شاعر الحب والبغض والحرية
كان ذكيَّ القلب حميَّ الأنف، عضب اللسان، وكان قويًّا لا يعرف الضعف أبيًّا لا يقبل الضيم، عصيًّا لا يطيق الإذعان، وكان حازمًا لا يحب التردد، مقدِمًا لا يحتمل الإحجام، ولم يكن مع ذلك صريح النسب في قبيلة من القبائل العربية القوية أو الضعيفة، ولم تكن قوته وصلابته وحِدَّته تأتيه من جاه طريف أو تليد، ولا من ثروة عريضة أو ضيقة، فقد كان — فيما يظهر — مغمورًا مضيعًا بين حمير وقريش، ألحق نفسه بحمير بعد أن أصبح له شأن وبعد أن رأى أنه في حاجة إلى نسب يعتز به وركن يأوي إليه، وألحق نفسه بقريش على أنه حليف من حلفائها ووليٌّ من أوليائها، فاجتمع له بذلك نسب يماني في حمير وحلف مضري في قريش، على حين لم يستطع أحد من الرواة والنسابين أن يصله بقبيلة من قبائل اليمن ولا أن يرتفع به إلى أعلى من جده الأدنى، فكل ما يعرف الرواة عنه أنه يزيد بن ربيعة بن مُفَرِّغ، ولعل الرواة لا يتفقون على اسم مفرغ هذا؛ فقد روي أن اسمه محمد، وأن مفرغًا كان لقبًا غلب عليه، وأصل هذا اللقب فيما يقال أنه راهن على أن يفرغ في جوفه عُسًّا من لبن ففعل، فسُمِّي مفرغًا، وقد يكون هذا حقًّا وقد يكون الحق شيئًا آخر لا نعرفه، ولكن المهم أن مفرغًا هذا لم يكن رجلًا ذا خطر، وإنما كان شعَّابًا في المدينة أو قريبًا من المدينة، وكان ابنه ربيعة فيما يقال صاحب شعر وغزل، وكان له ابن آخر يسمى عامرًا، وكان صاحب زهد ودين، فأما صاحبنا يزيد فلم يعرفه تاريخ الشعر ولا تاريخ السياسة إلا حين تقدم به الشباب وحين أصبح شاعرًا ظريفًا رائع الشعر حسن المحضر، يتنافس فتيان قريش في قربه ومنادمته واصطحابه فيما يعرض لهم من الأسفار.
وأكبر الظن أنه انتفع بِحِلْفه في قريش، فعاشر فتيان بني أمية في العراق وآثرهم بمودته، وآثروه بمعروفهم لحسن موقعه منهم، ولحسن بلائه في التعصب لهم والثناء عليهم، وأول ما نعرف من أمره معرفة دقيقة هو أن شابين من شبان بني أمية تنافسا فيه، فأما أحد هذين الشابين فسعيد بن عثمان بن عفان، وأما الآخر فعباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان أول هذين الشابين قد ولي خراسان، وكان الآخر قد ولي سجستان، وقد عرض سعيد بن عثمان على صاحبنا يزيد أن يصحبه إلى ولايته، وأغراه بمال كثير وبأنه سيكون عند ما يرضيه، ولكن يزيد لم يجب سعيدًا إلى ما أراد، وآثر أن يصحب عبادًا إلى سجستان، وقد أسف سعيد لانصراف هذا الفتى الظريف عن صحبته إلى صحبة عباد، ولكنه مع ذلك حذَّره ونصح له، وقال له: إن نبت بك الدار عند عباد ولم تبلغ من صحبته ما تريد فإن مكانك عندي ممهد.
