وتعقيدًا، والله وحده يَعْلم أيحتاجُ العالم إلى حرب ثالثة لتُجيب عن هذه المسألة وتحل هذه المشكلة، أم يستطيع السلام المُنظم أو غير المُنظم أن يُخرِج الإنسانية مِنْ حيرتها ويَسلُك بها إحدى الطريقين: طريق الحرية أو طريق العدل.
ومنَ الخطأ أنْ نَظُنَّ أنَّ هذه المسألة حديثة لم يعرفها الإنسانُ إلا حين ألقاها القرنُ التاسع عشر، وإنَّما هي مَسألة قديمة عرفها الإنسان منذ عصور بعيدة جدًّا، وقد يستطيع الفلاسفة الذين يدرسون التاريخ ويُحللونه أن يستقصوا أصل هذه المسألة، وأن يتتبعوا تطورها منذ فرضها العقل على الإنسان المتحضر فيما يُسمونه فجر التاريخ.
وليس من شكٍّ في أنَّ الفلاسفة قد فعلوا فدرسوا الحضارة منذ نشأتها، واستقصوا أمر الصِّراع بين الحُرِّية والعَدل في أطوار الرقي الإنساني على اختلافها، ثم انتهوا إلى ما انتهى إليه العالم الآن من هذه الحيرة المُتصلة والاختلاط الشديد: فمنهم من آثر الحرية؛ لأنها تُحقق كرامة الإنسان، وتُتيح له أن يُكمل نفسه ويظفر بشخصيته موفورة تامة.
وفريق منهم آثر العدل لأنه يُرضي حاجة الإنسان إلى المُساواة، ويُتيح له حظًّا من الإنصاف يَعْصمه من استعلاء القوي على الضعيف، وتحكم الغني في الفقير، وتفوق القادر على العاجز. وفريق آخر حاول أن يلائم بين العدل والحرية، فلم يبلغ من هذه المحاولة شيئًا ذا خطر؛ لأنَّ العدل المُطلق والحرية المُطلقة لا يستطيعان أن يلتقيا إلا إذا قُيِّدت الحرية وقُيِّد العدل، وانتقص كلاهما من أطرافه فشوه خلقه تشويهًا ما، هنالك يستطيعان أن يلتقيا لقاءً لا يخلو من تشويه تتأثر به الحياة الإنسانية نفسها، فتدفعها الحُرِّية إلى العمل والنشاط، ويدفعها حُبُّ العدل إلى الاختلاف والاختصام، وتنتهي إلى هذا التطور الذي نشهده الآن كما شهدناه في العصور المُختلفة، والذي يبث فيها العداوة والبغضاء ويملؤها شرًّا ومكرًا وكيدًا، ثم يَدفعها حينًا بعد حينٍ إلى حربٍ من هذه الحُروب التي لا تُبقي ولا تَذر، والتي تَزداد على مر الأيام بشاعة ونكرًا.
ومن الخطأ كذلك أن نظن أن هذا الصراع بين الحرية والعدل مقصور على بيئة إنسانية دون بيئة، أو على مكان من العالم المُتحضر دون مكان، وإنَّما الواقعُ الذي نستطيع أن نُلاحظه في كل وقتٍ هو أن هذا الصراع قائم في البيئات الإنسانية المثقفة كلها، وفي أجزاء العالم المُتحضر كلها أيضًا، يقوى ويعنف حيث ترقى الحضارة وتتفوق، ويَضْعُف وتخف وطأته حيث تركد الحضارة وتميل إلى الخمود، ولكنه موجود دائمًا ومُتَّصل على كل حال.
ويكفي أنْ ننظر إلى العالم المُتحضر الذي نعيش فيه اليوم لنتبين أنَّ الصراع بين الحُرِّية والعدل عنيفٌ إلى أقصى غايات العُنف في أوروبا وأمريكا، وأنَّ عُنفه في هاتين القارتين أشد منه في القارات الأخرى، وإن كان يختلف قوة وضعفًا باختلاف الأمم والشعوب.
وليس المُهِمُّ أنْ ندرس هذا الصراع بين العدل والحرية درسًا مفصلًا مُستقصًى، فذلك شيء لا سبيل إليه بل لا حاجة إليه الآن، وإنَّما المُهم أنْ نُلاحِظَ مَظاهر هذا الصراع في أوروبا وأمريكا وفي بِلاد الشَّرق الأدنى خاصة، لنتبين إلى أي طريق نحن مَسوقون، وإلى أي غاية نحن مَدفُوعون.
وليس من شك في أن إلغاء المسافات في الزمان والمكان قد جعل شرقنا الأدنى مُتَّصلًا بأوروبا وأمريكا اتصالًا يوميًّا دقيقًا، بحيثُ لا نَستطيع أن نفلت، مهما نحاول ذلك، من التأثر بما يحدث في هاتين القارتين من الأحداث والخطوب، وما يُثار فيهما من المَصاعب والمُشكلات.
ومن المُحَقَّق أنَّ الشرق الأدنى لو استؤمر حين أثيرت الحربُ العالمية الأولى لآثر العافية، ولتمنى أن يلتزم هذه الحيدة التي تجنبه أخطار الحرب وأهوالها، ولكنه لم يُستأمر ولم يكن من المُمكن أن يُستأمر؛ لأنَّه كان ميدانًا من ميادين الحرب وغرضًا من أغراضها، وهو كذلك لم يُستأمر حين أثيرت الحرب العالمية الثانية، ولم يكن من الممكن أن يُستأمر؛ لأنه كان ميدانًا من ميادين الحرب وهدفًا من أهدافها، وأكبر الظن أنه لن يُستأمر إذا أثيرت حرب عالمية ثالثة؛ لأنه سيكون من أهم ميادين الحرب ومن أعظم أغراضها خطرًا.
