إعادة تقييم العالمية: الترجمة والحداثة وخطاب الهيمنة
كثيرًا ما نُوقشَت مسألة العولمة والترجمة من حيث أنشطة الاقتصاد الرأسمالي العالمي وعواقبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فإن مايكل كرونين (٢٠٠٣م) على سبيل المثال يُقدِّم عددًا من النظرات الثاقبة حول التغيُّر الجغرافي لممارسة الترجمة في المجتمعات والاقتصادات المعولمة المعاصرة. ويهدف هذا الفصل إلى إلقاء الضوء على بعض المشكلات الفكرية التي تُصادِفنا عند النظر في دور الترجمة الثقافية في الصين الحديثة وسياقها، من زاوية الحداثة والعولمة.
(١) مسايرة العالم
يُعتبر رولاند روبرتسون (١٩٩٢م) أوَّل من أكَّد، من بين مُنَظِّري العولمة المعاصرين، التداخُل الوثيق بين العمليتَين المتبادلتَين وهما «إضفاء الطابع الخاص على ما هو عام، وإضفاء الطابع العام على ما هو خاص» (ص١٧٧-١٧٨). فمن ناحيةٍ نرى أن إضفاء الطابع الخاص على ما هو عام «يتطلب جعل قضية «الحقيقة» العامة (العالمية) موضوع البحث»، ونرى من ناحيةٍ أخرى أن إضفاء الطابع العام على ما هو خاص «يتطلب إعلاء القيمة العالمية للهُويات الخاصة». ولكن المسألة الحاسمة عند روبرتسون (١٩٩٢م) هي أن السياق العالمي لإعلاء القيمة المذكورة أهم من أي تأكيدٍ نوعي لأية هُويةٍ خاصة، قائلًا «لا يبرز معنى الهوية ولا التقاليد ولا مطلب الأصالة إلا في سياقٍ معيَّن. أضف إلى ذلك أن التفرُّد لا يمكن اعتباره «شيئًا في ذاته». […] فالعولمة، باختصار — باعتبارها صورةً «مضغوطة» للعالم المعاصر وكذلك أساسًا للتفسير الجديد لتاريخ العالم — تحقِّق وتقيم التعادل بين جميع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية» ومن ثَم فإنها تُسجل «البروز المتزايد للتميز الحضاري والمجتمعي» (ص١٣٠-١٣١ والتأكيد في الأصل). والواضح أن روبرتسون يقدِّم هنا صياغته الخاصة للمُفارَقة التي تقول إن العولمة تؤدي إلى تعادُل جميع الثقافات كما تُمكِّن كل ثقافة من الإفصاح عن تميُّزها عن غيرها. ويضغط روبرتسون (١٩٩٥م) التداخل الوثيق بين هذَين البُعدين في فكرة «العَوْلَمحَلِّية» باعتبارها عمليةً لتيسير «نشر» «الحداثة العامة» عَبْر حضاراتٍ متميزةٍ جغرافيًّا»، وهي عمليةٌ يُمكِن أن تؤدي إلى أن تصبح «ميول التجانُس وميول التغايُر» ميولًا «متبادلة التأثير» (ص٢٧)، كما أن روبرتسون (١٩٩٠م) يؤكِّد العلاقات القائمة بين العولمة والحداثة قائلًا إن العولمة تعني «سلسلةً معيَّنة من التطورات المتعلقة ببناء العالم في صورةٍ مجسدةٍ كلية» (ص٢٠). ومن مزايا هذا التعريف إلقاء الضوء على البناء المجسد والطبيعة المتصوَّرة لحال العالم بأنساقه التي تتغير باستمرار من حيث الحركة الزمنية والتركيب المكاني.
