في الأدب الأمريكي
أما فرنسا فقد سافرتُ إليها وأقمتُ فيها أشهر الصيف، ولكني على ذلك لا أعد هذه الإقامة إلا إلمامة قصيرة، فقد كانت حياتي المادية أثناء هذه الأشهر في فرنسا، ولكن حياتي المعنوية أو العقلية بِعبارة أدق، كانت بعيدة عنها أشد البُعد، وأكاد أقطع بأني لأول مرة قد أطلت الإقامة في فرنسا دون أن أحيا فيها حياة كاملة، فلم أقرأ من الكتُب الفِرنسية إلا قليلًا أقل مما أقرأ في القاهرة، ولم أتعمق قراءة الصحف الفرنسية، وإنَّما كُنتُ أمر بها مرًّا سَريعًا، كما أمر بالصحف العربية في القاهرة مرًّا سريعًا، أجتزئ بالعنوان في أكثر الأحيان عن قراءة ما بعده، إلا ما كان من النظام الجديد الذي شرع للجزائر فقد أتتبعه في عناية خاصة.
ومصدر ذلك أنَّ الإنتاج الفرنسي الأدبي في هذا العام لم يغرني ولم يستخفني من جهة، وأني قد ذهبتُ إلى فرنسا هارِبًا منَ القاهرة لأخلو فيها إلى طائفة من الكُتب ليس بينها وبين الحياة الفرنسية سببٌ، بل ليس بينها وبين الحياة الحديثة كلها سببٌ، وإنما هي كتُب تتصل بالحياة العربية القديمة.
فلم أكد أبلغ فرنسا حتى خلوتُ إلى هذه الكتب، فكنتُ أغرق فيها وجه النهار وآخره، وكنت أرفه على نفسي إذا أقبل الليل بشيء من القراءة المُريحة، وأرادت الظروف أن تكون هذه القراءة المريحة مُتصِلة بأشياء لا تمس الحياة الفرنسية من قريب ولا من بعيد، وإنما هي قراءة تمس الآداب الأوروبية غير الفرنسية، أو تمس الآداب الأمريكية.
وقد يكون من الحقِّ أن أعترف بأني قرأتُ كِتابًا فرنسيًّا كثر الكلام عنه جدًّا في فرنسا، وكاد النُّقاد الفرنسيون يُجمعون على الإعجابِ به، ولكنه لم يُعجبني، وأكاد أقول إني ضِقْتُ به أكثر مما ارتحت إليه، وهو بعد هذا لا يمس الحياة الفرنسية في ظاهر الأمر، وإنَّما يمس حياة إفريقية الشمالية، وهو كتاب «الطاعون» للكاتب الفرنسي المشهور ألبير كامو.
وأنا أعلم أنَّ الكاتب أراد به إلى الرَّمز؛ فهو يصفُ الطاَّعون الذي تخيل أنَّه ضرب بجرانه على مدينة وهران، فقطع ما بينها وبين العالم من الأسباب، واضطرها إلى حياة مَحْصُورة كثرت فيها الفتنُ والمِحنُ والخُطوبُ، وصرحت فيها نفوس الناس عن مكنونها، فظهر الضعفُ الذي ينتهي إلى التَّهالك، وظهرت القُوَّةُ التي تنتهي إلى البطولة، وظهر الإخلاص الذي ينتهي إلى الإيثار، وظهر الجُبن الذي ينتهي إلى الأثرة المنكرة.
وخلصت المدينة بعد لَأْي من هذا العناء البغيض، واستأنفت حياة عرجاء تُحاول أن تستقل وتستقيم.
وأنا أعلم أن الكاتب أراد أن يَتخذ وهران وأهلها والطاعون رمزًا لفرنسا وأهلها والحرب، أو رمزًا للأرض كلها وللحرب، وأنَّه إنما أراد أن يصَوِّر الإنسانيَّة حين تُلِمُّ بها الخطوب الفادحة، فتُمحِّص من الناس من تُمَحِّص وتمْحَق منهم من تمحق.
ولست أدري لِمَ لَمْ يُعجبني هذا الكتاب مع أنَّ المعنى الذي أراد إليه الكاتب قيم خطير عظيم الشأن، وأكبر الظن أنَّ الأداء هو الذي لم يُعجبني، وأنَّ الحوادث التي شهدناها في الحرب الأخيرة كانت أعظم نُكرًا وأشد هولًا، وأصدقُ تصويرًا لقوَّة الإنسانِ وضَعْفِه، ولإيثار ِالإنسانِ وأثرته، من هذا الكلام الذي لا يكادُ يتجاوز في وصفه وتصويره أيسر ما تكتبه الصحف حين تقص الأخبار.
والمُهمُّ هو أنَّ هذا الكتاب لم يُشعرني حين قرأته بأني كنت أقرأ كتابًا رائعًا يُصَوِّر الحياة الأوروبية الرائعة أثناء الحرب تصويرًا يُلائمها في الرَّوعة، وإنَّما أشعرني بأنِّي كنتُ أقرأ كتابًا فاترًا يُريد أن يُصَوِّر أشياء لا يلائمها الفُتور بحالٍ من الأحوال.
لم أقرأ إذن كثيرًا منَ الكُتب الفرنسية أثناء إقامتي في فرنسا، وإنَّما قرأتُ كُتبًا إيطالية وأمريكية وروسية، وأعود فأقول: إني لم أكن أعمد إلى هذه القراءة إلَّا وقتًا قصيرًا حين يُقبل الليلُ وبعدَ أنْ نَنْصَرِف عن العشاء ونخرج للرياضة وقتًا يقصر أو يطول، ثم نعود فنجتمع إلى قارئ منَّا يعيننا على انتظار النَّوم الذي لا يحب أن ْ يطولَ انتظاره في القُرى وإن أحبَّ أن يطول انتظاره في المدن وبنوع خاص في باريس.
وهذا الكاتب الأمريكي الأسود ريتشارد رايت الذي أريد أن أجعل فنه موضوعًا لهذا الحديث.
لم يكد ريتشارد رايت يبلغ الأربعين من عمره وهو على ذلك يُقرَأ في أوروبا وأمريكا جميعًا، وأرجو أن يُقرَأ في الشرق العربي بعد حين؛ فما أعرف أنَّ الشرق العربي يحتاج إلى قراءة كما يحتاج إلى قراءة آثار ريتشارد رايت.
أما كتابه الأول «غلام أسود» فليس إلا ترجمة لحياته منذ عرف نفسه إلى أن أتم السابعة عشرة من عمره، وهو قد عرف نفسه صبيًّا لا يكاد يميز الأشياء، يعيش بين أب أسود وأم سوداء، ويعيش معه أخ أصغر منه سنًّا، والحياة في هذه الأسرة ضيقة ضئيلة ذليلة، ثم لا تلبث أن تزداد ضيقًا وضآلة وذلًّا؛ فقد هجر الأب زوجه وابنيه، وعاش مع امرأة أخرى سوداء، وترك هذه الأم البائسة تسعى على رزقها ورزق ابنيها، تجد في ذلك ما شاء البؤس والذل وفساد النظام الاجتماعي واستعلاء البيض على السود أن تجد من الجهد والمشقة والعناء.
وهي حين تسعى على رزْقِها ورِزقِ ابنيها تترُك هذين الصبيين البَائسين لأنفسهما أكثر النَّهار، فهما يعيشان في الشارع يخالطان أمثالهما من أبناء السود البائسين، ويُشاركانهم في كل ما يتعرضون له مما يُفسد التربية وينحط بالأخلاق إلى الدرك الأسفل، فهم يعبثون عبثًا مرذولًا، وهم يسرقون ويختلسون، وهم يتعرضون لضروب من الإهانة والازدراء والتغرير والتضليل لا تُطاق.
