قصة فيلسوف عاشق
لا أعلم أن الفلسفة تحظر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة حب كلها، وليس اسمها إلا لفظًا من ألفاظ الحب، ولكن هذا الحب إذا احتل قلبًا شغله عن كل شيء، واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة وهوًى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة إلا شيئًا يسيرًا جدًّا.
فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الأثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئًا أو أحدًا غيرها، فمن فعل ذلك أو شيئًا منه، فليس هو من الحكمة في شيء! وإنما هو رجل مثلك ومثلي يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.
لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجبًا من العجب، وفنًّا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص إلا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة، والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال إلهتها العليا، ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بإلهة أخرى، يشركها مع هذه الإلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أتينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان، ولكن فتنة تخلب بقوتها لا برقتها!
لم يعرف التاريخ عاشقًا من عشاق أتينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به إلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة باييس، ويتخذ منهما شخصًا واحدًا يحبه ويقدسه، ويصوغ له دينًا قويًّا خصبًا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.
أظنك قد عرفت هذا الفيلسوف، فهو «أغست كونت» مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع، وصاحب السلطان العظيم على العقل الفرنسي، ثم الأوروبي ثم الأمريكي، عصرًا طويلًا من القرن التاسع عشر، وأظنك قد عرفت هذه المرأة التي زاحمت الفلسفة في قلب «أغست كونت» فكادت تغلبها عليه، أو غلبتها عليه بالفعل، ثم أصبحت إلهة للفيلسوف يعبدها كما يعبد النصارى المسيح، وكما كان الوثنيون من اليونان يعبدون أتينا أو أرتميس، ثم أصبحت إلهة لجماعة من تلاميذ الفيلسوف المتفرقين في أطراف الأرض، ثم أُقِيم لها معبد لا يزال يُحَج إليه إلى الآن في باييس، وأُقِيمت لها معابد متفرقة في أمريكا الجنوبية، حيث لا يزال للفيلسوف أتباع يشايعونه في القسم المتطرف من فلسفته.
هذه المرأة هي «كلوتلد دي ڤو»، وأظنك تطمئن الآن وقد سمعت هذين الاسمين، إلى أني لا أخترع ولا أتبع الخيال، ولا أضع قصة! وإنما أكتب فصلًا من فصول التاريخ، وليس من الضروري أن يلجأ الكاتب إلى الخيال والاختراع؛ ليستطيع أن يمتع قراءه، وأن يؤثر في نفوسهم ويثير فيها هذه العواطف الحادة المختلفة التي تعبث بها حين تحس لذة أو ألمًا، وحين تجد حبًّا أو بغضًا، وحين تشعر بحزن أو سرور، فقد تكون الحقائق الواقعة أبرع وأروع من أحسن القصص الخيالية وأبدعها، ولكني في حاجة إلى أن أقدم إليك شخص هذين العاشقين قبل أن أحدثك عن عشقهما، وأقص عليك ما كان بينهما من غرام.
نشأ أغست كونت مع القرن التاسع عشر، ولم يكد يتوسط العقد الثاني من عمره حتى ظهر تفوقه في العلوم الرياضية، ولم تكد تتقدم به السن قليلًا حتى عُرِف له هذا التفوق، وإذا هو حجة في هذه العلوم، وإذا هو لا يقف عندها ولا يقتصر عليها، وإنما يفكر في الصلة بينها وبين بقية أنواع المعرفة الإنسانية من جهة، ويفكر من جهة أخرى في الحياة الأوروبية المضطربة بعد الثورة والإمبراطورية، فيحاول أن يضع ترتيبًا جديدًا للعلوم، ويوفَّق إلى ما يريد، ويحاول أن يجد نظامًا جديدًا تقوم عليه الحياة الأوروبية، فيوفَّق أيضًا، ويصبح لهذين النوعين من التوفيق صاحب الفلسفة الوضعية ومؤسس علم الاجتماع.