وللعولمة أصول غربية وغير غربية (انظر المقالات التي كتبها عدد من المؤرخين المحترفين في هوبكنز (٢٠٠٢أ)). فالعولمة أكبر كثيرًا من «صعود الغرب» (كما قال بعض المُعلقين) أو امتداد السيطرة الغربية إلى كل مكان على سطح الأرض، أو حتى العاقبة التاريخية للاستعمار، أو ظهور شكلٍ جديد من الإمبريالية الثقافية. وليست العولمة قطعًا ظاهرةً جديدةً أو عملية شهدَتها العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين؛ إذ دائمًا ما ارتبطَت العولمة، تاريخيًّا، بتأكيدٍ معيَّن لمزاعمَ عالمية، وليست المسيحية المذهب العقائدي الوحيد الذي أعلن مثل هذه المزاعم العالمية؛ إذ نجد أن أديانًا أخرى، أو نظمًا ثقافيةً أخرى، مثل الإسلام والهندوسية والبوذية والكونفوشية قد أعلنَت مزاعمَ عولمةٍ وعالميةٍ مماثلة، وإن كان عددٌ كبير من الباحثين (في الشرق وفي الغرب أيضًا) يرَون أنه «من السهل أن نفترض أن جميع المجتمعات يمكن أن تنضوي تحت لواء غائيةٍ ذات مفهومٍ غربيٍّ في جوهره» (هوبكنز، ٢٠٠٢ب: ٢١). وقد كثُر الحديث في أعقاب الحرب الباردة عن «نهاية التاريخ» أو انتصار الرأسمالية العالمية. وهذه النظرة إلى العولمة تفترض، فيما يبدو، أنه «لم يعُد على سطح «الكرة الأرضية» مكانٌ يُمكِن فيه الطعن في النظام الرأسمالي وقيمه وسلطته وأسلوب الحياة في ظله.» أي إنه لم يعُد في الوجود غير «الكرة الأرضية»، وعلى الرغم من تنوُّعها، فقد كُتب عليها أن تقنع بمستقبلٍ واحد، يتمثَّل في إطالة أمد العلاقة الحالية بين القوى. وهكذا أصبحَت العولمة وريثة لفكرة «العالم الواحد»، وهي في ذاتها فرعٌ حديث النشأة ﻟ «التاريخ العالمي» الذي كان بدَوره «الوريث التنويري للقصة المسيحية عن الحياة الآخرة» (ويبر، ٢٠٠١: ١٥).
وقد مرَّت العولمة الصينية الحديثة بثلاث مراحل على الأقل؛ كانت الأولى حركة التحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهي التي بلغَت ذروتها في حركة الثقافة الجديدة في الرابع من مايو، وكانت الثانية العالمية الماركسية المجسَّدة في الثورة الشيوعية الصينية، والثالثة حركة الإصلاح منذ أواخر السبعينيات والعملية الجارية للرأسمالية العالمية التي تُسهِّل تكامُل الصين مع الغرب المتقدم. وكانت كل موجة من موجات التحديث المذكورة فترةً تتميَّز بنشاطٍ مكثَّف وواسع النطاق في الترجمة واكتساب المعرفة والأفكار والنظريات والأيديولوجيات الغربية.
ما ينعكس ينقسم في ذاته، ليس فقط باعتبار صورته إضافةً إليه؛ إذ إن الانعكاس، أو الصورة، أو القرين، يقسم ما ضاعفه. وأصل التأمل يصبح اختلافًا. فالذي يستطيع رؤية ذاته واحد، وقانون إضافة الأصل إلى ما يمثِّله؛ أي إضافة الشيء إلى صورته، هو أن واحدًا زائد واحد يساوي ثلاثة على الأقل. (ص٣٦، والتأكيد في الأصل)
وهكذا فإن هذا مُرَكَّبٌ ثلاثي، لا يتضمن الصين فقط (الذات) والغرب (الآخر) بل الصورة المضاعفة للصين بصفتها قائمةً في الغرب، والصورة المضاعفة للغرب القائمة في الصين. وتكشف أنواع التضاد الثنائي المذكورة عن وضعية السيطرة وعلاقات السلطة؛ إذ يمكن اعتبار «الصين» موقع الاختلاف، وذلك في ذاته ليس مصطلحًا إيجابيًّا يفيد علو القيمة. وإذا كان أي نوع من أنواع التمثيل يُعتبَر حدثًا زمنيًّا، فإن له طابعًا تاريخيًّا خاصًّا به. ولقد كانت العولمة في السياق الصيني الحديث، إلى حدٍّ كبير، حركةً متواصلةً من الجذب والإنهاك. فإذا استخدمنا مصطلحًا بلاغيًّا قلنا إننا نستطيع أن نرى هذه الحركة في صورة عبارةٍ بناءُ نصفِها الأول يمثِّل عكس بناء نصفها الثاني، وهي عبارة تفيد التركيب التداخلي في الصين، ومعنى هذا أن الصين مضطرةٌ للتحديث وللعولمة باسم الغرب، حتى وإن لم تتخلَّ عن افتراضاتها التقليدية الخاصة بالثقافة (والإمبراطورية) الصينية العالمية. ومن ثَم فإن التضادَّ بين الصين والغرب يجب أن يُنظر إليه باعتباره أحدَ الآثار الناجمة عن الحركة التاريخية «للاختلاف والإرجاء»؛ أي إنه نتيجة لاختلافٍ يُنتِج اختلافًا في حركةٍ تاريخية لا يُشير فيها اللفظان المتضادان إلى كيانَين معروفَين سلفًا.