وهذا الصبي ريتشارد رايت نفسه يُحدثنا عن وقوفه أمام قهوة من القهوات الوضيعة، التي يختلف إليها السود ليشربوا فيها شرابًا بغيضًا، ثم عن استدراج الكبار له حتى يدخل القهوة، وعن عبثهم به حتى يشرب ما لا يُلائمُ سِنَّه ولا صحته، وحتى يضطر إلى السكر قبل أن يتجاوز السادسة من عمره، وحتى يتعلم منهم أبشع اللفظ وأقبح الفعل، وهم يُشجعونه على ذلك ليعبثوا به وليضحكوا من سُخفه في القول والعمل، حين يأخُذ منه السُّكْرُ مأخذه.
والصبيُّ يُحب هذا النَّوع من الحياة؛ لأنَّه وحيدٌ ضعيف أولًا، ولأنه جائع بعد ذلك، ولأن العابثين به يتيحون له شيئًا من طعام ويلهونه عن نفسه وعن جوعه وبؤسه بما يلقونه في جوفه من شراب، والحياة تثقل على أمه فتسلمه إلى ملجأ من ملاجئ اليتامى، تُحاول أن تضمن له شيئًا من التربية والمراقبة والتعليم، ولكن الصبي لا يُطيق الحياة في هذا الملجأ؛ لأنَّه لا يُطيق فراق أمه، ولأنه ألف الحياة الفارغة المتسكعة فهو يفر من الملجأ، وتضطر أمه إلى أن تُمسكه في بيتها دون أن تجد إلى ذلك سبيلًا.
وتعجز هذه المرأة آخر الأمر عن النهوض وحدها بهذا الثقل الثقيل فتنتقل بابنيها في مدن القسم الجنوبي من الولايات المُتَّحدة سَاعية على رِزقها ورزقهما ما وَسِعها السعي، فإذا لم تجد إلى الاحتمال سبيلًا لجأت بابنيها البائسين إلى أسرتها الحقيرة الفقيرة فعاشت وعاشا بين أمها وأبيها، وأختها المُعلمة في مدارس السود.
وتُحاول أنْ تُرسل الصبي إلى المَدرسة التي تُعلم فيها أختها، ولكنَّ الصبي لا يحب المدرسة ولا يحب خالته، يضيق بالنظام ويضيق بظلم خالته له، وما يزال يضيق بخالته وتضيق به خالته حتى يترك المدرسة ويعود إلى حياة التسكع والفراغ.
ثم تلم العلة بأمه حتى تثقل، ويُرْسَلُ الفتى إلى أحد أخواله ليعيش في ظله، ولكنَّ الأُمور لا تَسْتَقِيم له في هذا البيت الجديد؛ لأنَّه حرٌّ مُسْرِف في الحرية لا يحب أن يسمع ولا أن يُطيع، وإذا هو يعود إلى بيت الأسرة ليعيش بين أمه المريضة المثقلة وجدته البغيضة المتهالكة على الدين، وجده الساخط الذي انحاز إلى نفسه ولزم حجرته فلا تراه الأسرة إلا قليلًا.
والصبي يُثقل على نفسه ويُثقل على أسرته، والخُطوب تتقاذفه والجوع يُلِحُّ عليه، وجدته تحاول أن تخضعه لشيء من النِّظام؛ فلا تستطيع، وتُحاول أنْ تميل به نحو الدين فلا تجد منه إلا إباءً ونفورًا.
وهو على ذلك خالٍ إلى نفسه عاكفٌ عليها، قد استقرَّ في قلبه أنَّ كل من حوله من الناس وكل ما حوله من الأشياء عدو له، وأشد ما يؤثر في نفسه الناشئة ما يرى من استعلاء البيض على السود وظلمهم لهم واستعبادهم إياهم والاستخفاف بأمنهم وسلامتهم وحياتهم نفسها؛ فليس أَيْسَرُ على البيض من شتم الرجل الأسود ولكزه ووكزه وقتله لأيسر الأمور وأحقر الهنات.
قد استقر في قلوب البيض أنَّ السود لهم عدو خطر ضعيف، فيجب أن يستذلوهم وأن يمسكوهم في الفقر والجوع والهوان والحياة الخسيسة من كل نواحيها، واستقرَّ في نفوس السودِ أنَّ البيض لهم عدو قوي، فيَجِبُ أن يُكْبِروهم ويَخَافُوهم ويرهبوا بأسهم ويتنحوا لهم عن الطريق، ويخفضوا الأصوات إذا حدثوهم، ثم لا يحدثوهم إلا بما يُصَوِّر الخوف والإكبار والإجلال، ولكن الصبي يرى هذا كله ويفهمه حق الفهم ويشعر به أشد الشعور وأدقه، دون أن تطمئن نفسه إلى شيء منه؛ فهو لا يستطيع أن يُؤمن بأنَّ بينه وبين غيره منَ الناس فرقًا سواء أكانوا بيضًا أم سودًا، وهو من أجل ذلك يبغض الناس جميعًا، ويعكف على نفسه حتى كأنه يعيش في عالم مقصور عليه، يبغض البيض لظلمهم وكبريائهم، ويبغض السود لذلهم واستخذائهم، وهو من أجل هذا يعيش عيشة مُنكرة حقًّا: لا يَطْمَئن إلى أهله ولا إلى رفاقه لأنهم سود مُستذَلُّون والذلة لا تجد إلى نفسه سبيلًا، ولا يطمئن إلى البيض لأنهم طغاة مستكبرون، ولم تخضع نفسه للطغيان ولا للاستكبار.
وهو من أجل ذلك ومن أجل إصراره على بغض النِّظام ومُباعدة الدين قد فقد عطف أُسرته جميعًا إلا عطف هذه الأم المريضة، التي تثقل عليها العلة أحيانًا، وترفه عليها بين حين وحين.
وقد انتهى الأمر بالصبي إلى أن يسعى إلى المدرسة ويأخذ نفسه بنظامها في كثير جدًّا من المشقة والعَناء، وما أسرع ما يتفوق على رِفاقه السُّود ويَمْتَازُ منهم! وما أسرع ما يُحِبُّ الدَّرس! ولكنه جائع عارٍ وبائس يائس، فلا بد من أن يسعى على رزقه ورزق أُمِّه، ولا بد مع ذلك من أن يمضي في درسه.
وهو من أجل ذلك يخدم البيض أول النهار وآخره، ويختلف إلى المدرسة فيما بين ذلك، وخدمته للبيض لا تستقيم؛ فهو لا يقبل الأوضاع المألوفة بينهم وبين السود، وهو يُطرَد مرة ويترك العمل من تلقاء نفسه مرة أخرى، وهو على ذلك يسعى على رزقه وتعليمه، ويشقى بهذا السعي حتى يُتِمَّ المرحلة الأولى من مراحل التعليم.
والعادة أن المبرز من التلاميذ يُلْقِي خطبة يوم توزيع الإجازات، وهو المُبرز في سنته تلك، فسيكون إليه إذن إلقاء الخطبة، وهو يعد خطبته، ولكنَّ ناظر المدرسة يدعوه ذات يوم ويدفع إليه خطبة أعدها هو ليُلقيها كشَأنه مع التلاميذ جميعًا في كل عام، غير أنَّ الغُلام يرفض خطبة الناظر ويأبى إلا أن يلقي خطبته هو، والناظر دهش لهذا الإباء ثم ضيق به ثم ساخط عليه ثم منذر للغلام؛ لأنَّه مُعرِّض مستقبله للخطر إن أصر على هذا الإباء.
