الساحرة المسحورة
فتح الحب العابس لها باب الدنيا، وفتح الحب الجادُّ لها باب الآخرة، فسلكت بين هذين البابين طريقًا عسيرة بُثَّت فيها العقاب واكتنفتها المصاعب، وملأتها الآلام، ولم تخلُ مع ذلك من لذة قليلة، وبهجة ضئيلة، ومتاع عقلي متصل، فلما اختطفها الموت قدر النَّاس أنها قد أورثت بعض القلوب والعقول حزنًا عظيمًا وبؤسًا ممضًّا، وأصبحت حديثًا من أحاديث التاريخ الأدبي ستحفظه ذاكرة الأيام وقتًا يقصر أو يطول، ثم يمسه النسيان قليلًا قليلًا حتى يمحوه في يوم قريب أو بعيد، كما محا كثيرًا من الأحاديث لكثير من النَّاس في كثير من العصور وفي كثير من البلاد، ولكن القرن التاسع عشر لم يكد يتقدم قليلًا حتى تبين أنها لم تترك للناس ذكرًا فحسب، وإنما تركت لهم آية أدبية من أروع آيات الأدب، لا في وطنها الفرنسي وحده، ولا في القرن الثامن عشر وحده، بل في جميع الأوطان المتحضرة، وفي جميع العصور التي عُنِيَتْ فيها الإنسانية بالإنتاج الأدبي الرفيع.
هذه هي مدموازيل دي لسبيناس التي أريد أن أحدثك عنها في هذا المقال، والتي وُلدت سنة ١٧٣٢ وتوفيت سنة ١٧٧٦. لنفرُغ من ذكر الأرقام التي يظهر أن المؤرخ لا يكون مؤرخًا إلا إذا حفظها وحققها، واستقصى ما يتصل بها من الأحداث والخطوب.
وأحب أن تعلم منذ الآن أني لا أريد في هذا الفصل أن أكون مؤرخًا للأدب الفرنسي، فلست من تاريخ هذا الأدب في شيء، وإنما قرأت عن هذه الآنسة في بعض ما أقرأ، فأعجبني حديثها، فحاولت أن أتعمق هذا الحديث فازددت به إعجابًا، وجعلت لا أمضي في استقصائه إلا دُفِعت إلى مزيد من التعمق، حتى أنفقت في ذلك شهرًا وبعض شهر، ولعلي أغالط نفسي بعض المغالطة؛ فقد أنفقت في ذلك شهرين، ولم أفرغ منه بعدُ على كثرة الكتب والمجلات التي تجتمع بين يدي، وتنتظر أن أفرغ لها ساعة من ليل أو ساعة من نهار، وأنا مع ذلك معرض عنها مُصِرٌّ على هذا الإعراض؛ لأن أحاديث هذه الآنسة ما زالت تدعوني، وتلح في الدعاء، ولأن هذه الأحاديث لا تكاد تنقضي.
لا تنتظر مني إذن بحثًا عن التاريخ الأدبي الفرنسي في القرن الثامن عشر، ولا تحقيقًا للحوادث، ولا تحليلًا للنتائج والمقدمات؛ فما أحب أن أعرض لشيء من ذلك الآن، وما أكره أن أعرض له في يوم من الأيام، ولعلي أن أخصص كتابًا أعرض فيه حياة هذه الآنسة عرضًا مفصلًا دقيقًا، فأما في هذا الفصل فليكن تحدثي إليك عنها سهلًا سمحًا لا يكلفك ولا يكلفني مشقة ولا عناء، وإنما نرسل فيه النفوس على سجيتها، ونقف فيه أحيانًا عند هذه العاطفة أو تلك ونتعمق فيه أحيانًا أخرى هذا الخاطر أو ذاك، وأنت تعلم من غير شك أن حياة الطبقة الممتازة من الفرنسيين في النصف الأول من القرن الثامن عشر كانت قد دفعت إلى نوع من الحرية المسرفة يوشك أن يكون إباحة وإمعانًا في المجون، دفعتها إلى ذلك أشياء كثيرة، منها حاجة الفرنسيين إلى شيء من الهواء الطلق والتنفس الحر، بعد أن ثقلت عليهم تلك الحياة التي فرضها حكم لويس الرابع عشر عليهم، نصف قرن أو أكثر من نصف قرن، وكلفهم فيها كثيرًا من الجهد وعرضهم فيها لكثير من الخطوب، وحمَّلهم فيها كثيرًا من التضحيات، فلم يكد هذا الملك العظيم ينتقل إلى الحياة الثانية حتى أحس الفرنسيون كأن عبئًا ثقيلًا جدًّا قد حُط عن كواهلهم، فأصبحوا أقدر على الحركة، وأميل إلى النشاط، وأسرع إلى الاستمتاع بالحياة في غير تكلف ولا استخفاء، ومنها أن العقل الفرنسي كان قد اتصل بالنهضة العلمية التجريبية كما تأثر بالفلسفة الحديثة التي تحررت من قيود أرسطاطاليس، فتغير فيه كثير من القيم، وعرف كثيرًا مما كان ينكر، وأنكر كثيرًا مما كان يعرف، ونظر إلى الحياة التقليدية نظرة فيها كثير من السخرية والازدراء، ولم تلبث الحياة العملية أن دفعت إلى الحرية التي دفع إليها العقل، فأعلن النَّاس كثيرًا مما كانوا يسرون، وأظهروا كثيرًا مما كانوا يخفون.