(٢) انتشار التهجين؟
إن الاتصال بالحضارات الغريبة يأتي بمعاييرَ جديدةٍ للقيمة، وبها نُعيد فحص وتقييم الثقافة القومية، والنتيجة الطبيعية لإعادة النظر في القيم تتمثل في الإصلاح والتجديد بوعيٍ كامل. ولولا ما استفدناه من الاتصال الوثيق بحضارة الغرب، ما استطعنا القيام بالنهضة الصينية. (ص٤٧)
إن ثمرة هذا الميلاد الجديد تبدو غربيةً بصورةٍ مُريبة. ولكنك إذا نزعتَ القشرةَ وجدتَ أن المادة التي صنِّفَت منها هي القاعدة الصخرية الصينية التي تعرَّضَت للأنواء وعوامل التعرية فازداد بروزها وضوحًا؛ أي إن الصين ذات المذهب الإنساني والعقلانية قد بُعثَت عندما مستها يد الحضارة العلمية والديمقراطية للعالم الجديد. (ص٤٧)
ما علينا أن نستعد له هو احتمال وجود أفكار التقاليد الغربية في كلمات منشيوس عندما يبدأ الحديث بلسانه الخاص، وهي أفكار لم يكن منشيوس يعرف عنها شيئًا. لقد أصغيتُ إلى علماءَ متبحرين، صينيين وغربيين، وهم يحاضرونني عن منشيوس. ومعظم ما تعلَّمتُه هو أكثر ما استولى على مخيِّلة الفلاسفة الغربيين. (ص٢٠٥-٢٠٦ والتأكيد في الأصل)
وربما كانت تختفي وراء قلق ريتشاردز رغبةٌ في الفصل بين هُويَّات التقاليد الصينية والغربية والتمييز بينهما. ولكننا نجد مبررًا في إصرار ريتشاردز على عدم تطويع كل شيءٍ لمذهبٍ سبق تشكيله.
نحن نعرف مدى غموض أمثال هذا الكلمات ومدى الصعوبة التي نصادفها في السيطرة عليها مستعينين بجميع موارد تقنياتنا التقليدية والتاريخية والتحليلية. وهكذا فعندما تُترجَم هذه الكلمات إلى «معادلاتٍ» لها باللغة الصينية، فإن خطر توليدها محصولًا جديدًا من ألوان الغموض التي لا توازي ألوانَ الغموض التي تُعاني منه أصلًا يصبح خطرًا داهمًا. ولدينا من الأسباب القوية ما يُبرِّر اعتقادنا بأن انتشار هذا التهجين يجري على نطاقٍ واسع إلى أقصى حد. (ص٢٣٢، والتأكيد في الأصل)
(٣) إضفاء الطابع الصيني على الحداثة
يُعتبَر «يان فو» من النماذج المرموقة للطابع التاريخي للمترجم/المفسِّر في الصين الحديثة؛ إذ كان أول مترجمٍ جادٍّ وبالغ النفوذ للفكر الغربي الحديث؛ فقد نشر عام ١٨٩٨م ترجمته الصينية لجزء من كتاب توماس هكسلي وعنوانه التطور والأخلاق ومقالات أخرى (١٨٩٤م). وأما الدافع الذي حدا به إلى اختيار ترجمة محاضرة رومان للمفكر هكسلي فكان إحساسه بحاجة وطنه العاجلة إلى الإنقاذ في مواجهة التحديات القادمة من الغرب ومن اليابان. ولكن هذه «الترجمة» كانت تمثِّل تفسير يان فو وإعادة