اللغة الإنجليزية باعتبارها أداة «ما بعد استعمارية» أشكال الهدم المناهض للهيمنة في لغةٍ مُهيمِنة
(١) مقدمة
تتجلى في اللغة الإنجليزية، باعتبارها اللغة التي يتكلمها العالم (إن لم تكن اللغة العالمية) هيمنةُ الماضي وهيمنةُ الحاضر معًا؛ فهي تمثِّل استمرارًا للإمبراطورية البريطانية، ولهذا تُكرَهُ باعتبارها لغةً استعمارية؛ وهي اللغة المُفضَّلة في التجارة الدولية والتنمية الرأسمالية على امتداد العالم، ولهذا يُسْتَاءُ منها باعتبارها لغة الاستعمار الجديدة الجبَّارة، ولكن اللغة الإنجليزية قادرة على مناهضة صور الإمبريالية الكامنة فيها، وتقويض هيمنتها. ولننظر إلى إدوارد سعيد، الفلسطيني، وجاياتري سبيفاك، الهندية المولودة في كلكتا، وهومي بابا، الزرادشتي المنحدر من مهاجرين فارسيين إلى الهند منذ القرن السابع، وهو الذي نشأ وترعرع في بومباي، فإن هؤلاء الثلاثة يستخدمون خبراتهم الشخصية في هجومهم على الاستعمار، لكنهم لم يكتبوا دراساتهم بالعربية أو البنغالية أو الفارسية بل بالإنجليزية المُهيمِنة، فإذا كانت الإنجليزية حقًّا لغة العالم، وإذا كانت مدركات العالم يزداد تناولها بالإنجليزية، وقد تكون هاتان المقولتان صحيحتَين فعليًّا وإن لم تتوافر لهما الصحة الكاملة، فإن سؤالنا: «كيف يمكن تمثيل ما هو أجنبي عن اللغة الإنجليزية تمثيلًا مفهومًا باللغة الإنجليزية؟» ليس سؤالًا هامشيًّا. أو، بعبارةٍ أخرى، كيف يُمكِن التعبير عن المقولات المناهضة للهيمنة بخطابٍ مُهيمِن، وهذا الخطاب نفسه قد يحبس، إن لم يعرقل، التحديات الموجَّهة إلى سلطته؟ وهذا شكلٌ آخر من أشكال أُحْجِيَةٍ أوسعَ نطاقًا، ألا وهي: كيف يُمكِن تصوير الآخر للذات، من دون أن يصبح الآخر مجرد صورةٍ معكوسةٍ للذات؟ والذي أودُّ استكشافَه في هذا الفصل هو: كيف يستطيع بعض الكُتَّاب العِرقيين المنتمين إلى ثقافتَين متضادتَين، باستخدام تقنياتٍ قصصيةٍ مختلفة تقوم على المحاكاة، تجسيد غرابة ثقافة الأقلية بلغة من لغات الأكثرية، ومع ذلك ينجحون في تمكين القارئ من إدراك هذه الغرابة.
ينظر مائير ستيرنبرج، في مقالٍ رئيسي كتبه عام ١٩٨١م، بعنوان «التعدد اللغوي باعتباره حقيقة والترجمة باعتبارها محاكاة»، في قضية التداخل الثقافي التالية: كيف يمكن تمثيل ما هو أجنبي تمثيلًا مفهومًا للقارئ المحلي؟ ويحدِّد الباحث في إجابته ثلاث استراتيجياتٍ عامة. وهو يُطلِق على الاستراتيجية الأولى مصطلح «التقييد الإحالي»، الذي يعني أساسًا الخطاب ذا اللغة الواحدة وحسب، ويتجاهل التوتُّرات ما بين اللغات، وكذلك الانحرافات ما بين لهجات هذه اللغة. ويستشهد الباحث بالروائية جين أوستن؛ فقصصُها مقصورة على الإنجليز، ولا يكاد يظهر في رواياتها أي أجانب، وكل مَن فيها يتكلم اللهجة نفسها. وأما التقنية الثانية فيُطلِق عليها مصطلح «توافُق الوسائل»، ويُعَرِّفها قائلًا إنها التنوُّع اللغوي الذي نُصادِفه كثيرًا في الدراسات العلمية، خصوصًا في مجال الأدب المقارن، ولكن أيضًا في الأفلام السينمائية والأدب. ويستشهد ستيرنبرج بالفيلم الثنائي اللغة الوهم الكبير، الذي أخرجه جان رينوار، وكذلك بمسرحية بيجماليون التي كتبها برنارد شو؛ فالأول نموذج للتداخل بين اللغات، والثاني نموذج للتداخُل بين اللهجات. وأما التقنية الثالثة فيُطلِق عليها «التجانُس العرفي». وتعني افتراض قدرة الأجانب أو الكائنات غير البشرية على الحديث تلقائيًّا بطلاقةٍ بإحدى اللغات المحلية؛ فجميع الحيوانات عند لافونتين تتكلم الفرنسية، وأنطونيو وكليوباترا يتكلمان الإنجليزية، على الرغم من خلفيتَيهما الرومانية والمصرية. وكان من الأمثلة الأخرى مسلسلٌ تليفزيوني بعنوان أبطال هوجان الذي يصوِّر الحياة في معسكرات الاعتقال الألمانية؛ حيث يتحدث أسرى الحرب الفرنسيون وآسروهم الألمان لغةً إنجليزيةً متأمركة (وإن كانت تُنطَق بلهجةٍ ألمانية أو فرنسية). ولنا أن نحدِّد خصائص الطرائق الثلاث التي حدَّدها ستيرنبرج على النحو التالي: «التقييد الإحالي» يستبعد كل ما هو أجنبي، و«التوافُق بين الوسائل» يقدِّم ما هو أجنبي أصلًا بصورته الأجنبية، و«التجانُس العرفي» يقدِّم ما هو أجنبي باعتباره شفَّافًا؛ أي صورةً للغة «اكتسبَت الجنسية».