فينبغي للشرق الأدنى إذن أن يُوطِّن نفسه على أنه جزء من هذا العالم المُتحضر الحديث الذي يضطرب أشد الاضطراب بهذا الصراع العنيف المُتَّصل بين الحُرِّية والعَدل، مُتأثر سواء أراد أو لم يُرد بهذا الصراع وبما يكون له من أثر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والخيرُ أن يوطن نفسه على ذلك وإن لم يعد له عدته، وأن يُقبل عليه مُريدًا لهذا الإقبال لا مُكرَهًا عليه إكراهًا. ولم يخطئ الشاعر حين قال:
وليس للشرق الأدنى بد من أن يركب هذه الأسنة، فإذا أراد أن يحيد عنها أو أن يتجنب رُكوبها، فلن يَجِد إلى ذلك سبيلًا، وحسبه أن يعلم أن هذا ليس مقصورًا عليه، وإنَّما هو المصير المَحتوم لكل جزء من أجزاء العالم بعد أن ألغيت مسافات الزَّمان والمَكان.
والنَّاسُ يقولون في كثير من الصواب: إنَّ العالم الآن موضوع للنزاع بين قوتين عظيمتين تريد كل منهما أن تُسيطر عليه وتنشر فيه سلطانها، وتخضعه لما يقتضيه ذلك من مذاهبها في السياسة ونظمها الاجتماعية المختلفة، وهاتان القوتان قد تعاونتا أثناء الحرب العالمية الثانية، فاتفقتا ما ظلَّت الحرب قائمة حتى كسبتا النصر، ثم لم تستطيعا أن تمضيا في الاتفاق فعجزتا عن تنظيم السلم.
وقد انتهت الحرب في أوروبا منذ عام وبعض عام، وما زال المنتصرون عاجزين عن أن يُقروا السلم وينظموه؛ لأنهم عاجزون عن أن يتفقوا فيما بينهم، وليس الخلاف بينهم مقصورًا على تقسيم الغنائم وتوزيع الأسلاب، ولكنَّه أبعد من ذلك مدى وأشد من ذلك عنفًا؛ لأنَّه يتجاوز الدول المُنتصرة نفسها لما تملك من حول وطول ومن قوة وأيد، إلى الشعوب التي تمثلها هذه الدول.
فالشعوبُ نفسها مُختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، يُريد بعضُها أن يسلك طريق الحرية على أن يكون العدل تابعًا للحرية لا متبوعًا، ويُريد بعضُها الآخرُ أن يسلك طريق العدل على أن تكون الحرية نافلة تتحقق إنْ سمح العدل بتحقيقها، ويُضحى بها إذا لم يكن بد من التضحية بها في سبيل العدل الشامل والمساواة الكاملة بين الناس.
ثم تختلف الشعوب في حياتها الداخلية نفس هذا الاختلاف بين الدول، فتكون فيها الأحزاب المُتباينة التي يذهب بعضها مذهب الحرية الكاملة، ولا يتردد في التضحية بالعدل إذا اقتضت الحرية هذه التضحية، ويذهب بعضها مذهب العدل الشامل، ولا يتردد في إهدار الحرية إذا اقتضى تحقيق العدل إهدارها.
وكذلك يشهد العالم هذا المنظر الرائع الغريب: دول تختلف فيما بينها تختصم حول الحرية والعدل، وأحزاب تختلف فيما بينها تصطرع حول الحرية والعدل، وأفراد يختلفون فيما بينهم يتمارون في الحرية والعدل.
والحياة تمضي مُتَعَثِّرة في طريقها لا تكاد تخطو خطوات إلى أمام حتى تضطر إلى أن تنحرف إلى يمين أو إلى شمال، وقد تضطر أحيانًا إلى أن ترجع القهقرى، وتعيد للناس نظمًا كانوا يظنون أنها قد ذهبت إلى غير رجعة ومضت إلى غير مآب.
وقد يبلغ من اضطراب الشخص الواحد أن يذهب إلى مذهب الحرية إذا أصبح، فلا يكاد يُمسي حتى يذهب مذهب العدل، وقد يبلغ من اضطراب الشعب الواحد أيضًا أن ينحرف اليوم إلى يمين ليؤيد الحرية، فإذا كان الغدُ انحرف إلى شمال ليؤيد العدل، وهو بهذا التذبذب بين اليمين والشمال لا يُحقق حرية ولا عدلًا، وإنَّما يمضي في الاضطراب ويغرق في الارتباك إلى أذنيه، وقد يغرق معه أممًا وشعوبًا أخرى؛ لأنها خاضعة له أو مُتأثرة به قليلًا أو كثيرًا.
هذه كلها حقائق يسيرة قريبة يُلاحظها الإنسانُ حين يقرأ صحف الصباح، وحين يقرأ صحف المساء، وكل ما في الأمر أنَّه ينظر إليها نظرة سريعة غير مُتعمقة ولا مُستأنية، ينظر إليها كما ينظر إلى أحداث الحياة اليومية التي يُغيرها مَرُّ الغداة وكَرُّ العشي.