ومنها أن الأدب الفرنسي نفسه كان قد أخذ في هذا العصر يضيق بالقيود والقوانين التي فُرِضت عليه أثناء القرن السابع عشر، ورسمت له طرقًا لا ينبغي أن يعدوها، ومذاهب لا ينبغي أن يخالف عن أمرها، تخضعه بذلك لمذاهب القدماء من اليونانيين والرومانيين، كما صورت في إيطاليا أو كما صورها الفرنسيون لأنفسهم في فرنسا نفسها أثناء القرن السادس عشر وفي أول القرن السابع عشر، فلم يكد عصر لويس الرابع عشر ينتهي أو يقارب الانتهاء حتى ظهر الخلاف ثم اشتد بين القدماء والمحدثين، وما من شك في أن هناك أسبابًا أخرى كثيرة، دفعت الطبقة الممتازة في فرنسا إلى استئناف هذه الحياة الجديدة الحرة الماجنة المتهالكة التي ظهرت قوية في عهد الوصاية، وجعلت تزداد قوة وتسلطًا كلما تقدمت الأيام، وهذه الأسباب تتصل بالسياسة، وتتصل بالاقتصاد، وتتصل بالثقافة، وتتصل بهذا المركز الممتاز الذي أتيح لفرنسا في ذلك العصر وجعلها أعظم مركز من مراكز الحضارة في أوروبا، ثم تتصل آخر الأمر بهذه العلاقات القوية التي استوثقت بين الفرنسيين وبين البلاد المجاورة لهم، فجعلوا يرحلون إلى هذه البلاد ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة، كما جعل أهل هذه البلاد يرحلون إلى فرنسا ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة أيضًا، والواقع من الأمر على كل حال هو أن فرنسا دُفِعت في هذا العصر إلى حياة جديدة، تحرر فيها الممتازون من كثير جدًّا من قوانين الخلق والعرف والدين.
ومولد الآنسة التي أريد أن أتحدث عنها في هذا الفصل، مظهر من مظاهر هذا الانحلال، وأثر من آثاره في وقت واحد، فقد كانت أمها سليلة أسرة نبيلة غنية، وكان زوجها الكونت دالبون سليل أسرة نبيلة غنية أيضًا، وكان هذان الزوجان قد نعما بالحياة عصرًا، ورُزِقا في أثناء ذلك الولد من الذكور والإناث، ولكن الأمر بينهما فسد — وما كان أكثر ما يفسد الأمر بين الأزواج! — فاتصلت أسباب الزوجة برجل نبيل غني هو الكونت جسبار دي فيشي، ورُزِقت منه غلامًا انتهت به الحياة إلى التربية الدينية، وإلى أن أصبح رجلًا من رجال الدين، ورُزِقت منه طفلة هي هذه الآنسة التي نتخذها موضوعًا لهذا الحديث، وقد عُمِّدت هذه الطفلة في كنيسة من كنائس ليون، ولكن اسمَيْ أبويها قد اختُرِعا اختراعًا مخافة العار، فلم تُنسَب إلى أمها ولا إلى أبيها، وإنما ذكر للقسيس اسمان من أسماء الطبقة الوسطى العاملة، واطمأنت الأم إلى أن نفس ابنتها قد أصبحت نفسًا مسيحية، وما ينبغي أن نفترض أن الأم قد قصرت في ذات ابنتها أو أحبتها حبًّا فاترًا، فقد كَلِفت الأم بابنتها كلفًا شديدًا، وعُنيت بتربيتها عناية متصلة، لم تستخف بشيء من ذلك ولم تحتط فيه، وإنما ضمت ابنتها إليها، وقامت على تأديبها وتثقيفها، ومنحتها من حبها وعطفها مكانًا ممتازًا، ولم تقصِّر إلا في شيء واحد هو هذا الذي يتصل بالحياة المدنية الرسمية؛ فهي لم تلحقها بأبيها لأن ذلك لم يكن ممكنًا، ولم تلحقها بأمها لأنها لم ترد أن تعترف على نفسها بالإثم، وإنما أعطتها اسمًا من أسماء الأرض التي كانت ملكًا لأسرتها الخاصة، فسُمِّيت جولي دي لسبيناس، ومنحتها بعد ذلك كل ما كانت تملك لأبنائها الشرعيين من الحب والعطف والإيثار.
على أن المشكلة لم تلبث أن ثارت غير مرة حين تقدمت السن بالفتاة، وربما كان أيسر الأشياء — أو قل أيسر الخطوب التي عرضت لهذه الفتاة — أمر مستقبلها حين تقدمت السن بأمها، وأخذت تحس أنها تسعى إلى الموت مسرعة، أو أن الموت يسعى إليها متمهلًا، كما يتمهل دائمًا في سعيه إلى الناس، فلم يكن من الممكن أن ترث الفتاة أمها، وتشارك في تركتها الضخمة، لم يكن ذلك ممكنًا؛ لأن الأم لم تستلحق ابنتها، ولأن إخوة الفتاة لأمها يكرهون ذلك أشد الكره ويمانعون فيه أشد الممانعة، ولم يكن من الممكن أن توصي الأم لابنتها بشيء ذي خطر يحميها من عاديات الأيام؛ فقد كانت الأسرة تراقب هذه الأم وتراقب تصرفها في ثروتها كلما دنت من الموت، أو دنا الموت منها.
ولذلك لقيت الأم البائسة من التفكير في مستقبل ابنتها عناءً شديدًا، وانتهت آخر الأمر إلى أن أوصت لها بإيراد ضئيل، إن لم يتح لها الترف وخفض العيش فإنه يعصمها من البؤس، ويكفل لها حياة محتملة.
على أن الأم قد احتالت لإيثار ابنتها ببعض الخير، فادخرت لها مقدارًا من الذهب لا بأس به، وأظهرت الفتاة على مكانه، وأسرت إليها أن احتفظي لنفسك بهذا المال حين يدركني الموت، ولكن الفتاة كانت نقية النفس، كريمة الطبع، نزيهة الخلق، محبة لإخوتها، فلم تحتفظ لنفسها بشيء، وإنما أدت إلى أخيها الأكبر كل شيء، وسنتبين بعد حين أثر هذا كله فيما تعرضت له الفتاة في حياتها من الأحداث، على أن المشكلة الخطيرة التي عذبت الفتاة عذابًا شديدًا، وعذبت أمها عذابًا ليس أقل مما احتملت الفتاة هولًا، ولعله أن يكون أعمق أثرًا وأعظم نكرًا، هي هذه التي ثارت حين أحب الكونت جسبار دي فيشي أبو الفتاة الآنسة ديان دالبون أخت الفتاة لأمها، فخطبها واتخذها لنفسه زوجًا، ولم تستطع الأم البائسة أن تمانع أو تقاوم، لأسباب تتصل بالثروة والشرف والعلاقة بين أسر النبلاء، وقد كانت هذه الخطبة وما تبعها من الزواج أساسًا للمأساة التي قتلت نفس الأم وعذبت نفس الفتاة عذابًا طويلًا، وأثرت في الأدب الفرنسي كله آثارًا بعيدة المدى، وهذه المأساة التي لم يتخيلها أحد ولم ينشئها كاتب قديم أو حديث، وإنما أنشأتها الظروف ومثلتها الحياة، هذه المأساة ليست أقل روعة من أي مأساة أخرى تصورها القدماء أو المحدثون.
