الفصل الأول

إعادة تقييم العالمية: الترجمة والحداثة وخطاب الهيمنة

بقلم  خي مينج

كثيرًا ما نُوقشَت مسألة العولمة والترجمة من حيث أنشطة الاقتصاد الرأسمالي العالمي وعواقبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فإن مايكل كرونين (٢٠٠٣م) على سبيل المثال يُقدِّم عددًا من النظرات الثاقبة حول التغيُّر الجغرافي لممارسة الترجمة في المجتمعات والاقتصادات المعولمة المعاصرة. ويهدف هذا الفصل إلى إلقاء الضوء على بعض المشكلات الفكرية التي تُصادِفنا عند النظر في دور الترجمة الثقافية في الصين الحديثة وسياقها، من زاوية الحداثة والعولمة.

(١) مسايرة العالم

يُعتبر رولاند روبرتسون (١٩٩٢م) أوَّل من أكَّد، من بين مُنَظِّري العولمة المعاصرين، التداخُل الوثيق بين العمليتَين المتبادلتَين وهما «إضفاء الطابع الخاص على ما هو عام، وإضفاء الطابع العام على ما هو خاص» (ص١٧٧-١٧٨). فمن ناحيةٍ نرى أن إضفاء الطابع الخاص على ما هو عام «يتطلب جعل قضية «الحقيقة» العامة (العالمية) موضوع البحث»، ونرى من ناحيةٍ أخرى أن إضفاء الطابع العام على ما هو خاص «يتطلب إعلاء القيمة العالمية للهُويات الخاصة». ولكن المسألة الحاسمة عند روبرتسون (١٩٩٢م) هي أن السياق العالمي لإعلاء القيمة المذكورة أهم من أي تأكيدٍ نوعي لأية هُويةٍ خاصة، قائلًا «لا يبرز معنى الهوية ولا التقاليد ولا مطلب الأصالة إلا في سياقٍ معيَّن. أضف إلى ذلك أن التفرُّد لا يمكن اعتباره «شيئًا في ذاته». […] فالعولمة، باختصار — باعتبارها صورةً «مضغوطة» للعالم المعاصر وكذلك أساسًا للتفسير الجديد لتاريخ العالم — تحقِّق وتقيم التعادل بين جميع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية» ومن ثَم فإنها تُسجل «البروز المتزايد للتميز الحضاري والمجتمعي» (ص١٣٠-١٣١ والتأكيد في الأصل). والواضح أن روبرتسون يقدِّم هنا صياغته الخاصة للمُفارَقة التي تقول إن العولمة تؤدي إلى تعادُل جميع الثقافات كما تُمكِّن كل ثقافة من الإفصاح عن تميُّزها عن غيرها. ويضغط روبرتسون (١٩٩٥م) التداخل الوثيق بين هذَين البُعدين في فكرة «العَوْلَمحَلِّية» باعتبارها عمليةً لتيسير «نشر» «الحداثة العامة» عَبْر حضاراتٍ متميزةٍ جغرافيًّا»، وهي عمليةٌ يُمكِن أن تؤدي إلى أن تصبح «ميول التجانُس وميول التغايُر» ميولًا «متبادلة التأثير» (ص٢٧)، كما أن روبرتسون (١٩٩٠م) يؤكِّد العلاقات القائمة بين العولمة والحداثة قائلًا إن العولمة تعني «سلسلةً معيَّنة من التطورات المتعلقة ببناء العالم في صورةٍ مجسدةٍ كلية» (ص٢٠). ومن مزايا هذا التعريف إلقاء الضوء على البناء المجسد والطبيعة المتصوَّرة لحال العالم بأنساقه التي تتغير باستمرار من حيث الحركة الزمنية والتركيب المكاني.

وللعولمة أصول غربية وغير غربية (انظر المقالات التي كتبها عدد من المؤرخين المحترفين في هوبكنز (٢٠٠٢أ)). فالعولمة أكبر كثيرًا من «صعود الغرب» (كما قال بعض المُعلقين) أو امتداد السيطرة الغربية إلى كل مكان على سطح الأرض، أو حتى العاقبة التاريخية للاستعمار، أو ظهور شكلٍ جديد من الإمبريالية الثقافية. وليست العولمة قطعًا ظاهرةً جديدةً أو عملية شهدَتها العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين؛ إذ دائمًا ما ارتبطَت العولمة، تاريخيًّا، بتأكيدٍ معيَّن لمزاعمَ عالمية، وليست المسيحية المذهب العقائدي الوحيد الذي أعلن مثل هذه المزاعم العالمية؛ إذ نجد أن أديانًا أخرى، أو نظمًا ثقافيةً أخرى، مثل الإسلام والهندوسية والبوذية والكونفوشية قد أعلنَت مزاعمَ عولمةٍ وعالميةٍ مماثلة، وإن كان عددٌ كبير من الباحثين (في الشرق وفي الغرب أيضًا) يرَون أنه «من السهل أن نفترض أن جميع المجتمعات يمكن أن تنضوي تحت لواء غائيةٍ ذات مفهومٍ غربيٍّ في جوهره» (هوبكنز، ٢٠٠٢ب: ٢١). وقد كثُر الحديث في أعقاب الحرب الباردة عن «نهاية التاريخ» أو انتصار الرأسمالية العالمية. وهذه النظرة إلى العولمة تفترض، فيما يبدو، أنه «لم يعُد على سطح «الكرة الأرضية» مكانٌ يُمكِن فيه الطعن في النظام الرأسمالي وقيمه وسلطته وأسلوب الحياة في ظله.» أي إنه لم يعُد في الوجود غير «الكرة الأرضية»، وعلى الرغم من تنوُّعها، فقد كُتب عليها أن تقنع بمستقبلٍ واحد، يتمثَّل في إطالة أمد العلاقة الحالية بين القوى. وهكذا أصبحَت العولمة وريثة لفكرة «العالم الواحد»، وهي في ذاتها فرعٌ حديث النشأة ﻟ «التاريخ العالمي» الذي كان بدَوره «الوريث التنويري للقصة المسيحية عن الحياة الآخرة» (ويبر، ٢٠٠١: ١٥).

وقد مرَّت العولمة الصينية الحديثة بثلاث مراحل على الأقل؛ كانت الأولى حركة التحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهي التي بلغَت ذروتها في حركة الثقافة الجديدة في الرابع من مايو، وكانت الثانية العالمية الماركسية المجسَّدة في الثورة الشيوعية الصينية، والثالثة حركة الإصلاح منذ أواخر السبعينيات والعملية الجارية للرأسمالية العالمية التي تُسهِّل تكامُل الصين مع الغرب المتقدم. وكانت كل موجة من موجات التحديث المذكورة فترةً تتميَّز بنشاطٍ مكثَّف وواسع النطاق في الترجمة واكتساب المعرفة والأفكار والنظريات والأيديولوجيات الغربية.