خلقه لأفكار داروين في إطار المقولات الأخلاقية الصينية التقليدية؛ إذ استخدم يان فو ما كان يعتبره أفكارًا صينية مماثلة في إزالة التضارُب والتوفيق بين مبدأَي داروين («الكفاح من أجل الوجود» [ووجينج] و«البقاء للأصلح» [تيانجي]) وبين الحس الأخلاقي للحاجة الجماعية. وأما العنوان الذي وضعه للترجمة فهو تيانيان لون (أي عن التطوُّر السماوي) مشيرًا بذلك إلى فكرته الأخلاقية الصينية عن «التحقيق الكامل للمواهب السماوية». وحسبما يقول يان فو (٢٠٠٤م) في تصديره للترجمة، المكتوب عام ١٨٩٦م، فإن «كتاب هكسلي يهدف إلى تصحيح أخطاء مذهب «حرية العمل» الذي وضعه سبنسر، ويشترك جانبٌ كبير من الحجة في هذا الكتاب مع ما قاله حكماؤنا الأقدمون، كما أن بعض الثيمات مثل تقوية الذات والحفاظ على السلالة العِرقية من الأفكار الثابتة فيه» (ص١٠٠). ويستخدم يان فو عددًا كبيرًا من الأفكار الصينية التقليدية مثل فكرة داو (أي الطريق) وخِنْج (الطابع الأصيل) وتيان (السماء) وشِنْج (الحياة) وقون (مجموعة، كيان جماعي) لتدعيم تمثيله لفكرة داروين عن الكفاح من أجل الوجود. وأما إشارة داروين إلى كفاح الطبيعة الذي لا يرحم فقد ترجمه إلى المفهوم الصيني تيان نينج (أي الموهبة السماوية، أو الطاقة الفطرية التي تمنحها «السماء» من أجل الحفاظ على النفس، ومن أجل العلاقة الاجتماعية المتناغمة مع قون؛ أي المجموعة).
عندما يتصدى المرء لترجمة المفاهيم الصعبة والمهمة، عليه أن يرجع إلى الأصول الاشتقاقية للكلمات الغربية، وأن يأخذ في اعتباره جميع امتدادات معانيها وارتباطاتها، ثم يعود للبحث في اللغة الصينية (هويجوان جونجوين) عن المثيل لها (كاو قي خيانجلي). (مقتطف في جاو & وو، ١٩٩٢: ١٣٠)
ومن الأمثلة الأخرى على محاولة يان فو أن يعثر على مثيلٍ صيني ترجمتُه لكلمة «الحرية» الواردة في عنوان كتاب عن الحرية للفيلسوف جون ستيوارت مِلْ؛ إذ اختار كلمةً مركَّبةً صينيةً مهجورة هي زييو واعتبرها معادلة ﻟ «الحرية». وكان يان فو (١٩٩٩م) يُصر على أنه على الرغم من ظلال المعاني غير الحميدة المرتبطة بكلمة زييو، مثل «التحلل (من القيود الأخلاقية)، والتهتُّك [الفجور]، والجموح»، فإن هذه «الظلال» لا علاقة لها بالمعنى الأصلي للمُرَكَّب. فالمعنى القديم لكلمة زييو، بخلاف صورتها الحديثة زييو، كان أصلًا يفيد «عدم التقيد بالأسماء الخارجية» (بو وي وايوو جوقيان) (ص١٨٤). وزعم يان فو أن ذلك كان ما يعنيه مِلْ بكلمة «الحرية» على وجه الدقة.