فالشعب الإنجليزي مثلًا حين تخلص من سلطان المحافظين في العام الماضي وألقى بمقاليد الأمر إلى العمال، لم يزد على أن انحرف من طريق الحرية المحافظة إلى الشمال حيث العدل، أو قل — إن شئت — حيث الطموح إلى العدل، وحيث التضحية، أو قل — إن شئت — حيث الاستعداد للتضحية بكثير من حرية الفرد والجماعة في سبيل تحقيق هذا العدل، ولكن الشعب الإنجليزي نفسه حين يضطر حكومة العُمَّال إلى أن تلتزم سياسة مُحافظة خارج بريطانيا العظمى، فلا تفرط في شيء من مُستعمراتها، ولا تتخلى عن قليل من مصالحها في البلاد التي تخضع لنفوذها قليلًا أو كثيرًا، وإنَّما تستمسك بالإمبراطورية كما تلقتها من حكومة المُحافظين، وتُحافظ على مصالحها في أقطار العالم كله على نفس النحو الذي كان يصطنعه المحافظون، أقول: إن الشعب البريطاني حين يضطر حكومة العمال إلى أن تسلك هذه الطريقة لا يزيد على أن يتراجع فينحرف من شمال إلى يمين، ويُضحي بشيء من العدل ليستبقي حريته تلك التي أتاحت له أن يَستذل ويَستغل جزءًا عظيمًا من الأرض.
والشعب البريطاني حين يتخلص من سلطان المُحافظين ويجعل أمره إلى العمال، ويتيح لرئيس وزرائه ووزير خارجيته أن يتحدثا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن حق العالم في أن يخلص من الاستعباد والاستبداد، يخطو خطوة إلى الشمال في سبيل العدل الدولي، ولكنه لا يلبث أن يعود أدراجه ويخطو خطوة إلى يمين في سبيل الاحتفاظ بحريته القديمة التي كانت تُتِيح له أن يَتحَكَّم في مصير الشعوب، وإذا هو يذهب في سياسته مع اليونان ويوجوسلافيا نفس المذهب الذي كان يذهبه المحافظون.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوة إلى شمال حين يُعلن رئيس وزرائه ووزير خارجيته أنه يريد الجلاء عن مصر بلا قيد ولا شرط، ثم لا يَلْبثُ أن يعود أدراجه بتأثير المحافظين، وإذا هو يشترط للجلاء شروطًا تلغيه، ويُقيده بقيود تمنعه من الحركة والنشاط؛ لأنه يُضحي بالعدل الدولي في سبيل حريته التي تتيح له أن يتحكم في مصير مصر، فلا يجلو عنها إلا حين يريد وبالشروط والقيود التي يريد أن يعرضها.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوات إلى الشمالي حين «يؤمم» طائفة من المرافق البريطانية، ثم يتردد ويتراجع حين يعرض لتأميم طائفة أخرى من المرافق، يلغي حرية الأفراد والجماعات في سبيل العدل، ولكنه يلغيها بمقدار لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانًا كافيًا، ويحتفظ بهذه الحرية للأفراد والجماعات بالقياس إلى بعض المرافق الأخرى؛ لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانًا كافيًا أيضًا؛ فهو مذبذب بين الطموح إلى العدل والاحتفاظ بالحرية، وكل المصاعب التي يلقاها وكل المشكلات التي تأتلف منها حياته إنما تأتيه من هذا التذبذب بين العدل الذي يقتضيه التضحية بحرية التسلط على الأمم والشعوب والتحكم في مصير الدول والأقطار، وبين الحرية التي تحتفظ له بالقدرة على أن يتحكم في مصير هذه الأمم والشعوب.
والشعبُ الفرنسي يذهب هذا المذهب نفسه، فهو يتذبذب بين الحرية والعدل، يُقبل على انتخاباته العامة في أكتوبر الماضي فيندفع اندفاعًا قويًّا إلى شمال، ويُؤَلِّف الكثرة في جماعته التأسيسية من الشيوعيين والاشتراكيين، وإذا هو يُؤَمِّم طائفة من مرافقه، ثم لا يلبث أن يأخذه الخوف ويملكه الذعر، وإذا هو يرفض الدستور الذي وضعته له هذه الجماعة التأسيسية الشمالية، فإذا طُلب إليه أنْ ينتخب جماعة تأسيسية أخرى انحرف إلى يمين فألف كثرتها من المعتدلين وجعل اليساريين لهم تبعًا أو شيئًا يُشبه التبع، ودلَّ بذلك على أنه يُريد العدل ولكن بمقدار، ويَحْرص على الحرية أكثر مما يحرص على أي شيء آخر.
وقد أنسى أشياء كثيرة قبل أن أنسى حديثين دار أحدُهما بيني وبين رجل من عامة الشعب في مارسيليا قبل رفض الدُّستور بيوم واحد؛ فقد قال لي هذا الرجل إنه سيرفض الدستور إذا كان الغد لأنه لا يريد دستورًا يساريًّا، ولكنه سيُصَوِّت لليساريين بعد ذلك؛ لأنَّه يُريد الإصلاح الاجتماعي، ولا يُريد برلمانًا رجعيًّا أو حكومة مُسرفة في الاعتدال.
ودار الآخر بيني وبين أستاذ من أساتذة السُّوربون في باريس بعد أنْ رفض الدستور بيومين، وهذا الأستاذ يساري المَيل مُتطرف في حُبِّه لليسار، ولكنه رفض الدُّستور مع أصحاب اليمين، فلما كلمته في ذلك قال: نعم؛ رفضت الدستور لأني لا أريد أن أخضع للرقابة فيما أنشر من الكتب وما أذيع من الفصول وما أُلقي من الدروس والمحاضرات. فهو إذن يُريد العدل، ولكن بشرط ألا يُقيِّد هذا العدل حريته حين يكتب أو يقول.
وصاحب الصناعة يستطيعُ أن يقول كما قال هذا الأستاذ نفسه، رفض الدستور اليساري لأنه لا يريد أن يخضع للرقابة فيما تُنْتِج مَصَانِعُه وفيما تغل عليه من ربح، وكذلك يَتَرَدَّدُ الفرنسيون كما يتردد جيرانهم البريطانيون بين العدل والحرية؛ يَطْمحون إلى العدل ولكنهم يخافون منه إذا كَمُل وشَمِل كلَّ شيء، ويَحْرصون على الحُرِّية ولكنهم لا يَكرهون تقييدها حين تضطرهم الظروف إلى ذلك.