وليس من الغريب أن يزهد يزيد في صحبة سعيد بن عثمان ويؤثر عليها صحبة عباد بن زياد، فقد كان سعيد بن عثمان معرضًا لشيء غير قليل من سخط السلطان الأموي عليه وزهده فيه، ومصدر ذلك أن أبناء عثمان — رضي الله عنه — قبلوا ولاية معاوية لخلافة المسلمين؛ لأنه قام دونهم بعد مقتل أبيهم، فثأر لهم وحمل بني أمية على رقاب الناس، ولكن شيئًا من الحسد وقع في قلوبهم حين بايع معاوية لابنه بولاية العهد، ويقال إن سعيدًا نفسه صارح معاوية بإنكاره لذلك في شيء غير قليل من العنف، وإن معاوية رفق به كما كان يرفق بأعدائه وأصدقائه جميعًا، وإن توليته خراسان كانت مظهرًا من مظاهر هذا الرفق ولونًا من ألوان هذه المصانعة، فلم يكن سعيد إذن أثيرًا عند معاوية ولا عند ابنه يزيد، وإنما كان يُحتمَل في شيء من الجهد ويُستصلَح في كثير من الرفق، أما عباد فقد كان أبوه زياد موضع الثقة والحب من معاوية، وكان ركنًا من أركان الدولة الأموية الجديدة، ضبط لها أمر العراق وما يليه ضبطًا حسنًا وساسه سياسة حازمة صارمة أخافت النَّاس في شرق الدولة وغربها، فلما مات زياد ولى معاوية ابنه عبيد الله أمر العراق اعترافًا بما لزياد عنده من يد؛ فكان عباد إذن ابن أمير العراق القديم وأخا أمير العراق الجديد، وفتى من فتيان هذه الأسرة العصامية التي مكنت لبني أمية في الأرض، فليس غريبًا إذن أن يؤثر الشاعر الشاب صحبة الأمير الزيادي ذي المكانة والحظوة، على صحبة الأمير العثماني الذي لا تحتمله الدولة إلا على كره ومضض، على أن عبيد الله بن زياد أمير العراق كان يعرف أخاه عبادًا حق المعرفة، وكان يعرف الشاعر الفتى حق المعرفة أيضًا، وكان يشفق من محبة هذا الشاعر الفتى لأخيه، ويقدر أن عواقب هذه الصحبة لن تكون إلا شرًّا. كان يعرف أن أخاه حاد الطبع سريع الغضب شديد العناية بما يَكْلَف من أمر، يفرغ للهوه ومتاعه حين يتاح له الفراغ، ولكنه إذا نهض بأمر ذي بال أقبل عليه وشُغِل به عن كل شيء، وكان يعرف أن الشاعر الفتى ظريف غزل، حلو الدعابة، عذب الفكاهة جميل المحضر، ولكنه شاعر لا يرضى من صاحبه بالقليل، ولا يقبل منه الانصراف إلى يسير الأمر أو خطيره، وكان يعرف أن الشاعر الفتى عَجِل نَزِق سريع الشعور، قوي الإحساس، طويل اللسان، يسرع إليه الضجر ويستأثر به الملل، ويسبق لسانه إرادته فيتعجل اللوم والهجاء قبل إبانهما، ومن أجل ذلك هم أن يصرف الشاعر عن صحبة أخيه فلم يفلح، فنصح له وألح في النصح، وحذره وألح في التحذير والنذير ومضى الشاعر الفتى مع أميره الشاب إلى سجستان، ولم يبلغ الرفيقان سجستان إلا بعد أن فسد الأمر بينهما أثناء الطريق؛ فقد كان عباد عظيم اللحية جدًّا، فإنه لفي طريقه ذات صباح أو ذات مساء، وإذا الريح تعبث بلحيته الضخمة فتنفشها، ويرى الشاعر ذلك فيروقه المنظر ويضحكه ويسبق لسانه إرادته فيقول:
وقد سمع الرفاق هذا البيت فتضاحكوا، وسعى بعضهم بالبيت إلى عباد فوقعت الموجدة في قلبه، وهمَّ أن يبطش بالشاعر، ولكنه آثر الأناة وأسرَّ الحقد في نفسه، فلما بلغ سجستان شُغِل بحربه وخراجه وأبطأ على شاعره، وانتظر الشاعر ثم انتظر، فلما طال عليه انصراف الأمير عنه أطلق لسانه فيه يلومه في أحاديثه ويظهر الندم على أنه قد آثر صحبة عباد على صحبة سعيد، وتبلغ الأحاديث عبادًا فيضيف غيظًا إلى غيظ وموجدة إلى موجدة، ولكنه على ذلك لا يبطش بالشاعر فجأة ولا يظهر له بغضًا، وإنما يدبر أمره تدبيرًا ويحكم الكيد لهذا الشاعر النزق الذي أمكن من نفسه، ومتى استطاع الشعراء والأدباء عامة ألا يمكنوا من أنفسهم؟! فلم يكن صاحبنا يزيد نَزِقًا عَجِلًا فحسب، ولكنه كان صاحب لهو ولذة وإسراف في اللهو واللذة، وكان صاحب كرم وجود وإمعان في الكرم والجود، وكان يداعب آمالًا عراضًا وأماني كبارًا، وينتظر من أميره عطاءً جزيلًا، فما الذي يمنعه أن ينفق ويتسع في النفقة، وأن يستدين حتى يغرق في الدين إلى أذنيه أليس عطاء الأمير سيملأ يديه بالمال، وسيمكنه من إرضاء الدائنين بل من إرضاء الطامعين فيه؟! وكان عباد ينتظره عند هذا المنعطف من سيرته الملتوية المتعرجة، فما هي إلا أن يدس إلى دائنيه من يغريهم بمخاصمة هذا المدين الذي لا يقدر على شيء، فإذا ارتفعت إليه الخصومة أمر أعوانه أن يكسبوا بيت يزيد ويبيعوا أثاثه ومتاعه وسلاحه وفرسه، وقد فعلوا، وبدأ الشر بين الشاعر والأمير، ونظر الأمير فإذا كل ما بيع من متاع الشاعر أقل من أن يؤدي عنه دينه، فيأمر بحبسه فيما بقي عليه للغرماء.