وقد كتب الباحث المشهور وانج جيووي مقالتَين عن الترجمة في العقد الأول من القرن العشرين، تناول فيهما بصفةٍ خاصةٍ ترجمة الأفكار والمفاهيم. وكان عنوان أولاهما «عن استيراد المصطلحات الجديدة» (وانج ١٩٩٧أ [١٩٠٥]) ولا يقتصر فيها على تأكيد ضرورة استيراد المصطلحات الغربية، بل يؤكد أيضًا انشغاله الموازي بالثقافة التي نشأَت فيها هذه المصطلحات. وكان وانج (١٩٩٧أ) يدرك أعمقَ إدراكٍ افتقارَ المثقفين الصينيين في عصره إلى ما كان يطلق عليه زيجيو؛ أي الإحساس بالحرج (ص٣٣٤) إزاء هذه الألفاظ والأفكار الأجنبية الجديدة. وقد انتقد وانج ترجمة يان فو لمصطلح «التطور» بكلمة تيانيان (أي التطور السماوي) قائلًا إن اللفظة الصينية تُسيء فهم الدلالات المضمرة في الفكرة الأصلية عند داروين وهكسلي (ص٣٣٥). وكان وانج يؤكد الصلة المتبادلة بين اللغة والفكر قائلًا: «في عالم الطبيعة، تأتي الأسماء من الأشياء، وأما في عالم مفاهيمنا، فإن الأشياء تُوجد بسبب أسمائها. فإذا افتقرَت الأشياء إلى أسماء، فلن يؤدي هذا حقًّا إلى تفكير شعبنا» (ص٣٣٤). وهكذا فإن استيراد فكرٍ جديدٍ يعني استيراد ألفاظٍ جديدة، ولكنها لا بد أن تُتَرجَم ترجمةً ناقصة بسبب حدود اللغة الصينية.
وهكذا فإن من يملك صفاتٍ أخلاقيةً عظيمة سوف يحصل قطعًا على مكانةٍ رفيعةٍ تتفق مع تلك الصفات، وما يتفق معها من رخاءٍ عظيمٍ واسعٍ لامع وعمرٍ طويل؛ إذ إن الله الذي يمنح الحياة لكل المخلوقات، يُغدِق نعمه عليهم وَفقًا لشمائلهم. وهكذا فإنه يَرعَى الشجرةَ الحافلةَ بالحياة ويَغْذُوها، وأما الشجرة التي تجهَّزَت للسقوط فإنه يقطعُها ويدمِّرها. (ص٤٦-٤٧)
ويورد كو (١٩٠٦م) حاشيةً تمثِّل إحالة تُرجع صدى تقديم يان فو لفكر هكسلي تقول: «إننا نجد في هذا إعلانًا عن قانون البقاء للأصلح منذ ألفَي عام. ولكن تفسير كونفوشيوس لهذا القانون يختلف عن التفسير الحديث. فالبقاء للأصلح لا يعني البقاء لمن يتمتَّع بأشد قوة حيوانية، بل البقاء لأصلح الكائنات خلقًا» (ص٤٧). ونجد هنا أن كو هونج مينج، مثل يان فو، يفترض أن صورة العالم الكونفوشية التقليدية ذاتُ طابعٍ عالمي، ويُوحي بوعيٍ حادٍّ بضرورة اكتساب مصطلحات «الآخر» المسيطر في الإفصاح عن الوعي الحديث لصاحب المرتبة الثانوية بعد إخضاعه لمبدأ النسبية.
كانت العالمية المسيحية، في إطار روح القديس بولس، تتجاوز الثقافة والتاريخ، وتتبنَّى التوسع والانطلاق من الأراضي المسيحية إلى أراضٍ جديدةٍ مكتشَفة قد تكون بها نفوسٌ مسيحية. ولكن العالمية الكونفوشية كانت في المقام الأول ثقافة، وذات طابعٍ تاريخي لا يُقهر. كانت قيمها عالمية، مثل المسيحية، ولكن العالمية الكونفوشية كانت معيارًا، أو موقفًا، لا نقطة انطلاق. كانت منفتحة على العالم كله (جميع من هم «تحت السماء» تيان-هسيا، «الإمبراطورية» و«العالم»، حيث يحكم «ابن السماء») وكانت منفتحة على الجميع. (ص٢٤)
وهذا السياق الخاص بالخيال التاريخي للعالمية الصينية هو الذي يساعدنا على أن نفهم حق الفهم الإشكاليات الصينية الحديثة الخاصة بالمقاومة الثقافية والتأصيل الثقافي. وفي الثمانينيات والتسعينيات كان الخطاب الفكري في الصين بالغ التنوع، ويتراوح ما بين المقترحات الخاصة ﺑ «الحداثة البديلة» باعتبارها مما تنفرد الصين به، وبين الأحلام الطليعية بعولمة الثقافة الصينية (أي بإضفاء الطابع الغربي عليها). وشهدَت هذه الفترة كذلك نزعات قوية للنظر إلى الإشكالية الرئيسية للحداثة الصينية إما من زاوية النموذج المكاني للطابع المحلي (الصيني «جونج») في مقابل الطابع العالمي (خي: أي الغرب) وإما من زاوية النموذج الزماني للطابع التقليدي في مقابل الحداثة.