فهناك امرأة ترى عشيقها وأبا ابنيها يخطب ابنتها الشرعية ويتزوجها، فدع كرامة هذه المرأة ودع شرفها، وقف عند الصراع العنيف بين حب المرأة لخليلها وحبها لابنتها الشرعية، وحبها لابنتها الأخرى، وشعورها بهذا الإثم المنكر وما نشأ عنه من تعقيد بغيض في حياة أبنائها، وعجزها عن أن تقول في هذا كله شيئًا، أو أن تقاوم هذا كله بشيء، وإذعانها لحكم القضاء الذي لا مرد له ولا منصرف عنه، وعذاب نفسها المتصل حين ترى ابنتها زوجًا لخليلها وزوجًا لأبي أخويها.
ثم قدِّر موقف الفتاة نفسها من هذا كله؛ فقد كانت تشعر به شعورًا غامضًا، ثم جعل هذا الشعور يتضح شيئًا فشيئًا حتى عرفته الفتاة معرفة دقيقة.
فقدِّر موقفها من أبيها الذي أصبح لأختها زوجًا، ثم قدِّر موقفها حين ماتت أمها، وحين انتقلت إلى قصر الكونت دي فيشي، فعاشت بين أختها وأبيها، ثم قدِّر موقفها حين رُزِقت أختها الولد فأصبح أبناء أختها لها إخوة قد منحهم الحياة أب واحد، وهي تعيش في هذا كله، وتحتمل أثقال هذا كله، وتألم من أعقاب هذا كله، ولا تستطيع أن تجهر منه بشيء أو أن تنكر منه شيئًا، أو أن تدفع عن نفسها من آثاره شيئًا.
قدِّر هذا كله وحدثني أيهما أبرع في التصور، وأقدر على الابتكار، وأمهر في ابتداع المأساة: خيال الكتاب والشعراء أم خيال الحوادث والظروف؟
مهما يكن من شيء فقد أنفقت الفتاة في قصر أبيها وأختها أيامًا طوالًا ثقالًا، ثم أرادت الظروف أن يزداد بؤسها نكرًا حين تقدم إخوتها وأبناء أختها في السن، فقامت منهم مقام المربية المؤدبة، وقد كانت الفتاة كريمة النفس، نبيلة القلب، نقية الطبع، فأحبت هؤلاء الأطفال حبًّا شديدًا، وأخلصت في تربيتهم وتأديبهم أتم الإخلاص وأمتنه، واقتضت ظروف الحياة في عام من الأعوام أن يرتحل الزوجان عن القصر في غيبة تطول بعض الشيء، فقامت هذه الأخت الخالة من إخوتها مقام الأم، وشملتهم من العطف والرعاية والحنان بما حمل الأبوين على شكرها حين عادا إلى القصر، ولكن السعادة الخالصة لم تُقدَّر للناس، وازدراء المنافع المادية لم يُتَح لكثير منهم، والارتفاع عن الظلم والطغيان والبطر لم يُقدَّر إلا لأفراد يُحصَون بين حين وحين؛ فقد كان الزوجان يضيقان بهذه الفتاة على رغم وداعتها، وسماحة نفسها، ونقاء ضميرها، تضيق بها أختها لمكان هذه الأخوة الآثمة، ولمجرد التفكير في أن هذه الأخوة قد تثير اختلافًا حول المنافع المادية في يوم من الأيام، ويضيق بها أبوها لمكان هذه الأبوة الآثمة، ولحرصه على المنافع المادية أيضًا بالقياس إلى نفسه وإلى أبنائه، ولهذا الحرج الثقيل الذي لم يكن بدٌّ من أن يجده بين حين وحين كلما فكر في أن قصره يظلل أختين إحداهما امرأته والأخرى ابنته، ولم تكن الفتاة أقل ضيقًا بهذه الحياة المنكرة من هذين الزوجين، يدفعها إلى هذا الضيق شعورها بهذا الإثم الذي يحيط بها والذي لا تحمل أوزاره؛ لأنها لم تقترف منه شيئًا، وشعورها بهذا الحق المضيع، والكرامة المهدرة بين قوم كان من الحق عليهم أن يشملوها بالحب والعطف والحنان. أبٌ من الحق عليه أن يبر ابنته وهو ينكرها ويظلمها، وأخت من الحق عليها أن تؤثر أختها بالمودة، وهي تعقها وتستأثر من دونها بالخير كله، وتصرف عنها قلب أبيها، وتتخذها خادمًا أو شيئًا يشبه الخادم، ومن أجل هذا كله أخذ الأمر يفسد شيئًا فشيئًا بين الزوجين وبين هذه الفتاة، وقد احتملت الفتاة ما استطاعت أن تحتمل، فلما لم تجد إلى الصبر سبيلًا فكرت وقدرت، وأزمعت أن تخرج من هذا السجن البغيض.