وكذلك انتهت المحنة إلى غايتها، أو قل: انتهت المحنة إلى أولها، وكان يزيد يملك غلامًا يحبه أشد الحب وجارية يؤثرها أعظم الإيثار، وهمَّ عباد أن يمضي في الكيد له والتنكيل به، فأرسل إليه من يعرض عليه أن يبيعه الجارية والغلام. قال يزيد: وهل يبيع الرجل نفسه التي بين جنبيه؟ قال عباد: فبيعوا عليه جاريته وغلامه لمن شاء أن يشتريهما من الناس، وعُرِض بُرْدٌ وأراكة للبيع، فاشتراهما رجل من النَّاس وأقبل يقبضهما، فلما رآه برد قال له: بئس ما اشتريت لنفسك من السوء والفضيحة! قال الرجل: وكيف ذاك؟ قال برد: فإنك تعلم أن مولاي إنما يهجو عبادًا وآل زياد وهم الأمراء وأصحاب السيادة والحظوة عند أمير المؤمنين لأنهم أبطئوا عليه بالعطاء، فكيف إذا علم أنك تشتري أحب النَّاس إليه وأنك تسوءه بهذا الكيد؟! إنها والله الفضيحة لك ولقومك إلى آخر الدهر. قال الرجل: فإني أشهد على نفسي أنكما له، وإن شئتما كنتما عندي حتى يخلص من سجنه فأردكما إليه. قال برد: فاكتب إلى مولاي بذلك، فكتب الرجل ورد عليه يزيد شاكرًا له مثنيًا عليه، راغبًا إليه في أن يحفظ الغلام والجارية عنده حتى يجعل الله له بعد عسر يسرًا، وفي هذه القصة يقول يزيد:
ويقول في هذه القصيدة أيضًا، ولكنه في هذا الشعر لا يكتفي بالحزن على برد وأراكة، وإنما يصور ندمه على فراق سعيد وصحبة عباد، ويهجو عبادًا هذا أقذع الهجاء:
وأكبر الظن أن يزيد قال هذا الشعر في سجنه، ولكنه لم يذعه إلا بعد حين، حين ظفر بحريته وأصبح بمأمن من عادية عباد، وآية ذلك أن الرواة ينبئوننا بأن يزيد قد ثاب إلى شيء من الرشد، أو ثاب إليه شيء من الرشد، فرفق بنفسه واصطنع الحذر والاحتياط، وجعل لا يذكر عبادًا إلا حامدًا له مثنيًا عليه، فإذا ذكر له سجنه ومحنته قال: وأي بأس في ذلك؟! رجل أسرف على نفسه فأدَّبه أميره ناصحًا له مبقيًا عليه. وجعلت هذه الأحاديث الحسان تبلغ عبادًا فيرقُّ للشاعر ويعطف عليه ويلتمس له المعاذير، ويذكر أنه هو الذي دعاه إلى صحبته على علم منه بأخلاقه ومواطن ضعفه.