(٤) التشابه والانحراف بمعاني الألفاظ
تُعتبَر الترجمة ما بين ثقافتَين في جوهرها جهدًا لاكتساب [معانٍ جديدة] أو الاستيلاء عليها عن طريق التشابه، وكثيرًا ما يتمثل دافعها في الحاجات الداخلية للثقافة المستقبِلة [لهذه المعاني]، وكثيرًا ما يعتمد تبنِّي المفاهيم والنظريات الغربية على التشابه، وكثيرًا ما لا يصاحبه اهتمام موازٍ [لهذا التبنِّي] بإشكاليات التاريخ الفكري والثقافي الغربي. فالواقعية مثلًا، كما يبيِّن أندرسون (١٩٩٠م) مذهبٌ أدبي.
لم يكن المفكرون الصينيون يؤيدونه في المقام الأول بسبب أشد ما يرتبط عند الغربيين به، وهو التظاهر بالمحاكاة؛ أي الرغبة البسيطة في «اقتناص» العالم الواقعي باللغة … ولكن المفكرين الصينيين احتضنوا الواقعية لأنها كانت، فيما يبدو، تلبي حاجات الصين في الجهود الآنية العاجلة للتحول الثقافي ما دامت الواقعية تُقدِّم نموذجًا جديدًا للتوليد الخلاق والتلقي الأدبي. (ص٣٧)
رموزًا تشير إلى موقفٍ ما في صراعٍ سياسي، ولا صلة لها إطلاقًا بالمضمون الفعلي لهذه المفاهيم في الفلسفة الغربية. وهكذا فإن العلاقة بين الرموز المقابلة لها في نصٍّ [صيني] لا تُمثل نظيرًا موضوعيًّا، بل نظيرًا مُشابهًا في أحد الصراعات السياسية. (مايسنر، ١٩٩٠: ٥)
(٥) الهيمنة والرغبة في المركز
للآداب الهامشية طاقةٌ راديكاليةٌ على هدم الهُويَّات الثقافية، وتعادلها طاقتها على إنتاجها والحفاظ عليها. فهذه الثقافات ذواتُ طبيعةٍ متناقضة؛ إذ إنها تتمتع بالسلطة على المستوى الوطني، وتفقدها على المستوى الدولي، ومن شأن هذا تحذير النقاد من الاحتفال بغيريَّتها الراديكالية إلى ما لا نهاية. (ص١٢)
ونحن نشهَد في استيلاء الغرب على ما هو غير غربي (مثل التخصُّص في الصين من زاوية الاستشراق) ميل عالم الأنثروبولوجيا بالضرورة إلى اتخاذ موقفٍ محافظ تجاه هوية الآخر الثقافية، على نحو ما أشار إليه كلود ليفي-شتراوس (١٩٧٣م) الذي يُبيِّن أن الأنثروبولوجي يميل إلى اتخاذ موقفٍ ثوري في كفاحه للإتيان بأفكارٍ جديدة في ثقافته الخاصة، لكنه يغدو محافظًا في المواجهة مع الآخر الثقافي.