وكان أمامها طريقان للخروج من هذا السجن: إحداهما يسيرة سهلة ولكنها بغيضة إلى نفسها أشد البغض مناقضة لطبعها أشد المناقضة، وهي الطريق إلى الدير لتصبح راهبة، وما أكثر الراهبات اللاتي دُفِعْنَ إلى الدير لا تأثرًا بالدين ولا تهالكًا على التقوى، ولكن نفتهن ظروف الاقتصاد، أو ظروف الاجتماع عن الحياة العاملة، ولكن الفتاة لم تكن تطيق التفكير في الدير ولا في الانقطاع للدين؛ فقد كانت حياتها أقوى وأغزر وأخصب وأكثر بعدًا عن التصوف من أن تعدها لهذا الانزواء الخامل الجدب في أعماق الدير، أما الطريق الثانية فلم تكن ميسرة ولا خالية من العقاب، فقد كانت الفتاة تودُّ لو استطاعت أن تستقل، وتنعم بحياة حرة لا تخضع فيها لأحد، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وإيرادها أضيق من أن يسع حاجاتها ومطالبها؟ أليس من الممكن أن يعينها أخوها ذاك الذي يعمل ضابطًا في الجيش والذي أظهر حبًّا لها وعطفًا عليها؟ فلتعتمد عليه إذن ولتكتب إليه، ولكنه يرد عليها مخيبًا أملها، لا بخلًا ولا قسوة، ولا تعمدًا لإيذائها، ولكن ظروفه لا تسمح له بأن يبذل لها المعونة التي ترجوها، وهو من أجل ذلك يتقدم إليها في ألا تحاول هذا الاستقلال ولا تطمع فيه.
وفي أثناء ذلك تزداد الحياة ثقلًا في القصر ويزداد الخلاف نكرًا بين الأختين، وتلم بالقصر زائرة ذات خطر، تواسي الفتاة وتسليها أول الأمر، وتجد لها مخرجًا من ضيقها وفرجًا من حرجها آخر الأمر، وهذه الزائرة الخطيرة هي مدام دي ديفان.
ومدام دي ديفان ليست في حقيقة الأمر إلا عمة الفتاة، نشأت كما نشأ أخوها في هذا القصر ثم اختلفت بهما أسباب العيش، فتزوجت من المركيز دي ديفان، ثم فرقت بينهما الأحداث، فسلكت في باريس وفي قصر الوصي على العرش مسالك الريبة والعبث، واستمتعت بالحياة الماجنة وقتًا ما، ثم ثابت إلى نفسها وراجعت أمرها وجددت سيرتها، واتخذت لها رفيقًا خليلًا من رجال القضاء، ومضت تدبر حياتها في حزم وجد، حتى اكتسبت لنفسها في باريس مركزًا ممتازًا، ثم اتخذت لنفسها دارًا ملحقة بدير من الأديار في باريس، وجعلت تستقبل في هذه الدار أعلام الأدب والفلسفة والسياسة، حتى أصبح «صالونها» من أهم المراكز الثقافية الممتازة في العاصمة الفرنسية، وقد توثقت الصلات بينها وبين الأعلام الممتازين في الحياة الفرنسية، حتى أصبح اسمها علمًا من الأعلام في الحياة الأدبية الفرنسية وفي التاريخ الأدبي الفرنسي بوجه عام، وقد جعلت كلما تقدمت بها السن تشعر بشيئين يدفعانها إلى التشاؤم دفعًا شديدًا: أحدهما مادي وهو هذا الضعف الذي أخذ يصيب بصرها شيئًا فشيئًا ويصورها لنفسها ضريرة بعد وقت طويل أو قصير، والآخر معنوي وهو هذا البغض لأوضاع الحياة، والشك في قيمتها، والإنكار لهذه القيمة آخر الأمر، حتى انتهت إلى مثل ما انتهى إليه أبو العلاء حين قال:
فقد كانت تقول: إن أبغض شيء في حياة الإنسان هو حياة الإنسان. ولذلك أحست شيئًا شديدًا من الضيق، والتمست إلى العزاء والشفاء وسائل مختلفة، ومن بين هذه الوسائل زيارتها لقصر أخيها، وفي هذه الزيارة لقيت هذه الفتاة فكلفت بها أشد الكلف، وأُعجِبت بها أعظم الإعجاب، ثم لم تلبث أن رأت في هذه الفتاة رفيقًا لها في حياتها البائسة في باريس، فجعلت تتقرب إليها وتتلطف لها حتى ارتفعت بينهما الكلفة، وأخذت الفتاة تبثها آلامها وأحزانها وتجد عندها التسلية والمواساة.
وقد عادت مدام دي ديفان إلى باريس، وصممت الفتاة على ترك القصر، ففارقته بعد خطوب، وأوت إلى دير من الأديار في مدينة ليون، لم تلتحق به، وإنما اتخذته لنفسها مثوى كما يأوى النَّاس إلى الفنادق الآن، وقد أقامت في هذا الدير وقتًا غير قصير، ريثما تقنع أخاها بحسن رأيها في الحياة المستقلة، وقد كان هذا الإقناع عسيرًا، جدَّت فيه الفتاة، وجدت فيه مدام دي ديفان، وتوسط فيه أحد الأساقفة، وانتهت الفتاة بعد لأي إلى ما كانت تريد، وظفرت مدام دي ديفان بعد مشقة بما كانت تتمنى، ووصلت الفتاة ذات يوم إلى باريس واستقرت عند عمتها أو صديقتها في الطابق الأعلى من الدار.
وقد فُتِن المختلفون إلى صالون مدام دي ديفان بهذه الفتاة الوافدة من الأقاليم، لا لجمالها فلم تكن ممتازة الجمال، ولكن لظرفها وخفة روحها ورجاحة عقلها، وسعة معرفتها وقدرتها على المشاركة في كل الأحاديث التي كانت تدور في هذه الاجتماعات.
