في الأدب الفرنسي (٢)
هذا كتاب أُتيح له في العام الماضي من النُّجْح، ما لم يُتح لكتاب فرنسي منذ أعوام طويلة، أجمع النقاد الفرنسيون، أو كادوا يُجمعون على الرضا عنه والإعجاب به، ولعله ظفر بأضخم طبعة عرفتها الكتب الفرنسية، منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد قدمه ناشِرُه لجائزة خطيرة من جوائز الأدب في فرنسا، وهي جائزة النَّقد، فظفر بها في غير مَشَقَّة، أو قُل: ظفر بها في غير امتحان؛ فقد صرَّح بعض المحكمين للصحف بأنه صوت لهذا الكتاب دون أن يقرأه، لأنَّه يمنح مُؤلفه ألبير كامو من حبه وثقته وإعجابه ما يُعفيه من قراءة كتابه قبل أنْ يمنحه الجائزة.
ولستُ أدري إلى أي حد يسوغ هذا في قضية العقل، وفي قضية النقد الأدبي الصحيح، ولكنَّه على كل حال يدل على المكانة الرفيعة الممتازة التي يرقى إليها ألبير كامو في نفوس النقاد الفرنسيين، بل في نفوس الأدباء والمثقفين والمفكرين الفرنسيين بوجه عام.
وسيرة المؤلف أثناء الحرب هي التي رفعته إلى هذه المنزلة؛ فقد وَفَّى لوطنه أثناء المِحْنة، كأحسن ما يَفي النَّاسُ لأَوطَانهم، وكأحسن ما يفي المُثقفون لأوطانهم، واحتمل في سبيل هذا الوفاء من الجهد والمَشقة والعُسر، ما لم يحتمله كثير من المثقفين الفرنسيين؛ ثم هو إلى ذلك نافذ البَصيرة، دقيقُ الفِطنة، صارِمُ الرَّأي، مُؤمن بالحرية، وبالحرية الواضحة الصريحة المستقيمة، التي لا تحب غموضًا ولا التواء.
وهو بعد هذا كله، أو مع هذا كله، كاتبٌ ممتاز، قد أخضع اللغة الفرنسية لسلطانه الصارم السمح معًا؛ فبرع في الوصف إلى حيث لا يكاد يُباريه أحد من مُعاصريه، وبرع في اليُسر إلى حيثُ لا يشق فهمه على أحد، ثم هو بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ليس صاحب امتياز في البيان وحده، ولكِنَّه صاحبُ امتياز في التفكير أيضًا؛ فهو أديبٌ بأدَقِّ معاني هذه الكلمة وأوسعها، وهو فيلسوف بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها أيضًا، له مُحاولات رَائعَة في فهم الحياة وتفسيرها، وفي استكشاف الصلة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وفي تفسير الوجود من حيث هو وجود، وفي تفسير المصير الذي أُتيح للإنسان أن ينتهي إليه.
والمثقفون جميعًا يعرفون مذهب ألبير كامو في العبث، وكثير منهم قرءوا دون شك كتابه الرَّائع المَشهور أُسطورة «سيزيف». وأسطورة هذا البطل اليوناني مَعروفة؛ فقد قُضي عليه أنْ يظل في دار الموتى مُقبلًا على صخرة عظيمة، يرفعها من سفح الجبل إلى قِمَّته، يلقى في ذلك الجهد والنَّصب والعناء، حتى إذا ارتقى بالصخرة إلى القمة رآها تُدْفَعُ إلى الانحدار بقوة لا يملك لها ردًّا، حتى تصل إلى حيث كانت من القاع، ورأى نفسه مضطرًّا بحكم القضاء إلى أن يستأنف الجهد والنَّصَب والعناء، فيدفع الصخرة ليرفعها إلى القمة، وما يزال يرقى بها إلى أعلى الجبل، وما تزال تنحدر به إلى القاع، إلى آخر الدهر، إنْ كان للدهر آخر.
فهذا الجهد الذي يبذله، وهذا النصب الذي يلقاه، وهذا العناء الذي يشقى به، عبثٌ مُتَّصل ليست له غاية يقف عندها ولا حد ينتهي إليه، ولا غرضٌ يبتغى منه.
والعالم عند ألبير كامو شيء يُشبه هذا الجهد الذي يبذله البطل اليوناني في غير طائل، فليس للعالم غاية ينتهي إليها، ولا حد يقف عنده، ولا غرض يبتغى منه، وإنَّما هو ماضٍ في هذا الوجود العابث إلى غير غاية، ولا أمد، وإلى آخر الدَّهر إن كان للدهر آخر.
والإنسان في هذا العالم مَدْفُوع إلى مثل ما دُفع إليه العالم، من هذا العبث الذي لا ينتهي إلى غاية، ولا يُحقق غرضًا، وليس بينه وبين غيره من الكائنات التي يأتلف منها العالم فرق إلا أن له شعورًا وعقلًا؛ فهو يحس الجهد العنيف الذي يبذله، ويجد النصب الناصب الذي يلقاه، ويأسى للعناء البغيض الذي يشقى به، ويُحاول أن يفهم جهده ونصبه وعناءه، فلا يصل إلى شيء، أو يصل إلى ما يُخيَّل إليه أنَّه حلٌّ للمُشكلة، وتفسيرٌ للغز، ولكنَّه إذا تعمق ما يصل إليه من حل وتفسير لم يجد وراءه شيئًا؛ فهو مصعد في الجبل دائمًا وأمامه صخرته تلك، وهو مصوب في الجبل دائمًا وأمامه صخرته تلك، وهو ينفق الدهر كله في تصعيد وتصويب تتابع أجياله على ذلك، رافعة للصخرة إلى القمة، مُنحدرة معها إلى القاع.
