الأمل اليائس
ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه، ولكن أكبر كل منهما صاحبه، فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلًا، زُوِّجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الإقليم، ولكنها لم تكد تقضي معه أشهرًا حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرهًا شديدًا، وكانت تقول عنه: إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسوءك ويصرفك عنه، على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس، ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعًا لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.
وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أُقِيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر، وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضًا، وكان النَّاس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة، ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يومًا، على أنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تُصرَف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة، وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهرًا ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة، ثم كان بينهما صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء، وألا يعيشا معًا، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضًا، ففُرِّق بينهما، وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فنًّا من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف النَّاس عنها، فأوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهرًا، ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس، واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يئوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأدباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأدبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وإنما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم، وشأنها يرتفع، لا من حيث إنها امرأة جميلة خلابة، تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبا ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث إنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها، ذوو العقول، وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارًا عظيمًا حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها ڤولتير، وكلف بها منتسكيو، وأطاف بها أعلام الأدب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها.
وما هي إلا أن تتخذ لنفسها دارًا في باريس وتدعو إليها أصدقاءها هؤلاء من الأدباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم، فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس.
وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثمًا، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهدًا، والتي كانت تأوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها، وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا.
أقامت صاحبتنا في هذه الدار، ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء، ويسمرون إلى قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب، ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأدباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأدب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة، وتضيق بها ضيقًا شديدًا، وكانت تُعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تُعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك، وكان إسرافها في الشك يصرفها عما كان يكلف به النَّاس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم، أكثر مما كانت تعمل في البناء.
وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدت في تنظيم حياتها، وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلًا عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شيء على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلما عرف تاريخ الآداب رجلًا ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء وهي: إن شر ما ابتلينا به من الشقاء إنما هو الحياة.
وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأدبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تلهُ، ولم تعبث، ولم تجد إلا لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها، فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفًا شديدًا، فكانت تسهر الليل، ولا تنام إلا قليلًا في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية، أو مستقبلة، ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه، فهذا حجاب رقيق يُلْقَى شيئًا فشيئًا بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلًا قليلًا، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئًا، والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء، وإذا هي عمياء.
ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد، ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحًا حرًّا، وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عامًا، استرد قلبها فيها شبابه كله، وتبينت هي وتبين هو وتبين النَّاس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقًا بالحياة وافتقادًا لهذا النور الذي يحببها إلى النفس، وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فإن العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم، وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتًا.
وفي سنة ١٧٨٠ ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدًّا إلى صاحبها كتابًا تنبئه فيه بقرب آخرتها، وتنبئه بأنها لا تأسف لفراق الحياة؛ لأنها لا ترى في الحياة خيرًا بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه، وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبئه بأنه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى النَّاس عمن كان يؤثرهم بالحب، فلما أتمت إملاء كتابها همَّ سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء، هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس، أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش، فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضا والغبطة: أكنت تحبني إذن؟
هذه صورة من صور هذه المرأة، وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالًا بالنفوس، وتأثيرًا في القلوب، ولكن لهذه المرأة صورًا أخرى عظيمة الخطر جدًّا في حياة الأدب الفرنسي، فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصيغ التي كانت تعلن فيها، كانت تؤثر ڤولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جاك: «إن لروسو حظًّا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظ من الحرارة ولكنها حرارة الحمى.»
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب، وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثر في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعدُ، فلعل أحسن ما كُتِب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فإن أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نُشِر عنها في «مجلة العالمين» أول أغسطس، فإن أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذي كان يصفها به ڤولتير وفكر فيه؛ فإنه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابًا، فقد كان يسميها: «الضريرة المبصرة».