وقل إن شئت إنهم يُؤثرون الحُرِّية على كل شيء، ولا يُضحون بقليل منها إلا ليحتفظوا بما يستطيعون أن يحتفظوا به؛ فهم يتحدثون عن العدل كما كان مستر تشرشل يتحدَّث عن استقلال الشُّعوب أثناء الحرب.
يَتَحَدَّثون عن العدل على أنَّه من هذه المُثل العليا التي يتوق الإنسان إليها ويجدُّ في تحقيقها، ولكنه لا يبلغها لأنها من الظرف واللطف والأناقة بحيث تحسن الدلال وتمتنع على الطامحين إليها والطامعين فيها، تغريهم بنفسها وتدعوهم إلى محاسنها، ولكنها تنأى عنهم كلما دنوا منها، وتتركهم يتمثلون قول جميل لبثينة:
وهم يُحبون من المُثل العليا هذا التدلل والامتناع، وهم يستمتعون بلذة هذه النَّار التي تضطرم بين جوانحهم وتَحْرِق قُلوبهم شوقًا إلى العدل، وهم يكرهون أن تَخمد هذه النارُ وأنْ تَبرد جوانِحهم، وأن يبلغوا العدل فيطمئنوا إلى أنهم بلغوه.
وهم يُحِبُّون الحُرِّية على نحو آخر، يُحبون أن يأخذوها بين أيديهم ويضموها إلى صدورهم ويستمتعوا منها بأعظم حظ ممكن، لا ينالون منها حظًّا إلا طمعوا في حظ أعظم منه، ولا يفقدون منها شيئًا إلا تقطعت قلوبهم عليه حسرات.
ذلك لأنَّ هناك فرقًا خطيرًا جدًّا بين الاستمتاع بالحرية والاستمتاع بالعدل؛ فالاستمتاع بالحرية يُثير هذه اللذة المُتعبة؛ لأنَّه يدفع إلى العمل والنَّشاط، ويُغري بالكدِّ والجد، ويمنع الإنسان من أن يريح ويستريح، أمَّا الاستمتاع بالعدل فمُريح حقًّا؛ لأنه يقتل الطمع ويُغري بالرِّضا ويُزَيِّن القناعة في القلوب، أو قُل يَفْرِض القناعة على القلوب فرضًا.
فأي غرابة في أن يكون الإنسان أشدَّ إيثارًا للحرية التي تملؤه قوة ونشاطًا وتدفعه إلى الأمل والعمل، وتُمسكه في هذا القلق الحلو المُتَّصل الذي لا يعرف الرِّضا ولا يُحِبُّ الاطمئنان، منه للعدل الذي لا يُثير قوة ولا نشاطًا، ولا يَدْفع إلى مزيد من أمل أو عمل، والذي يَملأ القلوبَ أمنًا ورِضًا ويَعْصِمُها من القلق والخوف!
والأمرُ في سائر أوروبا الغربية كالأمر في فرنسا وبريطانيا العُظمى: حبٌّ مؤكد للحُرِّية، وحِرْصٌ مُصمم عليها، وطموح إلى العدل كما يطمح العُشَّاق العذريون إلى من يعشقون.
وحَسْبُك أن تنظر إلى بلجيكا وهولندا، فهما كبريطانيا العظمى وفرنسا تُمجدان العدل وتُغنِّيان بمحاسنه، ولا تَكرهان أن تُحققا منه شيئًا في الأرض البلجيكية والهولندية مُختارتين أو مُضطرتين، ولكنهما في الوقت نفسه تُؤْثران الحرية أشد الإيثار: تُؤْثرانها في السياسة الخارجية؛ فالعدلُ لم يُخلق لأندونسيا مثلًا ولا للكونجو البلجيكية، كما أنَّه لم يُخلق للمُستعمرات البريطانية والفرنسية وللشعوب الضعيفة بوجه عام. وهو إن كان قد خُلق لأوروبا، فإنَّما خُلق لها لتصيب منه بمقدار كالملح الذي يُصلح قليله الطعام، فإذا كثر فسد له الطعام فسادًا شديدًا.
ولذلك تحتفظ بلجيكا وهولندا، كما تحتفظ فرنسا وبريطانيا العظمى بحرية واسعة شديدة السعة للأفراد والجماعات، وتُحاولان تحقيقَ شيء من العدل لتُسكِتا هؤلاء الطامعين فيه المُطَالبين به الذين لا ينفكُّون يَجْأَرُون بِطَلَبِ العدل الاجتماعي حين يُمسون وحين يُصبحون.
وليس من اليسيرِ أنْ نَتَبيَّن مُيول ألمانيا المُنهزمة؛ فهي لم تظفر بعد بهذا القدر اليسير من الحُرِّية لتعرب عما تريد في مستقبلها القاتم، ولكِنَّها على كل حالٍ قد قُسِّمت بين المنتصرين يحتل كل منهم جزءًا من أرضها، وهؤلاء المنتصرون يُهيئون الشعبَ الألماني أو يحاولون تهيئته لما يحبون ويألفون من مذهب في السياسة والاجتماع؛ فأوروبا الغربية وأمريكا تُهيئان جزءًا من الشعب الألماني أو تُحاولان تهيئته لهذه الديمقراطية التقليدية التي تؤثر الحرية على العدل، وتتخذ الإصلاح الاجتماعي وسيلة إلى إرضاء الطبقات البائسة من جهة، وإلى الدفاع عن نفسها والاحتفاظ بما بقي لها من السلطان والقوة من جهة أخرى.