وما زال يزيد يتلطف، وعباد يتعطف، حتى أخرج الأمير شاعره من السجن وقدم إليه بعض الخير، وجعل يحتال حتى فر من سجستان ومضى هاربًا يترقب ويستخفي حتى انتهى إلى الشام، وكان في أثناء هربه يقول الشعر في هجاء عباد وآل زياد، ويكتبه على الجدران في كل خان ينزل به. حتى إذا انتهى إلى الشام عرف أنه قد بلغ مأمنه وأن يد آل زياد لن تبلغه فأطلق لسانه في غير تحفظ، ونال آل زياد بكل مكروه، ولم يكن آل زياد بمأمن من الهجاء، ولا بنجوة من البغض لهم والوجد عليهم، فقد كانت كثرة قريش تبغضهم أشد البغض، تراهم دخلاء فيها بعد أن استلحق معاوية زيادًا في تلك القصة المعروفة.
وكان بنو أمية أنفسهم يبغضون زيادًا أشد البغض لما نال من الحظوة عند معاوية ولما استأثر به من حكم العراق دون شباب أمية وشيوخها، واشتد بغض بني أمية لزياد وبنيه حين مات فورث ابنه عبيد الله عنه حكم العراق، وكان زياد قد اشتد على النَّاس وأخذهم بالعنف، فكرهته الشيعة من أهل العراق كما كرهه الخوارج كرهًا ظاهرًا، وكرهه عامة النَّاس كرهًا أسرُّوه في أنفسهم ولم يعلنوه إلا حين كانت الفرصة تمكنهم من إعلانه، ولم يملك شباب قريش ولا شباب الأنصار أنفسهم وألسنتهم فلهجوا بزياد وجحدوا بنوته لأبي سفيان وقالوا في ذلك شعرًا كثيرًا عرفه معاوية ولكنه أغضى عنه تكرمًا وحلمًا وسياسة أيضًا، فانتهز يزيد شاعرنا هذا كله وقال في زياد وبنيه أشنع الشعر وأقذعه، فنفى زيادًا من أبي سفيان، ونفى بني زياد من أبيهم وهجاهم في أمهاتهم ثم هجاهم في أخلاقهم، ثم هجاهم في سيرتهم، ثم جعل يحرض عليهم اليمانية حينًا والمضرية حينًا آخر، وجعل شعره يشيع ويصل إلى العراق ويتنقل بين الأمصار، ويطير على ألسنة الرواة، حتى ضاق به عبيد الله أشد الضيق، وكتب إلى الخليفة في دمشق يسأله أن يرد عليه يزيد ليقتله؛ فرد الخليفة إليه يزيد ولكنه تقدم إليه في أن يعذبه عذابًا موجعًا دون أن يبلغ نفسه.
وهنا نستطيع أن نوازن بين يزيد هذا الذي لا نكاد نعرف له نسبًا في قحطان أو في عدنان وإن ألحق نفسه بحمير وزعم لها حلف قريش، وبين شاعر آخر معاصر له كان عظيم الشرف رفيع المكانة في قومه عزيزًا بأعظم قبيلة عربية، وكان في الوقت نفسه أملك للشعر وأقدر عليه من يزيد وهو الفرزدق، فقد ساء الأمر بين الفرزدق وزياد، وطلب زياد الفرزدق حتى أخافه، فهرب الفرزدق من العراق واستجار ببني أمية في الحجاز، وجعل يتنقل بين مكة والمدينة ولكنه كف لسانه عن زياد فلم يهجه أو لم يكد يهجوه، وإنما ظل هاربًا متحفظًا حتى إذا مات زياد عاد إلى العراق وصانع الأمراء من أبنائه ومن غير أبنائه.
