مقدمة

بقلم  وانج نينج وسون ييفنج

عنوان هذا الكتاب «الترجمة والعولمة، وإضفاء الطابع المحلي»، مما يعني أن جميع المقالات المنشورة فيه تتصل بصورةٍ ما، على الأقل، بالقضايا الثلاث المذكورة، وهي الترجمة، التي تُعتبَر الموضوعَ الرئيسي الذي تُناقِشه المقالاتُ المذكورة من منظوراتها الخاصة؛ والعولمة، وهي السياقُ الواسعُ الذي تُناقِش الترجمةُ في إطاره، والذي يعيش جنبًا إلى جنب مع الطابع المحلي، وإن كان هذا الأخير غالبًا ما يطعن في العولمة. وقد تغيَّر التمييز بين الطابع العالمي والطابع المحلي تغيُّرًا كبيرًا في السنوات الماضية، وأصبح من الموضوعات التي تحظى بمناقشاتٍ ساخنةٍ في البحوث الأدبية والثقافية في الآونة الأخيرة، وإن كان التاريخُ الفريدُ للصين قد أدَّى إلى أن سادت ضروب التوتُّر بين العالمية والمحلية دراساتِ الترجمة في الصين، على المستويَين الثقافي والسياسي. وإذا كنا نستطيعُ افتراضَ وجود جدلية بين العالمية والمحلية، فإن التمييز بينهما من المُحال أن يختفي؛ ففي مجال الترجمة الأدبية، وهي التي دائمًا ما تتضمَّن على الأقل لغتَين وثقافتَين، وهما في أغلب الأحيان اللغة والثقافة الصينية واللغة والثقافة الإنجليزية، نجد أن الترجمة إلى اللغة الصينية تعني إضفاءَ الطابعِ المحلي على المادة العالمية، والترجمة من اللغة الصينية تعني عولمة الطابع المحلي. ونستطيع تبريرَ اختيارِ هذا الانقسام القائم على المفارقة والجدلية عنوانًا رئيسيًّا لهذا الكتاب بوجود حاجةٍ عاجلة لدفع مناقشة دراسات الترجمة في الصين قُدُمًا في سياقٍ يجمع بين العالمية والمحلية. ولما كان الاتجاه إلى اعتبار الترجمة نشاطًا ثقافيًّا وسياسيًّا يشتد ساعدُه باطراد فلا بُد أن تستند دراساتُ الترجمة إلى الوعي الواضح بضروب التوتُّر بين العالمية والمحلية الكامنة في الترجمة، وتأثيرها في النموذج الثقافي المحلي تأثيرًا يُغيِّر من طبيعة هذا النموذج.

من الصحيح أن الإصلاح الاقتصادي في الصين وانفتاحها على العالم الخارجي منذ النصف الأخير من السبعينيات قد صاحبَته تغييراتٌ كبيرة في الصين، بما في ذلك داخل الحياة الجامعية، خصوصًا في الدراسات الأدبية والثقافية؛ فقد عاد بروزُ الاهتمام بدراسات الترجمة وهو ما أدَّى إلى إجراء مناظراتٍ ومناقشاتٍ تتميَّز بالحساسية العميقة لكل قضية تتعلَّق بأي جانب من جوانب الترجمة تقريبًا، ولكن الباحثين خارج الصين لا يكادون يعرفون هذه التغيُّرات المثيرة، وتلك حالٌ نأسف لها وإن كنا نفهَمها خير الفَهم؛ فلقد كانت الصين والدراسات الصينية دائمًا ظاهرةً «مبتدَعة» تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الوسائل الغربية المستخدمة في تمثيل وتصوير [كل ما هو أجنبي] و«ترجمته»، فإذا كان المتخصِّصون الأجانب في الشئون الصينية ينشُرون ما ينشُرون بين الفَينة والفَينة عن الدراسات الصينية، معتمدين في تناوُلها على منظوراتهم النظرية الخاصة وحدها، فإن الباحثين الصينيين لم ينشروا إلا القليل نسبيًّا باللغة الإنجليزية في المجلات العلمية الدولية حول قضايا الثقافة والترجمة. وفي غضون ذلك كان الاتجاه الحالي إلى العولمة يزداد سرعة، ويؤثِّر في كل جانبٍ تقريبًا من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية المعاصرة، بما في ذلك الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة. ولدينا من الأسباب ما يضطَرنا إلى التصدي لهذه الحالة، ويواجه المحرِّران تحديًا كبيرًا يتمثَّل في تقديم صورةٍ عامةٍ حديثة لدراسات الترجمة في الصين. وهكذا فإن الكتابَ الحاليَّ محاولة لعولمة نتائج البحوث التي أجراها الباحثون الصينيون المحليون حول دراسات الترجمة في السياق الدولي، مثلما يمثِّل محاولةً لإضفاء الطابع المحلي على نتائج البحوث التي أجراها الباحثون الدوليون في الترجمة في السياق الصيني؛ ومن ثَم يُمكِن إجراء حوارٍ عَبْر ثقافيٍّ فعَّال عن قضية العولمة وإضفاء الطابع المحلي، خصوصًا في مجال دراسات الترجمة.