ورِفاقه يُلِحُّون عليه في أن يفعل كما فعل المبرزون من قبله وكما سيفعل المبرزون من بعده، وأهله يُلحون عليه كذلك، ولكنه يأبى ويستمسك بالإباء، ولا يعنيه أن يضيع مُستقبله، ولا يَعنيه أن يَصرِف عنه منصب التعليم في مدرسة من مدارس السود؛ فقد ألقى خطبته هو إذن لا خطبة الناظر، وظفر بشيء قليل من التصفيق وصَافحه نفر قليل من رفاقه، ثم عاد إلى أهله وقد صرف عنه منصب التعليم، وليس له بد من أن يسعى على رزقه ومعونة أسرته، وهو مع ذلك طامع في أن يبلغ حظه من التعليم الجامعي، ولكن كيف السبيل إلى هذا التعليم؟
هو إذن مُضطر إلى أن يستأنف خِدمة البيض؛ فهو يتنقل من دار إلى دار ومن متجر إلى متجر، لا يُتاح له الاستقرار إلا ريثما يفرض عليه القلق والاضطراب، حتى استيقن آخرَ الأمر أن لا مقام له في هذه البيئة التي يعيش فيها، وأنه مضطر إلى أن يتغرب ليحيا حياة مُمكنة مُحتملة.
ولكن كيف السبيل إلى التغرب وليس له حظ من مال؟ فهو يعمل كثيرًا ويكسب قليلًا، وينفق على نفسه وعلى أسرته ما يكسب، ويجوع دائمًا، لا سبيل له إلى أن يغترب إلا إذا سرق، وهو يرد هذا الخاطر عن نفسه ردًّا عنيفًا، ولكنَّ هذا الخاطر يُلِحُّ عليه إلحاحًا عنيفًا، ويَزْدَادُ إلحاحه عليه كلما تعرض — وما أكثر ما كان يتعرض! — للإهانة والعسف يأتيانه من البيض.
وهو ينتهي آخر الأمر إلى أن يسرق: يختلس مسدسًا من دار الجيران، ويختلس نقودًا من دار السينما التي كان يعمل فيها، ثم يأخذ القطار ذات صباح أو ذات مساء فيخرج من هذه المدينة التي يعيش فيها الظلم والذل جميعًا.
ويصل إلى مدينة ممفيس ومعه شيء من مال قد أخفاه في منطقته، وهو يريد أن يعمل في هذه المدينة حتى يجد من المال ما يُمكنه من أن يدعو أمَّه وأخاه ليلحقا به، ثم يعمل بعد ذلك حتى يجمع من المال ما يمكنه من أن ينتقل معهما إلى شمال الولايات المُتَّحدة حيث يستطيع السود أنْ يعيشوا دون أن يَتعرضوا لما يتعرضون له في الجنوب من الذِّلَّة والهوان.
وقد أُتيح له هذا العمل الذي كان يبتغيه، وأُتيح له كسب ملائم، ولكنه يؤدي في سبيل ذلك العمل وهذا الكسب جهدًا أي جهد، ويَلْقى في سبيلهما عناءً أي عناءٍ؛ فهو مُحْتقر منذ يُصبح إلى أن يمسي، وهو أقلُّ شقاءً بما يلقى من هذا الاحتقار منه بما يرى من اطمئنان أمثاله السود إلى هذا الاحتقار واتخاذه سبيلًا إلى الكسب، ويتملقون البيض ويُمكنونهم من المبالغة في إذلالهم ليكسبوا قليلًا من المال.
وربما كان أشد ما أمضه وثقل عليه إسراف البيض في الاستهزاء بالسود، وإغراءُ بعضهم ببعض حتى يقتتلوا أو يصطرعوا أبشع الاصطراع وهم ينظرون إليهم، ويسخرون منهم ويلهون بهم، وقد تعرض هو لبعض ذلك؛ فما زال سادته الذين كان يعمل عندهم يخوفونه زميلًا له أسود ويخوفون منه هذا الزميل ويغرون أحدهما بصاحبه، ولكنهما قاوما ما وسعتهما المقاومة ثم أذعنا آخر الأمر؛ لأنَّ زميله قَبِلَ أن يُلاكمه ويأخذ على ذلك أجرًا خمسة دولارات.
وقد حاول ريتشارد رايت أن يرفض هذه المُلاكمة، ولكن زميله ما زال به يُرَغِّبه في الدولارات ويُرهبه بأسه، ويُخَيِّل إليه أن الملاكمة لن تكون إلا ظاهرة مُمَوَّهة حتى استجاب له، ثم كانت المُلاكمة واجتمع السادة البيض لها كما يجتمع الذين يلعبون باختصام الديكة، ولم تكن المُلاكمة خيالية مموهة وإنما كانت مُرهقة مُهلكة أشرفت بهما على الموت.
وفي المصنع الذي كان ريتشارد رايت يعمل فيه كان يعمل أيرلندي كاثوليكي وكان رفيقًا بالسود وبرايت خاصة، وبفضله استطاع رايت أن يَستعير بعض القصص من مكتبة المدينة التي كانت وقفًا على البيض، فلم يكد يقرأ في هذه القصص حتى فُتِحَتْ له آفاق جديدة لم يكن يُقدرها ولا يفترض لها وجودًا، وإذا هو يصرف إلى القراءة عن كل شيء إلَّا عن العمل الذي يكسب منه قوته وقوت أسرته، ويستعينُ به على اقتصاد ما يُتيح له السفر إلى الشمال. وهو يستكشف في هذه القراءة شيئين؛ أحدهما: هذه الآفاق الجديدة التي كان يجهلها، آفاق تصوير الحياة ونقدها وتحليلها، وآفاق هذه الأنواع الكثيرة المُختلفة من الحياة التي يحياها الناس في أمريكا وفي أوروبا، والتي يُصورها كُتَّاب كثيرون أمريكيون وأوروبيون تُنقَل آثارهم أو يُتحَدث عنها فيما يُقرَأ من الكتب.
والثاني: هذه النفس التي كان يشقى بها، والتي لم يستطع قط أن يُذِلها أو أن يخضعها للذل، أو أنْ يتصور أنَّها أقل من نفوس البيض خطرًا أو أهون منها شأنًا، استكشف إذن في قراءته هذه الناس ونفسه، ولم يكن يعدل رضاه عن هذا الاستكشاف إلا تَكَفُّله للإقامة على حياته المألوفة حتى لا يفطن البيض إلى أن شيئًا من سيرته الظاهرة أو الخفية قد تغير، وحتى لا يَحُولُوا بينه وبين ما يسمو إليه من الهرب بنفسه إلى جو تَستطيع أن تنمو فيه نموًّا حرًّا ليس فيه عسف ولا إكراه.
وقد أُتِيحَ له ذلك آخرَ الأمْرِ؛ فهو يَختم كتابَه الرائِع بما كان يدور في رأسه من الخواطر حين كان القطار يمضي به نحو الشمال، ولم تكن هذه الخواطر تُصور سُخطًا ولا يَأسًا ولا جزعًا، وإنما كانت تُصور الرِّضا والأمل وحب الخير الذي يشمل السود والبيض جميعًا.
وقد لخصت لك هذا الكتاب تلخيصًا لا أقول إنه دقيق، ولا أقول إنه مُقارب، ولكنه على ذلك يصور أمرين خطيرين؛ أحَدُهما: هذا الجهاد العنيف الذي جاهده ريتشارد رايت منذ صباه الأول؛ ليُقاوم هذه المؤثرات الهائلة التي أفسدت على ملايين السود في أمريكا حياتهم واضطرتهم إلى ألوان من الذل والهوان، أقل ما تُوصف به أنَّها لا تُلائم كرامة الإنسان، وأنها تكذب هذا الغرور الذي يحمل كثيرًا من أمم الغرب على أن تزهى بما أتيح لها من الرقي والتفوق والامتياز في حياة العقل والشعور.