وما أحب أن أُفصِّل حياة الفتاة في هذه الدار؛ فذلك شيء لا يتسع له هذا الحديث، ولكني ألاحظ أن إقامتها في هذه الدار لم تطل حتى صَبَت إليها بعض القلوب، فوجدت في نفسها بعض الصدى، ولكن في كثير من التحفظ والاحتشام. صبا إليها قلب هذا القاضي الذي كان خليلًا لعمتها، وصبا إليها قلب نبيل فرنسي أديب آخر، وصبا إليها بنوع خاص قلب نبيل أيرلندي كان يختلف إلى الدار، وهمت الفتاة أن تصبو إليه، ولاحظت مدام دي ديفان ذلك فاصطنعت بعض العنف، وطردت هذا الأيرلندي من دارها، ولم تلبث الفتاة أن ثابت إلى الرشد والحزم، أو ثاب إليها الرشد والحزم.
على أنها لقيت في صالون مدام دي ديفان فرنسيًّا آخر، لم تلبث أن صَبَتْ إليه كما صبا إليها، وإذا حياتها تتغير تغيرًا جوهريًّا، والغريب من أمر هذا الفرنسي أنه كان يشبهها من بعض الوجوه، ولعل هذا الشبه أن يكون له أثر في هذا الود.
هذا الفرنسي هو دالمبير، والقراء يعرفون من غير شك المركز الممتاز الذي كان دالمبير يشغله في الحياة العقلية الفرنسية في ذلك الوقت، فقد كان دالمبير فيلسوفًا وأديبًا ورياضيًّا، وكان متفوقًا في هذا كله تفوق النبوغ، وكانت الأندية الباريسية تختصم فيما بينها أشد الاختصام أيها يظفر به ويحظى بزيارته.
وكان دالمبير، كما كانت فتاتنا، قد ولد لأبوين نبيلين سنة ١٧١٧، ولكنه وُلد مولدًا غير شرعي، كما وُلدت الفتاة مولدًا غير شرعي، وقد حظيت الفتاة بعطف أمها، فأما دالمبير فقد فَقَدَ هذا العطف فقدًا تامًّا، وجده رئيس من رؤساء الشرطة عند كنيسة من الكنائس، فالتقطه وعمده والتمس له المراضع خارج باريس.
فقدت الفتاة عطف أبيها، وحظيت بعطف أمها، وفقد دالمبير عطف أمه مدام دي تنسين، ولكنه ظفر بعطف أبيه مسيو دي توش، فقد عاد هذا الرجل إلى باريس من بعض المهمات التي كان كُلِّفَ القيام بها، فعرف مولد الطفل واطِّراحه والتقاط الشرطة له، وجدَّ حتى اهتدى إليه والتمس له المراضع في باريس نفسها، ولم يستطع أن يستلحقه لأنه كان متزوجًا، فقام على تربيته وأوصى له بما يكفل له حياة متواضعة.
وقد نشأ الصبي نشأة حسنة في حجر مرضعه الفقيرة، فدرس حتى تخرج في الأدب والفلسفة والطب والرياضيات، وبرع في هذا كله حتى أصبح علمًا من أعلام الثقافة الفرنسية، بل طابعًا لهذه الثقافة في القرن الثامن عشر.
وكان الود متصلًا بينه وبين مدام دي ديفان، حتى استأثرت به استئثارًا، فلم يكن يختلف إلا إلى صالونها، أو لم يكن يواظب إلا على صالونها، وكانت تؤثره أشد الإيثار وتختصه بمودتها وبرها، ولكنه لقي عندها هذه الفتاة، فصبا إليه وصَبَت إليه، واتصل بينهما وُدٌّ لم تلبث صاحبة الدار أن ارتابت فيه، ثم ضاقت به، ثم لامت، ثم عنفت في اللوم، فاضطر دالمبير إلى أن يسافر من باريس ويذهب إلى برلين، مستجيبًا لدعوة فردريك يلتمس في هذا السِّفر إرضاء مدام دي ديفان، وسلوًّا عن مدموازيل دي لسبيناس. على أنه عاد إلى باريس، فإذا قلبه ما زال كما كان حين ارتحل عنها، وإذا قلب الفتاة ما زال كما كان حين فارقها.
على أن دالمبير إن انفرد بحب الفتاة فهو لم ينفرد بإكبارها والكلف بحديثها، وإنما شاركه في ذلك جماعة من الذين كانوا يختلفون إلى الدار، يقدمون موعد زيارتهم، ويصعدون إلى حيث كانت الفتاة تقيم، فيتحدثون إليها ويسمعون منها، حتى إذا كان موعد الاستقبال عند مدام دي ديفان في الساعة السادسة من المساء هبطوا إليها، وقد عرفت صاحبة الدار هذا الأمر، فسخطت له أشد السخط ونفت عن دارها مدموازيل دي لسبيناس كما نفت عن دارها أثيرها دالمبير.
وأُثِيرت حرب شعواء بين السيدة والفتاة، وانقسم النَّاس في أمرهما انقسامًا عظيمًا، كانت له آثار في الأدب الفرنسي، والمهم هو أن أصدقاء الفتاة من الرجال والنساء منحوها كثيرًا من العطف والود، واتخذوا لها دارًا غير بعيدة من دار مدام دي ديفان، فأقامت فيها وجعلت تستقبل أصدقاءها، وما هي إلا مدة قصيرة حتى أصبح صالونها ممتازًا في باريس ينافس صالون مدام دي ديفان منافسة خطيرة حقًّا.
أقامت في الدار وحدها أول الأمر، ولكن الظروف كانت تريد أن تجمع بينها وبين دالمبير في دار واحدة، وقد كان دالمبير يعيش عند مرضعه في بيتها الحقير، لم يخطر له أن يفارقها، ولكنه مرض مرضًا شديدًا فقامت على تمريضه مدموازيل دي لسبيناس ولم تفارقه حتى أتيح له الشفاء.
ثم مرضت مدموازيل دي لسبيناس نفسها، أصابها الجدري حتى عرض حياتها للخطر، وقام على تمريضها دالمبير حتى أتيح لها الشفاء.