والماركسية بطبيعة الحال أشد النماذج الغائية للتاريخ العالمي في الصين الحديثة؛ فهي التي مَكَّنَت المفكِّرين والقادة الصينيين على مدار القرن العشرين من إعادة إدراج الصين في تاريخ الحداثة الغربية باعتبارها عمليةَ عولمة، وفي القصة العالمية للانتقال التقدُّمي. وعلى الرغم من اختلاف آراء المفكرين الصينيين في مجالاتٍ كثيرة، فإنهم يشتركون بصفةٍ عامةٍ في إيمانهم الجماعي الراسخ بشتَّى نماذج التحديث. ففي السياق الصيني الحديث، لم يعُد التضاد بين الصين والغرب مجرَّد تعارضٍ ثنائيٍّ بسيط، أو عقدةٍ مستعصية، بل أصبح بناء مُرَكَّبًا يقوم على التكامل والتداخل و«الاختلاف والإرجاء»، كما يقول جاك دريدا (١٩٧٦م):

ما ينعكس ينقسم في ذاته، ليس فقط باعتبار صورته إضافةً إليه؛ إذ إن الانعكاس، أو الصورة، أو القرين، يقسم ما ضاعفه. وأصل التأمل يصبح اختلافًا. فالذي يستطيع رؤية ذاته واحد، وقانون إضافة الأصل إلى ما يمثِّله؛ أي إضافة الشيء إلى صورته، هو أن واحدًا زائد واحد يساوي ثلاثة على الأقل. (ص٣٦، والتأكيد في الأصل)

وهكذا فإن هذا مُرَكَّبٌ ثلاثي، لا يتضمن الصين فقط (الذات) والغرب (الآخر) بل الصورة المضاعفة للصين بصفتها قائمةً في الغرب، والصورة المضاعفة للغرب القائمة في الصين. وتكشف أنواع التضاد الثنائي المذكورة عن وضعية السيطرة وعلاقات السلطة؛ إذ يمكن اعتبار «الصين» موقع الاختلاف، وذلك في ذاته ليس مصطلحًا إيجابيًّا يفيد علو القيمة. وإذا كان أي نوع من أنواع التمثيل يُعتبَر حدثًا زمنيًّا، فإن له طابعًا تاريخيًّا خاصًّا به. ولقد كانت العولمة في السياق الصيني الحديث، إلى حدٍّ كبير، حركةً متواصلةً من الجذب والإنهاك. فإذا استخدمنا مصطلحًا بلاغيًّا قلنا إننا نستطيع أن نرى هذه الحركة في صورة عبارةٍ بناءُ نصفِها الأول يمثِّل عكس بناء نصفها الثاني، وهي عبارة تفيد التركيب التداخلي في الصين، ومعنى هذا أن الصين مضطرةٌ للتحديث وللعولمة باسم الغرب، حتى وإن لم تتخلَّ عن افتراضاتها التقليدية الخاصة بالثقافة (والإمبراطورية) الصينية العالمية. ومن ثَم فإن التضادَّ بين الصين والغرب يجب أن يُنظر إليه باعتباره أحدَ الآثار الناجمة عن الحركة التاريخية «للاختلاف والإرجاء»؛ أي إنه نتيجة لاختلافٍ يُنتِج اختلافًا في حركةٍ تاريخية لا يُشير فيها اللفظان المتضادان إلى كيانَين معروفَين سلفًا.

والعولمة باللغة الصينية هي كوان كيو هوا، فالعلامة الأخيرة تقابل الإنجليزية -ise أو -isation بمعنى الحركة أو التحول أو التعميق. وأما المعنى الحرفي للعلامتَين الأوليَين فهو كوان (كامل أو كلي) وكيو (العالم أو الأرض) أي «الأرض كلها» أو «على امتداد العالم». والعبارة كلها يمكن ترجمتُها ترجمةً مقبولةً بالإنجليزية بحيث تعني «جعل الأرض كيانًا شاملًا» أو حتى «عولمة العالم». وهذا التعبير الذي يُوحي بالحَشْو ويُوحي قطعًا بتأكيد المعنى ربما كان يشير أيضًا إلى وعيٍ صينيٍّ معيَّن بفكرة الشمول وهي التي يُمكِن أن تُنسَب إليها الحداثة الصينية بالصورة الملائمة. ولكن فريدرك جيمسون يؤكد (١٩٩٨ب) أن العولمة تُنتِج «كيانًا كُلِّيًّا يستعصي على الشمولية؛ إذ يُعمِّق العلاقات الثنائية فيما بين أجزائه، وهي غالبًا أُمم، وإن كانت أيضًا أقاليم ومجموعات، وهي التي تُواصِل الإفصاح عن ذواتها وفق نُموذج الهُويات الوطنية» (ص١٢). ونجد لمسة مفارقة في تعبير أو شعارٍ آخر ذاع واشتُهر في الصين منذ أوائل الثمانينيات وهو زو خيانج شيجي (حرفيًّا «الاتجاه إلى العالم» أو ربما «الاتجاه إلى العالمية») وكان في البداية عنوانًا لسلسلة كُتب يحرِّرها جونج شوهي وتُعيد نشر عددٍ من أعمال جيلٍ سابق من المؤلفين الصينيين حول تلاقيهم مع الثقافة والحضارة الغربيتَين. وعلى عكس القلقلة في معنى «المستقبل» في عبارة زو خيانج ويلاي (حرفيًّا «الاتجاه إلى المستقبل»، وهو عنوان سلسلةٍ شعبيةٍ أخرى في منتصف الثمانينيات) نجد أن زو خيانج شيجي أكثر دقةً في إحالتها الجغرافية ومفهومها المكاني؛ إذ تؤكِّد الحقيقة التي تقول إن الصين كانت قد انفصلَت عن النظام العالمي فترةً ما وأصبحَت الآن تتوق إلى اللحاق بالحداثة (الغربية) المتقدِّمة والتكامل معها، أي «أن تساير العالم». ويشهد على ذلك من جديدٍ شعارٌ أحدث وهو يو جوجي جييجوي (حرفيًّا «أن تسير في نفس الطرق الخاصة [بالمعيار الدولي»]، أو «أن تتكامل مع [المعيار] الدولي»). وانتشرَت أثناء حركة الثقافة الجديدة في بواكير القرن العشرين تعبيراتٌ مماثلة، منها شيجي جووي («المذهب العالمي») وتيانخيا جووي (أي «مذهب كل ما تظله السماء») وجووي هوا (أي «التدويل»). وقد أكَّد مارتن البراو (١٩٩٧م) كيف أن فكرة الكرة الأرضية مفهومٌ موضوعي في جوهره ويتسم بطابعٍ «مادي لا خلاف عليه»، وحتى لو ظهر في حالاتٍ كثيرةً بعيدَ الصلة بالأحداث اليومية لحياتنا. وفي مقابل ذلك نجد أن كلمة «حديث» تُعتبَر «صفة من دون جوهرٍ دائم». ومن ثَم فيمكن اعتبار العالمية طعنًا في «خصوصية القومية» وأيضًا في «الطابع التجريدي للحداثة» (ص٨١). ولكنَّ المفكِّرين الصينيِّين لا يرَون التمييز الصارم بين العالمية والحداثة (ولا حتى ما بعد الحداثة) وإن كان عقد الثمانينيات قد شهد (مثلما شهدَت فترة الرابع من مايو) محاولاتٍ جاهدةً للتعبير عن إشكالية التحديث الصيني من حيث كونها صراعًا بين التقاليد (الصينية) (جو أي «القديم») والحداثة (الغربية) (جين أي «الحديث»).