ومهما يفعل الإنسان فلن يستطيع أن يُغير من هذا العبث شيئًا، ولكنه مع ذلك حُرٌّ في حدود هذا العبث، يستطيع أن يلائم بينه وبين نفسه، وأن يختار من أطوار الحياة والتفكير والعمل ما يريد، وأن يُحقق ما يختار مما تُساعده الظروف على تحقيقه.
يستطيع أن يؤثر لونًا من الحياة على لون، وضربًا من التفكير على ضرب، وفنًّا من التصرف على فن، ولكنه لا يستطيع أن يجعل للوجود غاية أو غرضًا، ولا يستطيع أن يُغَيِّر أنَّه دُفع إلى الحياة غير مُختار، وسيُدفع إلى الموت غير مُختار، فحُرِّيته محدودة بهذين النوعين من الجبر، فليصطنع الحِكْمة إنْ شاء، وليصطنع الحُمْق إن أحبَّ، فلن يَخْرُج من هذه الحلقة المُفرغة بحال من الأحوال.
ويَمضي ألبير كامو في الملاءمة بين مذهبه هذا اليائس، وبين الحياة التي يَحياها النَّاسُ على اختلافها وتَباين مَنازلهم فيها وحظوظهم منها، ثم هو لا يكتفي بهذا الكتاب، ولكنه ينتقل بمذهبه هذا إلى القصص، وإلى التمثيل؛ فقصة الغريب، ومسرحية كاليجولا، وسوء التفاهم، ليست في حقيقة الأمر إلا محاولات للملاءمة بين هذا العبث الأساسي، وبين حُرِّية الإنسان.
والكتاب الذي أتحدث عنه يعرض هذه المُشكلة عرضًا واضحًا جليًّا، وهو من أجل ذلك يُثير الرَّغبة كل الرَّغبة في البحث والجدل والاستقصاء.
ويجبُ أن أقول: إن العنوان الذي اتخذته لهذا الحديث، ليس هو العنوان الدقيق لهذا الكتاب؛ فعنوان الكتاب هو «الطاعون». وقد كرهتُ أن أجعل هذا اللفظ البشع عنوانًا لهذا الحديث، وكنت أريد أن أتحدث إلى القارئ عن هذا الكتاب، إثر عودتي من فرنسا، في أول الخريف الماضي، ولكنِّي وجدتُ مصر موبوءة بالكوليرا، ووجدت حديث الوباء فيها شائعًا مُستفيضًا، كما كان الوباء نفسه شائعًا مُستفيضًا؛ فكرهت أن أتحدث عن الوباء، وأجَّلتُ الحديث إلى فُرصة أخرى، ثم أُنسيته، ثم شُغلت عن تَذَكُّره حتى كان شهر مارس.
فإذا حديثان يُلقَيان إلى الجمهور المثقف باللغة الفرنسية عن هذا الكتاب، يُلقِيهما حَبْرَان جَليلان من أحبار المسيحية الكاثوليكية، أحدهما: الأب زوندل، وقد ألقى حديثه في دار السلام، والآخر: الأب بونتيه، وقد ألقى حديثه في نادي الشبيبة.
وقد استمعت لهذين الحديثين، فذكرت ما كنتُ قد أُنسيت، ورأيتُ أن أتحدث إلى قراء هذه المجلة عن هذا الكتاب، على نحو ما كنتُ أُريد أن أَتحدَّث إليهم عنه في الخريف، وليس غريبًا أن يُثير هذا الكِتَابُ اهتمام المسيحيين، واهتمام أحبارهم خاصَّة، بل من الطَّبيعي أن يُثير أحبار الديانات كلها؛ لأنَّه يضع موضع البحث مصير الإنسان من جهة، ويضع موضع البحث موقف العقل من الدين، أو موقف العقل من الإله من جهة أخرى.
وهو يضع هذه المشكلة وضعًا صريحًا في هذا الكتاب؛ لأنَّه ينطق حبرًا من أحبار الكاثوليكية برأيه في الصلة بين الإنسان وخالقه، ثم ينطق فريقًا من الذين لا يُؤمنون بما ينقض آراء هذا الحبر المسيحي، ففي الكِتاب شيءٌ من التَّحدي لم يُوجد في الكُتب الأخرى التي عَرَض فيها ألبير كامو مذهبه هذا في الوجود.
ولاحظ قبل كل شيء أني قد قرأتُ هذا الكتاب أثناء الصيف الماضي، وأقبلتُ على قراءته مَشغوفًا بها، مُشوقًا إليها أشد الشوق؛ لأني أُحِبُّ الكاتب وأُعجبُ بفنِّه، ولكني لم أكد أمضي في قراءة الكتاب، حتى أدركني شيءٌ من خيبة الأمل، ثم أخذتُ أَضيقُ به وأمضي في قراءته كارهًا للمُضي فيها.