ولكن روسيا السوفيتية تحتل جزءًا عظيمًا من ألمانيا، وهي تهيئه أو تُحاول تَهيئته لمذهبها في السياسة والاجتماع، ومذهبها واضح معروف؛ فهي تُؤْثِر العدل والمُساواة وإلغاء التنافس والتزاحم والتفوق والامتياز على الحرية وما تستتبع من اصطراع بين الأفراد والجماعات واستباق، إلى تَحقيق المَنافع واستئثار بهذه المنافع إذا تم تحقيقها.
وهذا الخلاف العنيف القائم بين هاتين القوتين — قوة الحرية في أمريكا وغرب أوروبا، وقوة العدل في روسيا — هو الذي جعل حياة المنتصرين عسيرة منذ وضعت الحرب أوزارها في الشرق والغرب، وهو الذي حال بينهم وبين الاتفاق حين اجتمعوا في أكتوبر الماضي، وحين اجتمعوا في أبريل ومايو، ويُوشك أن يَحُول بينهم وبين الاتفاق حين يجتمعون بعد أيام قليلة في باريس.
وليس الستار الحديدي الذي يُقال إنَّ رُوسيا قد ألقته من دون جزء عظيم من أوروبا الشرقية والجنوبية إلا سورًا منيعًا يحول بين الحرية والعدل، وبين أن يَلتقيا وجهًا لوجه، ويصطدما في ميدان واحد؛ فأوروبا الغربية خاضِعَةٌ للحُرِّية، وما تستتبع من تنافس وخصام، وأوروبا الشَّرقية خاضِعَةٌ للعدل وما يستتبع من تسلط وقهر وكبح لجماح المنافع والأطماع.
وإذا أَجْرَت الأمة اليونانية انتخاباتها بأعين الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين وكانت نتيجة هذه الانتخابات ميامنة لا مياسرة، قال الروسيون: إنَّ هذه الانتخابات لم تجرِ حرة، ولم تكن بمأمن من تدخل الديمقراطية الغربية، وما يسندها من رأس المال.
فإذا دبرت بلغاريا ورومانيا والمجر ويوجسلافيا وتشكوسلوفاكيا شئونها بالانتخابات أو بإقامة الحكومات المؤقتة، وكانت نتيجة هذا كله انحراف هذه الأمم إلى اليسار، قال الإنجليز والأمريكيون والفرنسيون معهم: إنَّ هذه الأمم ليست حرة في تقرير مصيرها، وإنَّما هي مُتأثرة بالسلطان الرُّوسي العنيف في كل ما تعمل وفي كل ما تقول.
وليس لهذا كله معنًى إلَّا أنَّ الشُّعوب الصغيرة في أوروبا قد اضطرت هي أيضًا إلى التذبذب بين مَذاهب الأقوياء من أنصار الحُرِّية والعدل، فهي في غرب أوروبا مُنحازة إلى الحُرِّية؛ لأنَّ الأقوياء من المُنتصرين هناك ينحازون إليها، وهي في شرق أوروبا وجنوبها مُنحازة إلى العدل؛ لأنَّ الأقوياء هناك ينحازون إليه.
والواقع أنَّ إرادة هذه الشعوب لم يُتح لها ما ينبغي أن يُتاح لها من الفُرص لتظهر جلية لا يشُوبها لبس ولا غموض، وقد يكون الموقف الإسباني من أوضح الأشياء دلالة على هذه الخُصُومة بين العدل والحرية.
ويجبُ أنْ نُلاحظ أنَّ التَّسَلُّط والقَهْر هما الأداتان اللتان يصطنعُهما العدْلُ كما تصطنعهما الحرية، يُدافع بهما كل منهما عن نفسه، ويثبت بهما كل منهما سُلطانه؛ فالجيش البريطاني هو الذي أَيَّدَ الحُرِّية في اليونان على حساب العدل، والجيش الروسي هو الذي أيد العدل في شرق أوروبا على حساب الحرية.
وليس لأحد من المنتصرين جيش في إسبانيا الفاشية، ولو قد وُجِد هذا الجيش لانحازت إسبانيا الفاشية إلى مَذْهب الحُرِّية إن كان الجيش بريطانيًّا أو أمريكيًّا، وإلى مذهب العدل إن كان الجيش روسيًّا.
ولكن إسبانيا ليست مُحتلة؛ ولذلك كان موقفها دليلًا واضحًا على اشتداد الخصومة بين هذين المذهبين؛ فأمَّا أنصارُ العدل وهم الروسيون والفرنسيون حين كان الأمر في فرنسا إلى اليسار، فيريدون إلغاء النِّظام الفاشي في إسبانيا، وإن أدى ذلك إلى التدخل العسكري في الشئون الإسبانية.
وأيْسَرُ ما يَطْلُبونه أن تُقَطَّع العلاقات السياسية بين جميع الدول المُنتصرة على اختلاف مَذَاهبها وبين إسبانيا الفاشية، وأن تعترف الدول المُنتصرة بالحكومة الإسبانية المنفية التي أقامت في أمريكا اللاتينية حينًا وتُريد أن تنتقل إلى فرنسا في هذه الأيام، وهم يعتمدون فيما يطلبون على أنَّ الديمقراطية المُنتصرة لا ينبغي أنْ تسمح للفاشية بالبقاء، على أنَّ نظام الأمم المُتَّحدة وميثاق سان فرنسسكو يفرضان ذلك فرضًا، وعلى أن إسبانيا الفاشية قد ظاهرت ألمانيا وإيطاليا لأنها مَدِينَةٌ لهما بالوجود.