فليس من الحضارة في شيء، وليس من رقي العقل والشعور في شيء أن يَستعلي فريق منَ الناس على فريق فيستذلوهم ويعنفوا بهم أكثر مما يعنفون بالحيوان الأعجمي والآلة المُسَخَّرة، لا لشيء إلَّا لأنهم بيض، ولأن خصومهم سود.
وهذه المؤثرات قد انتهت بالسود في أمريكا أو بكثرتهم الساحقة إلى نتائجها الطبيعية، طال عليهم الاستذلال فهم أذلاء، وطال عليهم الاستعباد فهم يَحيون حياة العبيد، وهم من أجل ذلك يغرقون في الرذائل التي تقتضيها حياة الذل والخسف؛ فهم يكذبون ويسرقون ويقارفون آثامًا لا تُحصى ولا تُقدَّر، وهم يخافون، ويدفعهم الخوف المُنكر المُتَّصل إلى ضروب من الجُبن وهوان النفس ودناءة السيرة لا تكاد تَخْطُر لأحدٍ مِنَّا على بال.
وهم يتخذون هذه الحَياة المُنكرة نظامًا يرضونه ويَطمئنون إليه ويتنافسون فيه، فإذا شذ منهم شاذ فامتنع على هذا النظام أو أظهر الامتناع عليه فهم ينكرونه ويُقاومونه، كما ينكره البيض ويقاومونه.
وقد استطاع ريتشارد رايت منذ صباه الأول أن يُقاوم هذه المُؤثرات ويثبت لهذه المُقاومة على ما لقي في هذا الثبات من خطوب آذت نفسه وجسمه جميعًا؛ فهو لم يعرف الأمن ولا الرِّضا ولا اطمئنان القلب في يوم من أيام صباه، كما أنه لم يعرف الشبع ولم يأمن غائلة الحر والبَرد، ولم يُفلت من سخر الساخرين وعبث العابثين يومًا من أيام صباه أيضًا.
أما الأمر الثاني: فهو هذه الغفلة التي يعيش فيها العالم المتحضر في الشرق والغرب، بالقياس إلى هذه الدَّولة الضَّخمة الفخمة الهائلة التي تُريد الآن أن تَسُود العالم، وتُوشك أن تبلغ ما تريد؛ فالناس في الشرق والغرب يرونها نموذج الحضارة، ويتخذونها مثالًا للرقي، وهي مع ذلك ترى ملايين من النَّاسِ يُسامون أشنع ما يُسام الناس من ضروب الذُّلِّ والخسف والعسف والهوان، ثم لا تنكر ذلك ولا تُغيره، بل لا تحاول إنكار ذلك ولا تغييره محاولة مجدية.
والأمريكيون البيض من أهل الولايات المُتَّحدة قد هاجر آباؤهم من أوروبا فرارًا بحُرِّيتهم من العسف والخسف والهوان؛ فالاضطهاد في الدين والرأي هو الذي دفع كثيرًا من الأوروبيين إلى أن يهجروا وطنهم القديم إلى العالم الجديد؛ ليعيشوا فيه عيشة قِوامها العِزَّة والحُرِّية والاحتفاظ بكرامة الإنسان؛ فانظر إليهم كيف يُحرزون هذه الخِصَال لأنفُسهم ثم يضنون بها على غيرهم من الناس، وما أنكر وما ينكر أنَّ الأمريكيين قد ألغوا الرِّق الفردي وجاهدوا في سبيل إلغائه، وبلغوا من ذلك مع أوروبا ما حاولوا.
ولكن من المضحك حقًّا، والشر يضحك في كثير من الأحيان، وأبغضُ الشَّرِّ ما يُضحك، من المضحك حقًّا أن يُلغى بيع الإنسان وشراؤه ثم يُتاح لفريق من الناس أن يسوموا فريقًا آخر من الناس خطة ليست أقل شرًّا ولا نكرًا من تعريضهم للبيع والشراء.
فالأمريكي الأبيض لا يستطيع أن يشتري الأمريكي الأسود أو يبيعه، ولكنه يستطيع أن يعرضه للجوع والبؤس والمرض، ويفرض عليه حياة تضطره إلى اقتراف الجرائم المُنكرة، ويضربه متى شاء، ويقتله إنْ شاء أيضًا.
وأغربُ من هذا كلِّه أنَّ في الأمريكيين البيض من أهل الولايات المُتَّحدة طموحًا إلى الخير وسموًّا إلى المُثل العُليا لا يتكلفون ذلك ولا يتصنعونه، وإنَّما تدفعهم إليه نُفوسهم السَّاذجة، فهم يُدعون إلى الخير والبر والإحسان وإلى السلم والعافية وإلى التعاون والتضامن، وهم لا يترددون في أن يُجاهدوا في سبيل ذلك بنفوسهم وأموالهم، ولكنهم بعد هذا كله ينامون ملء جفونهم ولا يؤرق نومهم الهانئ الهادئ علمهم بأنَّ بضعة عشر مليونًا من السود الذين يُشاركونهم في الإنسانية والوطن والذين يُسامون بينهم سوء العذاب. والأمريكيون البيض هم الذين أذاعوا في الناس أسطورة الحريات الأربع ولكنهم لم يستطيعوا أو لم يريدوا إلى الآن أن يكفلوا بعض هذه الحريات الأربع لهؤلاء الملايين الذين يشاركونهم في الإنسانية والوطن واللغة والدين.
وإنه لمن المضحك حقًّا أنْ يُحاول الأمريكيون تأمين الناس في الشرق والغرب من العوز والخوف والظلم والعدوان، ثم لا يحاولون تأمين هؤلاء الملايين الذين يُقيمون بينهم من هذه الآفات التي يَصُبُّونها عليهم صبًّا حين يُسفر النهار وحين يُظلم الليل.
وخصلة أخرى ليست أقلَّ روعة مما قدَّمنا يُصَوِّرها هذا الكتاب أبرع تصوير وأروعه، وهي طموح هذا الصبي، وقدرته على أن يحتفظ بهذا الطموح، وقدرته على أن يزيد هذا الطموح، وقدرته على أن يبلغ ما كان يطمح إليه من التفوق والامتياز، لا بالقياس إلى أمثاله السود وحدهم بل بالقياس إلى هؤلاء البيض الذين حاولوا استرقاقه فلم يستطيعوا.
على أن ما أُتيح لريتشارد رايت من قهر ما قهر من المَصاعب وتذليل ما ذُلِّل من العقاب، والتخلص من هذه الجَرَائم والآثام التي كانت تدعوه دعاءً مُلِحًّا، لم يُتَح ولا يُمكن أن يُتاح لكثير من السود ولا لكثير من البيض إنْ أحاطت بهم ظروف كالتي تُحيط بملايين السود الأمريكيين.
ومن هنا تظهر الصلة القوية الرائعة بين الكِتابين اللذين أُحللهما في هذا الحديث، وأكاد أثق بأن الكتاب الذي فرغت من تحليله يُشبه أن يكون مدخلًا أو مُقدمة للكتاب الآخر الذي أريد أن آخذ في تحليله.
فالكتاب الأول يُصَوِّر لنا غُلامًا قهر ظروف الحياة التي تحيط بالسود في أمريكا، والكتاب الثاني يُصوِّر لنا غلامًا قهرته هذه الظروف. فهي واحدة بالقياس إلى الغلامين، ولكنَّ أحدهما وهو ريتشارد رايت قد تداركته رحمة الله؛ فأتاحت له النبوغ الذي استنقذه من الشر استنقاذًا، على حين أنَّ الغلام الآخر وهو بيجر توماس لم تدركه رحمة الله، وإنما خلت بينه وبين طبيعة الحياة المُنكرة التي فُرِضت على السود الأمريكيين فالتهمه الشر التهامًا.