ولو قد استجبتُ لميولي الأدبية لما أتممتُ قراءة الكتاب، ولكني لا أكادُ أبدأ كتابًا حتى أفرض على نفسي إتمامه، مهما يكُن رضاي عنه، أو سخطي عليه، تفرض ذلك عليَّ طبيعتي التي تُحِبُّ الاستقصاء، وصِنَاعَتي التي تَفرض علي الاستقصاء فرضًا، وتدفعني إلى أن أتهم نفسي ولا أحفل بما يثور فيها من رضا أو سخط، ولا أجعل رضاها أو سخطها وسيلة إلى الحكم للكتاب أو الحكم عليه.
ومصدر هذا الضيق الذي وجدتُه أثناء هذه القراءة أنَّ الكاتب أخلف ظَنِّي، فقد كُنْتُ أنتظر أنْ أقرأ آية أدبية ﮐ «الغريب»، أو ﮐ «اليجولا»، أو «سوء تفاهم»، أو كنتُ أنتظر أن أقرأ دراسة فلسفية مُتقنة كأسطورة سيزيف، فإذا أنا أمام شيءٍ ليس هو بالقصص الخالص، ولا هو بالفلسفة الخالصة، وإنَّما هو مُحاولة لشيء بين ذلك، يُريد أن تكون قصة تروع بالفنِّ الأدبي فلا يبلغ ما يُريد، ويُريد أن يكون درسًا يروع بدقة البحثِ وحُسن الاستقصاء فلا يبلغ ما يُريد.
وقد عرض علينا ألبير كامو في كِتابه هذا مدينة بعينها هي مدينة وهران في الجزائر، تَصَوَّر أنها قد امتُحنت ذاتَ يوم بوباء الطاعون؛ فهو يعرض علينا كيف استقبلت المدينة هذا الوباء شاكَّة فيه سَاخِرة منه أول الأمر، وكيف استقبلت هذا الوباء بعد أن انجلى الشَّكُّ وأبانت الكارثة عن نفسها في غير غموض، فكان الذُّعر والهلع، وكان تردد الحكومة وتلكؤها وتقصيرها.
ثم كيف استقبلت المدينة هذا الوباء حين عَظُم أَمْرُه، واشْتَدَّ فَتْكُه وأصْبَحَ خطره شنيعًا، فقُطِعت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي، وضُرِبَ عليها حصار شديد قاسٍ يمنع الخروج منها والدخول إليها، ويعزلها عن العالم عزلًا تامًّا، لولا البرق الذي ينقل أطرافًا من أخبارها إلى الدنيا، وينقل إليها أطرافًا من أخبار الدنيا، ويُتيح لبعض أهلها في كثير من المَشَقَّة والجهد، أن يتصلوا بذوي قُرباهم في المواضع النائية عنهم.
وكل هذا التصوير صادق كل الصدق، دقيقٌ كلَّ الدقة، قد شهدناه إلى حد ما في الأشهر القليلة الماضية، وتصويرٌ آخر لحال المدينة ليس أقل صدقًا ولا دقة من هذا التصوير، وذلك حين يعرض الكاتب ما يكون من الصِّلة بين الحكومة وبين الشعب أثناء المحنة، فالحكومة في أول الأمر قد فوجئت بالكارثة، لم تكن تنتظرها ولم تكن قد استعدت لها؛ وهي من أجل ذلك تُنكر الكارثة مُخلصة، ثم مُتكلفة، ثم مُكابرة، ثم تضطر إلى الاعتراف بما ليس بد من الاعتراف به، ثم تتخبط في مواجهة الكارثة، فيكثر خطؤها ويقلُّ صوابها، ثم تلتجئ إلى العالم الخارجي تَطْلُب منه المعونة والغوث، ثم تنتهي آخر الأمر إلى الحزم الجاد حتى يزول الوباء. وهي في أثناء هذا كله لا تقول للناس من أمر الكارثة وتطورها وفتكها وضحاياها إلا ما تُريد هي أنْ تقول، وبين ما تقوله للناس وبين الحقائق الواقعة بونٌ شَاسِعٌ وأمد بعيد دائمًا.
وليست حال الشعب نفسه بخير من حال الحُكومة؛ فالشعبُ يشك ثم ينكر، ثم يتكلف ثم يُكابر، ثم يُذعِن للحقيقة الواقعة، ثم تختلف به المذاهب بعد ذلك، فأمَّا الفُقراء فيُذْعِنُون في غير مُقاومة ويُؤدون إلى الوباء ضريبته فادحة؛ وأما الأغنياء فيُؤْثِرون أنفسهم بأسباب الوِقَاية والعلاج ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، وأما أوساط الناس فيتذبذبون بين أولئك وهؤلاء بمقدار حظهم من اليُسر وسعة ذات اليد، وقد حُوصرت المدينة، وفُرضت عليها الأحكام العُرفية وقُتِّر على أهلها في الرِّزق؛ فشقي الفقراء إلى غير حد، ونَعِمَ الأغنياء ما استطاعوا أن ينعموا، واضطرب أوساط الناس بين الشقاء والنعيم.