(٢) انتشار التهجين؟

شهدَت الثمانينيات والتسعينيات تنفيذ مشروعاتِ ترجمةٍ منتظمةٍ وواسعة النطاق في الصين، وكان من بينها مشروعان مبكران يتسمان بقوة النفوذ وهما سلسلة كُتب بعنوان «نحو المستقبل» من تحرير «جين جوانتاو»، وسلسلة «الثقافة: الصين والعالم» من تحرير «جان يانج»، وهما اللذان قدما أعمالًا غربية مُهمة وذات نفوذ في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وقد سبق أن شهد تاريخ الصين الحديث مثل هذه الترجمة الواسعة النطاق في لحظةٍ مبكرة من لحظات تحوُّله الهائل عند الشروع في مشروع الحداثة، وكان يصاحبه ويكفله اتجاه غير مسبوق إلى الترجمة والحصول على المعارف الغربية، وكان يُطلق على حركة «الثقافة الجديدة» في بواكير القرن العشرين تعبير «النهضة الصينية»، وهو الوصف التي ابتدعه «هو شيه»، أحد زعمائها البارزين. ونهضَت الترجمة واستيراد المعرفة والفكر الغربي بدورٍ حاسم في هذا الجهد الجماعي الواعي الذي بذله المفكرون الصينيون لتحديث الصين. وكان من الشعارات المميزة لهذا الجهد الشعار الذي أطلَقه «لو خون» وهو «نالاي جويي» (أي مذهب «الانتزاع»؛ أي انتزاع كل ما يُلبي احتياجات الصين من الثقافات الأجنبية) وقد كتب «هو شيه» كتابًا عنوانه النهضة الصينية بالإنجليزية ونشره عام ١٩٣٤م ويقول فيه:

إن الاتصال بالحضارات الغريبة يأتي بمعاييرَ جديدةٍ للقيمة، وبها نُعيد فحص وتقييم الثقافة القومية، والنتيجة الطبيعية لإعادة النظر في القيم تتمثل في الإصلاح والتجديد بوعيٍ كامل. ولولا ما استفدناه من الاتصال الوثيق بحضارة الغرب، ما استطعنا القيام بالنهضة الصينية. (ص٤٧)

وقد رأى «هو» أن يبُث الاطمئنان في قلوب قُرائه الغربيين فقال في «تصديره» للكتاب:

إن ثمرة هذا الميلاد الجديد تبدو غربيةً بصورةٍ مُريبة. ولكنك إذا نزعتَ القشرةَ وجدتَ أن المادة التي صنِّفَت منها هي القاعدة الصخرية الصينية التي تعرَّضَت للأنواء وعوامل التعرية فازداد بروزها وضوحًا؛ أي إن الصين ذات المذهب الإنساني والعقلانية قد بُعثَت عندما مستها يد الحضارة العلمية والديمقراطية للعالم الجديد. (ص٤٧)

وأما الكتاب الذي كتبه «هُو» قبل ذلك باللغة الإنجليزية بعنوان تطوُّر المنهج المنطقي في الصين القديمة (١٩٢٢م) والذي كان أصلًا رسالةً علميةً أشرف عليها جون ديوي، فيُعتبَر نموذجًا لتطبيقه المناهج الفلسفية الغربية الحديثة في إعادة تفسير الفكر الصيني التقليدي، من خلال ما يمكن اعتباره إعادة الرسم من خلال شبكات الفلسفة الغربية. وكان أ. أ. ريتشاردز يقوم بالتدريس في جامعة بكين وجامعة تسينجهوا في أواخر العشرينيات فكتب يقول (١٩٦٨م) إن «هو شيه» «أيضًا وجد في نصوصه الصينية مرايا يمكن أن تعكس ما كان قد تعلَّمه في جامعة كولمبيا عن الفلسفة الغربية (البراجماتية، ونظرية الاستدلال، والتطور). وقد أبدى كذلك الميل نفسه لتطويع مادته حتى تتفق مع مذهبٍ سبق تشكيله بدلًا من فحصها من أجل طبيعتها الخاصة» (ص٢٥). ويظهر أن ريتشاردز قد أحزنه وجود تشابهٍ واضحٍ بين الفرضيات والأفكار المتوازية في ترجمة النصوص الصينية وتفسيرها:

ما علينا أن نستعد له هو احتمال وجود أفكار التقاليد الغربية في كلمات منشيوس عندما يبدأ الحديث بلسانه الخاص، وهي أفكار لم يكن منشيوس يعرف عنها شيئًا. لقد أصغيتُ إلى علماءَ متبحرين، صينيين وغربيين، وهم يحاضرونني عن منشيوس. ومعظم ما تعلَّمتُه هو أكثر ما استولى على مخيِّلة الفلاسفة الغربيين. (ص٢٠٥-٢٠٦ والتأكيد في الأصل)

وربما كانت تختفي وراء قلق ريتشاردز رغبةٌ في الفصل بين هُويَّات التقاليد الصينية والغربية والتمييز بينهما. ولكننا نجد مبررًا في إصرار ريتشاردز على عدم تطويع كل شيءٍ لمذهبٍ سبق تشكيله.

كان ريتشاردز مراقبًا حاذقًا ﻟ «النهضة الصينية» ومشغولًا إلى حدٍّ بعيد بحركة الترجمة والاستيراد الواسعة النطاق للمفاهيم الغربية إلى اللغة الصينية، مثل الغريزة، والعاطفة، والمعرفة، والحقيقة، والعدل، الاشتراكية، والقيمة، والديمقراطية والمذهب الإنساني:

نحن نعرف مدى غموض أمثال هذا الكلمات ومدى الصعوبة التي نصادفها في السيطرة عليها مستعينين بجميع موارد تقنياتنا التقليدية والتاريخية والتحليلية. وهكذا فعندما تُترجَم هذه الكلمات إلى «معادلاتٍ» لها باللغة الصينية، فإن خطر توليدها محصولًا جديدًا من ألوان الغموض التي لا توازي ألوانَ الغموض التي تُعاني منه أصلًا يصبح خطرًا داهمًا. ولدينا من الأسباب القوية ما يُبرِّر اعتقادنا بأن انتشار هذا التهجين يجري على نطاقٍ واسع إلى أقصى حد. (ص٢٣٢، والتأكيد في الأصل)

ويَلفِت انتباهَنا في هذه الفِقرة تعبير «انتشار التهجين»، وهو الذي يُبيِّن، كما هو واضح، رفض ريتشاردز لهذه الظاهرة. ولكن «انتشار التهجين» يعني انتشار معانٍ جديدة وُلدَت من أبوَين مختلفَين عِرقيًّا، ويُعبِّر بدقة أيضًا عن الاتجاه الكامن في كل تفسير لأن يختلف عن غيره، كما يُعبِّر عن الطبيعة الهجين للهُويات الثقافية الحديثة. والواقع أن لدينا مصطلحًا لاتينيًّا قديمًا يشير إلى حالةٍ مماثلة من حالات الإنتاج عبر الثقافي وهو contaminatio [الذي يعني التأثُّر بشيءٍ آخر اختلط به] وهو مصطلحٌ مشتق من الفعل contaminare الذي يعني: «يُضَيِّعُ النقاء من خلال الاتصال أو الاختلاط»، أو «يفسد [شيئًا] أو يلوِّثه»، أو «يعكر الصفو من طريق المزج»، أو «يشوه من خلال الجمع بين شيئَين»، وكانت هذه هي التهمة التي وُجهت إلى المؤلف اللاتيني تيرنس لقيامه ﺑ «إفساد» المسرحيات اليونانية ﺑ «خلطها أو تغييرها» عند ترجمتها ترجمةً حرة وإدماجها في المسرحيات التي ألَّفها هو باللغة اللاتينية (انظر بير ١٩٥٩م؛ تشامرز ١٩٥٧م). ويقول جياني فاتيمو (١٩٩٧م): إن مذهب الهرمانيوطيقا (التفسير/التأويل) مختص في جوهره بدراسة «تأثير الخلط» المذكور، والذي يفهم بالمعنى الإيجابي للانتشار أي التكاثر أو «زيادة الوجود». ولكنه لا يثير التساؤل عما إذا كان المعنى السلبي لتأثير الخلط المذكور كامنًا أيضًا وأصيلًا في «خبرتنا بالحداثة». ولكن «ما دام علينا أن نعترف بأننا نعيش في عالم ذابت فيه الهويات الثقافية، في معظم الأحوال، وانصهَرَت في ضرب من اللغة المختلطة المشتركة» من خلال «ضروب الترجمة والتفسير المتبادلة للثقافات»، فإنه لا بد من «التغلب على التناقضات التي تستحيل معها الترجمة» (ص٥٩-٦٠) من خلال قبول الوجود بصفته حادثًا واختلافًا. والتفسير باعتباره حادثًا يعيد إدراج المفسر في لحظةٍ خاصةٍ من لحظات تاريخ النص أو الشيء الذي يفسِّره. وهكذا فإن تفسير المترجم وترجمته يتَّسمان بطابعٍ تاريخيٍّ محدَّد.