وقد سبق أن اقتطفنا أقوال رونالد روبرتسون (١٩٩٢م) وتعريفه للعولمة الذي يقول: إنها «بناء العالم باعتباره كيانًا كليًّا»، وهو يُذكِّرنا بالبحث النقدي الذي أجراه دريدا (١٩٧٨م) في «البناء، أو بالأحرى الطابع التركيبي للبناء» (ص٢٧٨) قائلًا إنه «دائمًا ما يتعرَّض للتحييد أو الاختزال، وذلك بمنحه مركزًا أو إحالته إلى نقطة حضور، أو أصل ثابت». ويتحدث دريدا عن «الرغبة في وجود مركز عند إنشاء أي بناء» (ص٢٨٠) وهو ما تُثبِته الأدلة المستقاة من الإثنولوجيا الأوروبية. وأما حين يشير دريدا إلى عمل كلود ليفي-شتراوس فإنه يقول:
يُمكِن للمرء أن يفترض في الواقع أن الإثنولوجيا لم تُولَد باعتبارها علمًا إلا في اللحظة التي فقَد المركز فيها مركزيته؛ أي في اللحظة التي تزَحزحَت فيها الثقافة الأوروبية؛ أي أُقصيَت عن مكانها وأُرغمَت على أن تكُف عن اعتبار نفسها الثقافة المرجعية. وليست هذه اللحظة في المقام الأول لحظة خطابٍ فلسفيٍّ أو علمي. بل إنها أيضًا لحظةٌ سياسية واقتصادية وتقنية وهلُم جرًّا. (ص٢٨٢)
إذا كان الشمول لم يعُد له أي معنًى، فالسبب لا يرجع إلى أن الطابع اللانهائي لمجالٍ ما تستحيل تغطيتُه بنظرةٍ محدودة أو بخطابٍ محدود، بل يرجع إلى أن طبيعة المجال نفسها — أي اللغة واللغة المحدودة — تستبعد أية مقولةٍ شاملة. فهذا المجال في الواقع مجال حركة؛ أي مجال ضروب استبدالٍ لا نهائية؛ لأنه محدود وحسب. (ص٢٨٩، والتأكيد في الأصل)
لا يشير الشمول إلى كيانٍ «كلي» مغلَق، بل يشير إلى مساحةٍ ما بين خطاب وخطاب آخر حيث يتطلب الإفصاح فيها عن الكفاح المحلي إفصاحًا سابقًا عن المشاركة في ضروب كفاحٍ أخرى، والعكس بالعكس. وقولنا إن هذه المساحة «شاملة» لا يعني أننا أمام شيءٍ مكتمل (بحيث لا يمكن أن نُضيف إليه المزيد) إذ إن «الشمول» يعني الغَيرية على وجه الدقة؛ أي إن الكفاح المحلي «شامل» بسبب اعتماده على غير ذاته من خلال محاولة إقامة التعادُل بين إفصاح وإفصاح. (ص٩٦)
والترجمة ما بين الثقافات، باعتبارها ممارسةً لغويةً وفكرية وتتَّسم بالعالمية والمحلية معًا، تسمح بعدم إعاقة حرية الحركة الكامنة في بناءٍ يستبعد الشمول.
(٦) ما يُمكِن أن تعني العالمية
وهكذا فإن فكرة الترجمة ذاتُ أهميةٍ أصيلة لفكرة الشمول والعالمية نفسها وللمبادئ السياسية الخاصة بالتبادل والحوار بين الثقافات. وقد أقامت جوديث بطلر (٢٠٠٣م) حُجةً مقنعة على أن افتراض «لغةٍ مشتركة» بين اللغات والثقافات المنوَّعة أمرٌ مشكوك في صحته؛ لأن مثل هذه اللغة كثيرًا ما يُشار إليها أو تُرسم صورتها النظرية بأسلوبٍ ينم على الهيمنة والإمبريالية، بمعنى استيعابها ﻟ «أنواعٍ مختلفة من اللغات وإخضاعها لفكرةٍ سائدةٍ عن الكلام». كما تُقيم بطلر بعض الروابط بين الترجمة والسياسة، مؤكدة أنه «لا تُوجَد سياسةٌ فعَّالة من دون قبول الترجمة باعتبارها المحنة المشتركة»، وتُضيف قائلة: «إن الزعم بأن الترجمة مِحنةٌ مشتركة لا يوازي الزعم بوجود لغةٍ مشتركةٍ بيننا، ولكنه يعني فقط أن الكلام يحتاج للترجمة حتى يُفهم». وبعض المصطلحات الجوهرية مثل العالمية والعدل «ليس لها معنًى بسيط أو سَبَق تحديده» ولكنها مثار خلافاتٍ أساسية بحيث «لا نستطيع استنادًا إلى علم دلالة الألفاظ المثالي أو السابق لنشأة الثقافة أن نقطع فيما تعينه […] فالسؤال مثلًا عما تعنيه العالمية، وعما يُمكِن أن تعنيه العالمية، نموذج لسؤالٍ رئيسي لا بد أن يظل مفتوحًا حتى تستطيع السياسة الحفاظ على مكانتها باعتبارها مشروعًا نقديًّا» (ص٢٠٥-٢٠٦ والتأكيد في الأصل). ولا يقتصر الأمرُ على اختلاف مفهوم العالمية من ثقافة إلى ثقافة، بل الأهم من ذلك أن ما يُطلَق عليه لفظ «العالمية» في الغرب ليس له مكان في كل لغة من لغات البشر، وهذا العجزُ من جانب الترجمة قد يمثل «التواءً [في المعالجة] وقد يكون علامةً على الاستعمار، وقد لا يكون علامةً على الإطلاق. وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة حدود العالمية». ومن هذه الزاوية، نرى أن خطاب الترجمة يكمُن في داخله تخريبُ أي معنًى للعالمية باعتباره يفيد الاحتواء الذاتي.