ولستُ أدري أخطرت هذه الصلة لريتشارد رايت حين كتب هذين الكتابين أم لا، ولكني أعلم بعد التجربة أنَّ هذه الصلة موجودة مُحَقَّقة ليس في وجودها شك؛ فقد رأيتُ من قرأ الكتاب الثاني فضاق به ونبا عنه، وكاد يلحقه بالقصص البوليسية، فلما قرأ الكتاب الأول فهم الكتاب الثاني على وجهه ورده إلى مكانته المُمتازة من الأدب الأمريكي الرفيع.
ذلك أن حياة بيجر توماس توشك أن تكون هي الحياة التي صورها ريتشارد رايت لنفسه في كتاب «الغلام الأسود»؛ فبيجر توماس فتى قد قارب العشرين من عمره، وهو يعيش مع أمه السوداء البلهاء أو التي توشك أن تكون بَلهاء، ومع أخ له أصغر منه سنًّا وأخت تختلف إلى مدرسة تتعلم فيها الخياطة، والأربعة يعيشون في غُرفة حقيرة مُتهالكة تروعهم فيها الجرذان ترويعًا شديدًا، وهم يعيشون في هذه الغرفة الحقيرة مُختلطين أشنع اختلاط وأبشعه، حتى إن بعضهم ليضطر إلى أن يدير وجهه إلى الحائط أو إلى النافذة ليستطيع بعضهم الآخر أن يلبس ثيابه.
وهم يعيشون من الإحسان الذي يصيبهم من جماعة من هذه الجماعات التي توزع الخير على البائسين، وهذا الفتى قد نشأ فيما يظهر نشأة مُختلطة مُفرقة تشبه نشأة ريتشارد رايت، ولكنه لم يُقاوم ظروف السود التي أحاطت به ولم يقهرها، وإنما عرفها وأحسَّ شرها وضاق بها وخضع لها مع ذلك مع إنكاره لها، فهو يسرق ويكذب ويعتدي، ويرى أن هذا كله شر، ولكنه يرى أن هذا الشر لا بد منه لأنه مظلوم؛ فهو يسرق الظالمين ويخادعهم ويمكر بهم ويعتدي عليهم، لا يرى بذلك بأسًا بشرط أن يفلت من العقاب.
وهو من أجلِ ذلك بارعٌ في الحِيلة ماهرٌ في الكَيد حتى يبلغ ما يُريد، وهو قد جمع إلى هذه الخصال المُنكرة خصالًا أخرى ليست أقل منها نُكرًا؛ فهو مُتبطل مُتعطل مُحِبٌّ للكسل مُغرق في الأثرة عنيفٌ بأمه وأخته أبغض العنف وأقبحه.
ونحن نراه في أول القصة مُترددًا، قد عُرِض عليه عمل يتيح له أن يكسب رزقه ورزق أسرته، فهو لا يدري أيقبل هذا العمل فيُصبح سائقًا لِرَجل من أغنياء البيض أم يرفض هذا العمل فينقطع رزقه ورزق أسرته وتكف الجماعة الخيرة عن مَعونته بما ترزقه في كل أسبوع.
وهو في أثناء هذا التردد يُنازع نفسه ويُنازع جماعة من رِفاقه إلى اقتراف جريمة من هذه الجرائم التي تعودوا أن يقترفوها، جريمة السطو على رجل من التُّجار المُتوسطين حين يخلو الشارع من المَارَّة وينفرد هذا الرجل في مَتجره إذا كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وهؤلاء الفتية قد دبروا جريمتهم واستعدوا لها وكادوا يُقْدِمون عليها، ولكنهم مشفقون من أن يؤخذوا، فنفوسهم تقدم لتحجم، ثم تحجم لتقدم، ثم يكون بينهم شيء من الاختلاف فلا تقترف الجريمة، وينظر الفتى فإذا النهار قد تقدم، وإذا المساء قد أقبل، وإذا الموعد قد أزف للقاء هذا الفتى الأبيض الذي يُريد أن يتخذه لسيارته سائقًا.
وهو يسعى إلى دار هذا الفتى، ولا يكاد الباب يُفتَح له وتلقاه الخادم وتقدمه إلى سيدها حتى تثور في قلبه عواطف مُختلفة أشد الاختلاف؛ فهو مُبغض أشدَّ البغض لهذا الغني الأبيض، مُحتاج أشد الحاجة للعمل عنده، لو أطاع نفسه لهجم على هذا الرَّجل فاستلبه الحياة استلابًا، ولكنه لا يطيع نفسه، وإنما يُطيع حاجته إلى العمل وفقره إلى ما يُقيم أوده وأود هؤلاء الثلاثة الذين خلفهم وراءه والذين لا يجدون ما ينفقون.
وهو يسعى خلف هذا الرجل الذي يقوده إلى مكتبه، ولكنه يلقى في طريقه صورة تروعه، وتقع من نفسه موقعًا غريبًا: امرأة جميلة عمياء قد لبست البياض، وهي تسعى مُتحسسة من طريقها تُصاحب الجدار حتى لا تضع رجلها في غير موضعها، ويراها صاحب الدار فيرفق بها أشدَّ الرفق، فهي إذن زوجه وهي سيدة الدار.
ويبلغ الفتى مكتب هذا الرجل الغني ويأخذ مجلسه ويسمع لسيده الجديد، فإذا هو يتحدث إليه حديثًا رقيقًا عذبًا فيه كثير من العطف، وإذا هو يَعِده وعودًا مُغرية فسيدفع إليه أجرًا حسنًا، وسيكون عمله هينًا ويسيرًا، وسينزله من داره منزلًا وثيرًا، وسيعينه على أن يتم تعليمه في مدرسة من مدارس المساء، وهو يسمع هذا كله راضيًا به ساخطًا عليه في وقت واحد؛ راضيًا به لأنَّه مُحتاج إليه، ساخطًا عليه لأنه يأتيه من غني أبيض.
وإنهما لفي ذلك إذ تدخل فتاة في الثامنة عشرة من عُمرها رشيقة أنيقة عذبة الرُّوح خفيفة الظل حلوة الحديث، ولا تكاد ترى الفتى حتى تتحدث إليه في دُعابة وتسأله أمتصل هو بإحدى النقابات؟ وقد فهمنا أنَّ هذه الفتاة الخفيفة الذكية الخرقاء مفتونة بحرية السود وبحرية الطبقة العاملة وبالمذهب الشيوعي بوجه عام، وقد انصرفت الفتاة بعد أن ضربت موعدًا لهذا الغلام على أن يُؤديها في السيارة إلى الجامعة حين يقبل الليل.
وانصرف الفتى إلى المطبخ، فلقيته الخادم فأطعمته وسقته وبينت له من أمر سادته أنهم قوم كرام أخيار لا يبطرهم الثراء الضخم، ثم دلَّته على غرفته فإذا هي غرفة مُترفة حقًّا، ولكنَّ صورة الفتاة الحسناء قد ارتسمت في نفسه وأحاطت بها هالة من البغض المنكر.