وكذلك قضت الظروف أن يعيش الصديقان في دار واحدة: تعيش الفتاة في الطابق الأدنى، ويعيش الرجل في الطابق الأعلى، وألف النَّاس منهما ذلك، فلم ينكروه ولم يضيقوا به، والواقع أن هذا الأمر لم يكن فيه ما يدعو إلى ضيق أو إنكار؛ فقد تحابَّ الصديقان ولكن في غير ريبة، ومع أن الألسنة لم تمتنع عن التعريض والتلميح في أول الأمر، فقد تبين أن الحب بين الصديقين لم ينزل قط عن مكان الحب الأفلاطوني النقي البريء.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت مدموازيل دي لسبيناس علمًا من أعلام الحياة العقلية الفرنسية، وأصبح صالونها مركزًا من مراكز الثقافة العليا في الأدب والفلسفة والفن والسياسة والاجتماع. يختلف إليه مرات في كل أسبوع زعماء الحياة العقلية في باريس، فيحاورون ويجادلون ويقررون أيضًا، ويختلف إليه في الوقت نفسه أعلام الأجانب الذين يمرون بباريس أو يقيمون فيها إقامة متصلة.
من هؤلاء الأجانب أدباء وساسة وفلاسفة ممتازون، من الإنجليز، والإيطاليين، والإسبانيين، والألمانيين أيضًا، ثم كانت مدموازيل دي لسبيناس وصديقها دالمبير يغشيان الصالونات المختلفة في باريس عند مدام جوفران ومدام دي شوازل ومدام نيكر ومدام هلڤسيوس ومدام دي لكسسبورج، وعند طائفة أخرى من السيدات اللاتي كن يتخذن هذه الصالونات مراكز للحياة العقلية القوية الخصبة.
في هذا الوقت لقيت مدموازيل دي لسبيناس في أحد هذه الصالونات فتًى إسبانيًّا ممتازًا امتيازًا أجمعت عليه الصفوة الباريسية كلها، وهو مسيو دي مورا. كان ضابطًا في الجيش الإسباني، وكان أبوه سفيرًا في باريس. لم تكد مدموازيل دي لسبيناس تلقى هذا الفتى حتى صبت إليه، ولم يكد هذا اللقاء يتكرر حتى وقع حبه في قلبها كما وقع حبها في قلبه، ولم يكن هذا الحب عابرًا ولا سطحيًّا، وإنما كان من هذا الحب الذي لا يكاد يبلغ القلوب حتى يستقر فيها ويستأثر بها ويملك عليها كل شيء، ويصبح فتنة لا تجد النفوس عنه منصرفًا، ومحنة لا تجد القلوب إلى التخلص منه سبيلًا، وقد كان هذا الحب محنة بأدق معاني هذه الكلمة، سعد به العاشقان سعادة تعجز النفوس عن احتمالها وتقصر الألسنة عن وصفها، وشقي به العاشقان شقاءً كان سبيلهما إلى الموت.
كان حبًّا نقيًّا ممعنًا في النقاء، ولكنه على ذلك لم يكتفِ بنقائه الأفلاطوني وإنما حاول أن يسلك طريقه الشرعية إلى الرضا، فهمَّ العاشقان أن يقتَرنا، وقامت دون أمنيتهما هذه أهوال ثقال. أهوال مختلفة، بعضها جاء من اختلاف الطبقة، فقد كان الفتى من أرفع الأسر الإسبانية منزلة وأعلاها مكانة، وأعرقها نسبًا، وأعظمها ثروة، وأوسعها جاهًا ونفوذًا، وكانت مدموازيل دي لسبيناس كما علمت لا أسرة لها وليس لها نسب إلا هذا الذي يعتز به المتنبي في كثير من شعره، والذي لا يرجع إلى الأسرة وما يكون لها من مجد قديم، وإنما يرجع إلى الشخص وما يستحدث لنفسه من المجد.
فليس غريبًا أن تضيق الأسرة الإسبانية بفكرة الزواج هذه وتراها ضلالًا وانحرافًا عن الجادة، وتقيم في سبيلها العقاب التي لا يمكن تذليلها.
وليس غريبًا أن يصمم الفتى على بلوغ ما أراد، وأن تثار حرب عنيفة منكرة خفية بينه وبين أبويه، ولو أُتِيحَتِ الصحة للفتى وواتته الظروف لكان من الممكن أن ينتصر آخر الأمر، فقد كان حازمًا عازمًا شديد المضاء، ولكن الأيام والحوادث كانت أشد منه حزمًا وعزمًا وأبعد منه مضاءً. أغرت به الأسرة وأغرى به المرض أيضًا؛ فقاوم الأسرة ما وسعته المقاومة وكاد ينتصر عليها، وقاوم المرض ما وسعته المقاومة، ولكن المرض انتصر عليه وهو في طريقه إلى باريس عائدًا إليها من وطنه، ليُتِمَّ ما صمم عليه من الزواج.
ولم تصل إلينا الرسائل التي تبادلها العاشقان، وقد كانت كثيرة ما في ذلك شك؛ فقد كتب الفتى إلى صاحبته اثنتين وعشرين رسالة في عشرة أيام، ولم يكن بعيدًا عنها، وإنما كان قريبًا منها في ضاحية من ضواحي باريس، وإنما عرفنا أخبار هذا العشق وخطوبه من رسائل أخرى لمدموازيل دي لسبيناس ومن رسائل تبُودِلت بين دالمبير وأسرة الفتى في مدريد.
على أن أمور مدموازيل دي لسبيناس تعقدت فجأة تعقدًا غريبًا هو الذي أظهر الأدب على شخصيتها هذه الفذة وأورثه فنها هذا الرفيع. كان عاشقها في مدريد يقاوم أسرته ويقاوم علته، ويتخذ من حبه القوي أداة ناجعة لهذه المقاومة، وكانت هي في باريس تنتظر، سعيدة بالانتظار شقية به أيضًا، مشفقة أشد الإشفاق على حبيبها من هذه العلة المرهقة، ولكنها أجابت ذات يوم مع دالمبير دعوة إلى وليمة من الولائم في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم تحيط به طبيعة رائعة قد نسقتها الحضارة والفن أحسن تنسيق، فجمعت فيها بين ترف المدينة وسذاجة الريف، في هذا القصر لقيت مدموازيل دي لسبيناس فتًى فرنسيًّا نبيلًا كان النَّاس قد أخذوا يكبرونه ويعظمون شأنه لأنه أظهر تفوقًا وامتيازًا.
كان ضابطًا في الجيش، وكان قد أصدر كتابًا في فن الحرب أُعجِب به المختصون وفُتِن به المثقفون عامة، وقيل: إن بونابرت كان يصحب هذا الكتاب بعد ذلك في جميع مواقعه الحربية الكبرى، وكان هذا الفتى حلو الحديث راجح العقل حسن المحضر لطيف المدخل، قد جمع إلى براعته في فنه العسكري ظرفًا فاتنًا وثقافة واسعة وأدبًا رفيعًا، حتى إن كثيرًا من الأدباء والفلاسفة الفرنسيين كانوا ينوطون به آمالًا عراضًا، ويعتقدون أن مسيو دي جيبير سيكون البطل الذي ينقذ فرنسا في يوم من الأيام.
لقيت مدموازيل دي لسبيناس هذا الفتى في ذلك القصر، فتحدثت إليه وسمعت منه، وأكبر الظن أنها سايرته غير متكلفة في بعض هذه الحدائق الرائعة، فوقع من نفسها وأعجبها حديثه وظرفه وثقافته، فلما عادت إلى باريس قرأت كتابه فازداد إعجابها به وإكبارها له، ولم تملك نفسها فكتبت إليه تثني على هذا الكتاب، وأقبل هو يزورها ليشكر لها هذا الثناء، ولم ينصرف من هذه الزيارة حتى ترك في قلب مدموازيل دي لسبيناس جذوة لا سبيل إلى إطفائها، وأصحاب علم النفس والمتعمقون لدقائق الحب وما يثير في القلوب من العواطف والأهواء يستطيعون أن يجيبوا عن هذا السؤال: كيف اجتمع السيفان في غمد؟ وكيف ائتلف الحبان في قلب؟ وكيف قامت الجذوة القديمة التي أوقدها الفتى الإسباني منذ سنين إلى جانب الجذوة الحديثة التي أوقدها الفتى الفرنسي منذ أيام؟ وقد أجاب جوت عن هذا السؤال حين قال في بعض كتبه: «إن القلب الإنساني كبير يسع كل شيء وضعيف يحطمه أيسر شيء.» وقد اختلف الكتاب اختلافًا شديدًا جدًّا في حل هذه المشكلة، وما يعنيني من اختلافهم شيء؛ فأنا لا أكتب حديثًا في الحب، وإنما أقص قصة امرأة جمعت في قلبها بين حبَّين.
فهي لم تسلُ عن فتاها الإسباني، وإنما ازدادت به تعلقًا وبحبه استمساكًا، ومن الحق أنها دافعت الحب الجديد عن نفسها فلم تستطع، ثم خادعت نفسها عن هذا الحب فصورته على أنه مودة فلم يغنِ الخداع عنها شيئًا، ثم وقفت حائرة ممزقة بين هذين الحبين: نصف قلبها في إسبانيا، ونصف قلبها الآخر في باريس. أستغفر الله! بل غرَّب نصف قلبها إلى إسبانيا وشرَّق نصفه الآخر إلى ألمانيا؛ فقد سافر الكونت دي جيبير إلى ألمانيا والنمسا وكاد يسافر إلى روسيا، فتبعه قلب مدموازيل دي لسبيناس أو قل: نصف قلبها، أو قل إن شئت: إنها جعلت ترسل إليه قلبها أقساطًا منجمة في هذه الكتب التي كانت تكتبها إليه.
وقد علمت مدموازيل دي لسبيناس أن قلب صاحبها الفرنسي لم يكن خالصًا وأنه كان يحب سيدة نبيلة أخرى، وأنه لم يكن يبخل على نفسه باجتناء زهرات الحب واقتطاف ثمرته، حين كان ذلك يتاح له بين حين وحين. علمت ذلك فذاقت مرارة الغيرة واصطلت بنارها المحرقة، وعذبت نفسها وعذبت صاحبها في ذلك عذابًا شديدًا، واستيقنت منذ أحست هذه الغيرة أن قلبها لا ينعم بالمودة الهادئة وإنما يشقى بالحب العنيف.
وما زالت تعذب نفسها وتعذب الفتى حتى استخلصته أو ظنت أنها استخلصته لنفسها من دون النساء، وقد عاد الفتى الفرنسي إلى باريس، وأخر المرض عودة الفتى الإسباني إليها، فكانت تلقى صاحبها الفرنسي في كل يوم، تقول له ويقول لها، والأمر بينهما مستقيم لا يتجاوز النقاء الأفلاطوني البريء، والناس يعلمون أنها تكبره وتؤثره بالود، وأنه يكبرها ويؤثرها بالإجلال، والناس يعرفون ذلك ولا ينكرونه، حتى كان يوم من أيام فبراير سنة ١٧٧٢ ذهب الصديقان فيه إلى الملعب وسمعا فيه الموسيقى، وكان للموسيقى في نفسهما أثر أي أثر، فلم يتفرقا حتى شربا من تلك الكأس التي لا يعرف النَّاس أتقدم لشاربيها رحيقًا أم حريقًا، كما يقول ابن الرومي، أتقدم إليهم شرابًا صفوًا أم سمًّا زعافًا. مهما يكن من شيء فقد كان قلب مدموازيل دي لسبيناس ينقسم نصفين: نصف لحب الفتى الإسباني ونصف لحب الفتى الفرنسي، فقد أصبح منذ ذلك اليوم ينقسم أثلاثًا، ولا يخلص للحب وحده وإنما يقوم الندم فيه بين هذين الحبين مقامًا غريبًا، يشتد ويقسو حتى يُخيَّل إليها أنها آثمة مجرمة قد خانت الرجل الذي تحبه وحده وتؤثره بحبها من دون الناس، ثم يضعف ويتضاءل حتى ينسيها نفسها وينسيها كل شيء ويقدمها ضحية متهالكة متضائلة إلى هذا الحب الآخر الجامح الذي لا يعرف قصدًا ولا اعتدالًا، وقد أرادت الحياة أن تمعن في القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، وأن تجعل كل شيء من أمر هذه المرأة غريبًا حقًّا.
ففي نفس اليوم الذي أثمت فيه اشتدت العلة على صاحبها الإسباني حتى بلغت حد الأزمة المهلكة، وصلت إليها الأنباء بذلك بعد أيام، فسجلته وسجلت معه ندمًا ما أعرف أنه صُوِّرَ في أدب من الآداب كما صُوِّرَ في رسائل مدموازيل دي لسبيناس، ثم جاءتها الأنباء بأن صاحبها الإسباني قد مات في طريقه إلى باريس؛ فلم تشك في أن خيانتها له قد قتلته، وإن لم يعلم من أمر هذه الخيانة شيئًا، وقد همت أن تقتل نفسها، ولكن صاحبها الفرنسي ردها عن الموت أو رد عنها الموت، فعاشت بعد ذلك عيشة رائعة مروعة حقًّا: تحب كما لم يحب أحد قط، وتندم كما لم يندم أحد قط، وتصور ذلك في رسائل لم يكتب أحد مثلها قط. بعض هذه الرسائل تُكتَب إلى عاشقها الحي، وبعض هذه الرسائل تُكتَب إلى عاشقها الذي مات، وهي في أثناء ذلك تعيش عيشتها المألوفة، تستقبل الفلاسفة والأدباء والساسة وتزورهم، وتغشى الصالونات وتختلف إلى ملاعب التمثيل والموسيقى، وتسعى في أن يُنتخَب فلان أو فلان عضوًا في المجمع اللغوي الفرنسي، وتسعى في أن يحقق هذا الوزير أو ذاك لهذا الصديق أو ذاك هذا الأمل أو ذاك، وتشارك في النقد الأدبي وفي النقد السياسي وفي كل ما يشارك فيه الأدباء والساسة والفلاسفة، وتكتب إلى أخيها من أختها وأبيها، وتُعنى بأمره عند السلطان وتظهره مع امرأته على باريس.
وتكتب في أثناء هذا كله إلى عاشقها الفرنسي، أو قل ترسل إلى هذا العاشق قطعًا من النار المدمرة التي لا تبقي ولا تذر، وقطعًا من النسيم الحلو الذي يملأ القلوب أمنًا وسلامًا وغبطة وابتهاجًا، ترسل إليه هذا الكتاب القصير الذي أُعجِب به سانت بوف والذي لا تؤرخه بيوم كذا من شهر كذا من عام كذا، وإنما تؤرخه بكل لحظة من لحظات حياتها: «أيها الصديق إني آلم، إني أحبك، إني أنتظرك.»
وأغرب من هذا كله أن النَّاس لا يعلمون من أمر هذا الحب شيئًا، وأن دالمبير الذي يعيش معها في دار واحدة لا يعلم من أمر هذا الحب شيئًا، وإنما يحس فتورها عنه ولا يجد لهذا الفتور تعليلًا.
وقد قضت ظروف الحياة على الكونت دي جيبير أن يتزوج، فتألمت مدموازيل دي لسبيناس وثارت وغضبت، ثم أذعنت لأنها لم تكن تملك إلا الإذعان، وقد عاهدت نفسها وعاهدت صاحبها على أن تحترم هذا الزواج وتحترم الفضيلة التي ينبغي أن تظله وتسيطر عليه، وقد وفت بالعهد واحتملت في هذا الوفاء أهوالًا ثقالًا، وهمَّ صاحبها ذات ليلة أن يخرج عن هذا الوفاء النقي، كان يقرأ معها بعض رسائلها إليه، فصبا قلبه وثارت نفسه وجمحت عواطفه، وطغت غرائزه، ولكنها ردته ردًّا منكرًا عنيفًا، فعاد إلى داره متهالكًا متخاذلًا، وكتب إليها من ساعته معتذرًا نادمًا، ووصل إليها كتابه فإذا هي غارقة في دموعها؛ لأنها كلفت نفسها من الجهد فوق ما تطيق، والفتى محب لزوجه، مستبقٍ صلته مع خليلته الأولى في غير إثم كما يقال، ولكن مدموازيل دي لسبيناس تكتب إليه: «ضعني حيث شئت من حبك القديم ومن حبك الجديد؛ فلن أقول شيئًا، ولكن اجتهد في ألا تنزلني منزلة مخزية فإني لا أستحق هذا الخزي.»
وقد أخذت العلة تسعى إلى مدموازيل دي لسبيناس، وأخذت هي تستبطئ الموت، حتى إذا تقدمت العلة فغيرت من شكلها ومن جسمها أوت إلى غرفتها ثم إلى سريرها، ثم أبت أن تلقى صاحبها لأنها لم ترد أن يراها وقد تغير شكلها على غير ما يهوى.
أبت أن تلقاه، ولكنها مضت في الكتابة إليه إلى آخر لحظة. كان يعودها مرات في كل يوم فتعلم بمكانه في دارها، وتسعى الكتب بينها وبينه، حتى كان آخر شيء كتبته وهي في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة كتاب حُمِل إليه، ولم يكد يبلغه حتى كانت محتضرة تعالج سكرات الموت.
وقد ماتت مدموازيل دي لسبيناس ومضت على موتها أعوام وأعوام، ومات الكونت دي جيبير أيضًا، ثم عرف النَّاس في أول القرن الماضي وعرف من بقي من أصدقائها أمر ذلك الحب حين نشرت رسائلها إلى الكونت دي جيبير.
وكم كنت أحب أن أتحدث عن هذه الرسائل، ولكني لم أكتب هذا الفصل إلا لأغري القراء بقراءتها في أصلها الفرنسي وبترجمتها إلى اللغة العربية، فما أعرف أن أدبًا من الآداب الحية أو القديمة قد صور الحب والندم والألم والغيرة كما صورتها مدموازيل دي لسبيناس.