ولا شك أن دراسات الترجمة في الصين مكلَّفة بعملٍ مهمٍّ يتمثل في دراسة دوافع وأهداف الترجمة، والقيود التي قَبِلها المترجمون صراحة أو ضمنًا، وقنوات وطرق النقل والتوسط قبل عملية الترجمة وأثناءها وبعدها، والأطر الثقافية للتفسير التي تُدرج فيها هذه الأعمال المترجمة بعد ذلك. ومع ذلك فعلينا أن ننظر في التأكيد الصحي من جانب أنطوان بيرمان للاشتباك الوثيق مع الآخر، وهو الذي يُلقي الضوء على الترجمات بين الألمانية والفرنسية إبَّان الحقبة الرومانسية؛ إذ ينبغي تطبيقُ ذلك أيضًا على ترجمات الثقافات غير الغربية أو ثقافات العالم الثالث فيما بعد الاستعمار، فإن الترجمة تزيد عن مجرد «الاستيلاء»، فهي بالضرورة أسلوب للإفصاح عن الطابع البَيْني للثقافات. وهكذا فلا بد من وضع تصوُّر أشد تقدُّمًا للترجمة الثقافية في السياق الصيني، تيسيرًا لإجراء دراساتٍ نقديةٍ مقارنةٍ أصيلة، بحيث لا تقبل وجود الاختلافات باعتبارها أمورًا مُسَلَّمًا، بها بل أن تتخذ مدخلًا أكثر انعكاسًا على الذات في الترجمة وفي الحداثة. ومن الواجب قبل كل شيء أن تعتبر الحداثة ناقصة إذا لم يتسنَّ إدراكُها كظاهرةٍ قائمة في ذاتها وفي عزلة، بل لا بُد من إدراكها ومعايشتها بأسلوب الانعكاس الذاتي بصفتها تناقضًا كامنًا في نظرية العولمة وممارسة الأصالة. وهكذا فإن العمل بالترجمة عملٌ بالانعكاس الذاتي. ومن هذه الزاوية، نرى أهميةً قصوى للابتعاد عن الانشغال (النرجسي في معظمه) بالطابع الصيني أو بالتميز الصيني، والاتجاه إلى فهمٍ جدلي للاختلافات الثقافية وللإطار العالمي للتمييز الذي يُتيح نظرةً شاملةً لثقافة المرء إزاء الآخر (والآخرين) والإفصاح عن التميُّز والأصالة الثقافية. فالترجمة تعني التواصل والتفاعل والتصادم بين لغتَين وثقافتَين (على الأقل) بحيث يتعرَّضان معًا لتحولاتٍ متبادلة في هذه العلاقة. ونقول باختصار إن إحدى المهام الرئيسية لدراسات الترجمة الصينية في سياق العولمة قد يتضح أنها المشاركة في الترميز العالمي، وإعادة بناء العالم نفسه باعتباره شبكةً مُرَكَّبة من المعاني والصور التي يعتمد بعضُها على بعض.