وعلينا أن نُحدِّد طبيعة هذا الكتاب ونطاقه في البداية، فنقول إنه سوف يُركِّز على دراسات الترجمة في الصين القارية؛ لأن حالتَي هونج كونج وتايوان تختلفان اختلافًا شديدًا، مثلما يختلف السياقان التاريخي والسياسي لهما. فالباحثون في هونج كونج يتمتَّعون بموقعٍ أو وضعٍ يزيد من إمكان تواصُلهم مع سائر مناطق العالم، وتقاليد دراسات الترجمة في هونج كونج تختلف اختلافًا جذريًّا عنها في الصين القارية. وكذلك نجد أن دراساتِ الترجمة في تايوان ذاتُ أصولٍ أيديولوجيةٍ مختلفة، كما يزداد بروزُ اتجاهها المحلي/الإقليمي في السياق الراهن للعولمة. وعلى ضوء هذا، فإن القضايا التي نُناقِشها هنا، نظريًّا وتطبيقيًّا، تنتمي إلى الصين القارِّية وحدها في السياقات التاريخية والسياسية والثقافية جميعًا. ومع ذلك، فإن الكتاب يَستشهِد ببعض الباحثين المقيمين في هونج كونج ويُناقِش أقوالهم أحيانًا، وسوف يُثير هذا الكتاب مسائلَ أساسيةً مُقلقة عن تأثير العولمة (وما يترتب عليها من نتائج) في دراسات الترجمة في الصين من خلال فحص المداخل المُفضَّلة حاليًّا لدراسات الترجمة في سياقٍ عالمي. فالكتاب موجَّه للمهتمين بدراسات الترجمة عمومًا، وللمهتمين بممارسة الترجمة في السياق السياسي والثقافي الصيني خصوصًا؛ ففي مطلع القرن الماضي «احتضَن» المفكِّرون الصينيون نموذجًا مُحاكيًا للغرب من خلال عددٍ منتقًى بعناية من الترجمات، ابتغاء تغيير وجه الحياة في الصين من خلال الطعن في التقاليد الثقافية المُنوَّعة للأمة وهدمها، وخصوصًا ما كان يتَّسم بالطابع المحافظ منها، وهكذا وجدنا طوفانًا من الترجمات لأدب الحداثة وما بعد الحداثة والنظريات الأدبية الغربية في القرن العشرين، وهو ما كان له تأثيرٌ مباشر في «الحُمَّى الثقافية» في الثمانينيات. والواضح أن الترجمة، خصوصًا من أية لغةٍ غربيةٍ رئيسية إلى اللغة الصينية، قد نهضَت ولا تزال تنهَض بدَورٍ مهم في «عولمة» الاستراتيجية الثقافية والسياسية الصينية، ولكن، كما هو معروف، لا تؤدي العولمة في الثقافة بالضرورة إلى توجُّه ذي بُعدٍ واحد وحسب؛ أي اكتساب الصين الطابع الغربي، بل إنها تؤدي إلى «تدويل» أو حتى «عولمة» البحوث الثقافية والأكاديمية الصينية. وربما لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى التجانس الثقافي، ولكنه سوف يجعل العولمة قطعًا قضيةً أقل شرًّا. وتحقيقًا لهذا الغرض، فإن المؤلفَين اللذَيْن تعلَّما في الصين القارِّية وفي الغرب، واللذَين يحيطان بالثقافتَين والنظريات النقدية الصينية والغربية، سوف يتناولان مباشرةً مسألةَ التناقض التقليدي بين «العالمي» و«المحلي»، ويُحاوِلان التفاوُضَ بينهما، في محاولةٍ للوصول إلى هدف الجمع بينهما، فيما يُسمَّى «العالمحلية»، فيما يتعلَّق بالدراسات الثقافية ودراسات الترجمة الصينية في سياقٍ دولي.

كان «الخطاب» الأدبي الصيني أثناء الفترة السابقة لأيام الحُمَّى الثقافية مبتلًى بنزعةٍ اختزاليةٍ صارخة، وكانت المفرداتُ النقدية المستخدمة فجَّةً بصورةٍ واضحة، وتتسم بالسذاجة النظرية. كما كان «المشروع الاختزالي» يستتبع أيضًا تشويه صورة الغرب؛ إذ كانت أية محاولة لتلَقي الإلهام من الغرب تُعتبَر اكتسابًا للطابع الغربي، وهو اتجاهٌ خطِر، إن لم يكن واقعًا يقتضي الشجبَ الصريحَ القاطع. وبعد عدة أعوام من التحوُّلات، بدأ كثيرٌ من النُقاد الصينيين يطلبون النظريات الأدبية الغربية حتى يتجنَّبوا المهام التي كُلِّفوا بها، ساعين إلى أن يصبحوا النخبة الفكرية للفترة الجديدة، ومحاولين إقامة حوارات حول النظريات الأدبية مع نظرائهم الغربيين بقصد إعادة بث الحيوية في الخطاب الثقافي الصيني. وهكذا تُرجَم الكثير من الأعمال الأدبية الغربية حتى تحلَّ محلَّ مذاهب الماركسية التقليدية الكامنة في الدراسات الأدبية في الصين. ومن الطبيعي أن تتعذَّر دراسةُ أحداثِ ما بعد فترة ماو تسي تونج بمعزلٍ عن غيرها، فكان عددٌ كبيرٌ من المناظرات لا يقتصر على تناول التظاهر الأيديولوجي، بل يتناول التقاليدَ الثقافيةَ الصينيةَ الراسخة كذلك. وسوف ترجع بعض المقالات في هذا الكتاب إلى أصول أوَّل موجةٍ عاليةٍ من موجاتِ اكتساب الطابع الغربي في بواكير القرن العشرين، وهي التي تُحيي دون شك ذكرياتٍ مُهينة طويلة الأجل لتاريخ الهيمنة الإمبريالية. ولما كنا نخشى أن تكون لمصطلح اكتساب الطابع الغربي ظلالُ معانٍ سلبية إلى حدٍّ لا يُحتمل، فقد وجدنا في مصطلح العولمة البديل المنشود؛ فالمصطلح الأخير يصف بوضوحٍ خصيصةَ عصرنا الحالي، ومن ثم فهو مصطلحٌ جديد نسبيًّا، ويبدو أقل حساسية من الزاوية السياسية إلى حدٍّ ما. وأما اكتساب الطابع الغربي فهو، على العكس من ذلك، مناهضٌ للتيار الأيديولوجي الرئيسي. ويودُّ المؤلفان أن يُبيِّنا في المقدمة أن التدويل أو العولمة بهذا المعنى لا يعني بالضرورة تجاهُل الترجمة أو دراسات الترجمة. ومع ذلك، فنظرًا لانعدام التوازن في الواقع الحالي للدراسات الصينية والغربية المقارنة في مجال الثقافة والأدب، لا بد من زيادة تأكيد القضايا التي يناقشها الباحثون الصينيون المحليون، وهي التي نُرجِّح أن يصبح مصدرًا لأفكارٍ جديدةٍ عند نظرائهم الغربيين والدوليين إذا زاد اطلاعُهم على مثل هذه الأفكار باللغة الإنجليزية.

ونقول بصفةٍ عامةٍ إنه لا يُوجَد نسَق للتلاقي السلس بين الممارسات والقِيَم الثقافية في الغرب وفي الصين، والنسَق القائم يُوحي بوجود صراع أو بإمكان نُشوبه. ويُعتبَر اكتسابُ الطابع الغربي قضيةً ذاتَ حساسيةٍ ثقافية وسياسية دائمًا في الصين، بسبب ماضيها «شِبه الاستعماري» المؤلم والمهين. وعلى الرغم من شيوع القول بأن العولمة مرادفة لاكتساب الطابع الغربي، أو بأنها تُذكِّرنا به على الأقل، فإن المفكِّرين الصينيين، فيما يبدو، يتخذون موقفًا من الأخير يتميَّز بالتضارُب الأيديولوجي، على عكس موقفهم من العولمة، ولا شك في طرافة هذه الحقيقة؛ فإن انشغال الصين بالحداثة وثيقُ الصلة بالترجمة عند الغرب. وتُعتبَر الحداثة مفهومًا نظريًّا «مستعارًا» أو «مستوردًا» من الغرب، والحرص على طلبها يتوسل بالرفض المتعمَّد للماضي وتقاليده الثقافية السياسية، ولكن لما كان المفكِّرون الصينيون يُبدون في الوقت نفسه حساسيةً للهيمنة الغربية، فإن الحداثة تمثِّل لهم أرضًا خطرةً تشهد تنازعًا أيديولوجيًّا تكتنفه ضروب الغموض والتناقض. وقد تمكَّن الكثير من المفكرين الصينيين، من خلال الترجمة، من استعارة أفكارٍ كثيرة من مجالِ نقدِ ما بعد الاستعمار وتحوَّلوا إلى نظرياتِ ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. ولا تستطيع الصين، في عصر العولمة الجذَّاب الحالي، أن ترفض الحداثة، خصوصًا لأن تطبيقها لاقتصاد السوق قد نجح، فيما يبدو، نجاحًا رائعًا. والملاحظ أن للعولمة جانبًا يُعاني تجاهلًا شديدًا، ألا وهو البحث المحموم عن وسائل لاحتضان الحداثة من حيث دلالاتها الثقافية والسياسية. وهذا هو السبب الذي يفرض زيادة الاهتمام بالدَّور المنوط بالترجمة. فإذا كانت الصين لا ترفض الحداثة، فمن المُحال عليها تجنُّب العولمة. وهكذا فإن العولمة تبدو بريئةً نسبيًّا، ما دامت الماركسية والاشتراكية قد «استوردَتهما» الصين عن طريق الترجمة، ثم أصبحَتا تُطبِّقان فيما بعدُ بأسلوبٍ «صيني» أصيل. ومما له دلالتُه أن بعض النصوص المشهورة والمثيرة، مثل المانيفستو الشيوعي، قد تُرجمَت بأسلوبٍ شديد البلاغة بقصد زيادة تأثيرها إلى أقصى حد. ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود عددٍ كبيرٍ من دُعاة العولمة في الصين، فإن هذه الفكرة تُعامل معاملةً تتسم بالريبة والشك في بعض الدوائر، كما ظهرَت بعضُ الدلائل الكلاسيكية على مقاومتها. ويُمكِن تفسير مناهضة العولمة من الزاويتَين الاجتماعية والتاريخية باعتبارها احتجاجًا مستمرًّا على الحداثة. وهكذا فإن الترجمة، من حيث النظرية والتطبيق، التي تتضمَّن ثقافتَين على الأقل، تُعتبَر إلى حدٍّ كبيرٍ مسئولةً عن أمثال هذه التوتُّرات الثقافية السياسية، وهي التي تؤثِّر بدَورها في تحديد من يترجم وكيف يترجم.

وعلى الرغم من المقاومة المعرفية والسياسية لاكتساب الطابع الغربي وأيضًا (وإن يكن بدرجةٍ أقل) للعولمة، وهي المقاومة التي تجلَّت في بعض المناظرات الثقافية الحامية الوطيس في السنوات الأخيرة، فإن البحث العلمي الحديث يتطلب منظورًا عالميًّا معينًا يحول دون المبالغة في تأكيد ما يُسمَّى بالتفرُّد أو الأصالة الكامنة في اللغة والثقافة الصينية، وهي التي تُعتبَر ذريعةً قويةً لرفض التكامل بين دراسات الترجمة في الصين وفي سائر بلدان العالم، خصوصًا العالم الغربي. ويتخذ بعض الباحثين الصينيين في الترجمة موقف المعارضة الشديدة، بدافعٍ أيديولوجي، لنظريات الترجمة التي وُضعَت في الغرب، مُصرِّين على أنها لا تُفيد ممارسة الترجمة في الصين ولا صلة لها بها. وليس من المدهش أن يُبْدوا هذا الانحياز ضد أي تجديد في نظرية النقد والترجمة إذا كان مستمدًّا من الغرب، على الرغم من أن قلقَهم الثقافي والسياسي، في رأينا، مُضَلَّل؛ فمن المفارَقات أنه إذا كان هؤلاء الباحثون «الإقليميون» أو «الوطنيون» يزعمون أنهم يمثِّلون الجوهر النقي الأعلى للثقافة الصينية وما يُسمَّى نظرية الترجمة الصينية في ذاتها، فإنهم يتجاهلون الطابع المحدود لتصوُّرهم للروح الثقافية الصينية؛ ومن ثَم فهم يمنَعونها من الانتشار في سائر مناطق العالم؛ إذ إنه من المُحال تحقيقُ هدفهم المتمثل في تصدير الروح الثقافية الصينية من دون وساطة الترجمة. ويشير رولاند روبرتسون (١٩٩٢: ١٧٨) إلى حقيقةٍ ذاتِ صلة بهذا الموضوع تقول إنه يستحيل تحقيق العولمة إلا إذا وُضعَت محليًّا في سياقٍ ثقافيٍّ خاص. كما يُشير فريدريك جيمسون إشارةً بالغةَ الدقة تقول (١٩٩٨ب: ٥٢) إن ممارسة العولمة في الثقافة لا تزيدُ على كونها نوعًا من الاستيراد والتصدير الثقافي. فالاتجاه نحو إقامة حوارٍ أكثر انفتاحًا وتواصُل عَبْر ثقافي يفرِّخ الخوف والعداء لنظريات الترجمة الغربية التي يُوضَع لها عنوان يشبه «العولمحلية». ومع ذلك فإن العولمة قد تغلغلَت إلى أعماق الثقافة الصينية التقليدية، وهي التي أصبحَت، نتيجةً لهذا، موقعًا للتوتُّر بين ما يتصوَّر البعض أنه غزوٌ ثقافي غربي، وبين ما يتوقَّعونه من تهميش البحوث المحلية.

ومع ذلك فإن سوء الفهم وسوء الترجمة بل والتنقيح المتعمَّد للنظرية «العالمية» العامة قد أدى، بلا جدال، إلى نقض تصوُّر وجود مركز «صخري متفرِّد»، وبذلك شق الطريق لميلاد «مركز» أو «مراكز» تتميَّز بالتعدُّدية والتهجين. ومن المفارقات الثقافية أننا نُوجِسُ الخوف من الإمبريالية الثقافية نتيجة العولمة من ناحية، ونرى من ناحيةٍ أخرى أن بعض النُقاد والباحثين الثقافيين الصينيين يحرصون على تعزيز الصادرات الثقافية الصينية. وهكذا فإن امتزاج القلق الثقافي بالطموح يجعل من طبيعة ممارسة الترجمة ونظريتها مسألةً بالغةَ الحساسية. فالعولمة في الثقافة تعني أيضًا تشجيع الطابع المحلي، وهذا بدَوره يُعيد تعريف هذه «الإمبراطورية» الخفية ويُعيد تصويرَها في سياقٍ صينيٍّ محلي؛ ومن ثَم فإن الهُوية المحلية تتأكد عن وعيٍ على أساسٍ عالمي. وتُحاوِل هذه المجموعة من المقالات، استنادًا إلى ما سبق للمشاركين فيها أن نشروه، أن تُحلل كثيرًا من هذه الاتجاهات والجوانب الثقافية في الصورة التي تتجلى بها في دراسات الترجمة في الصين، وأن تسوق الحجة على ضرورة وجود تصوُّر أشد تركيبًا للطرائق المتعدِّدة لتحقيق التوازن الشامل بين الطابع العام (العالمي) وبين الطابع الخاص (المحلي). وعلى الرغم من الاختلافات الأنطولوجية بين ما هو عالمي وما هو محلي، وهي الاختلافات التي كثيرًا ما يُبالَغ في تصويرها، فإن أمامنا أشكالًا وأبنيةً جديدة نشأَت بفضل التهجين الثقافي ومن خلاله، وهي التي سوف يُلقي عليها هذا الكتاب أضواءً جديدة، كما أنها تُثبِت أن نشاط الترجمة سوف يُواصِل الاضطلاع بدورٍ محوريٍّ في تشكيل المستقبل الثقافي للصين وإعادة تشكيله، مثلما كان من العوامل التي حدَّدَت ماضيه الثقافي.

ولما كنا نفتقر إلى كتابٍ متخصِّص في دراسات الترجمة في الصين من تحرير محرِّرين صينيِّين في العالم الناطق بالإنجليزية، فقد كلَّفَتنا دار «ملتيلنجوال ماترز» للنشر (Multilingual Matters) بتحرير هذا الكتاب معًا. ومعظم المشاركين فيه باحثون صينيون محليون لا يتمتَّعون فقط بمعرفةٍ عميقةٍ بنظريات الثقافة والترجمة الغربية بل تلقَّوا أيضًا أفضل تعليم في الجامعات الغربية. وإلى جانب هؤلاء عددٌ محدود يتكوَّن إما من الباحثين الصينيين الذين درَسوا وعمِلوا في الغرب سنواتٍ كثيرة أو من باحثين غربيين يهتمون اهتمامًا بالغًا بالثقافة الصينية والتطورات الحديثة في دراسات الترجمة الصينية. وعلى الرغم من أن المقالات الواردة في هذا الكتاب تختلف بعض الشيء من حيث الآراء أو المداخل، وكذلك في أساليب التفكير والكتابة، فإنها في مجموعها تُمثل سلسلةً من الحوارات حول قضايا الترجمة التي يتصل بعضها بالبعض.
وتتصدى مقالة الباحث «خي مينج» للقضية النظرية الخاصة بإعادة تقييم ما هو عالمي، وبهذا يجعل للترجمة أهميةً كبرى في تعزيز الحداثة الثقافية والسياسية الصينية، بأسلوبٍ جدلي يقتحم خطاب الهيمنة الغربي؛ فبعد أن يُلقي الضوء على المحاولات التي قام بها كلٌّ من «يان فو» و«وانج جووي»، وهما من أعلام الروَّاد في الصين الحديثة، يقول ما يلي: «إن مثالَي هذَين المترجمَين الصينيَّين المشهورَين في مطلع القرن العشرين قد يشيران إلى جانبٍ آخر من جوانب الوعي الصيني بالعولمة، ألا وهو الافتراض الضمني بالصحة الأساسية للنظرة الصينية التقليدية للعالم، وافتراض الصين أنها تشغل مركزه باعتبارها المملكة الوسطى.» ويرى «خي»:

أن الصينيين دائمًا ما عبَّروا عن تصوُّر «للعالمية» من داخل ثقافتهم الخاصة، وليس معنى هذا أن الصينيين قد استولَوا وحسب على العالمية الغربية؛ فلقد كان الصينيون يعتبرون أنفسهم على مر التاريخ مركزَ العالم، ومركزًا للمجال الثقافي الصيني للعالمية الكونفوشية، وإن كانت هذه العالميةُ الشاملة أقربَ إلى التمركُز في الذات سيكولوجيًّا والتوجُّه إلى الداخل منها إلى النزعة «التوسُّعية» مثل الغرب.

وإذا كان بعض المفكِّرين الأجانب يرَون الكونفوشية عالمية، فإن «خي» يقول: «كانت قيمُها عالمية، مثل القيم المسيحية، ولكن العالمية الكونفوشية كانت تُمثل معيارًا وموقفًا، لا نقطة انطلاق.» ومعنى هذا أن كونها معيارًا عالميًّا يجعل من الأرجح أن تقوم بعض المبادئ الكونفوشية بوظيفة الاستراتيجية القادرة على إضفاء الطابع المحلي على خطاب «الهيمنة» الغربي، وعولمة الخطاب الصيني الكونفوشي في غضون العولمة الثقافية. والواضح أن «خي» يبدأ التعامل مع الترجمة من منظور الحداثة الثقافية للصين، في محاولة لتأكيد دَور الترجمة البارز لا باعتبارها وسيلةَ نقلٍ لغوي فقط، بل باعتبارها في الواقع استراتيجيةً ثقافية في غِمار عملية العولمة، وهكذا فإن الترجمة تتعرَّض هنا فعلًا لإعادة التعريف. وقد قام كاي دولرب، باعتباره باحثًا غربيًّا في الترجمة ويزداد اهتمامُه باطرادٍ في السنوات الأخيرة بالصين ودراسات الترجمة في الصين، بفحص التوتُّر القائم بين العالمية والمحلية من خلال وضع دراسات الترجمة، بما في ذلك دراسات الترجمة في الصين، في سياقٍ دولي وعَبْر ثقافي أوسع. وهو يقول:

عندما ننظر إلى الترجمة باعتبارها مبادلةً بين الثقافات والأنشطة الوطنية، نجد أسلوبَين يختلفان اختلافًا جذريًّا في تحقيق ذلك؛ الأول هو «الفرض» بمعنى أن تفرض أمةٌ أو ثقافةٌ نصوصَها بصفتها ترجماتٍ على غيرها. وكان ذلك هو الحال في الماضي بالنسبة لمعاهدات السلام، ونراه اليوم في المنتجات الصناعية التي تُصدِّرها أمريكا أو الصين إلى بلدانٍ أخرى ومعها ترجماتٌ موضوعة وَفْق معاييرها الخاصة.

وهكذا فإن الترجمة هنا تعمل بأسلوبٍ براجماتي وأيديولوجي لا بمجرد أسلوبٍ لغوي. وبعد أن أجرى دراساته المقارنة لممارسة الترجمة الصينية والدنماركية وبعض التأملات النظرية حول التوتُّر بين العالمية والمحلية، انتهى إلى القول بأنه، في بعض الحالات، «قد لا تنطبق النتائج المحلية على المستوى العالمي».

صحيحٌ أن دراسات الترجمة الصينية تختلف عن دراسات الترجمة خارج الصين؛ لأن الثقافة الصينية تختلف عن الثقافة الغربية، ولكنَّ عددًا كبيرًا من نظريات الترجمة الغربية قد اكتسبَت طابعًا محليًّا في السياق الصيني من خلال ما يُسمَّى ﺑ «الترجمة الثقافية»، كما يقول هومي بابا، بحيث تُقيم حواراتٍ فعليةً مع نظريات الترجمة وممارساتها الصينية (المحلية). وهكذا سوف نجد في الفصول التالية كيف اكتسبت هذه النظريات طابعًا محليًّا في تُربةٍ ثقافيةٍ مختلفة، وكيف أن هذه الحوارات تُجرى على مستوياتٍ مختلفة، وكيف أن بعض النظريات الغربية العامة أو العالمية قد اكتسبَت شكلًا مختلفًا في السياق الصيني؛ ومن ثم أتت، بدَورها، بدلالاتٍ جديدة في سياقٍ عالمي/محلي أوسع نطاقًا.

وأما وانج نينج فهو يُقدِّم آراءه في الترجمة الأدبية في سياقِ ما بعد الاستعمار، وهو يؤكِّد في غضون ذلك الوظيفة المزدوجة للترجمة ودراساتها في الصين المعاصرة، ويقول إن بعض المحافظين يرَون أن الترجمة قد أتت بالتكنولوجيات المتقدمة والعلم من الغرب إلى الصين في الماضي، وبذلك يُمكِننا أن نرى أنها قد «استعمَرَت» الثقافة الصينية والخطاب الأدبي الصيني، ولكننا في مقابل ذلك نرى أنها تتولى «عولمة» الثقافة والأدب الصينيَّين في الوقت الحاضر، وبذلك يُمكِن للترجمة أن تقوم بالوظيفة العكسية؛ أي وظيفة تحرير الأشياء المستعمَرة من الاستعمار إذا كانت قد خضعَت له فعلًا. والواضح أن هذا المفهوم للترجمة أرقى — وجانبه النظري أكبر — من النظرة اللغوية التقليدية للترجمة. وهو يرى (٢٠٠٤م) أن وظيفة الترجمة في عصر العولمة لم تُنْتَقَصْ على الإطلاق، بل إن أهميتها تزداد باطرادٍ ما دامت الترجمة، وخصوصًا الترجمة الأدبية، تنتمي في آخر المطاف للثقافة.

وبعد المحاولات النظرية في الفصلَين المذكورَين أعلاه، يُعتبَر الفصلان التاليان لهما استقصاءً عامًّا لدراسات الترجمة الحالية في الصين، في السياق الواسع للعولمة. ويقول «سون ييفنج»، و«مو لي»: إن الباحثين الصينيين المحليين قاموا أثناء تلقِّيهم للنظريات الغربية، بالجمع بين العالمية والمحلية في شتى نظريات الترجمة الغربية، وبذلك أنتجوا عددًا من النسخ ذات الطابع الصيني الصميم لهذه النظريات من خلال استراتيجيتهم الثقافية وممارستهم الترجمية الجامعة بين العالمية والمحلية. وكان من نتائج هذا أن نشأ عددٌ متزايد من الأفكار الجديدة الخاصة بتفهُّم طبيعة الترجمة وممارستها. وعلى الرغم من أن الفصل الذي كتباه يُعتبَر مسحًا مطوَّلًا لدراسات الترجمة في الصين اليوم، فإنه مفيد لمن لا يتكلمون اللغة الصينية من القُراء؛ فمن المفيد لهم أن يعرفوا كيف يتناول الباحثون الصينيون دراسات الترجمة من منظوراتٍ نظريةٍ مختلفة، وإلى أي حد أصبحَت تلك النظرياتُ الغربية «محلية» في غضون ممارسة التدريس والبحوث في الصين. وتُحاوِل الباحثة «خو يانهونج»، من خلال عرض دراساتها التجريبية لما نشره الباحثون الصينيون في الترجمة منذ الفترة الحديثة (١٩١٩–١٩٤٩م) وحتى الحقبة الحالية، أن تُقدِّم تأملاتها النظرية حول وضع دراسات الترجمة في الصين، وهي التي تتسم بتعدُّدية التوجُّهات والمداخل البينية. كما تتصدى لقضية الهُوية الوطنية والثقافية، من خلال الإشارة إلى قضيتَي التدجين [أي جعل أسلوب الترجمة مألوفًا لقارئه باللغة المستهدَفة] والتغريب قائلة:

… في سياق ترجمة الأعمال الأدبية من البلدان النامية، ينبغي تشجيع استراتيجية التغريب، لإبراز صورة الآخر الثقافي وإيضاحها في النص المستهدَف، بغرض تحدِّي هيمنة القوانين الأدبية الغربية، والأيديولوجيات الرئيسية، وتعزيز ضروبٍ غيرِ متجانسةٍ من الخطاب؛ ففي العصر الحالي للتعدُّد الثقافي، يجب أن تُشاهد الصور المنتمية للثقافات الأخرى وأن تُسمع أصواتها، حتى تتحدى النظرات الأدبية والأيديولوجيات المحلية السائدة. ونتوقَّع من المترجمين أن يقدِّروا قيمة التنوع الثقافي وأن يحافظوا على حساسيتهم للاختلافات الثقافية.

ولا شك أن الأمثلة الحافلة المستقاة من بحوث الباحثين الصينيين المحليين في الترجمة سوف تصبح مرشدًا فعالًا لمن لا يتمتعون بمعرفةٍ كبيرة بدراسات الترجمة الصينية، ولكنهم يهتمون بهذه البحوث العميقة في المستقبل.

إذا قلنا إن الفصول في القسم الأول من الكتاب تُحاوِل جميعًا، تقريبًا، «عولمة» دراسات الترجمة الصينية في سياقٍ عَبْر ثقافي عريض، فإن فصول القسم الثاني تتناول بعض القضايا في إطارٍ نظريٍّ أوسع أو من منظورٍ صيني. وهكذا فإن إدوين جنتزلر، الذي يزداد اهتمامه باطرادٍ في الآونة الأخيرة بدراسات الترجمة في الصين، والذي أثَّرَت أعماله تأثيرًا معينًا في باحثي دراسات الترجمة الصينيين، يتصدى للقضايا الأربع التالية في الفصل الذي كتبه: (١) الوضع الراهن لدراسات الترجمة في أوروبا؛ (٢) دراسات الترجمة في الولايات المتحدة؛ (٣) انطباعاته المبدئية عن دراسات الترجمة في الصين؛ (٤) مستقبل دراسات الترجمة. وهو يُحاوِل في بحثه النقدي في دراسات الترجمة في أوروبا، ذلك المجال الذي يزداد ضيقُه باطراد، وفي استقصائه النقدي لدراسات الترجمة من وجهةِ نظرٍ عالمية ومن مدخلٍ بيني، أن يُدرِج معرفته بدراسات الترجمة في الصين، إلى جانب تحليلات تطبيقية ونظرية لبعض الحالات الصينية. وهكذا فإن دراساته من منظورٍ خارجي قد أجرت في الواقع حواراتٍ فعلية مع الباحثين الصينيين المحليين في الترجمة ومع دراسات الترجمة الصينية نفسها. وهو يؤكِّد بصفةٍ خاصة «أن الباحثين في دراسات الترجمة لن يستطيعوا التوصُّل إلى تعريفٍ أشمل للترجمات وكيف تعمل في مجتمعٍ ما إلا إذا نظروا إليها من منظورٍ عالمي وقَبِلوا المداخل البينية للترجمة.» ولا شك أنه من المهم لنا، نحن الباحثين الصينيين، أن نزيد من عُمق بحثنا في الترجمة من خلال المنظورات البَيْنية. ويُقدِّم جنتزلر أيضًا بعضَ الدراسات المقارنة بين دراسات الترجمة الصينية ودراسات الترجمة الأمريكية، بل يُعلِّق آمالًا أكبر على الأولى. وفي غضون شكواه من أن دراسات الترجمة في الولايات المتحدة قد تخلَّفَت في تطوُّرها عن نظائرها الأوروبية، يقول الباحث: إن «للباحثين الأمريكيين في دراسات الترجمة أن يتعلموا الكثير من زملائهم في شتى أرجاء العالم، خصوصًا في الصين؛ حيث تسير البحوث التاريخية والوصفية بخطًى حثيثة.» وهكذا فإن جنتزلر لا يكتفي بنقض طريقة التفكير العتيقة الطراز؛ أي التركيز على أوروبا، بل يطعن أيضًا في أسلوب التفكير السائد حاليًّا وهو الذي يُركِّز على الغرب أو على اللغة الإنجليزية في الدوائر الدولية لدراسات الترجمة، استنادًا إلى نتائج البحوث المنجَزة في العالم غير الناطق بالإنجليزية.

وأما الفصلان التاليان فقد كتبهما باحثان صينيان محليان، ويُناقِش كلٌّ منهما الترجمة من منظوره النظري الخاص؛ إذ يقول تشين يونججو: إننا يجب ألا نتجاهل وظيفتَين من الوظائف الرئيسية في المجال الحالي للترجمة الثقافية. وهما وظيفة «التعدي» ووظيفة «الاستيلاء»، ما دمنا ننظر إليهما من منظور الباحث ديلوز الذي يتناولهما في إطار «إزالة الحدود الإقليمية»، ويقول وانج دونجفينج: إن افتراض تعدُّد النظم لا يزال مفيدًا في تحليل «التوجُّه للترجمة» في لحظاتٍ شتى، ومع ذلك، فإن نظرية تعدُّد النظم القائمة على مبدأ «عالمي» في ظاهره، لا بُد أن تكشف عن قصورها في السياق الصيني (المحلي) الخاص، قائلًا:

إن قصور فرضية تعدُّد النظم يتجلَّى فيه في الواقع قصورُ منظور مبتدعها، وهو الباحث إيفن-زوهار؛ إذ تشكَّلَت نظريتُه، إلى حدٍّ بعيد، استنادًا إلى تأمله للترجمات في بلده إسرائيل، في علاقتها بأمريكا وأوروبا، وكان يهدف إلى تفسير الثقافات التي تعنيه وحسب، ولم تكن الثقافة الصينية، كما هو واضح، من بينها.

ومن الواضح أن الأول يتناول الترجمة بصفةٍ عامةٍ من المنظور الصيني الفريد، وأن الأخير يتناول بعض القضايا الصينية العملية من منظورٍ نظريٍّ غربي. ويُحاوِل الفصلان معًا فضَّ التوتُّر بين «العالمية» و«المحلية» بالدعوة إلى الجمع بينهما في دراسات الترجمة الخاصة بسياقٍ ثقافي «صيني» خاص. ولكن بناء نظرية ترجمة «عالمية» استنادًا إلى منظور صيني (محلي) لا يزال يحتاج، بطبيعة الحال، إلى عملٍ كثير، وعلينا بصفةٍ خاصة أن نستغلَّ الموارد النظرية الحافلة في الثقافة والأدب الصينيَّين الكلاسيكيَّين، ثم نضع النظريات بل والمذاهب القائمة على هذه الأفكار المتفرقة عن الترجمة ودراسات الترجمة.

كان المترجمون الصينيون في الماضي عادةً ما يركِّزون، في مجال الترجمة الأدبية، على ترجمة الأعمال المعتمَدة إلى اللغة الصينية، أكثر من تركيزهم على غيرها، بل إنهم نادرًا ما كانوا يقرءون الأعمال الأدبية الشعبية، ناهيك بترجمتها. ولكن ما إن بدأَت الدراسات الثقافية حتى بدأ الباحثون في دراسات الترجمة والمترجمون المحترفون يُدرِكون أهمية ترجمة الثقافة الشعبية أو الأعمال الأدبية غير المعتمدة. ومن الواضح أن قدوم العولمة سوف يؤدي إلى ترجمة الأعمال غير المعتمدة وترويجها، وإن كان ذلك سوف يعود ببعض الضرر على ثقافة النخبة، ويتحدى الأدب المعتمَد ذا الطابع الرسمي. ولقد أسهمَت الترجمة أيضًا، باعتبارها من وسائل التواصل الثقافي، إسهامًا كبيرًا في تشكيل الأدب المعتمَد وإعادة تشكيله. ولكنَّ الباحثين في دراسات الترجمة لم يتبيَّنوا إلى الآن هذه الوظيفة المهمة. والواقع أننا حين نتناول قضية العولمة والثقافة لا نستطيع تجنُّب تناوُل الثقافة الشعبية وترجمتها. وهكذا فإن الفصلَين الأخيرَين في هذا الكتاب يمثِّلان دراسةَ حالات أو نقدًا للترجمة؛ إذ يقوم «ماو سيهوي» بتحليل فيلمٍ صينيٍّ شعبي عنوانُه جنازة الرجل العظيم، ويسوق الحُجة على القيمة الأصلية للثقافة الشعبية الجديرة باهتمام الباحثين. وبعد بعض التحليل النظري للنص من منظورِ ما بعد الحداثة أو من منظورِ ما بعد الاستعمار، ومن منظور التناصِّ كذلك، يلخِّص «ماو» رأيه قائلًا: «إننا يجب أن ننظر إلى التناص باعتباره حقيقةً ثقافية واستراتيجية للقراءة معًا، كما أن قراءة/ترجمة الثقافة الشعبية يجب أن تُفهَم في علاقتها ببناء الهُوية العِرقية والثقافية.» قائلًا إنه يعتبر «كل جهد في القراءة جهدًا في الترجمة التي لا تزيد عن كونها تفسيرًا مسجَّلًا واحدًا من بين تفسيراتٍ كثيرة. وعلى المترجم، في هذا الصدَد، أن يختار ويحرِّر خياراته اللغوية والثقافية التي عثَر عليها، ومن المحتوم أن يترك آثارًا من قيمه ومعتقداته ومعرفته بالدنيا وآرائه ومواقفه في عملية الترجمة.» ويتولى يوجين تشين إيويانج وصف الدور الجدلي الذي تنهض به اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر، باعتبارها أداةً من أدوات ما بعد الاستعمار؛ إذ تتعرَّض اللغة الإنجليزية للانقسام في عصر العولمة، إلى جانب ظهور اتجاهٍ معادٍ للهيمنة بتخريب اللغة الإنجليزية نفسها، وهو ما يوضِّحه الباحث من خلال تحليله لثلاث رواياتٍ كتبها ثلاثة مؤلِّفين أمريكيين من أصولٍ آسيوية. وهو لا يقتصر على التصدي لقضايا الثنائية اللغوية بل يناقش أيضًا قضايا الثنائية الثقافية من خلال الطعن في نقاء اللغة الإنجليزية باعتبارها لغةَ الهيمنة في العالم. ويقول:

يبيِّن الأدب المتعدِّد الأعراق الصعابَ التي تكتنف التمييز الساذج بين لغة الاستعمار واللغة المناهضة للاستعمار، وبين لغة الهيمنة واللغة المناهضة للهيمنة. فالأعمال القائمة على الثنائية الثقافية تقتضي من المؤلفين إما أن يبتكروا تقنياتٍ جديدةً لنقل المعالم اللغوية للغة الأقلية، أو أن يفترضوا من البداية أن جمهور قُرائهم ثنائي اللغة. وإنجاز ذلك من دون الوقوع في فخ الكاريكاتير اللغوي (مثلما نرى في الإنجليزية الهجين) أو في التغريب (كما هو الحال في أفلام تشارلي تشان) يتسم بصعوبةٍ أكبر عند سيادة ضروب التحيز اللغوي (سواء أكان تحيزًا خاصًّا بالنحو أو باللهجة أو بطريقة النطق).

ومع ذلك حسبما يقول: «فلا بد لخطاب الأقلية باللغة الإنجليزية أن يحتفظ بحيويته من دون إظهار التعالي [من جانب أصحاب اللغة الغالبة] وإلا أصبحَت نماذجُه وثائقَ أنثروبولوجية، لا أعمالًا من إبداع المُخيِّلة، أو أصبح ينتمي إلى الإثنوغرافيا لا إلى الأدب، وهكذا تكون النتيجة بمثابة مفارقة؛ إذ تصبح أقسى هيمنة ممكنة، ما دام النص يتناول الكُتَّاب العِرقيين لتهميشهم.» ومن هذه الزاوية ينبغي أن تتناول دراسات الترجمة ترجماتِ أدب الأقلية حتى لا تُلْتَهَمَ ضروبُ خطاب الأقليات في غِمار العولمة الثقافية.

والواضح أن الترجمة، في رأي المؤلفَيْن الأخيرَيْن، قد تجاوزَت معناها التقليدي وابتعدَت كثيرًا عنه، ما دامت تقوم بمهمة الاستراتيجية الأيديولوجية والثقافية في السياق الحالي لما بعد الاستعمار. ولا شك أن فصول هذا الكتاب لا تتناول ما تتناوله من قضايا بأسلوبٍ نظريٍّ واحد بالضرورة، ولكنها تتناولها بطرائقَ منوَّعة وبينية وعالمية. ومهما يكن اختلاف مداخلها فإنها دائمًا ما تُناقِش الترجمة بطريقةٍ جدلية؛ فهي إما «تعولم» القضايا الصينية بمناقشتها على المستوى الدولي، وإما تُضفي الطابعَ المحلي على القضايا العامة والدولية بمناقشتها على المستوى المحلي. ولنا أن نقول إن جميع محاولاتها قد حقَّقَت إلى حدٍّ بعيد هدفَنا المبدئي وهو تطبيق استراتيجيةٍ عالمية/محلية في مناقشة قضايا الترجمة ودراسات الترجمة.

ومنذ ما يزيد على عشر سنوات، عندما كانت دراساتُ الترجمة تمر بأزمة وتمثل سجنًا للغة، واتت الجرأة سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير (١٩٩٨م) فاشتركا في الدعوة إلى الأخذ بالمدخل الثقافي في دراسات الترجمة، ولم تقتصر فائدةُ ذلك على إخراج هذا المبحث الجديد من أزمته، بل إنه وجَّه الأنظار إلى منظورٍ جديد تمكَّنَت دراساتُ الترجمة أن تتطور فيه وتتخذ توجهًا بينيًّا أكثر اتصالًا بالثقافة. ولكن ما شأنُ العلاقة بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة؟ إن الدراسات الثقافية تمر الآن بأزمة تتمثل في نموذج اللغة الواحدة، ولقد بذل بعض الباحثين الذين يتميَّزون ببُعد النظر مثل ج. هيليس ميلر، وجاياتري سبيفاك، وإدوين جنتزلر مجهوداتٍ جبارةً لنقض أسلوب التفكير ذي المركز الإنجليزي في الدراسات الثقافية المعاصرة. وحاولَت باسنيت مع ليفيفير الدعوة إلى «مدخلٍ ترجمي» في الدراسات الثقافية، ولكن لما كان كلٌّ منهما قد تعلَّم في الجامعات الغربية ولا يحيط بمعرفةٍ كافية عن دراسات الترجمة في الشرق، فقد تعذَّر عليهما استكمال مشروعهما الطموح. أما اليوم، فقد أصبح ذلك مهمةً تاريخيةً ملقاةً على كاهل الباحثين الصينيين في دراسات الترجمة، بالتعاون مع زملائنا الغربيين والدوليين الذين ينظرون إلى الترجمة من منظورٍ عَبْر ثقافي وعالمي أوسع نطاقًا. فإذا أدرك المزيد من الباحثين، من الشرق ومن الغرب، ما نتوقَّعه، فسوف نشعر — باعتبارنا المحررَيْن لهذا الكتاب — بهدوء البال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