وهو على كل حال قد أخرج السيارة وانتظر الفتاة حتى أقبلت، ولم يكد يخرج بها من الدار حتى وجهته وجهة غير وجهة الجامعة، ثم أفضت إليه في رشاقة وظرف بشيء من سِرِّها وطلبت إليه أن يكتم عليها أمرها؛ فهي لا تذهب إلى الجامعة وإنما تذهب للقاء صديق، وقد وقفت السيارة أمام دار ضخمة، ونزلت الفتاة فغابت لحظة ثم عادت ومعها فتى قدمته إلى الغلام فصَافحه الفتى، وأنكر الغلام الأسود هذه المُصافحة من فتى أبيض وسيم، ثم لم يلبث أن أنكر منهما كل شيء، فهما يتحدثان إليه حديثًا قد برئ من الكُلفة، وما يمنعهما من ذلك وهما شيوعيان لا يريان الفرق بين الألوان ولا يريان الفرق بين الطبقات؟ وهما يُريدان أن يتخذا من هذا الغلام الأسود رفيقًا لهما لا يعنيهما أنْ يكون أسود ولا أن يكون سائقًا لسيارة، بل هما يألفانه من أجل هاتين الخصلتين.
وهما يُلِحَّان عليه في أن يؤديهما إلى مطعم من مطاعم السود، وأن يختار لهما من هذه المطاعم مطعمًا أنيقًا، والفتى يُطيع، ثم يدعوانه إلى أن يُشاركهما في عشائهما، فيأبى فيُلِحَّان فيُجيب كارهًا.
وقد جلس ثلاثتهم إلى المائدة فطعموا وشربوا وتحدثوا، والغلام الأسود مُنْكِرٌ لهذا كله، مُستحٍ من هذا كله، يكره أن يراه نظراؤه السود يُؤاكل قومًا من الأغنياء البيض، ثم ينصرفون عن المطعم فيمضون للنُّزهة ويسرف الفتيان على أنفسهما وعلى الغلام الأسود في الشراب؛ فيشربان ويسقيانه حتى يأخذ السُّكر منهم جميعًا.
وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، وانصرف الفتى الأبيض قريبًا من دار الفتاة بعد أن ودع صاحبته وسقاها شيئًا من الخمر على أنها شربة الوداع، وقد تواعد الفتيان على أن يلتقيا بعد ثلاثة أيام؛ لأنَّ الفتاة ستُسافر من غد في أول النهار.
وبلغ الغلام الأسود بالفتاة دارها ووقفت السيارة، ولكنَّ الفتاة لا تستطيع حِراكًا قد أخذ السُّكر منها مأخذًا عظيمًا، يعينها الغلام الأسود على أن تخْرُج من السيارة، ولكنها لا تستطيع أن ترقى السلم، فيُعينها على ذلك، ولكنها لا تستطيع أن تدخل الدار لأنَّها لا تستطيع أن تستقل على قدميها، فيحملها الغلام الأسود بين ذراعيه، ويبْلُغ بها غرفتها بعد جهد شديد وقد وضعها على سريرها، ولكنه ليس أقل منها سُكرًا، وقد رأى بينها وبين صاحبها الأبيض ما أثار في نفسه شيئًا من الإغراء، وهو متردد يَهمُّ وما يكاد يفعل، والفتاة لا تعقل ولا تُقاوم. ولكن باب الغرفة يُفتح في رفق وتدخل منه هذه الصورة البيضاء الشاحبة التي تتقدم مُتحسسة من طريقها، وقد امتلأ قلب الغلام الأسود خوفًا وفرقًا يُشفق أن تنطق الفتاة فتنبئ بمكانه فتكون الكارثة، وأي كارثة أعظم من أن يُؤخذ غلام أسود مع فتاة بيضاء في غرفة نومها؟! وهنا يفقد الفتى صوابه وتستأثر به الغريزة، غريزة الدفاع عن النفس، فيأخذ وسادة ويضعها على فم الفتاة حتى لا تنطق، وهو يضغط على الوسادة والفتاة تضغط بأظافرها على يده، والأمُّ تدعو ابنتها، والغلام الأسودُ يُلِحُّ في الضغط، والأظافر تتراخى شيئًا فشيئًا، ثم تُنَحَّى الوسادة وينتقل الفتى من مكانه في رفق، والأم تدعو ابنتها وقد ألصق الغلام الأسود جسمه بالجدار والأم تسعى مُتحَسِّسة من طريقها حتى تبلغ السرير فتمس ابنتها وتنحني عليها، ثم تنصرف محزونة ترى أن ابنتها نائمة، ولكنها تشم رائحة الخمر فيحزنها أن ابنتها قد أمعنت في السكر.
وهي ترجع متحسسة من طريقها حتى تخرج وتغلق الباب من ورائها، ويدنو الفتى من السرير فلا يرُوعه إلا أن يرى أنه يخلو في هذه الغرفة إلى الموت.
فهؤلاء ثلاثة قد خلا بعضهم إلى بعض: غلام أسود، وليل حالك، وموت لا لون له. وقد أخذ عقل الفتى يثوب إليه شيئًا فشيئًا ويثوب معه الجزع والهلع، وتثوب معهما الغريزة التي تُريد أن تدافع عن نفسها وتفتح للعقل أبوابًا مُختلفة من الحِيل؛ فما عسى أن يصنع الفتى بهذه الفتاة الميتة؟ أيتركها ويمضي لوجهه ويَلتمس الهرب؟ ولكن هربه سيثبت عليه الإثم، ولن تلبث الشرطة أن تتعقبه وتأخذه، أيتركها ويذهب إلى غرفته لينفق بقية الليل؟ ولكنَّ أهلها سيجدونها ميتة إذا أصبحوا وسيبحثون ويستقصون وسيكون هو أول من يُوجَّه إليه السؤال. فكيف يُجيب؟ وما عسى أن يقول؟ وهنا يذكر الفتى أنَّه سمع الفتاة تتحدث بسفرها مع الصبي، وتتقدم إليه في أن يقوم مُبكرًا لينزل حقيبتها وليحملها هي إلى القطار.
فما هي إلا أنْ تخطر له هذه الخَاطرة حتى تتفتح له أبواب من الحِيل يرى بعضها واضحًا جليًّا ويتراءى له بعضها الآخر في شيء منَ الغموض والخفاء، وينظر فإذا الحقيبة بين يديه قد أُعِدَّت لتضع فيها الفتاة ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع، وما هي إلا أن يعمد إلى جثة الفتاة فيضعها في الحقيبة، ويحمل الحقيبة متكلفًا حملها ويسعى مُتلمسًا طريقه مُترفقًا في سعيه حتى يبلغ أدنى الدار، هناك حيث يقوم الموقد الضخم الذي لا تخمد ناره ليلًا ولا نهارًا، والذي علمته الخادم كيف يغذيه بالفحم حتى لا تخمد ناره ولا تضعف وكيف يُزيل منه الرماد إذا كثر فيه الرماد.
وما هي إلا أن يفتح باب الموقد ويدفع فيه بجثة الفتاة، ولكنَّ المَوقد لا يشتمل على الجسم كله فما زال الرأس خارجًا منه لا سبيل إلى رده، وينظر الفتى فإذا فأس من هذه الفئوس التي يُقطع بها الخشب، فما هي إلا أن يأخذها ويهوي بها إلى الرأس فيبينه من سائر الجسد، ثم يضعه في المكان المُلائم له من الموقد ثم يغلق باب الموقد وقد أسلم الجثة إلى نار لا تُبقي ولا تذر، ثم يرد أحد شطري الحقيبة إلى شطرها الآخر، ثم ينصرف وقد أحكم رأيه إحكامًا.
لقد أمرته الفتاة أن يُنزل الحقيبة إلى أسفل الدار وأن يغدو مُبكرًا ليَحملها إلى المحطة فلا عليه من أن ينفذ ما صدر إليه من أمر، فإذا سُئل عن الفتاة أجاب بأنه لا يعرف من أمرها أكثر من أنه عاد بها وبصاحبها إلى الدار، وصعد معها ومع صاحبها إلى الغُرفة فحمل الحقيبة وأنزلها، وأُمر أن يترك السيارة أمام السلم لا يردها إلى مكانها.
وقد أقبل مع الصبح فلقي الخادم وحمل الحقيبة، وسُئل فأجاب، ولم تُنكر الخادم من جوابه شيئًا؛ فالفتاة نزقة طائشة كثيرة العبث والمجون وكل شيء منها مُمكن، ويتقدم النَّهار حتى يُوشك أن يبلغ آخره، وإذا صاحبة الدار تسأله فيجيبها بمثل ما أجاب به الخادم، ويسأله صاحبُ الدار فيُعيد عليه نفس الجواب، فإذا كان الغد تلقت الدار دعاء من المحطة إلى أخذ الحقيبة التي تركت في مُستودع الودائع، فعرفت الأسرة أن الفتاة لم تُسافر، وجعلت الظنون تذهب بها كل مذهب.
وقد تبينت الأسرة أن الفتاة تركت كثيرًا من الثياب التي كانت تُريد أن تحملها في سفرها، ومهما يكن من شيء فقد استأثر الخوف بالأبوين جميعًا، ودعي السائق فتشدد في سؤاله الأب وتشدد معه بعض المتجسسين الذين يعملون له في شركاته الضخمة، وكان هذا المتجسس يُريد أن يتهم الفتى، ولكنَّ الأب يُدافع عنه، ويرى أنه فتى مُستقيم.
وإذن فلتلصق التهمة بهذا الشيوعي الشاب الذي أنفق مع الفتاة ليلته تلك، وقد أُخِذ هذا الشيوعي فأُلقِي في السجن، واستقامت للغلام الأسود أموره حتى طمع في أكثر مما بلغ.
ويجبُ أنْ نُلاحظ أنَّ هذا الغلام لم يكد يدفع الخوف عن نفسه ويُزيل أثر الجريمة حتى رضي عن كل ما فعل، وأحسَّ أن الجريمة قد كشفت له عن شخصيته، وردت إليه حُرِّيته وأتاحت له وجودًا لم يعرفه من قبل؛ فهو قد قتل فتاة بيضاء وحرق جسمها في النار، وروع بها أبويها، ودفع فتى أبيض بريئًا إلى السجن، وأخذ ما كانت الفتاة تحمل في حقيبة يدها من مال، وهو مع هذا كله مطمئن يذهب ويجيء ويأكل ويشرب وينام.
وهو إذن حُرٌّ، وهو إذن سيد نفسه، وهو إذن موجود على نحو ما يقول أصحاب الفلسفة الوجودية، وهو إذن مُحتمل تبعة كل ما أتى وكل ما يأتي من الأعمال. قد كانت شخصيته مغمورة، وكانت قوته وحيلته ومهارته مغمورة مع هذه الشخصية؛ فالآن وقد كَشَفت له الجريمة عن نفسه وعن قدرته وعن حيلته؛ فهو يستطيع أن يَصنع أكثر مما صنع، وأن يقدم على أكثر مما أقدم عليه.
وما يَمنعه أن يزوِّر كتابًا إلى الأُسرة يُنبئها فيه بأنَّ الفتاة مخطوفة أسيرة عند خاطفيها وبأنَّ من المُمكن أن تُرَدَّ إلى أهلها إذا وضعوا مقدارًا من المال في مكان ما؟ وما يمنعه إذا وُضِع هذا المقدار من المال في المكان الذي اختاره أن يأخذه وينفي به نفسه من الأرض إلى حيث يعيش آمنًا حُرًّا مُستمتعًا بشخصيته وقوته وذكائه وحيلته؟
ولكنه في حاجة إلى شريك يُعينه على إتمام هذا الكيد، وهذا الشريك قريب منه وهو خليلته السوداء التي شاركته في بعض الجرائم، والتي وصلت أسبابها بأسبابه في الخير والشر جميعًا؛ فهو يسعى إلى هذه الفتاة السوداء، ويأخذها بما تعود أن يأخذها به من الحب والعبث والسكر ثم يظهرها على بعض الأمر لا على الأمر كُله، ثم يُنبئها بما دَبَّر من حيلة ليحتاز عشرة آلاف من الدولارات، والفتاة تأبى وتُلح في الإباء، وتخوفه العاقبة، ولكنه يُرغبها ويُرَهِّبها ويُلهيها ويُسقيها حتى تظهر له الطاعة، وإذا هو يكتب الكتاب ويحمله إلى الدار ويلقيه من وراء الباب، ويُسرع إلى غرفته ينتظر فيها الأحداث.
وما هي إلا ساعات حتى يرى نفسه في أدنى الدار أمام الموقد، وقد أقبلت جماعات الصحفيين الذين يُريدون أن يعرفوا تفصيل ما ذاع من أنباء هذه الفتاة، وهم يسألون ويُلحون في السؤال، والفتى الأسود قائم أمامهم كأنَّه لا يعرف من الأمرِ أكثر من أنه رَدَّ الفتاة وصاحبها الأبيض إلى الدار حين تقدم الليل، وهما ثَمِلان، والقوم مقتنعون بأنَّ هذه الجريمة الغامضة أثر من آثار الشيوعيين.
ولكن صاحب الدار يُقبل فينبئ هؤلاء الصحفيين بأنَّه تلقى كتابًا يُحَدِّثه بأنَّ ابنته أسيرة، وبأنَّ عليه أن يفتديها بالمال، ثم ينبئهم بأنه سيدفع هذه الفدية، ثم يتقدم إليهم في أن يحتاطوا فيما ينشرون في صحفهم حتى لا يُفسدوا عليه الأمر، فهو لا يُريد إلا أن يجد ابنته.
وفي أثناء ذلك تقدم الخادم وقد حُمِلت أقداح القهوة إلى الصحفيين وتطلب إلى السائق أن ينظف الموقد، فقد تراكم فيه الرَّماد حتى كادت النارُ أن تخمد، وكان الغُلام الأسود سعيدًا لما سمع من حديث صاحب الدار، فسيوضع المال في المكان المُختار إذن، وستأخذه خليلته السوداء، وسيلقاها بعد ذلك ويفر معها من هذه الأرض، ليس بينه وبين الثراء والحُرِّية إلا ساعة أو بعض ساعة.
ولكن هذا الأمر الذي صدر إليه بتنظيف الموقد يملأ قلبه روعًا، فما عسى أن يكون في الموقد؟ وكيف السبيلُ إلى تنظيفه بمشهد من الصحفيين! وهو يتردد ثم يتثاقل، ولكنَّ النار قد أخذت تخمد وأخذ الدُّخان يتكاثف، ويُفسد على الصحفيين قهوتهم، فيتقدم الفتى ويفتح الموقد ويهم، ولكن يده لا تطيعه، وإذا هو واجم لا يصنع أو لا يكاد يَصنَعُ شيئًا؛ فينهض أحد الصحفيين ويأخذ المِسْحاة من يده، ويُحَرِّك الرماد ثم يحدق فيه، ثم يدعو زملاءه ثم يأخذون جميعًا في التحديق، والغُلام الأسود يسمع وكأنه لا يسمع ويرى وكأنه لا يرى، ويرجع أدراجه في رِفق كأنَّما يُخلي بين الصحفيين وبين الموقد، ثم ينسل من الدار ولم يشعر به أحد وقد انهارت آماله كلها انهيارًا، وعاد الخوف إليه كهيئته حين قتل الفتاة وأسلم جثتها إلى النار.