ولكن البريطانيين والأمريكيين يؤمنون هنا بحُرِّية الشعوب إيمانًا يُوشك أن يكون تعصبًا؛ فالشعبُ الإسباني حرٌّ في اختيار الحكومة التي تسيطر على أمره، وما ينبغي للسلطان الخَارجي أن يتدخل في الشئون الإسبانية الخالصة، ولا أنْ يفرض على إسبانيا حكومة وإن كانت ديمقراطية، ولا أن يُخَلِّص إسبانيا من حكومة وإن كانت فاشية قد حاربت الديمقراطية وأعانت عليها ما وجدت إلى ذلك سبيلًا.
ونتيجة هذا كله أنَّ الشعب الإسباني نفسه مُنقسم في ظاهر الأمر على الأقل فريقٌ منه يُريد أن يعود إلى نظام الجمهوري اليساري، وفريق آخر يُريد أن يحتفظ بالنظام الفاشي الميامن. فأمَّا قبل الحرب فقد أقبلت ألمانيا وإيطاليا في غير تردد على تأييد النِّظام الفاشي في إسبانيا بالسلاح، وأما بعد الحرب وبعد انتصار الديمقراطية، فإن بريطانيا العظمى وأمريكا تأبيان حتى قطع العلاقات السياسية مع الفاشية الإسبانية التي أعانت على الديمقراطية ودبرت لها ألوان الكيد.
فالأمر كله إذن إنما يرجع، قبل كل شيء وبعد كل شيء، إلى الصِّراع بين هذين المَذهبين: مذهب الحُرِّية الذي يعتمد على رأس المال، ومذهب العدل الذي يعتمد على الشيوعية.
وكما أنَّ رُوسيا ألقت ستارًا حديديًّا من دون الشرق الأوروبي والجنوب الأوروبي؛ فإنَّ بريطانيا العُظمى وأمريكا تُلقيان ستارًا حديديًّا آخر من دون الغرب الأوروبي، وكل هذا قد يكون له خطره في مُستقبل العالم.
ولكنَّ هناك ما هو أشدُّ خطرًا من هذا كله، وهو أنَّ الشعوب نفسها مُنقسمة في حياتها الدَّاخلية أشد الانقسام، ينحاز فريق منها إلى الحرية فيتبع بريطانيا العظمى وأمريكا، ويستعين بهما على خصومه إن احتاج إلى ذلك، وينحاز فريق آخر إلى العدل فيتبع رُوسيا، ويستعين بها على خصومه إن احتاج إلى ذلك وينشأ عن هذا أن تُصبح كلمة الاستقلال من الكلمات الجوفاء التي لا تدل الآن على معنى مُحقق في حياة هذه الشعوب.
وقد كان من المُضحك حقًّا أثناء الصراع الانتخابي في فرنسا أن يتهم أنصار الحرية خصومهم بأنهم يتلقون الأمر من موسكو، ويُريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلًا لروسيا، وأن يتهم أنصار العدل خصومهم بأنَّهم يتلقون الأمرَ من واشنطن ويُريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلًا لأمريكا.
والواقع أنَّ أولئك وهؤلاء كانوا يُسرفون، ويَعلمون أنهم يُسرفون؛ فقد أصبحت فكرة العدل أساسًا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينًا، وأصبحت فكرة الحرية أساسًا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينًا أيضًا؛ فالذين ينحازون إلى هذا المذهب أو ذاك ويُؤمنون بهذا الدين أو ذاك، مُضطرون بالطبع إلى أن يُظاهروا شركاءهم في الرأي وإخوانهم في الدين.
فانحياز أنصار العدل في فرنسا إلى رُوسيا كانحياز أنصارِ الحُرِّية فيها إلى أمريكا، ظاهرة يُمكن أن تُقاس إلى انحياز المُسلمين في وقت من الأوقات إلى عاصِمَة الخِلافة، وإلى انحياز النَّصارى في وقت من الأوقات إلى عاصمة المسيحية في روما.
على أن هذا الاختلاف بين المذهبين لم يلبث أن تعقد بعد الحرب العالمية الأولى بظهور مذهب وسط يريد أن يحتفظ بالحرية وأن يحقق العدل في الأرض، ولكنه لم ينظر إلى الحرية من حيث هي ولا إلى العدل من حيث هو، وإنَّما نَظَرَ إليهما جميعًا من ناحية خاصَّة هي ناحية الدين.
فأنصار العدل من الشيوعين والاشتراكيين يعتمدون قبل كل شيء على المَادِّية التي تجحد الديانات جُحودًا تامًّا، وتنظر إلى الحياة الاجتماعية على أنَّها نتيجة لازمة لتطور تاريخي مَحْتُوم، وأصحاب الحرية، ولا سيما منذ الثورة الفرنسية، لا يكادون يحفلون بالدين، ولا يكادون يُلقون إليه بالًا.
فإذا أمكن أن ينشأ مذهب ثالث بين هذين المذهبين يلائم بين الحرية والعدل من جهة وبين الدين من جهة أخرى، ويتخذ الدين أساسًا لحياة إنسانية جديدة ترتفع عن المادة، وترقى إلى المُثل العليا، وتُؤمن بأنَّ في الإنسان قوة لا تَستطيع أن تحيا ولا أنْ تُثمر ولا أن تُتِيح للإنسان حظَّه في الرُّقي إلَّا إذا اتصلت بمَصْدَرها القدسي الأول من طريق الإيمان والثقة والأمل، أقول: إذا أمكن أن ينشأ هذا المذهب كان في نشوئه الخير كل الخير؛ لأنه يُصْلِح ما أفسدت الثورة، فيرد إلى الدين مكانته في القلوب وسلطانه على النفوس، ويعصم الناس من المادية الجامحة والإلحاد المتمرد، ويكفل لهم في الوقت نفسه نصيبًا مُعتدلًا من الحرية، ويتيح لهم في الوقت نفسه سعيًا مُتَّصلًا إلى تحقيق العدل في الأرض.