ومن المرجح أن مكانة الفرزدق نفسها هي التي اضطرته إلى أن يكف لسانه ويؤثر العافية لنفسه ولقومه، فأما يزيد فلم يكن يحرص على شيء، ولم يكن يخاف على قومه كيدًا، فاليمانية إن كان يزيد يمانيًّا هم قوة أمير المؤمنين وأنصاره لا يستطيع أحد أن يعرض لهم بسوء، وقريش أهل أمير المؤمنين وعشيرته لا يستطيع أحد أن ينالهم بسوء، فلم يبقَ ليزيد إلا نفسه، ونفسه حرة لا تفرط في الحرية، وهي في الوقت نفسه مبغضة لا تلين في البغض، ومحبة لا تقصر في الحب، وقد أبغض زيادًا وبنيه، فيجب أن ينتهي به البغض إلى غايته؛ ولذلك أُدخِل على عبيد الله بن زياد حين رُدَّ إلى البصرة فلم يهن ولم يضعف ولم ينكر من سيرته وشعره شيئًا، وإنما استقبل المحنة شجاعًا جلدًا وصبورًا مستئيسًا، وقال لعبيد الله: دونك وما تشاء. وقد أمر عبيد الله به فألقي في غيابات السجن، ولكن يزيد لم يكف عن الهجاء حتى في السجن، وقد عذبه عبيد الله عذابًا أقل ما يوصف به أنه لم يكن عربيًّا، وإنما كان أعجميًّا ينافر أشد المنافرة كرم العرب وكرامتهم وارتفاعهم بأنفسهم وبعدهم عما يشين، وبعض هذا العذاب يذكِّرنا بما كان يُصنَع في الأندلس ببعض الثائرين، وبما كان يُصنَع في إيطاليا بخصوم نظام الفاشية؛ فقد أمر عبيد الله فسقي الشاعر في سجنه نبيذًا حلوًا فيه مسهل، ثم قُرن إلى كلب وهرة وخنزير وطوِّف به في مدينة البصرة على هذه الحال المنكرة، وجعل الصبية من أبناء الموالي والفرس يتبعونه بالتندر والعبث، وجعل هو يرد على تندرهم في لغة فارسية نقلها أبو الفرج، وجعل الخنزير الذي قرن إليه يضبح كلما جره، وجعل يزيد في هذه المحنة يعبث بسُميَّة أم زياد؛ فقد سمى خنزيره هذا سمية وجعل كلما ضبح الخنزير يقول:
ثم أدركه الإعياء فسقط لما لقي من الجهد، وأشفق عبيد الله بن زياد أن يدركه التلف فيخالف أمر الخليفة ويتجاوز به العذاب إلى الموت، فأمر برفعه وغسله ورده إلى السجن، ثم أمر عبيد الله فحمل الشاعر إلى أخيه عباد بسجستان ليشفي حقده ويرضي حاجته إلى الانتقام، وكلف الذين حملوه أن ينزلوا به في الخانات التي نزل بها حين هرب من عباد، وأن يضطروه إلى أن يمحو بأظافره ما كتب على الجدران من هجاء بني زياد، وأن يحولوا صلاته عن قبلة المسلمين إلى قبلة النصارى، فجعل يمحو بأظافره ما كتب حتى ذهبت أظافره، فكان يمحو بعظم أظافره وبدمه، وما زال في هذا العذاب حتى بلغ عبادًا فضوعف عذابه في سجستان، ولكن شيئًا من هذا كله لم يضطره إلى الضراعة ولا إلى الاستكانة، وإنما كان صراع رائع عنيف بينه وبين العذاب، يصب عليه بنو زياد ألوان الهول ويصب عليهم هو أشنع القول، وفي نفسه يأس من جهة وأمل من جهة أخرى؛ يأس من الزمان ألا يمهله، وأمل في قريش وحمير أن يشفعوا له عند أمير المؤمنين، وقد انتصر الأمل على اليأس، وسار شعر يزيد في الآفاق وسارت معه أنباء هذا الصراع الهائل بين العذاب والفن، وانتهى الأمر إلى قريش في أنديتها بالعراق والحجاز، وانتهى الأمر كذلك إلى حمير في أنديتها بحمص ودمشق، وغضبت اليمانية والمضرية جميعًا لهذا الشاعر الذي يُعذَّب عذابًا لا يعرفه المسلمون، وسعى أولئك وهؤلاء عند يزيد بن معاوية، وما زالوا به حتى أرسل بريدًا إلى سجستان وأمره أن يطلق الشاعر من سجنه على الفور، وألا يأذن لأحد من آل زياد في الإمرة عليه، وأقبل البريد، فأخرج الشاعر من سجنه وأصلح من أمره وحمله على بغلة من بغال البريد، فلما استوى عليها قال هذا الشعر الرائع المعروف:
وانتهى شاعرنا إلى الشام فأُمِر أن يقيم في الشام حيث شاء وألا يعرض لآل زياد بمكروه، وأحسن الخليفة صلته تعزية له عما لقي من الشر، ووقفت قصته هنا مع آل زياد ولكنها لم تنتهِ، فلم يكن له بد من أن يذعن لأمير المؤمنين، ولكن شاعرنا لم يكن مبغضًا فحسب، وإنما كان محبًّا أيضًا، ولعل حبه هو الذي جشَّمه كل هذه الأهوال.