ولكن فلسفته الوضعية هذه، كانت حديثة ثائرة لا تستأثر بالقلوب استئثارًا مطلقًا، ولا تقطع على أهلها سبيل الحياة، فمسحت لعاشقها «أغست كونت» أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يحب كما يحبون، فعاش وأحب، ولكن أي عيشة وأي حب؟ تركت الفلسفة قلبه حرًّا، وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف يحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ، كانت هلوكًا فاجرة، وخُيِّلَ إلى «أغست كونت» أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج، وما هو إلا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره، فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل وصابر حتى جُنَّ، وإذا هو يُلْقِي نفسه في النهر وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينًا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب، ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق؛ لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ، فنشاطه إذن موقوف على الفلسفة والتعليم.
وكانت «كلوتيلد» هذه في الرابعة والعشرين من عمرها، ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب، كان أبوها رجلًا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأُحِيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل، وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت «كلوتيلد» نشأة فيها بؤس وضيق، ولكن فيها احتفاظًا شديدًا بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجاوز الخامسة عشرة حتى زُوِّجت من رجل يحمل اسمًا من أسماء الأشراف، ولكن حظه من الشرف كان قليلًا، وهو «دي ڤو». اقترن بالفتاة وعُيِّن جابيًا للضرائب، وقضى مع امرأته أعوامًا لا هو بالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطًا من السعادة، ثم أصبح النَّاس ذات يوم، وإذا هو قد ذهب إلى سفر مجهول، وما هي إلا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئًا كثيرًا من أموال النَّاس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.
فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة، عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال، وكان جمالها معتدلًا لا إسراف فيه، وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئًا من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئًا من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.
فلما لقيها الفيلسوف في بعض زيارته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف، ولكنها أُعجِبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه وسكت عنها، واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء، وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحدًا منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعًا خاصًّا.
كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في الزيارة، كان يلقى ثلاثًا من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائمًا أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها «لوسي» ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئًا من شعرها، ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب «كلوتيلد»، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلًا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحيانًا، وكان الفيلسوف يتحدث إلى «كلوتيلد» عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك، وكانت الفتاة تُعجَب بهذا كله، وإن لم تكن بطبعها مشغوفة بالفلسفة، وكان الفيلسوف يلتمس إرضاءها والتقرب إليها على غير شعور منه، فيذكر لها براعة النساء في الأدب والفلسفة، وكان هذا الحديث يروقها ويتملق كبرياءها، وكانت الفتاة تكبر في نفسها حين ترى الفيلسوف قد رآها لثقته أهلًا، وذات يوم سقطت على الفيلسوف من السماء سعادة لم يكن يقدرها ولا ينتظرها ولا يحسب لها حسابًا. زاره تلميذه ومعه أخته، وكان الفيلسوف في جماعة من العلماء، وكان الحديث علميًّا عميقًا، فابتهج الفيلسوف وأُعجِبت الفتاة، وجلست تسمع في إكبار وتثاؤب خفيف لحديث العلماء، ثم همت تريد أن تنصرف فجمع الفيلسوف شجاعته كلها في يديه واستأذن الفتاة في أن يزورها في بيتها الخاص، فأذنت، هنالك بدأت الخصومة بين إلهة الفلسفة وإلهة الجمال، هنالك اضطرب «أغست كونت» بين العقل والقلب، وبين التفكير والحب. هنالك أخذ الفيلسوف يسأل نفسه: ما قيمة هذا العلم الخالص الجاف؟ وما قيمة هذا التفكير العميق العقيم؟ ومتى كان الرجل رجلًا بعقله دون قلبه؟ ومتى كان الإنسان إنسانًا بالتفكير دون الحب؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في كل وقت، ولكنه يستطيع أن يحب دائمًا، وإذن فقد تكون آلهة الفلسفة مسرفة في الطغيان، وقد يكون من الممكن أن يتخذ «أغست كونت» رأسه معبدًا لأتينا وقلبه معبدًا لكلوتيلد.