(٣) إضفاء الطابع الصيني على الحداثة

يُعتبَر «يان فو» من النماذج المرموقة للطابع التاريخي للمترجم/المفسِّر في الصين الحديثة؛ إذ كان أول مترجمٍ جادٍّ وبالغ النفوذ للفكر الغربي الحديث؛ فقد نشر عام ١٨٩٨م ترجمته الصينية لجزء من كتاب توماس هكسلي وعنوانه التطور والأخلاق ومقالات أخرى (١٨٩٤م). وأما الدافع الذي حدا به إلى اختيار ترجمة محاضرة رومان للمفكر هكسلي فكان إحساسه بحاجة وطنه العاجلة إلى الإنقاذ في مواجهة التحديات القادمة من الغرب ومن اليابان. ولكن هذه «الترجمة» كانت تمثِّل تفسير يان فو وإعادة خلقه لأفكار داروين في إطار المقولات الأخلاقية الصينية التقليدية؛ إذ استخدم يان فو ما كان يعتبره أفكارًا صينية مماثلة في إزالة التضارُب والتوفيق بين مبدأَي داروين («الكفاح من أجل الوجود» [ووجينج] و«البقاء للأصلح» [تيانجي]) وبين الحس الأخلاقي للحاجة الجماعية. وأما العنوان الذي وضعه للترجمة فهو تيانيان لون (أي عن التطوُّر السماوي) مشيرًا بذلك إلى فكرته الأخلاقية الصينية عن «التحقيق الكامل للمواهب السماوية». وحسبما يقول يان فو (٢٠٠٤م) في تصديره للترجمة، المكتوب عام ١٨٩٦م، فإن «كتاب هكسلي يهدف إلى تصحيح أخطاء مذهب «حرية العمل» الذي وضعه سبنسر، ويشترك جانبٌ كبير من الحجة في هذا الكتاب مع ما قاله حكماؤنا الأقدمون، كما أن بعض الثيمات مثل تقوية الذات والحفاظ على السلالة العِرقية من الأفكار الثابتة فيه» (ص١٠٠). ويستخدم يان فو عددًا كبيرًا من الأفكار الصينية التقليدية مثل فكرة داو (أي الطريق) وخِنْج (الطابع الأصيل) وتيان (السماء) وشِنْج (الحياة) وقون (مجموعة، كيان جماعي) لتدعيم تمثيله لفكرة داروين عن الكفاح من أجل الوجود. وأما إشارة داروين إلى كفاح الطبيعة الذي لا يرحم فقد ترجمه إلى المفهوم الصيني تيان نينج (أي الموهبة السماوية، أو الطاقة الفطرية التي تمنحها «السماء» من أجل الحفاظ على النفس، ومن أجل العلاقة الاجتماعية المتناغمة مع قون؛ أي المجموعة).

وحاول يان فو أن يجد مفاهيم ومصطلحات في أمهات الكتب الصينية توازي الكثير من المفاهيم والمصطلحات الغربية التي حاول ترجمتها، فعندما تصدى لترجمة كتاب دراسة المنطق للفيلسوف جون ستيوارت مِلْ، ترجم كلمة المنطق بالتعبير مِنْج خيو («دراسة أو نظرية الأسماء»)؛ لأنه كان يعتقد أن ظلال معنى مِنْج قريبة إلى حد بعيد من ظلال معنى لفظة logos (كلمة أو منطق)، كما أن لفظة مِنْج توحي بمعنى «الإخلاص» (قيو شينج) و«تصويب الأسماء» (جينج مِنْج)، في نظره، وهما هدفان مُهمان من أهداف التعلم والتفكير (انظر جاو & وو، ١٩٩٢: ١٣٤). ولكن «المنطق» يختلف اختلافًا شديدًا عن تركيز كونفوشيوس على «تصويب الأسماء». ويؤكد يان فو، في خطاب أرسله إلى ليانج قيشاو، أهمية تقديم المفاهيم السياسية والقانونية الغربية مثل «الحق» و«الالتزام». وقد بدأ بترجمة «الحق» بكلمة قوانلي وهي ترجمة مستعارة في الواقع من اللغة اليابانية، ولكنه لم يجد فيها ما يُرضيه. وزعم فيما بعدُ أنه وجد المعادل الدقيق في أمهات الكتب الصينية، مثل وثيقة هان (هانشو) وفي نصوص الجوانزي: وهي الشكل جي الذي يعني «الواجب» في المقام الأول، وقرينتها جي («المستقيم»). وبرَّر «يان فو» ما يفعله قائلًا:

عندما يتصدى المرء لترجمة المفاهيم الصعبة والمهمة، عليه أن يرجع إلى الأصول الاشتقاقية للكلمات الغربية، وأن يأخذ في اعتباره جميع امتدادات معانيها وارتباطاتها، ثم يعود للبحث في اللغة الصينية (هويجوان جونجوين) عن المثيل لها (كاو قي خيانجلي). (مقتطف في جاو & وو، ١٩٩٢: ١٣٠)

ومن الأمثلة الأخرى على محاولة يان فو أن يعثر على مثيلٍ صيني ترجمتُه لكلمة «الحرية» الواردة في عنوان كتاب عن الحرية للفيلسوف جون ستيوارت مِلْ؛ إذ اختار كلمةً مركَّبةً صينيةً مهجورة هي زييو واعتبرها معادلة ﻟ «الحرية». وكان يان فو (١٩٩٩م) يُصر على أنه على الرغم من ظلال المعاني غير الحميدة المرتبطة بكلمة زييو، مثل «التحلل (من القيود الأخلاقية)، والتهتُّك [الفجور]، والجموح»، فإن هذه «الظلال» لا علاقة لها بالمعنى الأصلي للمُرَكَّب. فالمعنى القديم لكلمة زييو، بخلاف صورتها الحديثة زييو، كان أصلًا يفيد «عدم التقيد بالأسماء الخارجية» (بو وي وايوو جوقيان) (ص١٨٤). وزعم يان فو أن ذلك كان ما يعنيه مِلْ بكلمة «الحرية» على وجه الدقة.

وقد كتب الباحث المشهور وانج جيووي مقالتَين عن الترجمة في العقد الأول من القرن العشرين، تناول فيهما بصفةٍ خاصةٍ ترجمة الأفكار والمفاهيم. وكان عنوان أولاهما «عن استيراد المصطلحات الجديدة» (وانج ١٩٩٧أ [١٩٠٥]) ولا يقتصر فيها على تأكيد ضرورة استيراد المصطلحات الغربية، بل يؤكد أيضًا انشغاله الموازي بالثقافة التي نشأَت فيها هذه المصطلحات. وكان وانج (١٩٩٧أ) يدرك أعمقَ إدراكٍ افتقارَ المثقفين الصينيين في عصره إلى ما كان يطلق عليه زيجيو؛ أي الإحساس بالحرج (ص٣٣٤) إزاء هذه الألفاظ والأفكار الأجنبية الجديدة. وقد انتقد وانج ترجمة يان فو لمصطلح «التطور» بكلمة تيانيان (أي التطور السماوي) قائلًا إن اللفظة الصينية تُسيء فهم الدلالات المضمرة في الفكرة الأصلية عند داروين وهكسلي (ص٣٣٥). وكان وانج يؤكد الصلة المتبادلة بين اللغة والفكر قائلًا: «في عالم الطبيعة، تأتي الأسماء من الأشياء، وأما في عالم مفاهيمنا، فإن الأشياء تُوجد بسبب أسمائها. فإذا افتقرَت الأشياء إلى أسماء، فلن يؤدي هذا حقًّا إلى تفكير شعبنا» (ص٣٣٤). وهكذا فإن استيراد فكرٍ جديدٍ يعني استيراد ألفاظٍ جديدة، ولكنها لا بد أن تُتَرجَم ترجمةً ناقصة بسبب حدود اللغة الصينية.