وتكشفتْ الأخلاق عن مَكْنُونها، فكانت الأَثَرَةُ، وكانَ الاحتكار، وكان ما ينشأ عنهما من التنافس والتَّباغُض والاحتيالُ إلى آخر هذه الرَّذائل التي تتكشف عنها الإنسانيةُ حين تُلِمُّ بها الخطوب، وتُلِحُّ عليها الكوارث.
وفي أثناء هذا الشر كله يظهر شيء من خير قليل، ولكنه قيم مُنتَج قوي، يستطيع أن يقهر الشرَّ شيئًا فشيئًا حتى يمحوه وحتى يطرد الوباء عن المدينة، ويرُدَّ الناس إلى ما ألفوا من حياة، أو يرد إلى الناس ما ألفوا من حياة. فهؤلاء الأطباء الذين يَعرفون الوباء ويُحققون خطره، ويُصممون على مُقاومته ما وسعتهم هذه المقاومة، لا يَدَّخرون في سبيل ذلك جهدًا، ولا يبخلون بقوتهم مهما تكن، ولا يترددون في التضحية براحتهم وأمنهم»، وفي التعرض للخطر مُصبحين ومُمسين، ولا يبتغون على ذلك أجرًا لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولأنهم يرون أن أجور الدنيا ليست بذات خطر ولا غناء، فهم أعداء الوباء لأنَّه الوباء، وهم حُماة الحياة والصِّحة لأنَّهما الحياة والصحة، لا أكثر ولا أقل.
هذه هي الخلاصة الظاهرة للكتاب، وهي كما ترى يسيرة قريبة، لا عُسر فيها ولا بُعد، وهي كما ترى لا تدل على عمق في التفكير ولا على براعة في الابتكار، ولكن هذه الخلاصة الظاهرة ليست إلا أيسر ما في الكتاب، بل قُل: إنها ليست إلا رمزًا ضئيلًا للحقيقة التي أراد إليها الكاتب حين ألَّف الكتاب؛ فهو لم يرد إلى مدينة وهران ولا إلى غيرها من المدن، وهو لم يقصد إلى الطاعون ولا إلى غيره من هذه الأوبئة التي تُلم بالناس بين حين وحين، وإنَّما أراد إلى ما هو أعظم من ذلك شأنًا، وأجلُّ خَطرًا، وأكثر شُمولًا.
فمدِينةُ وهران رمز لفرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية التي اجتاحتها الحرب، واحتلها العدو وعزلها من العالم الخارجي عزلًا تامًّا، والطاعون هو الحرب والاحتلال والبطش والنكال. والشعب الذي انقسم هذا الانقسام، وتفرقت طوائفه هذا التفرق، وتكشفت أخلاقه عن هذه السيئات الكثيرة والحسنات القليلة، واحتمل ما احتمل، وقاوم ما قاوم حتى انجلت عنه الغمرة، هو هذه الأمم التي اصطلت نار الحرب، وخضعت لنكر الاحتلال، والأطباء والمتطوعون الذين جاهدوا بأنفسهم وضحوا بحياتهم حتى جلوا هذه الغمرة، لم ينتظروا على ذلك أجرًا هم قادة المُقاومة وزعماء الجهاد.
بل إن هذه الحقيقة نفسها ليست إلا رمزًا لحقيقة أخرى أعم منها وأكثر شمولًا؛ فمدينة وهران ليستْ في حقيقة الأمر إلَّا الأرض كلها، وشعب وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الإنسانية كلها، وطاعون وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الشر الذي يُلم بالناس في جميع المواطن والعصور، وأطباءُ وهران ومُتطوعوها ليسوا إلا المُفكرين والمثقفين والمُصلحين والفلاسفة، الذين يبذلون ما يملكون من جهد لوقاية الإنسانية وحمايتها مما يلمُّ بها من الشر، ويَصْعب عليها من المكروه.
فالكتاب — كما ترى — يسيرٌ قريبٌ في ظاهره، ولكنَّه أشدُّ عمقًا وأبعد مدًى مما يُخيِّل إلينا هذا اليُسر؛ لأنَّه في أيسر صورتيه الرمزيتين، إنَّما يعرض جزءًا غير صغير من العالم الذي اصطلى نار الحرب، وما ألم بهذا الجزء من الخطوب والمشكلات، وما بدا فيه من مظاهر الضعف والقوة وألوان الجبن والبطولة، وهو في أشد صورتيه عُمقًا وتعقيدًا، إنَّما يضع قصة الإنسانية كلها موضع البَحث، ويعرض قضية الخير والشر كلها على العقل، ويُحاول أن يجد جوابًا لهذا السؤال الذي تُلقيه الإنسانيَّة العاقلة على نفسِها منذ عقلت، وهو: ما مصير الإنسان؟
وهُنا يسأل القارئ نفسه قبل كل شيء: هل وفق الكاتب توفيقًا أدبيًّا حين اختار هذا الرَّمز الضئيل النَّحيل لهذه المُشكلة الكبيرة الخطيرة، وهي حالُ العالم الذي اصطلى نار الحرب؟ ثم هل وُفِّق الكاتبُ توفيقًا أدبيًّا حين اختار هذا الرَّمز الضئيل النحيل لهذه القضية الكبرى؛ قضية الإنسان بين الخير والشر، وقضية الإنسان بين العقل والدين؟
أمَّا أنا فأعتقد أن التوفيق الأدبي قد أخطأه إلى حد بعيد، لا لأنَّ الرمز ضئيل نحيل، فمن طبيعة الرمز أن يكون ضئيلًا نحيلًا بالقياس إلى ما يرمز إليه الكاتب من المسائل الكبرى والمُشكلات الضخام، ولكنْ لأنَّ هذا الرمز الضئيل النحيل قد احتاج إلى تفصيل كثير لا يُلائم ضآلته ونحولته؛ فمدينة وهران قد فجأها الطاعون كما أن العالم قد فجأته الحرب، ومدينة وهران قد شقيت بالطاعون، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهلها من خِصال الخَير والشر، كما أنَّ جُزءًا منَ العالم قد شقي بالحرب التي أذلته، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهله من خصال أهله من الذلة والعزة، والضعف والقوة والخور والجلد، والأثرة والإيثار.
كل هذا حق لا شك فيه، ولكنَّ دقائق الرمز قد احتاجت إلى إغراق في التفصيل، أخرجه عن أن يكون رمزًا؛ فوصف الطاعون وصفًا مُفصلًا، يُصور أعراض العلة ومظاهرها وتطورها، ودقائق علاجها وأعقابها وعقابيلها، وآثارها في نفوس القريبين منها والبَعيدين عنها، كلُّ ذلك يُبعدنا عن الرَّمز ليُغرقنا في دقائق الحياة الخاصة؛ فنحنُ في مدينة قد أَلَمَّ بها الطاعون وألح عليها، ونحن مَشغُولون بهذه المدينة البائسة المُعَذَّبة، وبهذا الوباء الذي تُفصَّل دقائقه تفصيلًا، عن التفكير في أوروبا المغلوبة على أمرها، المُمْتَحنة بالبطش والعسف والاحتلال.
بل نحنُ مصروفون إلى هذه المدينة البائسة المعذبة، وما تلقى من هذه الأهوال اليومية الذي تفصل دقائقها تفصيلًا، عن التفكير في الإنسانية حين يُلِمُّ بها الشر وتَدْلَهِمُّ من حولها الخطوب، لولا أنَّ الكاتب يضطرنا إلى هذا التفكير بما يُدير حول بعض الأشخاص من حوار يتجاوز المحنة الخاصة إلى الشر العام، وبما يُسجل هو من مُلاحظات تتجاوز مدينة وهران ومحنتها، إلى طبيعة الحياة الإنسانية وما يختلف عليها من الكوارث والأحداث.
فالقارئُ قَلِقٌ مُضطرب مُتردد لا يدري أهو بإزاء رمز مُجمل يُشير إلى أحداث خطيرة وقضايا عويصة، أم هو بإزاء قضية بعينها لا يُريد الكاتب أن يبعد به عنها، وإنَّما يُريد أن يتعمقها معه تعمقًا، وهي امتحان وهران بهذا الوباء.
ذلك أن الكاتب أراد أن يكون موضوعيًّا — كما يُقال — فجعل نفسه قاصًّا يروي أحداثًا سَجَّلها أثناء هذه المحنة، وقد برَّأ نفسه من الذاتية التي تجعل للعواطف والأهواء والميول والفنِّ أثرًا أي أثر فيما يروي من الأحداث.
وهذا النوع من تكلف الإعراض عن الفن والإلحاح في الرواية الموضوعية، قد يكون في نفسه فنًّا رائعًا، ولكن الكاتب لم يحسنه، فقصصه مُمِلٌّ في كثير من المواضع كأنَّه يتكلف شيئًا لا يُتقنه، وهو مِنْ أَجْلِ هذا يُثقل على القارئ بعض الشيء، وما أُحِبُّ أن أظلم الكاتب، فقد ينبغي أن أسجل أنه برع البراعة كلها في القسم الأول من كتابه، فأنشأ البيئة الفنية أحسن إنشاء وأجوده.
وقد تحدث إليَّ غيرُ قارئ من الفرنسيين في باريس عن هذا الكتاب حين بدأت قراءته؛ فقال لي غير واحد منهم: لن تستطيع أن تُفتن بالكتاب قبل أن تفرغ من ثلثه الأول، ولكني فرغت من ثلثه الأول والثاني والثالث، ونَظَرتُ فإذا أنا مفتونٌ بثلثه الأول دون ثلثيه الأخيرين؛ ذلك لأنَّ الكاتب أرسل نفسه على سجيتها حين ابتدأ كتابه؛ فهذا طبيب يخرج من منزله في طابق من الدار الكبيرة التي يسكنها، فيرى في الدهليز فأرًا ميتًا، ويلفت البواب إلى مكانه؛ فيغضب البواب لأنَّ داره نظيفة لا يُمكن أن يوجد فيها فأر ميت.
ثم تمضي الأحداث في يُسر يسير على هذا النحو، حتى يعود الطبيب ذات يوم، فإذا البواب يعترف بكثرة الجُرذان التي تموت، ثم يعودُ ذات يوم فإذا البواب نفسه عليل؛ فيُحاول علاجه؛ حتى إذا ثقل نقله إلى المُستشفى، فمات في أثناء الطريق، كل هذا يصور ابتداءً رائعًا لكتاب يُريد أن يصف إلمام الطاعون بمدينة من المدن، وأمر هذا الطبيب والبواب ليس إلا مثلًا؛ ففي المدينة قوم آخرون يمرون بالجرذان الميتة، فيُنكرون ثم يرتابون ثم يُذعرون، والحكومة تتنبه شيئًا فشيئًا، فتُنكر وترتاب وتُذعر، وتُحاول أن تُهدئ الشعب، ثم ترى نفسها أمام الحقيقة الواقعة، فتأخذ الشعب بالقوة والحزم.
وهذا كله يُذَكِّرُ القارئ بما كان من نذر الحرب الأخيرة حين كانت الأحداث اليسيرة تحدث فيلتفت إليها أصحاب الأنظار البعيدة، ويعرض عنها أصحاب الأنظار القصيرة، وتكون الحكومات بين هؤلاء، ولكنَّ الأحداث الصغيرة تكثُر وتنتشر، كما تكثر الجرذان الميتة وتنتشر، فيكون الشكُّ، ثم يكون الخوف، ثم يكون الذعر، ثم تكون مواجهة الحقيقة الواقعة البشعة.
ولو أنَّ الكاتب مضى في سائر كتابه على النَّحو الذي مضى عليه في أوله لأهدى إلينا كتابًا رائعًا، ولكنَّه لم يَلْبَث أن تعثر في التفصيلات والدَّقائق الخاصة، فأفسد الكتاب على نفسه وعلينا جميعًا.
وأُخرى لا بد من تسجيلها رعاية لما ينبغي من الإنصاف؛ فقد صور الكاتب جماعة من أشخاص الكتاب تصويرًا دقيقًا صادقًا حقًّا، فهذا الطبيب الذي رأى الجرذ الميت، وسبق إلى الإنذار بوباء الطَّاعون، واستقبل الجهاد في ثبات وأناة، وتضحية وتواضع لا ينتظر أجرًا، ولا يُريد إلَّا أن يقهر الوَباء وينقذ الحَياة من شَرِّه، وهذا الصحفي الذي فجأه الوَباء في المدينة، وهَمَّ أن يخرج منها ليلحق بمن يُحب، واحتال في هذا الخروج وبذل فيه الممكن وغير الممكن من الجهد، فلما استيأس من ترك المدينة أقبل على الطبيب، فتطوع للجهاد وأبلى فيه أحسن البلاء.
وهذا الشابُّ الطموح إلى المُثل العليا ذو الآمال البعيدة والأماني العراض، والذي أقبل مُتطوعًا فأشاع الحماسة مِنْ حَولِه، ونظم الجهاد فأحسن تنظيمه، ومضى بعد الانتصار ضحية أخيرة للوباء، وهذا الموظف المُتواضع الذي يُداعب الغرور الفني، ويُحاول في سذاجة أن يكون كاتبًا يضع قصة غرامية يتعزى بها عما أصابه من المحن، ويُتقنها حتى يَرقى بها إلى أَرفع مَنازل الفَنِّ، والذي يترك هذه القصة في يُسرٍ وفي غير تكلف ليعنى بالجهاد حتى يُبلي فيه أحسن البلاء، لا يشعر بأنَّه يُجاهد، ولا بأنَّه يُضَحِّي، ولا بأنه يتعرض للخطر، وإنَّما يشعر بأنه يؤدي واجب التضامن الاجتماعي في أيسر اليسر. كل هؤلاء الأشخاص وأشخاص آخرون قد صورهم الكاتب فأجاد تصويرهم وبرع فيه، ولكنهم يظهرون في أثناء هذا الكتاب، كأنَّهم الواحة التي يرتاح إليها القارئ بين حين وحين، وكأنَّ القصة من حولهم طريق وعرة مُضنية، لا يمضي القارئُ فيها إلا مُتكرهًا يحتاج إلى أن يستريح.
هذه هي النَّاحية الأدبيةُ لهذا الكتاب، وهي أيسَرُ الناحيتين بالقياس إلى الكاتب من جهة، وإلى القارئ من جهة أُخرى، وإلى التفكير الفلسفي من جهة خاصة، فقد يمكن أن يُقال: إنَّ الكاتب لم يُرِد إلى إنشاء قصة بالمعنى الذي أَلِفَه الناس، وقد يُمكن أنْ يُقال: إن القُرَّاء جميعًا ليسوا من العُسر بحيث يُحاسِبون الكاتب حسابًا يَسيرًا أو عَسيرًا، على ما أُتيح له وما لم يُتح له من التوفيق.
فأمَّا النَّاحيةُ الفلسفية فهي الغَايةُ التي من أجلها كُتب الكتاب، وهي لا تحتمل تَسامحًا ولا تَهاونًا ولا تفريطًا، فالدِّقَّة فيها هي الأصل، واستقامة التفكير شرطٌ أساسي لكل فلسفة، وقد قدمتُ أنِّي لستُ مُقتنعًا، بل إنِّي بعيد كل البعد عن الاقتناع بالمذهب الفلسفي العام لألبير كامو، وهو مذهب العبث.
ويُخيَّل إليَّ بعد ذلك أنَّه لم يُوَفَّق في عرض مذهبه في هذا الكِتاب، وأُحِبُّ قبل كل شيء أنْ أُلاحظ شيئًا من التَّحكم دُفع الكاتب إليه حين أراد أن يُبين موقف الإنسان بين العقل والدين؛ فهو قد أنشأ شخصًا جعله حبرًا من أحبار اليسوعيين، وأنطقه بما ظن أنه يُصَوِّر مذهب أصحاب الديانات فيما يُلِمُّ بالإنسان من الشَّر، ثم مضى بعد ذلك يُنكِر ما قاله هذا الحبر اليسوعي، مُخيلًا أو مُعتقدًا أنه بالرد على هذا الحبر يرد على أصحاب الديانات جميعًا.
وهذا الحبرُ اليَسُوعيُّ قد أنشأه ألبير كامو نفسه بالطبع، وأنطقه بما أراد أنْ يُنطقه به، وأكادُ أعتقدُ أنَّه لم يخلص من بعض الظلم حين صنع حبره على هذا النحو، وحين أنطقه بما أنطقه به من القول، وآيةُ ذلك أنَّ أحبار المسيحيين أنفسهم ينكرون هذا الحبر الذي صنعه ألبير كامو، ويراه بعضهم مُسرفًا على الدين، ويراه بعضهم خارجًا على الدين.
وخلاصة ما يقوله الحبر للمؤمنين الذين أقبلوا يستمعون إليه في الكنيسة، أنَّهم يُمْتَحنون بكارثة خطيرة كبيرة، وأنَّهم أهلٌ لما أَلمَّ بهم من هذه الكارثة؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم بمعصية اللهِ والخلاف عن أمره، فهو يُعاقبهم بما يَصُبُّ عليهم من الهول، ويجب عليهم أن يتلقوا هذا العقاب راضين به مُذعنين له مُطمئنين إليه، تائبين إلى الله مِمَّا أسرفوا على أنفسهم في الخطايا والمُوبقات.
فالإله عند هذا الحَبر الذي صنعه ألبير كامو سيِّد مُتكبر مُتجبر عزيز مُنتقم، يضع الإنسان أمام سيئاته دون أن يفتح له بابًا من أبواب الرَّحمة، أو يمسه بجناح من الرِّفق، وهو يَأخُذ البريء بذنب المُسيء، ويُعاقب الصغار بذنوب الكبار، كذلك صَوَّر هذا الحبرُ موقف الإنسان من إلهه موقف العبد الخاضع المذعن الذي يجب أن يُمعن في الخضوع والإذعان، من السيد الكبير المتجبر الذي يستطيع أن يُمعن في الجبرية والكبرياء.
وواضح أنَّ الذين لا يُؤمنون من المُلحدين يُنكرون هذا الإله المُتكبر المُتجبر، ويرون أنَّ في كبريائه وجبريته قسوة عنيفة، وغلظة غليظة، وتجافيًا عن العدل؛ فما ذنبُ الأطفال الذين عذبهم الطَّاعون وهم لم يعصوا للإله أمرًا ولم يُخالفوا عن قانونه؛ لأنَّهم لم يعرفوا هذا القانون ولم يبلغوا سنَّ التكليف.
ومن يكفل أن يكون الثواب الذي يدخره هذا الإله لمن يدخره له منَ الناس قائمًا على العدل، ما دام العقابُ فيما يرون ليس قائمًا على العدل؛ فالمُتكبر المُتجبر قادر على أن يتحكم فيما يدخر للناس من مثوبة، كما يتحكم فيما يصب عليهم من عقوبة.
وهم من أجل ذلك لا يؤمنون بهذه الصلة التي لا تقوم على العدل، ولا على الحرية، وإذا كانوا لا يعرفون طريقًا إلى الإله غير هذه الطريق التي رسمها الدين، كما صوره هذا الحبر، فهم لا يُؤمنون بشيء بعد الطبيعة، وهم من أجل ذلك يعملون لا ينتظرون على عملهم أجرًا في الآخرة؛ لأنَّهم لا يعرفون الآخرة.
كما أنَّهم لا يخافون عقوبة في الآخرة إنْ لم يعملوا؛ لأنَّهم لا يَعرفون الآخرة، وهُم من أجل ذلك يَمضون في مُحاولة الخيرِ إلى أقصى غاية مُمكنة، حتى يقول بعضهم لبعض: أليس من المُمكن أن يصير بعضُ الناس قديسًا مدنيًّا، دون أن يُؤمن بالله الذي يتلقى القديسين بما أعدَّ لهم من أجر ومثوبة، فيما يقول رجال الدين؟
كذلك عرض ألبير كامو هذه المشكلة عرضًا يظهر فيه التحكم والسذاجة كما ترى؛ فأمَّا التحكم فلأنَّ حبره هذا ليس من الضروري أن يكون قد نطق بلسان أصحاب الدِّيانات، فأحسن الإعراب عنهم، وآية ذلك أنَّ رجال الدين أنفسهم ينكرونه، وآية ذلك بوجه خاص أنَّ الديانات السماوية كلها لا تحدثنا على الإله المتكبر المتجبر المنتقم الباطش فحسب، ولكنها تحدثنا كذلك عن الإله الرحمن الرحيم العَفُوِّ الغفور الذي يقبل الحسنة، ويتوب على المذنب، وتسع رحمته كل شيء وكل إنسان.
فمن التحكم إذن والتعسف أن يُقال: إن صلة الإله بالإنسان هي صلة السيد المتجبر المتكبر بالعبد الذي يجب أن يُذعن ويستكين ليس غير. وإنَّما الديانات تقول إنها كذلك صلة القوي الرحيم بالضعيف الذي يحتاج إلى الرحمة.
وأخص ما يُؤخذ به ألبير كامو من التحكم في هذه القضية أنه ما زال يُفكر بعقل القرن التاسع عشر حين كان هذا العقل ثمِلًا مغرورًا لكثرة ما استكشف من العلم وابتكر من المُخترعات، حتى ظن أنه قد عرف كل شيء وأحاط بكل شيء، وأصبح قادرًا على أن يحكم على كل شيء، ويقول كلمته في كل شيء.
ولكنَّ العقل فيما يظهر قد ثابَ إلى شيء من الرُّشد والتواضع منذ أواخر القرن الماضي، وقد استبان له أنَّه ما دام يعترف بأنَّه يجهل من حقائق هذا العالم أكثر مما يعلم، وبأنه يستكشف من حقائق هذا العالم قليلًا، ويستكشفها في كثير منَ الحذر والاحتياط، فمن الجراءة أن يُنكر ما عدا هذا العالم، وأن يقول فيما ليس له به علم، وما ليس له سبيل إلى القول فيه.
فهو لم يعرف الإله، ولم يستطع أن يجد الطريق إلى معرفته من طريق الحس والتجربة والمُلاحظة، كما يعرف ما يعرف من حقائقه العلمية، ولكنَّه يُلاحظ — في غير شك — أنَّ من الناس من يسلك إلى معرفة الإله طرقًا غير طرق الحس والتجربة والمُلاحظة، ويجد في سلوك هذه الطرق رضًا وأمنًا وثقة واطمئنانًا؛ فأيسر ما تفرضه عليه الدقة أن يقف موقف الانتظار، لا يتجاوزه إلى الجحود والإنكار، فضلًا عن أن يتجاوزه إلى موقف الحكم على ما يوصف به الإله من صفات، وما يَصْدُر عنه من أعمال.
فكل هذا تجاوزٌ للقصد وخُروج على قوانين العقل نفسه؛ فالعقل لا يحكم إلا عن علم، ومتى أخطأه العلم وجب عليه أن ينتظر؛ فالذين يعدون أطوارهم، ويصفون الإله بالقسوة والعنف أو بالغلظة والظلم، لا يُسرفون عن أنفسهم فحسب، وإنما يدفعونها إلى السخف والهذيان؛ لأنهم يقولون عن غير علم، ويحكمون عن غير بصيرة.
وما من شك في أنَّ الذين يعملون الصالحات لا يبتغون بها إلا الخير، ولا ينتظرون عليها أجرًا في الدنيا والآخرة قوم أخيار من حق الإنسانية لنفسها أن تُكْبِرَهم وتتخذهم أسوة وقدوة في حُبِّ الخير والسعي إليه والجد فيه، غير مُبتغية عليه جزاءً ولا شكورًا.
ولكن ليس من شك في أننا لا نعلم مصير هؤلاء الأخيار، كما أننا لا نعلم مصير الأشرار بالعقل؛ لأنَّ العقل لا يعرف مما بعد الطبيعة شيئًا.
وإذا كان الأمر كذلك بالقياس إلى هذه القضية، فمذهب العبث كله مُعَرَّض لهذا النقد نفسه؛ لأنَّ من الجراءة والإسراف في الكبرياء والغرور أن يقولَ إنسانٌ لستُ أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضًا، فيجبُ أن يكون هذا الوجود عبثًا، وإنما الذي يجبُ أن يُقال: لست أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضًا، فيجبُ أن أنتظر لعلي أستكشف أنا، أو لعل غيري أن يستكشف لهذا الوجود حكمة وغاية وغرضًا.
والشيء المُحَقَّقُ هو: أنَّ مذهب العبث هذا، لون من ألوان اليأس الذي تُدفع الإنسانية إليه، حين تشتد عليها الأزمات، وتأخذها الخطوب والأهوال من جميع وجوهها.
وقد عرفت الإنسانية هذا اليأس في كثير من عصورها المُختلفة التي تعرضت فيها لأنواع الهول، وعرفت ما نشأ عن هذا اليأس من مذاهب الشك والتشاؤم والجموح، ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لهذا الكتاب إلَّا أنَّه يدعو قارئه إلى أن يُفكر ويُطيل التفكير في مسائل ليست هي من هذه الهنات اليومية، التي تَمْلِك عليه أمره وتُفسد عليه حياته، لكان خليقًا أن يقدر ويقرأ في إعجاب بصاحبه واعتراف له بالجميل؛ لأنَّه يرفعنا من طور الحياة اليومية السخيفة، إلى طور التفكير في المُشكلات العليا، وما أقل ما يرقى بنا إلى هذا الطور من التفكير الرفيع في هذه الأيام!