وكذلك نشأت الاشتراكية المَسيحية التي لا تُقيم العَدْل على الجبر التاريخي، ولا تجعل الإصلاحَ نتيجة للتطور المَادِّي، ولا تُلغي حُرِّية الفرد ولا حُرِّية الجماعات، وإنَّما تُقيم أمور الناس على التعاطف والتعاون والحبِّ، وتجمع قلوبَهم حول هذه المُثل الإنسانية والإلهية العليا.
وليس من شك في أن أهوال الحربين العالميتين كان لها أعظم الأثر في إنشاء هذا المذهب وانتشاره وانتصاره في بعض الأقطار، فهذه الأهوال التي صبتها الحرب على الناس، وهذه الكوارث التي تغلغلت في حياة الأفراد والجماعات، وهذه القسوة التي قطعت ما بينَ النَّاسِ منْ أرحامٍ أمرَ اللهُ أن تُوصَل، كل هذا قد زَهَّدَ الناس في الإيمان بسُلطان العلم وتفوقه، وصرفهم عن هذه الفتنة التي ملأت قلوبهم وملكت أمرهم في القرن الماضي، واضطرهم إلى التفكير في أن العلم ليس كل شيء، وفي أن العقل ليس كل شيء، وفي أنَّ الإنسان لا يأتلف من العقل والجسم فحسب، ولكن له ملكات أخرى لا ينبغي أن تُهْمَل وحاجات أخرى لا ينبغي أن تُزْدَرى.
ومن أهم هذه الملكات ملكة الشعور، ومن أهم هذه الحاجات الحاجة إلى الإيمان بقوة قُدسية مُدَبِّرة لشئون الإنسان تَسمُو به إلى الخير، وتنهاه عنِ الشَّر، وتنأى به عن الموبقات.
وقد أعان على انتشار هذا المذهب وانتصاره بعد الحرب العالمية الثانية، أن أُتِيحَ حق الانتخاب للنساء في أكثر الشعوب الأوروبية بعد أن كان هذا الحق مقصورًا على الرِّجال؛ ولذلك انتصرت الاشتراكية المسيحية في فرنسا أخيرًا بانتصار الحركة الجمهورية الشعبية على حساب الاشتراكيين المَاركسيين، وانتصرت الديمقراطية المسيحية في إيطاليا على حساب الاشتراكية الماركسية أيضًا، وأصبحت هذه الاشتراكية المسيحية الجديدة قوة لها خطرها في الحياة السياسية لأوروبا الغربية بوجه عام.
ولست أدري أيتاح لهذه الاشتراكية المسيحية فوز مُتَّصل أم هي أعقاب الحرب لا تكاد تَمضي عليها الأعوام حتى تعود الحياة الأوروبية إلى طبيعتها، ويُسْتَأنف الصراع عنيفًا بين هذين المذهبين: مذهبُ الحُرِّية ومَذْهب العدل، ذلك أنَّ هذا المذهب الاشتراكي المسيحي جميل رائع في نفسه، مثله في ذلك مثل مذهب العدل ومذهب الحرية، ولكنه لا يكاد يخرج إلى الوجود اليومي ويُعالج مشكلات الحياة الطارئة حتى يُصيبه ما يُصيب المذهبين من هذه الأعراض التي تبغضه إلى فريق من الناس وتحببه إلى فريق.
فالاشتراكية المسيحية لا تُلغي رأس المال، وإذن فسيطمئن إليها رأس المال، وسينفر منها طُلَّابُ المُساواة الخالصة والعدل المُطلق. والاشتراكية المَسيحية لا تُنكر الإصلاح الاجتماعي، وإنَّما تدفع إليه دفعًا وقد تتطرف فيه أحيانًا، وإذن فسيستغلها المتطرفون لتحقيق بعض ما يريدون، وسيشفق منها المحافظون؛ لأنها تكلفهم أكثر مما يُريدون أن يتكلفوا.
والاشتراكية المسيحية بحكم عنوانها واستمساكها بالدين مُضطرة إلى مُصانعة الكنيسة، أو قُل إلى طاعة الكنيسة وإرضائها، وإذن فسينفر منها جمهور ضخم من الأوروبيين ومن المفكرين الذين قطعوا ما بينهم وبين الكنيسة من الأسباب منذ وقت طويل.
وخذ مثلًا واحدًا لهذا الموقف الوسط الذي يضطر الاشتراكية المسيحية إلى الحرج في بلد كفرنسا؛ فهذه الاشتراكية المسيحية تُطالب بحُرِّية التعليم التي يُطالب بها المُحافظون الغُلاة، وحُرِّية التعليم هذه يُنكرها عددٌ ضَخْمٌ من الفرنسيين الذين ناصروا الفصل بين الكنيسة والدولة، والذين حملوا الجمهورية الفرنسية الثالثة على أن تجعل التَّعليم من شأن الدولة خاضعًا لسُلطانها مُلتزمًا للحيدة الدينية الكاملة.
فليس بد إذن من أن تجدَ الاشتراكية المَسيحية كثيرًا جدًّا من العناء حين تُعالج هذه المسألة؛ لأنَّ أنصار العدل الماركسي لم يضعفوا ولم يستيئسوا، وإنَّما هم مُحتفظون بقوتهم التي تزداد انتشارًا وانتصارًا من يوم إلى يوم؛ فالاشتراكية المسيحية في حقيقة الأمر تُوشِكُ أن تكون طورًا من هذه الأطوار الانتقالية التي تطمئن إليها الشعوب حين تجهدها الحرب وتكلفها الأزمات من الجهد والمشقة ما لا تُطيق.