وكان وانج يرى أن إحدى الوظائف الرئيسية للمترجم تتمثل في مساعدة القارئ على اكتساب وعيٍ جديدٍ بحدود لغته في مواجهة اللغات الأجنبية والمختلفة. ويصدُق هذا أيضًا على الترجمة من اللغة الصينية إلى إحدى اللغات الغربية. وكان وانج جيووي يحذِّر من الافتراضات السطحية بوجود تكافؤ وتشابه؛ إذ انتقد كو هونج مِنْج في مقال له بعنوان «تعليق على الترجمة الإنجليزية التي وضعها كو هونج مينج لكتاب مذهب الوسط» (وانج ١٩٩٧ب [١٩٠٧]) وكان مدار انتقاده استعداد المترجم للعثور على نظائرَ غربية للأفكار الصينية، مبينًا أن فكرة شِنْج الصينية («الإخلاص») التي تُعتبَر في الواقع فكرةً جوهريةً في الفكر الصيني التقليدي لا أشباه لها ولا نظائر في الفلسفة الغربية، وأنها تختلف اختلافًا شديدًا عن فكرة «الأنا» عند فيخته، أو فكرة «المطلق» عند شيلينج، أو معنى «الفكرة» عند هيجيل، أو «الإرادة عند شوبنهاور»، أو «اللاوعي» عند هارتمان (ص٣٨٧). وكان وانج يُبدي تشككًا كبيرًا في إمكان العثور على نظائر أو أشباه جاهزة للمفاهيم والأفكار الصعبة، صينية كانت أو أجنبية، ويعتقد أن مهمة المترجمين إمداد قُرائهم بالمعلومات الخاصة بالخلفية الثقافية والفكرية للأعمال الأجنبية (ص٣٩٧-٣٩٨). ويزعم كو هونج مينج في تصديره لترجمته لكتاب النظام العالمي أو مسار الحياة: تعاليم كونفوشيوس الدينية (١٩٠٦م) أن «أعجب ما يَلفِت النظر، على نحو ما بيَّنتُ في الحواشي الملحَقة بترجمة النص، أنه يمثِّل الإفصاح بالشكل نفسه واللغة نفسها الواردة في هذا الكتاب، الذي كُتب من ألفَي سنة، عن أفكار نجدها في أحدث الكتابات التي أبدعَها أفضل وأعظم مفكِّري أوروبا الحديثة» (ص١٠-١١). وقد ترجم «كو» (١٩٠٦م) فقرة من جونجيونج (ص١٧) على النحو التالي:

وهكذا فإن من يملك صفاتٍ أخلاقيةً عظيمة سوف يحصل قطعًا على مكانةٍ رفيعةٍ تتفق مع تلك الصفات، وما يتفق معها من رخاءٍ عظيمٍ واسعٍ لامع وعمرٍ طويل؛ إذ إن الله الذي يمنح الحياة لكل المخلوقات، يُغدِق نعمه عليهم وَفقًا لشمائلهم. وهكذا فإنه يَرعَى الشجرةَ الحافلةَ بالحياة ويَغْذُوها، وأما الشجرة التي تجهَّزَت للسقوط فإنه يقطعُها ويدمِّرها. (ص٤٦-٤٧)

ويورد كو (١٩٠٦م) حاشيةً تمثِّل إحالة تُرجع صدى تقديم يان فو لفكر هكسلي تقول: «إننا نجد في هذا إعلانًا عن قانون البقاء للأصلح منذ ألفَي عام. ولكن تفسير كونفوشيوس لهذا القانون يختلف عن التفسير الحديث. فالبقاء للأصلح لا يعني البقاء لمن يتمتَّع بأشد قوة حيوانية، بل البقاء لأصلح الكائنات خلقًا» (ص٤٧). ونجد هنا أن كو هونج مينج، مثل يان فو، يفترض أن صورة العالم الكونفوشية التقليدية ذاتُ طابعٍ عالمي، ويُوحي بوعيٍ حادٍّ بضرورة اكتساب مصطلحات «الآخر» المسيطر في الإفصاح عن الوعي الحديث لصاحب المرتبة الثانوية بعد إخضاعه لمبدأ النسبية.

وقد يشير مثالا هذَين المترجمَين الصينيَّين المشهورَين في مطلع القرن العشرين إلى جانبٍ آخر من جوانب الوعي الصيني بالعولمة؛ أي الافتراض الضمني بأن الصورة الصينية التقليدية للعالم صورةٌ صحيحة في جوهرها، وافتراض الموقع المركزي للصين في العالم بصفتها المملكة الوسطى. ويؤكِّد جوزيف ليفنسون (١٩٧١م) أن جهود التحديث الصينية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت محاولاتٍ عامدةً لإعادة تأكيد الشعور القومي للصين ﺑ «العالمية». وربما استطعنا صياغة شعار المثقفين الصينيين في حركة الثقافة الجديدة على النحو التالي: «لن نسمح للأجانب أن يكونوا عالميين على حساب الصين» (ص١، والتأكيد في الأصل). فلقد كان الصينيون دائمًا يضعون تصوُّرهم ﻟ «العالمية» من داخل ثقافتهم الخاصة، ولم يحدث قط أن «استولى» الصينيون على العالمية الغربية؛ إذ كان أبناء الصين على امتداد التاريخ يرون أنهم يمثِّلون مركز العالم، أو مركزًا لدائرة ثقافةٍ صينية تمثِّل العالمية الكونفوشية، وإن كانت هذه العالمية العامة أقرب من الناحية السيكلوجية إلى الانحصار في الذات والاتجاه إلى الداخل، بدلًا من التوسُّع [في الخارج] مثل الغرب. وكما يقول ليفنسون (١٩٧١م): كانت هذه العالمية الصينية التقليدية «غير مسيانية» [أي لا تنتظر مجيء «مُخَلِّص»، كالمسيح] مع افتراض أن «البرابرة دائمًا معنا» وعلى العكس من ذلك:

كانت العالمية المسيحية، في إطار روح القديس بولس، تتجاوز الثقافة والتاريخ، وتتبنَّى التوسع والانطلاق من الأراضي المسيحية إلى أراضٍ جديدةٍ مكتشَفة قد تكون بها نفوسٌ مسيحية. ولكن العالمية الكونفوشية كانت في المقام الأول ثقافة، وذات طابعٍ تاريخي لا يُقهر. كانت قيمها عالمية، مثل المسيحية، ولكن العالمية الكونفوشية كانت معيارًا، أو موقفًا، لا نقطة انطلاق. كانت منفتحة على العالم كله (جميع من هم «تحت السماء» تيان-هسيا، «الإمبراطورية» و«العالم»، حيث يحكم «ابن السماء») وكانت منفتحة على الجميع. (ص٢٤)

وهذا السياق الخاص بالخيال التاريخي للعالمية الصينية هو الذي يساعدنا على أن نفهم حق الفهم الإشكاليات الصينية الحديثة الخاصة بالمقاومة الثقافية والتأصيل الثقافي. وفي الثمانينيات والتسعينيات كان الخطاب الفكري في الصين بالغ التنوع، ويتراوح ما بين المقترحات الخاصة ﺑ «الحداثة البديلة» باعتبارها مما تنفرد الصين به، وبين الأحلام الطليعية بعولمة الثقافة الصينية (أي بإضفاء الطابع الغربي عليها). وشهدَت هذه الفترة كذلك نزعات قوية للنظر إلى الإشكالية الرئيسية للحداثة الصينية إما من زاوية النموذج المكاني للطابع المحلي (الصيني «جونج») في مقابل الطابع العالمي (خي: أي الغرب) وإما من زاوية النموذج الزماني للطابع التقليدي في مقابل الحداثة.

(٤) التشابه والانحراف بمعاني الألفاظ

تُعتبَر الترجمة ما بين ثقافتَين في جوهرها جهدًا لاكتساب [معانٍ جديدة] أو الاستيلاء عليها عن طريق التشابه، وكثيرًا ما يتمثل دافعها في الحاجات الداخلية للثقافة المستقبِلة [لهذه المعاني]، وكثيرًا ما يعتمد تبنِّي المفاهيم والنظريات الغربية على التشابه، وكثيرًا ما لا يصاحبه اهتمام موازٍ [لهذا التبنِّي] بإشكاليات التاريخ الفكري والثقافي الغربي. فالواقعية مثلًا، كما يبيِّن أندرسون (١٩٩٠م) مذهبٌ أدبي.

لم يكن المفكرون الصينيون يؤيدونه في المقام الأول بسبب أشد ما يرتبط عند الغربيين به، وهو التظاهر بالمحاكاة؛ أي الرغبة البسيطة في «اقتناص» العالم الواقعي باللغة … ولكن المفكرين الصينيين احتضنوا الواقعية لأنها كانت، فيما يبدو، تلبي حاجات الصين في الجهود الآنية العاجلة للتحول الثقافي ما دامت الواقعية تُقدِّم نموذجًا جديدًا للتوليد الخلاق والتلقي الأدبي. (ص٣٧)

وهكذا فلا بد من النظر إلى ما يُسمَّى ﺑ «تأثير» الأفكار الغربية في سياق المنازعات والمناظرات والخلافات الداخلية في لحظاتٍ تاريخيةٍ معيَّنة في الثقافة الصينية. ولننظُر إلى أمثلة الخلاف حول «المادية الجدلية» (بيانجينج ويوو لون) في الثلاثينيات، والمناظرة حول «الجدليات الطبيعية» (زيران بيانجينجفا) في الخمسينيات والستينيات، والمناظرة حول «علم الجمال» (مايخيو) في الفترة نفسها، والمناظرة حول مقولة «إن التطبيق معيار الحقيقة الأوحد» في أوائل الثمانينيات، والمحاولات في الفترة التالية لماو تسي تونج لوضع نظرية عن «الذاتية» (جوتيخنج) وإلى حدٍّ ما، المناظرات الحديثة العهد حول «الاستشراق» (دونجفانج جويي) و«ما بعد الحداثة» (هوخيانداي جويي) و«ما بعد الاستعمار» (هوجيمين جويي) و«العولمة» (قوان قيو هوا)، فهذه كثيرًا ما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمناظرات والإشكاليات الداخلية، على الرغم من أنها جميعًا من المفاهيم والنظريات المستقاة أو المُستولَى عليها من الغرب. وكثيرًا ما يرجع قبول أو رفض نظريات أو أيديولوجيات أجنبية أو غربية إلى أسبابٍ مُرَكَّبة، والمؤلفون الصينيون كثيرًا ما «يستخدمون جميع مفردات الفلسفة الغربية دون قيود» ولكن بعض المفاهيم الفلسفية الغربية مثل «العلم» و«المنطق» و«المادة» كثيرًا ما تُفهم باعتبارها:

رموزًا تشير إلى موقفٍ ما في صراعٍ سياسي، ولا صلة لها إطلاقًا بالمضمون الفعلي لهذه المفاهيم في الفلسفة الغربية. وهكذا فإن العلاقة بين الرموز المقابلة لها في نصٍّ [صيني] لا تُمثل نظيرًا موضوعيًّا، بل نظيرًا مُشابهًا في أحد الصراعات السياسية. (مايسنر، ١٩٩٠: ٥)

ومنطق التشابه يقوم على فكرة «وضع اليد» أو «الاستيلاء» التي تُعتبَر ترجمة للكلمة الألمانية Aneignung التي تعني تحويل ما كان «غريبًا» إلى «شيء يمتلكه المرء». أو كما يقول ريكور (١٩٨١م): إن «التفسير يجمع ويعادل ويحيل [القديم] إلى شيءٍ معاصر، و[المختلف] إلى شيءٍ مُشابه. ويقتصر تحقيق هذا الهدف فقط على قدرة التفسير على تحويل معنى النص إلى واقعٍ حاضر في عينَي القارئ الحاضر» (ص١٨٥). ويضيف ريكور (١٩٨١م) قائلًا «ولكن النص لا يتحقق انتماؤه إليَّ إلا إذا تخليتُ عن ذاتي، حتى أسمح للنص بالوجود. […] ويمكن التعبير عما يحدث بأنه إبعادٌ للنفس عن ذاتها في داخل مرحلة الاستيلاء» (ص١١٣، والتأكيد في الأصل). فإذا كنا نريد أن تحتفظ فكرة «الاستيلاء» بقيمتها النقدية لا أن تقتصر على نرجسيةٍ تفسيرية، فإن علينا أن نُعيد التفكير في البناء «النظري» للاستيلاء من حيث قيمته ونفوذه بالنسبة لما هو أجنبي وما هو أصيل. وهكذا نجد أن التأثير لا يزيد عن كونه استيلاءً انحرَف بمعاني الألفاظ، بتعبير دريدا (١٩٨٤م) بل «إنتاج متعسف للمعنى، وسوء استعمال لا يرتكز إلى معيارٍ سابق أو صحيح» في حالات أكثر من كونه مجرد ترجمةٍ استعاريةٍ قائمة على أصلٍ معياري. ولكن حتى إذا جاز لنا أن نعتبر القراءة الخاطئة شرطًا مسبقًا للفهم، فإن لها أيضًا جوانبَ قصورٍ خطيرة؛ لأنها لا تتضمن اشتباكًا مع غيرية الغير أو الآخر، لا باعتبار ذلك الاشتباك مجرد مصدر للاستيلاء بل باعتباره موقع المواجهة مع الذات. فالترجمة تحويل الذات إلى غيرية الآخر، حتى تكتسب الوعي باغتراب غيريتها من خلال ثبات حال الذات زمنيًّا.

(٥) الهيمنة والرغبة في المركز

أعاد بابا Bhabha (١٩٩٢م) صَوغ التعبير عن البحث النقدي في الحداثة من منظور ما بعد الاستعمار قائلًا إنه نقد «مضاد للحداثة من منظور ما بعد الاستعمار» وإننا يمكن أن «نُعيد تقييمه باعتباره شكلًا من أشكال حال سابقة … وأسبابه مؤثِّرة لأنه يعود ليحلَّ محل الحاضر، ويفصم عُراه»، لأنه يهيئ ﻟ «سياسة الاختلاف الثقافي» مساحة الإفصاح عن نفسها، و«غرس عدم إمكانية القياس ثقافيًّا حيث من المُحال أن تُنفى الفوارق أو تُرسم لها صورةٌ كلية». وإعادة الصياغة التي يأتي بها بابا تُعيدنا إلى الإشكالية التي تربط بين ما يسمِّيه «المرحلة المتأخرة للرأسمالية وبين أعراض ما بعد الحداثة المشتَّتة القائمة على نماذج المحاكاة والتوليف الفني» (ص٤٤٣). فإذا كنا نرى أن القصة التي تحدِّد الهوية الثقافية في صورة «هوية وطنية» أو «حدث رمزي وطني» تفرض قيودًا أكثر مما ينبغي، أو غير مرغوب فيها وحسب، فإن مشكلة الأصالة الثقافية تحتاج إلى إعادة النظر فيها باعتبارها قضيةً «غيرية»، في علاقتها بالآخر باعتباره الذات، وبالذات باعتبارها الآخر. كما نواجه أيضًا خطر الاقتصار على تدويل رغبات الآخر باعتباره مشاهَدًا وحسب، وخطر ما يؤدي إليه التعاطف السياسي والرمزية الثقافية من ألوان الرضى، في إطار معايير اقتصادٍ رأسماليٍّ عالميٍّ جديد؛ إذ إن المقاومة قد تصبح أيضًا مجرد انصياع للمعمول به. وهكذا فإن «الاستيلاء» يجري في الاتجاهَين معًا وفي الوقت نفسه. فهو استيلاء الهامش على المركز واستيلاء المركز على الهامش. ويمثِّل الأخير قطعًا مشكلةً خطيرة لأن العولمة اليوم قد تعني أن المركز المُهيمِن يُمكِنه الاستيلاء على كل شيء، وحسب.
ويشير الكثير من الباحثين الصينيين في مناسباتٍ كثيرة إلى «العجز الهائل في ميزان الترجمة» بين الصين والغرب باعتباره دليلًا على استمرار سيطرة الثقافة الغربية وسلطة هيمنتها. وأما كيف يكون الحفاظ على الاستقلال والتميز و«العمق» الثقافي في مواجهة «الثقافة أو الثقافات (الغربية) المسيطرة والمهيمنة» (قيانجشي وينهوا) وكذلك «خطاب الهيمنة بمختلف أشكاله» (باقيوان هيايو) فقد أصبح الآن مشكلةً حادةً بل ومؤلمة نفسيًّا للكثير من المفكِّرين الصينيين. ويُبدي كثيرٌ من الباحثين الصينيين انزعاجَهم إزاء التهديد الذي يواجهُهم حتى في مجال دراسات الترجمة، ويُطلِقون عليه التهديد بمرض «الحُبْسة» أي فقدان الصوت (وينهوا شييوجينج) ما دام جانبٌ كبيرٌ من كلامهم النظري «مستعارًا بالجملة من الغرب» (جانج وجانج ٢٠٠٢: ٢٨) وعلى الرغم من حماسهم للعولمة، فإن المفكِّرين الصينيين يعانون فيما يبدو من قلقٍ عميق من مذهب العالمية. وقد يكون من وراء الدوافع على الاستيلاء على الأفكار والقيم الغربية (وتصدير الأفكار والقيم الصينية) افتراض وجود عالمية عميق الجذور؛ أي إن كل ما يتمتع بصحةٍ جوهريةٍ وعالمية في مجال الأفكار الأخلاقية يشترك فيه الشرق والغرب؛ ولا بد أن ذلك لا يقتصر على الحرص على استعادة المكانة العالمية (المُهيمِنة) التي كانت تشغلُها الصين يومًا ما. فلقد ازدادت دعوة المفكِّرين الصينيين في السنوات الأخيرة إلى تصدير الثقافة الصينية. ومع ذلك، فإن الترجمات الصينية، باعتبارها وسائلَ تصدير للأفكار والقيم الثقافية الصينية، يمكن النظر إليها من زاوية وقوعها في إطار السلطة المُهيمِنة للسيطرة الثقافية الغربية، ومن ثَم تُعتبَر من ضروب المقاومة الثقافية. فالترجمة تتضمَّن أبنية سلطة الاستيلاء (من جانب المركز) ولكنها تتضمَّن كذلك «أفعال» المقاومة من خلال ترجمة النصوص المحلية والأصيلة. وهذه هي المفارقة؛ إذ يُمكِن النظر إلى الترجمة من الثقافة الصينية باعتبارها مناصرةً للعولمة ومقاومةً لها. ولكن فكرة وجود «المجال الثقافي الصيني العظيم» (دا جونجيو وينهوا قوان) تتضمَّن بعضَ الجوانب الغامضة فيما يتعلق بالعولمة، فهذه الفكرة تُفيد الانتشار والمقاومة معًا، ومنظورها يجمع بين موقع المركزية المفترَض والموقع المتصوَّر للهامش على الأطراف. ولكن هذا يتضمَّن خطر المعادلة بين مجرد زيادة قيمة ما هو محلي وهامشي عن قيمة العالمي والمُسيطِر وبين خطاب المقاومة المناهِض للهيمنة. ويقول جريجوري جو سدانيس (١٩٩١م):

للآداب الهامشية طاقةٌ راديكاليةٌ على هدم الهُويَّات الثقافية، وتعادلها طاقتها على إنتاجها والحفاظ عليها. فهذه الثقافات ذواتُ طبيعةٍ متناقضة؛ إذ إنها تتمتع بالسلطة على المستوى الوطني، وتفقدها على المستوى الدولي، ومن شأن هذا تحذير النقاد من الاحتفال بغيريَّتها الراديكالية إلى ما لا نهاية. (ص١٢)

ونحن نشهَد في استيلاء الغرب على ما هو غير غربي (مثل التخصُّص في الصين من زاوية الاستشراق) ميل عالم الأنثروبولوجيا بالضرورة إلى اتخاذ موقفٍ محافظ تجاه هوية الآخر الثقافية، على نحو ما أشار إليه كلود ليفي-شتراوس (١٩٧٣م) الذي يُبيِّن أن الأنثروبولوجي يميل إلى اتخاذ موقفٍ ثوري في كفاحه للإتيان بأفكارٍ جديدة في ثقافته الخاصة، لكنه يغدو محافظًا في المواجهة مع الآخر الثقافي.

وقد سبق أن اقتطفنا أقوال رونالد روبرتسون (١٩٩٢م) وتعريفه للعولمة الذي يقول: إنها «بناء العالم باعتباره كيانًا كليًّا»، وهو يُذكِّرنا بالبحث النقدي الذي أجراه دريدا (١٩٧٨م) في «البناء، أو بالأحرى الطابع التركيبي للبناء» (ص٢٧٨) قائلًا إنه «دائمًا ما يتعرَّض للتحييد أو الاختزال، وذلك بمنحه مركزًا أو إحالته إلى نقطة حضور، أو أصل ثابت». ويتحدث دريدا عن «الرغبة في وجود مركز عند إنشاء أي بناء» (ص٢٨٠) وهو ما تُثبِته الأدلة المستقاة من الإثنولوجيا الأوروبية. وأما حين يشير دريدا إلى عمل كلود ليفي-شتراوس فإنه يقول:

يُمكِن للمرء أن يفترض في الواقع أن الإثنولوجيا لم تُولَد باعتبارها علمًا إلا في اللحظة التي فقَد المركز فيها مركزيته؛ أي في اللحظة التي تزَحزحَت فيها الثقافة الأوروبية؛ أي أُقصيَت عن مكانها وأُرغمَت على أن تكُف عن اعتبار نفسها الثقافة المرجعية. وليست هذه اللحظة في المقام الأول لحظة خطابٍ فلسفيٍّ أو علمي. بل إنها أيضًا لحظةٌ سياسية واقتصادية وتقنية وهلُم جرًّا. (ص٢٨٢)

كما يربط دريدا بين زحزحة المركز وبين استحالة المقولات الشاملة:

إذا كان الشمول لم يعُد له أي معنًى، فالسبب لا يرجع إلى أن الطابع اللانهائي لمجالٍ ما تستحيل تغطيتُه بنظرةٍ محدودة أو بخطابٍ محدود، بل يرجع إلى أن طبيعة المجال نفسها — أي اللغة واللغة المحدودة — تستبعد أية مقولةٍ شاملة. فهذا المجال في الواقع مجال حركة؛ أي مجال ضروب استبدالٍ لا نهائية؛ لأنه محدود وحسب. (ص٢٨٩، والتأكيد في الأصل)

ونستطيع استنادًا إلى طبيعة «خطاب» الترجمة وحرية الحرية فيها أن نتبيَّن أن البناء يتكوَّن من علاقات واختلافات لا من ثوابت، وهو ما يفسِّر لنا تأكيد دريدا ﻟ «الطابع التركيبي للبناء» (انظر ما يقوله روبرتسون عن «البناء»). وبناء التفاعلات الثقافية ليس شيئًا ثابتًا، وليس شيئًا له وجودٌ سابق باعتباره حضورًا كاملًا أو مصدرًا وحسب، ولكنه ينشأ في العلاقات الفعلية والتاريخية المتداخلة بين الثقافات. ولنا أن نتصوَّر من الزاوية المثالية وجود طابعٍ شاملٍ مجسد فيما نَصِفه ﺑ «العالمية»، بمعنى أنه لا مركز له، وهو ما يُعادِل القول بعدم وجود شيءٍ خارجي يُمكِن للمركز أن يُقارِن نفسه به حتى يُدرِك أن له وجودًا يتجاوز ذاته. ويقدم «ري تشو» (١٩٩٣م) إيضاحًا مفيدًا لما تفترضه ممارسة الترجمة من وجود مجال ﻟ «الخطاب» يستعصي على الاحتواء قائلًا:

لا يشير الشمول إلى كيانٍ «كلي» مغلَق، بل يشير إلى مساحةٍ ما بين خطاب وخطاب آخر حيث يتطلب الإفصاح فيها عن الكفاح المحلي إفصاحًا سابقًا عن المشاركة في ضروب كفاحٍ أخرى، والعكس بالعكس. وقولنا إن هذه المساحة «شاملة» لا يعني أننا أمام شيءٍ مكتمل (بحيث لا يمكن أن نُضيف إليه المزيد) إذ إن «الشمول» يعني الغَيرية على وجه الدقة؛ أي إن الكفاح المحلي «شامل» بسبب اعتماده على غير ذاته من خلال محاولة إقامة التعادُل بين إفصاح وإفصاح. (ص٩٦)

والترجمة ما بين الثقافات، باعتبارها ممارسةً لغويةً وفكرية وتتَّسم بالعالمية والمحلية معًا، تسمح بعدم إعاقة حرية الحركة الكامنة في بناءٍ يستبعد الشمول.

(٦) ما يُمكِن أن تعني العالمية

وهكذا فإن فكرة الترجمة ذاتُ أهميةٍ أصيلة لفكرة الشمول والعالمية نفسها وللمبادئ السياسية الخاصة بالتبادل والحوار بين الثقافات. وقد أقامت جوديث بطلر (٢٠٠٣م) حُجةً مقنعة على أن افتراض «لغةٍ مشتركة» بين اللغات والثقافات المنوَّعة أمرٌ مشكوك في صحته؛ لأن مثل هذه اللغة كثيرًا ما يُشار إليها أو تُرسم صورتها النظرية بأسلوبٍ ينم على الهيمنة والإمبريالية، بمعنى استيعابها ﻟ «أنواعٍ مختلفة من اللغات وإخضاعها لفكرةٍ سائدةٍ عن الكلام». كما تُقيم بطلر بعض الروابط بين الترجمة والسياسة، مؤكدة أنه «لا تُوجَد سياسةٌ فعَّالة من دون قبول الترجمة باعتبارها المحنة المشتركة»، وتُضيف قائلة: «إن الزعم بأن الترجمة مِحنةٌ مشتركة لا يوازي الزعم بوجود لغةٍ مشتركةٍ بيننا، ولكنه يعني فقط أن الكلام يحتاج للترجمة حتى يُفهم». وبعض المصطلحات الجوهرية مثل العالمية والعدل «ليس لها معنًى بسيط أو سَبَق تحديده» ولكنها مثار خلافاتٍ أساسية بحيث «لا نستطيع استنادًا إلى علم دلالة الألفاظ المثالي أو السابق لنشأة الثقافة أن نقطع فيما تعينه […] فالسؤال مثلًا عما تعنيه العالمية، وعما يُمكِن أن تعنيه العالمية، نموذج لسؤالٍ رئيسي لا بد أن يظل مفتوحًا حتى تستطيع السياسة الحفاظ على مكانتها باعتبارها مشروعًا نقديًّا» (ص٢٠٥-٢٠٦ والتأكيد في الأصل). ولا يقتصر الأمرُ على اختلاف مفهوم العالمية من ثقافة إلى ثقافة، بل الأهم من ذلك أن ما يُطلَق عليه لفظ «العالمية» في الغرب ليس له مكان في كل لغة من لغات البشر، وهذا العجزُ من جانب الترجمة قد يمثل «التواءً [في المعالجة] وقد يكون علامةً على الاستعمار، وقد لا يكون علامةً على الإطلاق. وهكذا نجد أنفسنا في مواجهة حدود العالمية». ومن هذه الزاوية، نرى أن خطاب الترجمة يكمُن في داخله تخريبُ أي معنًى للعالمية باعتباره يفيد الاحتواء الذاتي.

ولا شك أن دراسات الترجمة في الصين مكلَّفة بعملٍ مهمٍّ يتمثل في دراسة دوافع وأهداف الترجمة، والقيود التي قَبِلها المترجمون صراحة أو ضمنًا، وقنوات وطرق النقل والتوسط قبل عملية الترجمة وأثناءها وبعدها، والأطر الثقافية للتفسير التي تُدرج فيها هذه الأعمال المترجمة بعد ذلك. ومع ذلك فعلينا أن ننظر في التأكيد الصحي من جانب أنطوان بيرمان للاشتباك الوثيق مع الآخر، وهو الذي يُلقي الضوء على الترجمات بين الألمانية والفرنسية إبَّان الحقبة الرومانسية؛ إذ ينبغي تطبيقُ ذلك أيضًا على ترجمات الثقافات غير الغربية أو ثقافات العالم الثالث فيما بعد الاستعمار، فإن الترجمة تزيد عن مجرد «الاستيلاء»، فهي بالضرورة أسلوب للإفصاح عن الطابع البَيْني للثقافات. وهكذا فلا بد من وضع تصوُّر أشد تقدُّمًا للترجمة الثقافية في السياق الصيني، تيسيرًا لإجراء دراساتٍ نقديةٍ مقارنةٍ أصيلة، بحيث لا تقبل وجود الاختلافات باعتبارها أمورًا مُسَلَّمًا، بها بل أن تتخذ مدخلًا أكثر انعكاسًا على الذات في الترجمة وفي الحداثة. ومن الواجب قبل كل شيء أن تعتبر الحداثة ناقصة إذا لم يتسنَّ إدراكُها كظاهرةٍ قائمة في ذاتها وفي عزلة، بل لا بُد من إدراكها ومعايشتها بأسلوب الانعكاس الذاتي بصفتها تناقضًا كامنًا في نظرية العولمة وممارسة الأصالة. وهكذا فإن العمل بالترجمة عملٌ بالانعكاس الذاتي. ومن هذه الزاوية، نرى أهميةً قصوى للابتعاد عن الانشغال (النرجسي في معظمه) بالطابع الصيني أو بالتميز الصيني، والاتجاه إلى فهمٍ جدلي للاختلافات الثقافية وللإطار العالمي للتمييز الذي يُتيح نظرةً شاملةً لثقافة المرء إزاء الآخر (والآخرين) والإفصاح عن التميُّز والأصالة الثقافية. فالترجمة تعني التواصل والتفاعل والتصادم بين لغتَين وثقافتَين (على الأقل) بحيث يتعرَّضان معًا لتحولاتٍ متبادلة في هذه العلاقة. ونقول باختصار إن إحدى المهام الرئيسية لدراسات الترجمة الصينية في سياق العولمة قد يتضح أنها المشاركة في الترميز العالمي، وإعادة بناء العالم نفسه باعتباره شبكةً مُرَكَّبة من المعاني والصور التي يعتمد بعضُها على بعض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