فقد استكشف الصحفيون في رماد الموقد عظامًا، واستكشفوا الفأس التي أبين بها الرأس، واستكشفوا بعض الحُلي الذي كانت الفتاة تحمله، ولم يبقَ للغلام الأسود إلا الهرب، ولكنه كيف السبيل إلى الهرب ومن ورائه شريكته تلك التي ستُؤخذ وتُسأل وتُرهق حتى تشهد عليه؛ فليتخفف من هذه الشريكة وقد فعل، فسعى إليها وأنبأها بأمره كله، واقتادها من بيتها تحت الليل إلى دار من هذه الدور الخالية التي تنتظر المُستأجرين، وفي هذه الدار خوَّفها وألهاها وسقاها حتى نامت، ثم عمد إلى لبنة فما زال يضرب بها رأسها حتى شدخه واستيقن أنَّ الفتاة قد ماتت، فألقاها من النافذة وسقط جسمها في فناء الدار.
ووجد مع ذلك سبيلًا إلى أن يخرج ويَشتري صحيفة، ويعلم منها أن الشُّرطة تبحث عنه وتدل عليه بصورته، وتُحاصر أحياء السود، وتُلقي بكثير منهم في السجون، وأنَّ الطرق المؤدية إلى المدينة قد أخذت على الخارجين منها والداخلين فيها، فلن يستطيع من المدينة خروجًا.
وهو إذن يُحاول أن يستخفي دون أن يخرج من المدينة ودون أن يترك هذه الدور الخالية، ولكنَّ هذه الدور تُفتَّش دارًا بعد دار، وقد دخلت الشُّرطة الدار التي يختبئ فيها فيصعد إلى السطح، وما تزال الشرطة به تطارده من مكان إلى مكان، وهو يُطاولها ويُراوغها ثم يواجهها بالمسدس، ولكنه يُؤخذ آخر الأمر بعد خطوب عرضها الكاتب أبرع عرض وأروعه.
وهو على كل حال قد أُخذ؛ والغريبُ أنَّه مُشْفِقٌ من الموت، ولكنه لا يحس ندمًا على شيء مما قدمت يداه.
وقد ظهرت براءة الفتى الشيوعي الذي تجنى عليه هذا الغلام الأسود، فرُدَّت إليه حريته، وأقبل ذات يوم مع محامٍ شيوعي على هذا الغلام في سجنه ينبئه بأنَّ صديقه المُحامي قد تطوع بالدِّفاع عنه، وبالدِّفاع عنه مُخلصًا مُؤمنًا بأنه يدافع عن الحقِّ الذي لا شك فيه.
والمدينة كلها ثائرة تُريد رأس هذا المُجرم، وليست الثورة مقصورة على البيض الذين وقع الاعتداء على فتاة من فتياتهم، وإنَّما السود يُشاركون أيضًا في هذه الثورة؛ لأنَّ المُجرم قد عرَّضهم لسُخط البيض وانتقامهم وأذاهم المُتصل؛ فهم يريدون رأس هذا الفتى الذي أيقظ الشرَّ وقد كان نائمًا، وجَرَّ عليهم عذابًا كان قد كف عنهم منذ حين.
وما أريد أن ألخص خير ما في هذا الكتاب، وهو تصوير حياة هذا الغلام الأسود في سجنه، وموقفه أمام قاضي التحقيق ثم أمام القضاة، ولا أنْ أُلخص موقف النيابة منه، ومن القضاء، ومن المحامي الذي تكلف الدفاع عنه، ولا أن أُلخص موقف الجماعات التي كانت تزدحم حول السجن لتقتل الفتى حين يخرج منه، أو حول المحكمة لتقتل الفتى حين يصل إليها، حتى كانت الشرطة تجد في حِمَايته من هذه الجماعة أعظم المشقة وأثقل الجهود.
وإنما أكتفي بتلخيص النظرية التي اعتمد عليها المحامي في الدفاع عن هذا المُجرم؛ فهو لم يُنكر الجريمة، ولم يُنكر استحقاق المُجرم للموت، ولكنَّه طلب إلى القُضاة أن يتعمقوا في الظروف التي حملت هذا الغلام على اقتراف جريمته أو جريمتيه.
فهذه الظروف ليست جديدة ولا طارئة، وإنَّما هي قديمة وهي مُتَّصلة أدق الاتصال وأوثقه بهذه الصلة القائمة بين حياة السود والبيض: قومٌ يستعلون ويستكبرون ويعسفون ويخسفون، وقوم آخرون يخضعون لهذا الاستعلاء والاستكبار، ويذوقون ألوان الذل والهوان، ويحاولون أن يخرجوا من ذلك إلى شيء من الأمن والدعة، فيرى البيض في محاولتهم هذه جموحًا وعدوانًا ويردونهم إلى حياتهم البغيضة أعنف الرَّد وأثقله.
لقد حاول هذا الفتى أن يخرج من طوره هذا المُنكر، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا؛ طمع في أنْ يعمل في الأسطول فعلم أنَّه لن يعمل فيه إلا خادمًا، وطمع في أن يعمل في الجيش فعلم أنه لن يعمل فيه إلا خادمًا، وفكر في أن يعمل في السلاح الجوي فعلم أن لا أمل للسود في هذا السلاح، وهَمَّ بأعمال أخرى فرُدَّ عنها في عنف كما رُدَّ عن هذه الأعمال؛ فاضطر إلى حياته تلك الفارغة إلا من المَوْجَدَةِ والحِقد وانتهاز الفرصة لاقتراف الإثم.
هو وأمثاله من السود خائفون من البيض يتربصون بهم الدوائر وينتظرون بهم المكروه، والبيض خائفون منهم يُمسكونهم في حياتهم هذه المُنكرة ويُسرفون عليهم في الإذلال، ويرون الشرَّ كلَّ الشر والنُّكر كل النُّكر في كل ما يَصْدُر عنهم من عمل.
وما دام الخوف هو أساس الحياة وقوام الصلات بين السود والبيض؛ فلن يمتنع ارتكاب الجرائم ولا اقتراف الآثام، وموت هذا الفتى إن قُضِي عليه بالموت لن يمنع من أن ينشأ فتيان آخرون أمثاله يملأون قلوب البيض روعًا وجزعًا، وينتهزون الفرص ليَقتلوا ويَسرقوا ويملأوا الأرض شرًّا، فإذا لم يكن بُدٌّ من عقاب هذا الفتى، فليُمسك في السجن إلى أن يموت، مع أنَّ عِقَابه لن يُغير من الأمر شيئًا، وإنَّما الذي يُغَيِّر الأمْرَ هو أن تصلح الحياة الأمريكية وتقام الصلات بين الأمريكيين، مهما تختلف ألوانهم، على نظام من العدل والمُساواة، وواضح أنَّ القضاة قد سمعوا لهذا الكلام، وقضوا على الفتى بالموت، وواضح كذلك أن المحامي قد التمس تخفيف العقوبة من الحاكم فلم يظفر بشيء، ولكنْ أوضح من هذا وذاك أنَّ الكاتب قد استطاع بصدق لهجته من جهة، وببراعته الفنية من جهة أخرى، وبِدِقَّة تصويره من جهة ثالثة، أن يملأ نفس القارئ بُغضًا لهذا المُجرم في الشطر الأول من كِتابه ورَحمة له ولأمثاله في الشطر الأخير من كتابه، وأن ينقلك في رفق رفيق من منزلة البغيض التي ليس بعدها بُغض إلى منزلة الرِّثاء الذي ليس بعده رثاء.
وأنت بعد هذا كله تقرأ هذين الكتابين، فما أسرع ما تنغمس مع الكاتب في الحياة الأمريكية حتى كأنك تَحياها مع أصحابِها لا أنَّك تقرأ أنباءها وصُورها في كتاب!
أتظُنُّني أُسرف حين أُثني على هذين الكتابين، وحين أتمنى على الذين يحسنون الإنجليزية، أن يتيحوا قراءتهما للذين لا يُحسنون هذه اللغة من الشرقيين؟