فإذا ما استجمعت واستردت قوتها ونَشَاطها ضَاقَتْ بالمَوَاقف المُتوسطة واستأنفت الصِّرَاع بين القديم والجديد، بين المحافظة والتطرف، أو قُل — إن شئت — بين الاستمساك بالحرية والطموح إلى العدل.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن طبيعة الإنسان تدفعه دائمًا إلى الترقي؛ فهو لا يبلغ من الرقي طورًا حتى يسمو إلى طور خير منه «وحاجة من عاش لا تنقضي» كما يقول شاعرنا العظيم.
والحضارة الإسبانية المادية مُسرعة إلى التطور وإلى تيسير الترف وإذاعته وجعله في مُتناول الناس جَميعًا. فليس للإنسانية بُدٌّ من أن تلقي على نفسها دائمًا هذا السؤال: لماذا يُتاح النعيم لفريق من النَّاس ويُحظَر على فريق آخر؟ لماذا يُفرَّق بين الناس في الاستمتاع بالحياة على حين يُسوَّى بينهم في الدخول إلى الحياة والخروج منها؟ لماذا يعمل العامل ويزرع الزارع ويملأ كلاهما الأرض بأسباب الترف ووسائل النعيم لينتفع بنتيجة هذا العمل فريق من الناس لا يعملون ولا يزرعون ولا يبذلون جهدًا ولا يحتملون في الحياة عناءً؟ ولماذا يُتاح الفراغُ لقلة من النَّاس ويُفرَض العناء على كثرتهم؟
هذه الأسئلة ألقيت على الناس منذ أقدم العصور، ولكنهم لم يحققوها في أنفسهم كما يحققونها الآن، وهم يعتقدون مُصيبين أو مُخطئين، راضين أو كارهين أن العدل يجب أن يكون هو الغاية الأخيرة للحياة، وأنَّ المساواة الصحيحة في تمكين الناس من أن ينتفعوا بهذا العدل هي الوسيلة إلى تحقيق هذه الغاية الكبرى.
فإذا ذكرت لهم الحرية ومآثرها ومَحاسنها — وما أكثر ما للحرية من مآثر ومحاسن! — فسيقولون لك: إنَّ الحُرِّية لن تُطْعِم الجائع ولن تكسو العاري ولن تَسْقِي الظمآن، وسيقولون لك: إنَّ الرجل البَائس لا يستطيع أن ينتفع بحريته؛ لأنَّ الحرية لا تغني إلا مع الاستطاعة، وسيقولون لك: إنَّ الحرية خير — ما في ذلك شك — ولكن بِشرط أنْ تُمنَح للناس بعد أن تَتَحقق بينهم المُساواة ويستقر بينهم العدل ويُصبح بمأمن من كل عبث ومن كل طغيان.
وسيقولون لك: إنَّ الحرية إذا مُنِحَتْ للناسِ قبل أن يستقر بينهم العدل أثارت بينهم التنافس وأذاعت بينهم البغض، وأشاعت فيهم الطمع والحسد والحقد، وجعلت بعضهم لبعض عدوًّا. وسيستدلون بالتاريخ كله على هذا كله.
وسيقولون: يجبُ أن يتحقق العدل أولًا، وأن يتساوى الناس في الانتفاع بالحياة كما تساووا في الدخول إليها والخروج منها؛ فإذا تم لهم ذلك فامنحهم الحُرِّية إن شئت، فلن تُعَرِّضهم للشر، ولن تثير بينهم كيدًا ولا مكرًا ولا غدرًا ولا عداءً.
وقد تعترض عليهم بأنَّ تحقيق العدل الذي يُريدونه، والمساواة التي يَطمحون إليها ويَطمعون فيها يدعو إلى الكثير من الشر، وأول هذا الشر إلغاء الحُرِّية وإنزال القوي عن قوته، والمتفوق عن تفوقه، والغني عن غناه، وحَمْلُ الناس على ألوان من الحياة متشابهة بغيضة لتشابهها، وأخذهم بالعنف حتى يُحمَلوا على الجادة ويهتدوا إلى الصراط المُستقيم.
وقد تَضرِب لهم الأمثال بما يجري هنا وهناك في البيئات التي حاولت تحقيق العدل والمساواة من العنف المنكر والتسلط الذي لا يطاق، ولكنهم سيجيبونك دائمًا بأن الإنسانية مريضة، وبأن شفاء المريض لا يكون بمداعبته وتدليله، وإنما يكون بحمله على تعاطي الدواء مهما يكنْ مرًّا بغيضًا، وبِحَمْله أحيانًا على ما هو أشق مشقة وأجهد جهدًا، وأثقل ثقلًا من الدواء المُر البغيض.
فالإنسانية بين اثنتين: إمَّا أن تُريد الشفاء، فتسلك إليه طريقه المستقيمة، وإما أن تُؤْثِر المرض، فتشقى بآلامه وأثقاله حتى يُدركها الفناء.
وكذلك ستظل الإنسانية مُضطربة بين هذين المذهبين: مذهب العدل وما يقتضي من وسائل قد تكون مُنكرة في كثير من الأحيان، ومذهب الحُرِّية وما يَستتبع من نتائج ليست أقل من وسائل العدل نكرًا، ومن يَدري! لعل يومًا من الأيام قريبًا أو بعيدًا يرى ذلك الفيلسوف الذي يبتكر للإنسانية مِزاجًا مُعتدلًا من الحياة يتحقق فيه العدل من غير عنف، وتتحقق فيه الحُرِّية من غير ظُلم، ويذوق الناس فيه سعادة لا يَشُوبها بؤس ولا شقاء.
ويرحم الله عُمَرَ، فقد أراد أن يحمل المسلمين على ذلك، ومضى بهم في سبيله قدمًا، وحقق لهم منه شيئًا كثيرًا. ولكن الشاعر الذي رثاه لم يخطئ حين قال: