حول رسائل سيسرون
لست في حاجة إلى أن أعرف إليك سيسرون، كما ينطق به الفرنسيون، أو تشتشيرون، كما ينطق به الإيطاليون، أو كيكيرون، كما ينطق به اللاتينيون فيما يُقال. فهو زعيم الخطابة اللاتينية غير منازَع، وهو الزَّعيمُ الثاني للخَطَابة العالمية غير منازَع أيضًا بعد ديموستين الخطيب اليوناني العظيم.
والعلم بمكانته في الخطابة، وبمكانته في السياسة، وبمكانته في الفلسفة، وبمركزه الممتاز في حياة الجمهورية الرومانية، وجهاده في الاحتفاظ بهذه الجمهورية، وموته في هذا الجهاد، من أوليات الثقافة التي تلقى إلى الشباب في مدارسهم الثانوية، ولكني مع ذلك سأحدثك عن سيسرون لأعرض عليك منه صورة أقل ما توصف به أنها مُخالفة كل المخالفة لما توارثت الأجيال من أمره منذ عشرين قرنًا.
ولستُ أنا الذي أستكشف هذه الصورة أو أبتكرها، فلستُ من هذا كله في شيء، وإنَّما الذي استكشف هذه الصورة وعرضها على الناس، عالم فرنسي عظيم، هو الأستاذ جيروم كاركوبينو عضو المَجْمع العلمي الفرنسي ومُدير مدرسة المُعلمين العُليا في باريس سَابقًا، والذي امتُحن امتحانًا قاسيًا أثناء الحرب الأخيرة؛ لأنَّه تولى وزارة التربية الوطنية في حكومة الماريشال بيتان، فخرج من هذا الامتحان نقيًّا رضيًّا، وهو يعرض علينا هذه الصورة في كتاب ضخم يأتلف من مُجلدين، وتنيف صفحاته على تسعمائة صفحة.
وقد ظهر هذا الكتَابُ في أوائل هذا العام، فتلقاه النُّقاد أحسن لقاء، وقدَّموه إلى القُرَّاء تقديمًا مُختلفًا؛ فمنهم من قدَّمه تقديمًا فيه شيء من دعابة وعبث، ومنهم من قدمه تقديمًا فيه شيء من غضب وغيظ، ولكنَّ الكتاب أرفع مكانة من عبث العابثين، وغضب الغاضبين؛ لأنَّه آية من آيات البَحث العلمي الرَّفيع بأدق معاني هذه الكلمة وأعمقها وأوسعها في وقت واحد.
فأمَّا الذين قدَّموا الكِتاب في شيء من دُعابة، فهم النُّقاد الأدباء الذين ورثوا عن الأجيال هذه الصورة التقليدية لسيسرون، وأقاموا حياتهم الثقافية عليها، وشقوا أثناء التعلم والطلب بما كان الأساتذة يفرضون عليهم من ترجمة النصوص التي تركها هذا الكاتب العظيم.
فهؤلاء قد نشأوا على أنَّ سيسرون هو الصورة الصادقة للجد الذي ليس بعده جد، والحزم الذي ليس بعده حزم، والارتفاع عن صغائر الأمور، والتنزه عمَّا يشين رجل الصدق.
وهو الذي تولى منصب القضاء الأعلى في الجمهورية، فكان أنزه القُضاة وأعفهم وأكرمهم وأحرصهم على العَدل وأشدهم توخيًا للإنصاف، وتولى رياسة الجمهورية، فكان حازمًا صارمًا، بعيد النَّظر نافذ البصيرة، سديد الرأي، مُنقذًا للوطن من شر عظيم.
وتولى الحكم في أحد الأقاليم، فكان مثالًا ممتازًا للنزاهة والعدل والصرامة، والضرب على أيدي الذين يستغلون أهل الأقاليم ويستذلونهم ويتخِذُون أموالهم معونة بينهم، كما كان عمر بن الخطاب رحمه الله يقول.
واشتغل بين ذلك كله بالمُحاماة، فكانَ أفصح المُحامين لسانًا، وأرفعهم بيانًا، وأَمْضَاهم حُجَّة، وأَبْعَدَهم عَمَّا يُجانب كرامة المُحاماة، وأرحمهم للضعيف، وأَرْأَفهم بالمظلوم، وكان إلى هذا كله أستاذًا مُمتازًا من أساتذة البيان، وفيلسوفًا مُوفَّقًا، وحكيمًا مُهَذبًا، مُعتدل الرأي، مُعتدل السيرة، مُعتدل المِزاج.
وقد امتُحنت الجمهورية الرُّومانية بدكتاتورية قيصر، وطغيان أنطوان، واستبداد أوكتاف، فقاوم الدكتاتورية والطُّغيان والاستبداد بيده ولسانه وقلبه، ولقي حتفه في هذه المُقاومة حين ائتلف الطاغيتان أنطوان وأوكتاف، وأُهدِرَت بهذا الائتلاف دماء كثير من أعلام الجمهورية وأنصار النِّظام الموروث.
هذه هي الصورة التي توارثتها الأجيال عن سيسرون منذ ألفي عام، والتي نشأ عليها الأدباء والمعلمون والمتعلمون والمؤرخون، فلما ظهر هذا الكتاب، وعُرِض على الناس صورة مُخالفة لهذه الصورة كل المُخالفة، لم يملك بعض النُّقاد نفسه، فتلقَّى الكتاب وقدمه إلى النَّاس في دُعابة شامتة أو شماتة مُداعبة.
وكتب الأستاذ إميل هنريو عضو المجمع اللغوي الفرنسي، في جريدة «الموند» يظهر شماتته هذه المُتفكهة المُداعبة، بهذا الكاتب العظيم الذي أشقى الشباب وما زال يُشقيهم بنصوصه العسيرة، وأشقى النَّاس وما زال يُشقيهم بسيرتِهِ القاسية الصارمة، وجده المروع البشع.
ثم هو يظهر الآن بفضل هذا الكتاب رجلًا من الناس، فيه ما في الناس من ضعف، وفيه ما فيهم من عيوب، وأما العلماء والمؤرخون منهم خاصة، فقد ضاقوا بهذه الصورة التي تغض من هذا الرجل الذي توارثت الأجيال رفعته وامتيازه.
وكتب الأستاذ مارو في جريدة «الموند» الأسبوعية يقول: «إنَّ سيسرون رجلٌ مكذُوب عليه.» والشيء الذي لا شكَّ فيه، هو أنَّ الشامتين بسيسرون والغاضبين له، إنَّما أظهروا ما أظهروا من الشماتة والغضب؛ لأنهم لم ينظروا في الكتاب إلا أيسر النظر وأقله تعَمُّقًا واستقصاءً.
فالكتاب — كما رأيت آنفًا — ضخمٌ توشك صفحاته أن تبلغ الألف، وهو على ذلك كتاب علم، قد التزم صاحبه دقائق المنهج التاريخي في عرض ما أراد عرضه من الحقائق، وحل ما أراد حله من المُشكلات، وقراءته ليست يسيرة ولا هيِّنة، وهي تحتاج إلى كثير من الأناة والصَّبر وحُسن التأني.
والحكم له أو عليه لا ينبغي أن يصدر إلا بعد هذه القراءة المستأنية المستقصية الصابرة، التي لا تحتاج إلى الأيام، وإنَّما تحتاج إلى الأسابيع، والتي لا تكتفي بنفسها وإنما تُكلف القارئ كثيرًا من مُراجعة النصوص وامتحان الأحكام التي يُصدرها المؤلف بالرجوع إلى ما يستشهد به من المصادر، وهذه المصادر كثيرة مُختلفة، منها القديم والحديث، ومنها ما كُتب باللاتينية وما كُتب باليونانية، ومنها ما كتب في اللغات الحية على اختلافها.
ولستُ أزعمُ أني قد نهضت بهذه القراءة المُستأنية المُستبصرة، ولكني لستُ أزعم كذلك أني سأحكم لهذا الكتاب أو أحكم عليه، فلستُ أُحْسِن هذا العلم، ولستُ أُبيح لنفسي أن أحكم بين المُختصمين فيه، وإنَّما أنا رجل مُتواضع، معتدل المذهب والرأي والغاية، لا أُريد إلَّا إلى شيء يسير جدًّا، هو أنْ أعرض على قُرَّاء العَربية لونًا من ألوان البحث الذي يفرغ له بعض النَّاس في أوروبا وأمريكا، وينفقون فيه حياتهم، وينعمون إن أُتيح لهم أن يُنفقوا حياتهم فيه، ويجدون بعد ذلك جماعة من أكفائهم يتلقون ما يكتبون بالنقد والبحث فيُنكرون ويعرفون، وجماعات أخرى من عامة المثقفين يتلقون ما يكتبون على أنه غذاء للعقول والقلوب، ومتاع يستريحون إليه مما يملأ حياتهم من الهموم والخطوب.
وأنا أرجو أن يكون في إظهار قُرَّائنا على هذا اللون من ألوان البحث ما يُغري شبابنا بالدرس الهادئ المُستأني الذي تخلص النية فيه للعلم وحده، والذي لا تُلتمس به منفعة قريبة أو بعيدة، ولا تبتغى به شهرة واسِعَة أو ضيقة، وإنَّما يقصد به إلى هذه المُتعة العليا، مُتعة المعرفة الخالصة التي تكشف الحقَّ وتُصَحِّحُ التاريخ.
وينبغي أنْ أعرض هذا الكتاب مبتدئًا من آخره لا من أوله، ذلك أجدرُ أن يجعل فهمه يسيرًا، والعلم به مُحببًا إلى النفوس.
فنحن في أواسط القرن الأول قبل المسيح حين لم يبقَ من هذا القرن إلا ثلثه، وقد تم الائتلاف بين أوكتاف وأنطوان على الاستئثار بأمر الجمهورية الرومانية وأقاليمها، وذهب في سبيل هذا الائتلاف كثير من أنصار الجمهورية، مات بعضهم في الحرب ومات بعضهم بأمر المؤتلفين، الذي صدر إمَّا عن رغبة في الانتقام، وإمَّا عن رغبة في تثبيت النظام الجديد.
وكان سيسرون من الذين قاوموا النظام الجديد، بل كان على رأس المُدبرين لهذه المقاومة في مجلس الشيوخ، عن أمره كانت جيوش الجمهورية تصدر في مقاومتها للطغاة والمستأثرين في البر والبحر وفي الشرق والغرب.
فلما تم الائتلاف وأُتيح الانتصار للمُؤتلفين، أُهدِرَ دم سيسرون فيما أُهدِرَ من الدماء، فقُتِل سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح، وكان لسيسرون صديقٌ حميم، أحبه منذ عهد الصبا، ودرس العلم معه أثناء الشباب، ثم تفرقت بهما طرق الحياة، فمضى سيسرون في طريق السياسة، ومضى صديقه أتيكوس في طريق المال.
وامتاز كلٌّ من الرجلين فيما اختار لنفسه من طريق، فامتاز سيسرون في السياسة حتى أصبح في بعض أوقاته رئيسًا للجمهورية، وظلَّ في أكثر حياته زعيمًا للديمقراطية المُعتدلة، وامتاز أتيكوس في المال حتى أصبح أضخم أهل روما ثراءً وأوسعهم غناءً، وأعظمهم من أجل ذلك سلطانًا على الأغنياء والفقراء جميعًا.
ولكنَّ الرَّجلين على هذا التفرق احتفظا بالمودة الخالصة والصداقة الصافية، واشتركا بحُكم هذه المودة، في حُبِّ العلم والأدب والفن، وهذا الترف الرفيع الذي يتصل بحياة العقول والقلوب، وقد ورث أتيكوس عن أسرته ثروة ضخمة، فلم يكد يُجاوز طور الطلب حتى فرغ لهذه الثروة يُدَبِّرُها ويُثمرها ويُنَمِّيها، وأقام بينه وبين السياسة سورًا كثيفًا حرَّم على نفسه أن يَعْبُره أو ينفذ منه، وحرم على السياسة أن تنفذ إليه مهما تحدث الأحداث ومهما تكن الخطوب.
وهو منْ أَجْلِ ذلك يَهجُر مدينة روما حين تعصف بها الثورة السياسية في أيام سولا، ويعبر البحر إلى بلاد اليونان؛ فيُقيم في أتينا وفي غيرها من المُدن اليونانية ما شاء الله أن يُقيم، حتى إذا هدأت الثورة واستقرت الأمور عاد إلى رُوما وقد أضاف إلى ثرائه ثراءً، وإلى علمه علمًا، وقد استقرَّ في نفوس الساسة أنَّه ليس من السياسة في شيء، وأنَّه لا يُريد أن يكون منها في شيء، وإنَّما هو رجل مال وعلم، لا يُريد أن يزيد على المال والعلم شيئًا.
وهو من أجلِ ذلك صديقٌ للسَّاسة جميعًا مَهما تكن أحزابهم، ومهما يُحسنوا أو يسيئوا، ومهما تختلف بهم الظروف، قد زهد في مناصب الحُكم فتركها لهم، وزهد في مجلس الشيوخ فتركه لهم، وزهد في الطبقة الأرستقراطية المُمتازة فتركها للذين يسعون إليها من أصحاب الطمع والطموح، وقنع بأن يثمر ثروته، ويُنشئ في روما وفي الأقاليم مصرفًا هو أعظم المصارف وأكثرها تشعبًا وأكثرها عملاء.
فهو يُقرض المُحتاجين إلى أن يقترضوا، ويُدَبِّر لأصحاب الثراء ثراءهم، ويحفظ على أصحاب الأموال أموالهم، يعتدل فيما يأخذ على القروض من فائدة، ويسخُو فيما يرُدُّ على أصحاب الأموال من رِبح، ويكفل بِذَلك لنَفْسِه حُبَّ المُوسرين والمُعسرين جميعًا.
وقد شغف أتيكوس بالفلسفة والأدب والفن، فلم يلبث أن شغف بالكُتب وجعل يجمعها ويُنشئ لنفسه خزانة كُتب مُمتازة، ويسرت له ذلك إقامته في بلاد اليونان وثروته الضخمة، فجعل يجمع المخطوطات القديمة ونفائس الآثار ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
وانتقل بهذا كله إلى روما، ودعا الناسَ إلى داره، فرأوا وقرءوا وأُعجِبوا، وأحبوا أنْ يكون لهم مثل ما رأوا من آيات الأدب والفن والفلسفة، وما هي إلَّا أن يصبح أتيكوس خبيرًا يُشير على المثقفين والمترفين، ثم وسيطًا يشتري لهم من الكتب والآثار وطرائف الفن ما يُريدون، وعنده كتب كثيرة نادرة ليس من اليسير أن تُقتنى، وهو لا يُعير شيئًا من كتبه، فالنَّاس مُخيرون بين أن يسعوا إلى داره لينظروا في هذه الكتب، وبين أن يستنسخوا هذه الكتب إن أرادوا أن يملكوها.
وإذا أتيكوس يؤلف جماعة من الرَّقيق المُثقفين، منهم من أتقن تنظيم خزانات الكتب والقيام عليها، ومنهم من أتقن النَّسخ والمُراجعة والمُعارضة، وإذا هو قد أنشأ دارًا للنَّشر عظيمة الخطر في رُوما، يعمل فيها النُّساخ والمراجعون ينسخون للأدباء ما يحتاجون إلى استنساخه من الكتب، ويسبقون إلى نسخ طائفة من الكُتب اليونانية واللاتينية تشتد إليها حاجة القُرَّاء.
وما هي إلَّا أنْ تتسع دار النَّشر هذه، فلا تكتفي بنسخ القديم وإذاعته، وإنَّما تضيف إلى ذلك نشر الآثار التي يُنشئها المُحدثون، وإذا هذه الدار قد أصبحت أشبه شيء بدور النشر الحديثة التي نعرفها الآن، لا يكاد الشاعرُ يُنشئ ديوانًا ولا يكاد الكاتب يؤلف كتابًا حتى يدفعه إلى أتيكوس، فإذا هو ينسخ وينشر، لا في روما وحدها، بل في إيطاليا، ثم في الأقاليم الرومانية في الشرق والغرب.
وكذلك أصبح أتيكوس أكبر رجال المال في رُوما، ويسر له ذلك الاتصال برجال السياسة على اختلاف أحزابهم وبأكبر رجال النَّشر القديم والحديث، ويسر له ذلك الاتصال برجال الثقافة على اختلاف أحزابهم أيضًا.
وإذ كان سيسرون من الممتازين في السياسة والثقافة جميعًا — وسنرى أنه كان من الممتازين في المال أيضًا — فقد اتصلت الأسباب الوثيقة اليومية بينه وبين أتيكوس، وقد أشرتُ آنفًا إلى أنهما كانا صديقين منذ أيام الطلب في عهد الصبا والشباب، فقد زادت صداقتهما قوة وتوثقًا على مر الأيام وتعاقب الأحداث، ومن المُحقق أن أتيكوس كان أشد الناس بسيسرون صلة، وأدناهم منه مكانة، وأعرفهم بدخائل أمره كلها، سواء منها ما يتصل بالحياة العامة وما يتصل بالحياة الخاصة في أدق خفاياها.
وكان أتيكوس قد أحبَّ مذهب أبيقور واتخذه لنفسه دينًا، وتأثرت به حياته العَقلية، كما تأثرت به سيرته اليومية أشد التأثر وأقواه، والقراء يعلمون أنَّ أخص ما يمتاز به مذهب أبيقور من الناحية الخلقية، هو أن يجعل اللذة غاية الغايات للإنسان، ويرى أنَّ هذه اللذة لا تخلص ولا تستقيم لطُلَّابها إلا إذا برئت من الألم، فلم تعقبه ولم تورط فيه.
فالرجل الحكيم في هذا المذهب خليق قبل كل شيء أن يتجنب الألم ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وأن يبتغي اللذة ما وجد إليها سبيلًا أيضًا، وإذا كانت اللذات في أكثر الأحيان مَصادر للألم ودوافع إليه، فالرَّجل الحكيم خليقٌ أن يتجنب اللذات نفسها ليتجنب ما تعقب من الألم.
وخير للرجل الحكيم أن يفرض على نفسه حياة غليظة ساذجة فيها شيء من شظف وقسوة، من أن يُقبل على الحياة الهينة اللينة ويستجيب للمُغريات، فيستمتع بلذات كثيرة تدفعه إلى آلام كثيرة.
ومذهب أبيقور يمتاز كذلك بأنَّه حَرَّر الإنسان من خوف الموت وما يُمكن أن يكون بعد الموت؛ فالآلهة لا يحفلون بالإنسان ولا يسألونه عن عمله، ولا يجزونه بالخير خيرًا ولا بالشر شرًّا، وإنَّما الإنسان مسئول عن نفسه أمام نفسه أثناء الحياة، فإذا أدركه الموتُ فقد عاد إلى العدم الذي خرج منه حين دخل الحياة.
وإذن فليس للإنسان أن يُفكر إلَّا في حياته هذه التي يحياها، يلتمس فيها لنفسه الخير والمَنفعة، ويصرف فيها عن نفسه الشرَّ والمضرة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. والصَّداقة نفسها عَرَضٌ من أعراض هذه الحياة، لا تُلْتَمس لنفسها، وإنَّما تُلتَمس لما تُتيح للإنسان من لذة ومنفعة؛ فالإنسانُ خليقٌ أنْ يلتمسها ويستمسك بها ما أتاحت له لذة ومنفعة، وهو خليق أن يجتنبها ويتخلص مِنها إن عَرَّضته لشر أو ضر، وهو خليق ألا يحفل بها ولا يلتفت إليها إن لم تُغنِ عنه شيئًا.
كذلك كانت الصداقة التي ادخرها أتيكوس لخليله الوفي الحميم سيسرون، صداقة قويَّة متينة ما جلبت له نفعًا ولذة، وكان سيسرون مصدرًا للذة والنفع جميعًا، مصدرًا للنفع لمكانه من السياسة والسُّلطان، ومصدرًا للذة لمكانه من الثقافة العُليا، وما امتاز به من رقة الشمائل وعذوبة الحديث، وجمال المحضر والمغيب.
ومن أجل ذلك كان الرجلان يلتقيان في كل يوم إنْ أُتيح لهما اللقاء، فإنْ حِيلَ بينهما وبينه عمدا إلى الرسائل تُغنيهما عن هذا اللقاء، ولم يقف الأمر بين الرجلين عند هذه الصداقة، وإنَّما نشأت بينهما صلات المُصاهرة، فتزوج كنتوس سيسرون أخو أديبُنا العظيم من بونبونيا أخت أتيكوس مالينا العظيم أيضًا.
فليس من الغريب أن يلجأ سيسرون إلى صديقه وصاحب صهره في كل ما ينوبه من الأمر؛ فهو مُدَبِّر ثروته ومستشاره في السياسة، وناشر كتبه ومنظم مكتبته، والداخل في الجليل واليسير من أمره كله، حتى يُقتل سيسرون في أواخر سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح.
وقد يسأل القارئ: ما حاجتنا إلى هذا التفصيل الطويل؟ فلينتظر قليلًا، فستظهر الحاجة إلى هذا التفصيل واضحة كل الوضوح، بعد أن نُضيف له تفصيلًا آخر يتصل بحياة أتيكوس نفسه، فقد أشرتُ إلى تأثره بمذهب أبيقور، واضطراره بحكم هذا المذهب إلى أن يتجنب الانغماس في الترف واللذة، وقد دَفَعه ذلك إلى أن يعيش أعزب دهرًا من حياته، ثم اختار لنفسه زوجًا ليست ممتازة الطبقة، وإنما هي من أسرة ضئيلة فقيرة ليست بذات خطر، ورُزق من هذا الزواج طفلة لم يمنحها من عنايته إلا مقدارًا مُعتدلًا.
ولكنَّ ثراءه وحياده وثقافته وامتياز مكانته في روما، كل ذلك قرَّب منه أوكتاف، حين استقامت له الأمور وأصبح مُستأثرًا مع أنطوان بالسلطان الروماني، وإذا هو صديق لأتيكوس، وإذا هو يتجاوز الصداقة إلى الصهر، فيُصبح حفيده ختنًا لأتيكوس، وحفيده هذا هو الذي سيخلف أوغسطس على عرش الإمبراطورية الرُّومانية، بعد موته، وسيُسمى تيبيريوس.
هذه الصلات التي توثقت بين أوكتاف عظيم السياسة الرومانية، وأتيكوس عظيم المال الرُّوماني، هي التي دفعت أتيكوس إلى نشر الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون، والتي اتخذها الأستاذ جيروم كاكوبينو موضوعًا لكتابه، واستخرج منها الصورة الجديدة لسيسرون، فأثارت ما أثارت من الرِّضا والسخط ومن الوفاق والخلاف.
والفكرة الأساسية لهذا الكتاب، وهي التي لم يلتفت إليها النقاد الأدباء لأنها تعني العلم أكثر مما تعني الأدب، هي أولًا أنَّ رسائل سيسرون إنَّما نُشرت في عهد أوكتاف قبل أن ينفرد بالحكم، وأثناء التنافس الشديد بينه وبين أنطوان، وأنَّها نُشرت بواسطة أتيكوس، وصدرت عن داره تلك التي أشرنا إليها منذ حين، ونُشِرت على دفعتين؛ إحداهما: بين سنة خمس وثلاثين واثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون لأتيكوس.
والثانية: سنة اثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرَّسائل الخاصة التي كتبها سيسرون إلى ابنه وأخيه وصديقه بروتوس ونفر آخرين من الأصدقاء.
فأما الجزء الأول من هذه الرسائل، فقد نُشر دفاعًا عن أوكتاف وأنطوان اللذين قتلا سيسرون. وأما الجزء الثاني فقد نُشر مُبالغة في إذاعة الدَّعوة لأوكتاف حين اشتدت الخصومة والمنافسة بينه وبين أنطوان.
وكان سيسرون ضحية لنَشر الجُزأين جميعًا، فهو نشر قصد به إلى السياسة لا إلى الأدب، وإلى الغض من سيسرون لا إلى التنويه بِذكره والإحسان إليه، قصد بالجزء الأول إلى إظهار ما امتلأت به حياة سيسرون من الاضطراب الشديد الذي يتصل بالسياسة، ويتصل بالمال، ويتصل بالأخلاق، ليتبين النَّاسُ أن الذين قتلوا سيسرون لم يقتلوا فيلسوفًا مُصلحًا عظيمًا مُمتازًا في خلقه وسيرته ورأيه، وإنَّما قتلوا سياسيًّا مُتقلبًا مُسرفًا في التقلب، أنفق حياته كلها ملتمسًا لمنفعته الخاصة القريبة الحقيرة، مُخادعًا للناس عن نفسه وعن آرائه وعن سيرته.
فهو يزعُم أنَّه أنقذ الجمهورية حين كان رئيسًا لها من خطر الثورة، مع أنَّ كتبه الخاصة تعترف عليه بأنَّه كان صديقًا لكاتلينا زعيم الثورة، ولم يُهاجمه إلا حين عَجَز عن أن ينتفع به.
وهو يَزْعُم أنَّه كان نصيرًا للنظام الجمهوري حين ظهر يوليوس قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تقرب إلى قيصر حتى ظفر منه بالعطف والعفو والأمن، وظلَّ يتملقه ما استقامت له الأمور، فلما قُتل شمت بقتله وابتهج لموته، وظاهر قاتليه.
وهو يزعم أنَّه نصير للنظام الجمهوري بعد مقتل قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تملق أنطوان ما وسعه التملق، وتملق أوكتاف ما وجد إلى تملقه سبيلًا؛ فإذا كان أوكتاف وأنطوان قد قتلاه لأنه تنكر لهما قبل ائتلافهما، فهما لم يزيدا على أن قتلا خصمًا سياسيًّا كاد لهما وألَّب عليهما، وجَدَّ في حربهما بعد أن كان لهما صديقًا يبتغي إلى مودتهما الوسائل.
فحُبُّه للنظام الجمهوري كَذِبٌ إذن؛ لأنه لم يحب إلا نفسه ولم يبتغِ إلا منفعته، وأخلاقه لم تكن ذات خطر؛ فقد كان شَرِهًا إلى المال، تعترف عليه كتبه بأنَّه ارتشى من قيصر أولًا ومن غير قيصر ثانيًا، وبأنَّه ملك في روما وخارج روما ثماني عشرة دارًا، من تلك الدور الفَخْمَة التي كان الأغنياء الرُّومانيون يملكونها، وكانت قيمة تلك الدُّور نحو عشرين مليونًا من الدراخمات.
وكان مُسرفًا شديد الإسراف، يدفعه الإسراف إلى الإعسار أحيانًا، ويدفعه الإعسار إلى التماس المال من غير وجهه، فهو يُطَلِّق امرأته التي عاشت معه خمسة وثلاثين عامًا، وولدت له ابنه ماركوس وابنته توليا؛ لسبب واحد وهي أنَّ امرأته لم تُمَكِّنه من ثروتها حين احتاج إلى هذه الثروة، فيُطلقها، ويتزوج — وقد قارب الستين — فتاة في العشرين من عُمرها لا لشيء إلا لثروتها، وهو يدفع ابنته إلى الزواج والطلاق ثلاث مرات للمال وحده، حتى تموت البائسة حُزنًا.
ثم هو يزعم أنه محامٍ نزيه، حريص على كرامة المهنة، ولكنَّ نزاهته هذه ظاهرة لا تثبت أمام البحث والتمحيص؛ فقد كان قانون المُحاماة يحظر على المحامين أن يأخذوا من مُوكليهم أجورًا لما ينهضون به من أعباء الدفاع عنهم أمام القضاء.
وكان سيسرون نفسه يخاصم بعض زملائه، ويزعم أنهم يتقاضون هذه الأجور التي يحظرها القانون، ولكنَّه هو نفسه كان يتقاضى أجره من مُوكليه بطرق ملتوية لا تُلائم النَّزاهة ولا الشرف؛ فكتبه تشهد عليه بأنه كان يتفق مع مُوكليه مُشافهة على أنْ يُهدوا إليه الهدايا بعد أنْ يكسب لهم قضاياهم.
وكانت هذه الهدايا تُحْمل إليه، ولم تكن يسيرة ولا هينة، وإنَّما كانت ضَخمة عظيمة الخطر، فهو مثلًا قد ترافع عن أهل صقلية حين اتهموا حاكمهم بالإسراف عليهم في البغي والظلم، فلما ربح لهم قضيتهم أهدوا إليه سفنًا كثيرة قد شُحنت قمحًا، وكانت روما في حاجة إلى القمح، وكان سيسرون يُرشح نفسه للانتخاب في منصب من مناصب الدولة، فما هي إلا أن يُوزع القمح على أهل روما وينجح في الانتخاب.
وترافع مرة عن أحد موكليه فأهدى إليه بعد أن ربح القضية خزانة كتب كاملة كان يملكها في بلاد اليونان، واحتاج نقلها مما وراء البحر إلى جهد عظيم وعناء كثير، ثم هو كان يزعم أنه رجل شريف في سيرته السياسية، وفي كل ما يتصل بالانتخاب خاصة، ولكن كتبه تشهد عليه بأنَّ سياسته لم تكن إلا مُداورة ومُصانعة، وأنَّه كان يصطنع من إفساد الانتخاب، بِرِشْوَةِ النَّاخبين وأخذِ أصواتهم بالترغيب مرة وبالترهيب مرة أخرى، ما كان يصطنعه غيره من المرشحين لمناصب الدولة.
وكان بعد هذا كله، ينصح في كتبه وخطبه بالقصد والاعتدال وإيثار الشظف والخشونة، ولكنَّ رسائله الخاصَّة تشهد عليه بأنَّه كان مترفًا مُسرفًا في الترف، يغلو في حُبِّ المَظاهر، ولا يَطمئن إلا إذا نال من مظاهر الثروة والرِّفعة ما يُلائم غُروره الذي لا حد له.
وكان على هذا كله شُجاعًا في القول جَبانًا في السيرة، يخاف حتى من ظله، ويتملق رغبة في التملق وخوفًا على حياته وإيثارًا لعافيته، ثم يسخر من هذا كله في رسائله الخاصة؛ لأنه لم يكن يُريد إلا أن يحيا ويستمتع بالحياة.
وكان يُخاصم الحكام المُرتشين ويُعَرِّضهم للقضاء عليهم بالغرامات، ولكنَّ كتبه تعترف عليه بأنه حين تولى الحكم في بعض الأقاليم أظهر سيرة حسنة ورفقًا بالرعية، ولكنه أضمر مكرًا وقسوة، واستغل منصبه استغلالًا منكرًا.
كل هذه الخصال والآثام تشهد بها الرسائل الخاصة التي أرسلها إلى صديقه أتيكوس، وقد ارتفعت بينهما الكُلفة وزال بينهما الحرج، فأفضى كلٌّ مُنهما إلى صاحبه بذات نفسه في غير تحفظ ولا احتياط.
وواضح جدًّا أنَّ نَشر هذه الرسائل بأمر أوكتاف إن قُصِد به إلى شيء فإنَّما يُقصَد به الكيد لسيسرون بعد موته، وإلى الإذاعة التي تُظهر من ثنائه على قيصر وأوكتاف وأنطوان ما كان يُخفي؛ ليعلم الجمهوريون أنَّه لم يكن زعيمًا مُخلصًا صادقًا، وإنَّما كان طالب مَنفعة وصاحبَ رياء.
أما الجزء الثاني من رسائل سيسرون فقد اشترك في نشره ماركوس بن سيسرون وتيرون مولاه، وأشرف على عملهما أتيكوس نفسه، وهو يشتمل على رسائله إلى أعضاء أسرته، وإلى بعض أصدقائه، وإلى بروتوس منهم خاصة، وفي هذه الكُتب ذمٌّ أي ذم لأنطوان وتحريض عليه، وثناء على قيصر وأوكتاف، وإظهار لِتَلَوُّن سيسرون في السياسة من جهة، ولضعفه وغفلته من جهة أخرى.
فواضح أن نشر هذه الرسائل يُؤيد سياسة أوكتاف ويُؤَلِّبُ الناس على أنطوان، وقد نُشرت هذه الرسائل بالضبط في الوقت الذي كان الخصمان فيه يتهيآن للحرب التي انتصر فيها أوكتاف.
وهنا تثار مسألتان خطيرتان؛ إحداهما: تتصل بالتاريخ قبل كل شيء، وهي إلى أي حد يُمكن الاطمئنان إلى هذه النظرية التي تجعل إذاعة هذه الرسائل مظهرًا من مظاهر نشر الدعوة السياسية؟ والجواب عن هذا السؤال يسير ولكنه رائع حقًّا؛ فقد أظهر الأستاذ كاركوبينو أنَّ السياسة الدكتاتورية في عهد قيصر وابنه أوكتاف، لم تكن أقل مهارة ولا براعة ولا افتنانًا في نشر الدعوة من سياسة الدكتاتورية في العصر الحديث؛ فقد ابتكر قيصر لأول مرة في التاريخ، إنشاء الصحيفة اليومية التي تُعلن في روما وتُذاع في إيطاليا، وتُرسل إلى الحُكَّام في الأقاليم، ويقرأ الناس فيها الحوادث التي تَجِدُّ في كل يوم.
وبهذه الطريقة ابتكر قيصر السيطرة على العقول من طريق القراءة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، وإنَّما ابتكر قيصر كذلك البلاغات الرسمية التي تُعلن إلى الناس أَنباء الحرب كما تحب الحكومة أن تُعلنها.
ثم ابتكر الرقابة على ما يقرأ الناس من الكتب في المكاتب العامة، فلم يكن يسمح لكِتَاب أن يُعرض للقراءة إلَّا إذا أقره السلطان وأذن بقراءته ورضي عما فيه، وليس أدل على أن رسائل سيسرون إنَّما نُشرت لإذاعة الدَّعوة من أن ردود أتيكوس عليها لم تُنْشر، ومن أن أتيكوس قد ظفر بالحظوة كل الحظوة عند أوكتاف، حتى أصبح صهرًا للأسرة الإمبراطورية، ومن أنَّ ماركوس بن سيسرون قد ظفر بالأمن بعد أن كان طريدًا أهدر دمه، ثم ظفر بالحظوة عند أوكتاف، حتى بلغ المناصب الرفيعة في الدولة، واستمتع بحياة لاهية مُترفة كان يحب الفراغ لها أيام أبيه.
أما المسألة الثانية: فهي إلى أي حد يُمكن الاطمئنان إلى أن أتيكوس قد خان صديقه بعد موته على هذا النحو البَشع، وإلى أنَّ ماركوس قد خان أباه بعد موته على هذا النحو البشع أيضًا؟ فأمَّا أتيكوس فقد رأيتُ أنَّ مذهبه في الأخلاق كان يعفيه من إثم هذه الخيانة؛ فقد كان سيسرون صديقه حين كان حيًّا يرتجي نفعه ويتقي شره، فأمَّا بعد أن مات، فقد دخل في العدم المُطلق الذي لا يُرتجى من أهله خير، ولا يُتقى منهم شر.
وليس على أتيكوس بأسٌ أمام مذهبه الخلقي من أن يخون ميتًا ليخدم حيًّا، هو المُستأثر بالسلطان الذي يملك النفع كل النفع والضر كل الضر، ويتحكم في حياة الأحياء.
وأمَّا مَاركوس فقد كانَ منذ شبابه الأول صَاحب مُجون ولهو وفراغ، فهو ضعيفُ الطبع قصيرُ الهِمَّة، وهو بعدُ مدينٌ بحياته لأوكتاف، فكيف إذا أضاف أوكتاف إلى حياته شيئًا غير قليل من الشرف والترف والجاه؟!
والناس بعد ذلك هم الناس، في أكثرهم الضعف والخور والتهالك والأثرة، وغير هذا كله من الخصال التي تغري بالمكر والغدر، وتدفع إلى الخيانة والإثم، وتورط في أشياء كثيرة تأباها الأخلاق المكتوبة التي يُقررها الفلاسفة ويدعو إليها المُصلحون، وتجيزها السيرة العاملة، تجاهر بها أحيانًا، وتخافت بها أحيانًا أخرى، وتلتمس لها دائمًا ما يقبل وما لا يقبل من التعلات والمعاذير.
أمَّا أنا فقد أنفقت في قراءة هذا الكتاب أسابيع، ووجدت في هذه القراءة فنونًا من الأدب والسياسة والتاريخ وفلسفة الأخلاق، ولم تُثِر هذه القراءة في نفسي شماتة بسيسرون ولا رحمة له ولا إشفاقًا عليه؛ فما يضر الموتى أن يشمت بهم الشامتون، ولا ينفعهم أن يشفق عليهم المشفقون، وقد كان سيسرون رجلًا من معاصريه، فيه ما في معاصريه من خصال الخير والشر، امتاز من معاصريه بتفوق عقله وقلبه ولسانه، وفرض من أجل ذلك نفسه على الإنسانية كلها إلى آخر الدهر.
والمثقفون يقرءون أطرافًا من حياة قيصر وابنه أوكتاف، ثم لا يلبثون أن ينسوا ما قرءوا، ولكن المدارس والجامعات ستُكون عقول الصبية والشباب بأدب سيسرون، وليس المهم أن يكون سيسرون رجلًا خَيِّرًا أو شريرًا، وإنَّما المُهم أن يكون سيسرون قد ترك من الآثار ما ينفع الناس.
ثم إن قراءتي لهذا الكتاب لم تثر في نفسي شيئًا من السخط قليلًا أو كثيرًا، على الذين خاصموا سيسرون في حياته، أو خانوه بعد موته؛ فالناسُ دائمًا هم الناس، فيهم شر كثير وخير قليل، ولم يصلوا بعد ذلك إلى العصر الذهبي الذي يُصبحون فيه أخيارًا أطهارًا لا يجد الشر إليهم سبيلًا.
وإنما الذي أرضاني كل الرضا، وأمتعني كل الإمتاع، وعزى نفسي عما تمتلئ به الحياة الواقعة اليومية، هو التفكير في هذا الأستاذ الشيخ الذي لم تصرفه الأحداث الخطيرة التي يُمتحن بها العالم منذ سنين، والتي امتُحن بها وطنه أعسر الامتحان وأقساه، والتي امتُحن بها هو في ذات نفسه امتحانًا أليمًا، لم تصرفه هذه الأحداث عن أن يفرغ لرسائل سيسرون، فيدرسها هذا الدرس، ويخرج لنا هذا الكتاب الذي إن صور شيئًا فإنما يُصور الشجاعة والصبر والجلد والتجرد للعلم الخالص، والفراغ لاستكشاف الحق من حيث هو حق، مهما تكن الأحداث والخطوب والظروف. فأما دقة البحث وحُسن الاستقصاء وجو الاستنباط، فإنَّما هي خصالُ العُلماء، وصاحب هذا الكتاب عالم ممتاز بين العلماء.