كان يحب أناهيد فتاة فارسية، كان أبوها دهقانًا في الأهواز، وكانت رائعة الجمال فتانة الحسن جريئة على الرجال لعوبًا بعقول الناس، وقد لعبت بعقله فأسرفت في اللعب وكلفته من أمره شططًا، وقد أقام في الشام ما شاء الله أن يقيم، ولكنه لقي رجلًا من أهل الأهواز فسأله عن أناهيد قال الرجل: صاحبة يزيد بن مفرغ؟ قال يزيد: نعم. قال الرجل: ما يرقأ دمعها بكاءً على يزيد، فضرب يزيد وجه فرسه وأقسم لا يستقر حتى يرى أناهيد، ومضى مخالفًا أمر الخليفة جاحدًا نعمة الذين أجاروه وآووه حتى انتهى إلى الأهواز، وجعل يتردد بينها وبين البصرة، ثم دخل على عبيد الله بن زياد، فخيره بين أن يقتله أو يعفو عنه، فعفا عنه عبيد الله، ولكن إقامته في البصرة لم تطل؛ فقد كانت أناهيد تكلفه مالًا كثيرًا، وكان يستدين، وكان الدين يثقل عليه، وكان الأشراف من أهل العراق يؤدون عنه دينه، ولكنه شاعر لا تنقضي حاجاته، والأمراء يتنافسون فيه، فما يمنعه من الرحلة والاكتساب ليغني نفسه ويرضي أناهيد، ويذيع البهجة والغبطة من حوله؛ وقد فعل، فرحل إلى عبيد الله بن أبي بكرة ورجع من عنده بمال كثير دفعه كله إلى أناهيد، وما زال يتردد بين البصرة والأهواز ينعم ويشرك أترابه في النعيم، حتى مات يزيد بن معاوية، وكانت الفتنة في البصرة وهرب عبيد الله بن زياد، فاستأنف قصته مع آل زياد من حيث وقفت في الشام، وجعل يهجو زيادًا وبنيه، ويعير عبيد الله بفراره عن أمه ويحرض على آل زياد بشعره وحديثه. حتى إذا قُتِل عبيد الله يوم الزاب بيد أصحاب المختار لم يستطع شاعرنا أن يخفي شماتته، فتغنى هذه الشماتة في شعر كثير، وظل مترددًا بين أناهيد في الأهواز ومجالس لهوه في البصرة، حتى قتله الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
وقد قال يزيد شعرًا كثيرًا جدًّا، وحفظت لنا كتب الأدب شيئًا قليلًا جدًّا من هذا الشعر، ولكنه على قلته يبين لنا أن هذا الفتى المغمور قد كان شاعر الخوف والحب والحرية حقًّا، ما أعرف أن أحدًا من شعراء القرن الأول للهجرة بلغ من تصوير هذه الخصال ما بلغ، ومع ذلك فما أكثر ما عرف ذلك العصر من المبغضين والمحبين، ومن الخائفين والأحرار، ومن الذين أتيحت لهم براعة فنية لم تتح ليزيد! ولكن يزيد أحب بقلبه كله، وأبغض بقلبه كله، وخاف بقلبه كله أيضًا، وجلَّى قلبه المحب المبغض الخائف الحر في شعره دون أن يتكلف في ذلك أو يتصنع أو يتخذ بين النَّاس وبين قلبه حجابًا.
كنت أود لو استطعت أن أروي لك أطرافًا من شعره، ولكن كتاب الأغاني قريب منك فاقرأ فيه أخبار يزيد بن مفرِّغ، فسترى فيه عجبًا من العجب وسترى أن لحية ضخمة قد عبثت بها الريح ذات يوم فأضحكت شاعرًا وأطلقت لسانه ببيت من الشعر، وكانت من أجل ذلك مصدر محنة مروعة اتصلت أعوامًا وشقي بها شاعر وشقيت به أسرة من أشراف العرب، ولكنها تركت لنا أدبًا فيه المتاع كل المتاع.