وابتدأت زيارة الفيلسوف للفتاة في بيتها، وإذا الحب يُعلَن، وإذا الفيلسوف يلح في حبه ويسلك إلى إقناع الفتاة بهذا الحب طرقًا، منها الملتوي ومنها المستقيم، ولكن كلوتيلد لا تحب ولا تهوى، إنما تعجب وتكبر، فهي ترده عنها في رفق، وتطلب إليه مودته دون حبه، فلا يكاد يعرف منها هذا حتى يضيق بنفسه وبالحياة، وحتى تضيق به حصته، ويعجز جسمه ورأسه عن احتمال هذا الخذلان، فهو مريض يلجأ إلى السرير أيامًا، وهو مشفق أن يعاوده جنونه القديم، على أنه يبل من مرضه، ويحاول أن يجدد عهده بالفتاة، ولكنها تحظر عليه زيارتها في بيتها، وتعده باللقاء عند أمها مرتين في الأسبوع، فلا يكفيه ذلك، فتعده بلقائه مرة ثالثة، فلا يكفيه ذلك أيضًا، وتتصل بينهما كتب فيها حوار حلو ملؤه الحنان يصدر من الفتاة، عنيف معوج ملؤه الفلسفة حين يصدر عن الأستاذ، ثم يستحيل هذا الحب في نفس الفيلسوف إلى شكل جديد، فليس هو حبًّا عاديًّا كهذا الذي يكون بين الناس، وإنما هو التقاء شخصين عظيمين قد خُلِقا ليلتقيا ثم ليتعاونا على إصلاح الإنسانية وإنهاضها. هي إذن قد خُلِقت له ولن يدعها ولن يتخذ غيرها زوجًا إذا ماتت زوجه النائية، ثم تستحيل هذه العواطف ويستحيل هذا التفكير إلى فن من الفلسفة، يضعه «أغست كونت» في رسالة، ويهدي الرسالة إلى الفتاة بهذا العنوان: «رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي»، في هذه الرسالة يتغير رأي «أغست كونت» في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغيرًا تامًّا، فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه «ستوارت ميل» فيرى أن ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الآن فهو يرى المرأة عنصرًا أساسيًّا في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه، وقد سُرَّت الفتاة بهذه الهدية، وكبرت في نفسها فزارت الفيلسوف مع أمها شاكرة له.
هنالك نشط الأمل وتجددت الحياة، واعتقد الفيلسوف أنه سعيد، واستأنف إلحاحه على الفتاة واستأنفت الفتاة مدافعته عن نفسها، واحتالت في ذلك حتى زعمت له أنها قد أحبت من قبله فتًى كان لحبها أهلًا، وأحبها الفتى وسعد بهذا الحب! ولكن لم يجدا إلى الزواج سبيلًا؛ لأن الفتى كان معلقًا مثلها يخاصم امرأته ولا يستطيع لها فراقًا، فيئست من الحب والسعادة، وأزمعت أن تنصرف عن لذات الحياة أبدًا، ولكن الفليسوف مغرم، والغرم لا يعرف اليأس، وهو إذا كان صحيحًا قويًّا قد يتحول ويتشكل، ولكنه لا يزول، وما الذي يمنع غرام كونت أن يتخذ شكلًا فلسفيًّا ولو إلى حين. لقد كان عوَّد نفسه الحرمان منذ دهر طويل، فألغى القهوة منذ عشرين سنة، وترك التدخين منذ عشر سنين، ثم ألغى النبيذ ثم ألغى الفاكهة، ثم اتخذ ميزانًا يزن به ما يلائم حاجة جسمه من الطعام الخشن، وكان ربما يكتفي بالكسرة من الخبز يتبلغ بها، وهو يفكر في إخوانه من النَّاس الذين قد لا يظفرون بمثلها، وما دام قد سيطر على نفسه إلى هذا الحد، وعودها هذا الحرمان في الطعام والشراب، فما له لا يزيد هذه السيطرة؟ وما له لا يعود نفسه الحرمان لا في الحب بل في لذات الحب؟ إذن فليبقَ حبه قويًّا حارًّا، ولكن ليظل هذا الحب نقيًّا طاهرًا مجدبًا من كل لذة، ولينتظر، وليجتنب اليأس، فكل شيء يدني الفتاة منه، وكل شيء يدنيه من الفتاة. لقد أصبحت زميلة له منذ نشرت بعض الصحف السيارة لها قصتها التي وضعتها عن نفسها فأصبحت كاتبة مثله تتحدث إلى النَّاس في الأدب كما يتحدث هو إلى النَّاس في الفلسفة. هما إذن زميلان، بل هما أكثر من زميلين؛ فقد أخذت الفتاة تدنو من مذهبه في الفلسفة، وتحس ميلًا إلى آرائه الاجتماعية، وتكون منه مكان التلميذ والنصير، فليحب إذن وليصبر، وفي أثناء ذلك كانت أم الفتاة تقول لها: لولا أن مسيو كونت قبيح دميم لقلت إنه يتملقك ويدور حولك كما يدور العاشقون حول من يحبون، ومع ذلك فإن من الحق عليه لك ولنفسه أن يفكر في أن هذه الزيارات المتصلة المنظمة لا تليق بك ولا به؛ لأنها تخالف العرف المألوف أشد الخلاف.
واتصلت زيارة أغست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة، وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع النَّاس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها إلا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئًا فشيئًا من التكلف والاحتشام، ونزعت الفتاة نفسها وقتًا طويلًا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة، ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سرورًا وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين، وما له لا يُسَر ولا يغتبط والحجب تُرْفَعُ كل يوم بينه وبين من يهوى، وما له لا يأخذه الكبر ولا يملؤه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث؟ لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه، ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف، وإذن فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلًا لبلوغه والوصول إليه؟ وقد فعل، فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لونًا من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء، وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئًا فشيئًا، وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والإغراء الذي يتجه إلى العقل حينًا وإلى الشعور حينًا آخر، وكيف تريد أن تفلت الفتاة من هذه الشباك جميعًا وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى؟ هي مضطرة إذن إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.
وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقًّا راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أغست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحدًا يكلَف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلَف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها، وهي إذا شاركت رجلًا في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل، وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلًا ممتازًا مرتفع النفس كبير القلب خليقًا بالإكبار، وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكًا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذا الطفل، ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص النَّاس على الاشتراك فيه، فهي يائسة تحتاج إلى من يعزيها، وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها، وهي لا تحمل لشريكها إلا مودة صادقة وإخلاصًا لا حد له.
ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام، وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون له خليلة، وتقاسمه الحياة، وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذن، وهو راضٍ، وهو سعيد، وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات، وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أغست كونت.
وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحًا مبتهجًا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة، ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء، ولا من براعة الرجال الذين تعودوا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية وحديثه بعد ذلك عملي كله، وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قُدِّرت تقديرًا، فهو لا يرفع شيئًا إلا بحساب، ولا يضع شيئًا إلا على نظام، ولا يأتي حركة إلا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول، وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة، وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة، وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه، فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها! وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها! وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمرًا لا قِبَل لها به ولا قدرة لها عليه! وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك! وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت من السلم وبلغت الشارع ومضت! والفيلسوف ينظر إليها من النافذة، فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء، وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة: إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى، فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد أذاها بحديثه، فيكتب إليها متلطفًا ملحًّا، وتمضي هي في إبائها، ويشتد هو في إلحاحه، حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فإن كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك، ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل، ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروي، وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان غمره وملأ عليه قلبه وعقله، ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء، ولكنه ليس يائسًا بل هو بعيد كل البعد من اليأس، واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذن وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.
وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد، أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة، وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب، أو عند رجل ذي مال إن ظفرت به، ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد إلا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه، فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئًا، وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم؛ ولكنه هو لا يملك شيئًا أو لا يكاد يملك شيئًا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال، والمستقبل أمامه مظلم هو يلقي دروسًا رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئًا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه، وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقًا معلومًا، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه، وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب، وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته، وعشيقته أيضًا تعمل لخدمة الأدب إن أعجزها أن تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعًا مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئًا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم، ويقرظ فيسرف في التقريظ.
ويستأنف زياراته للأسرة محتملًا ما يرى من الإعراض، يقابله بمثله في كثير من الأحيان، حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه، فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذه في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له، هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.
ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتزودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة، وتأوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط، فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه، ولكن نفورًا قويًّا يمسكها أن تندفع في هذا الحب، فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضًا، وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتورًا وانحلالًا، وأخذت تقاوم سعالًا متكررًا مضنيًا، ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه، فصبرت واحتملت وجدت في كتابة قصتها، وجدت أيضًا في الأنس إلى الأستاذ، وأذنت له أن يزورها في بيتها الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معها أبياتًا من الشعر لا قيمة لها، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.
وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهدًا شديدًا فتحدث إليها وأطال الحديث، واطمأنت هي إليه اطمئنانًا شديدًا، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لم يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتابًا مشهورًا يعتذر فيه من هذه القبلة؛ لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيًّا طيب النشر، وردت عليه في هذه السذاجة البديعة: «لا بأس عليك؛ فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة.»
ويشتد المرض والفقر بالفتاة، ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة، فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد إلا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضًا أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد، واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين، ولكنه لم ينسَ الحب ولم يفكر في الإعراض عنه، فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى، حتى إذا أثقل عليها فأسرف، كتبت إليه تذعن لما يريد، وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى إلا صلة مصدرها الحب والرغبة.
وزارته ذات يوم وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو وإن في عينه لحبًّا لا حد له، وشهوة لا حد لها، وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها اللذين توردهما الحمى فلا يرى إلا جمالًا مغريًا وحسنًا فتانًا، وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها! ولكنه ليس قادرًا على نفسه، فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب، فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين، والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها، ولزمتها خادم الفيلسوف، وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت، وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضًا، وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة، فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها، وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة، ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس! فلم تظفر من خليلتك إلا بشر ما يظفر به الأزواج، وكان مؤلمًا جدًّا، وباعثًا للابتسام أحيانًا أن يرى الفيلسوف جاثيًا أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته، ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولئن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود، ولم لا؟ أليست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية؟! لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا عليَّ سلطان.
وساءت حال الفتاة، ودُعِيَ القسيس ليهيئها لاستقبال الموت، فلم تمانع هي ولم يمانع هو، وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطًا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعًا من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.
أقبل عذب الصوت، رضي النفس، حنون القلب، فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة، وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة، ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة، فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف، ويهم بإخراجهم جميعًا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له، فيجب أن يُخَلَّى بينه وبينها، فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي، وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرًا، وأما الأب الشيخ فيقبل هادئًا وقورًا، هنا يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.
فانظر إلى الفيلسوف وقد جثا أمام الشيخ ضارعًا مستعطفًا حتى رق له الشيخ فقال: انصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره، فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعًا حتى انتهى إلى البيت، فلما رأته الأسرة انفرجت له وخلت بينه وبين غرفة الفتاة، فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه، وأقام ساعات طوالًا لا يخرج ولا يدخل عليه أحد، ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلًا قليلًا، فلما تقدم النهار ودنا المساء فتح الباب وخرج صامتًا لا يلوي على شيء، فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر، وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلًا، وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذن في قلبه، هي إذن تقاسمه حياته الزائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها، وما هي إلا أن استحال حبه لكلوتيلد دينًا وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات، وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير، فدروسه كانت تُلْقَى في نظام ومجلاته كانت تُقْرَأُ في نظام ورسائله كانت تُقْرَأُ ويُرَدُّ عليها في نظام أيضًا.
ما أعجب أمر الإنسان! تراه ساذجًا يسيرًا وإن شخصه لشديد التعقيد.