ويواجه المؤلِّفون العِرقيون من ذوي الثقافة الثنائية تحديًا من نوعٍ خاص: كيف يمكنهم استدرار تعاطُف القارئ مع ثقافةٍ «أجنبية»، والحفاظ في الوقت نفسه على طابعها «الأجنبي» بحيث يُمكِنهم تصوير أبناء البلد الذين يكرهون الأجانب تصويرًا واقعيًّا؟ وقد اخترتُ ثلاث رواياتٍ أمريكيةٍ عِرقية لتمثيل ما أعني؛ الأولى أمريكيةٌ كورية، والثانية أمريكيةٌ يابانية، والثالثة أمريكيةٌ صينية. وسوف يمسُّ تحليلي ثلاث قضايا فرعيةٍ مهمة؛ مثل درجة الغرابة التي تعزِّزها كل استراتيجية، ودرجة الثنائية الثقافية التي تقتضيها، إن لم تكن تقتضي جمهورًا ثنائي اللغة. ومن الأمور المضمَرة في تحليلي ﻟ «المحاكاة القصصية» للانتماء العِرقي، الطعن في فكرة نقاء الإنجليزية الأمريكية؛ إذ إنه إذا كانت الولايات المتحدة متعدِّدة الثقافات حقًّا فلا بد أن يتجلى هذا التعدُّد في لغتها أيضًا؛ ومن ثَم فلن تستطيع اللغة الإنجليزية أن تظل «أنجلوأمريكية»، ولكنها لا بُد أن تضُم عددًا متزايدًا من التعابير والمصطلحات المستقاة من لغاتٍ محليةٍ غيرِ إنجليزية. وإذا كانت لغة بلد من البلدان تتكوَّن من كل ما يتكلمه ذلك البلد، فلا بد أن يكون «تهجين» اللغة الإنجليزية معلمًا من معالم اللغة الحية، مثلما كان التنوُّع ولا يزال سمة الشعب الأمريكي.
(٢) رواية «لغة ابن البلد» (١٩٩٥م)
تناقش هذه الرواية التي كتبها «تشانج-ري لي» قضية اللغة باعتبارها رمزًا للهُوية. والقصة تمثِّل صراعًا لا يقتصر على الجيل الأول من المهاجرين الكوريين الذين استوطنوا أمريكا والجيل الثالث من أبنائهم، بل يتضمن الانفصام بين اللغة الكورية واللغة الإنجليزية؛ أي إن على هذا الروائي أن يجسِّد الأفكار التي تتشكَّل باللغة الكورية وأن يُظهِر في الوقت نفسه غرابتَها عند القارئ الأمريكي غير الكوري. وهو يستخدم عدة تقنيات، من بينها «الكليشيه المحاكي»، وتوافُق الوسائل والتجانُس العُرفي، وأحيانًا يجمع بين هذه الثلاثة. ويُشير الكليشيه المحاكي إلى كلماتٍ وعباراتٍ لا تدُل على إحاطةٍ عميقةٍ بثقافةٍ أخرى، ويتضمَّن الألفاظ المعتادة في التحية والعبارات الأساسية المألوفة بين أفراد الجماعات العِرقية. وأما التحية الكورية المعتادة فتتخذ صورة توافُق الوسائل في الفقرة التالية «كان إدواردو يومئ برأسه في كل صباح ويقول بنبراتٍ مُقنِعة: آن – يونج – ها – ساي يو. وكنتُ أردُّ تحيته بالإسبانية، ولكن نبراته كانت أفضل كثيرًا من نبراتي» (ص١٣٢). ومن أمثلة الكليشيه المحاكي ما يلي: «كان المطعم الكوري يتكوَّن من طابقَين … فإذا طلبتَ كالبي أو بيلجوجي، جاءك رجل بعُلبة فيها جمراتٌ متعدِّدة، ليضعها في الحفرة التي تتوسط المنضدة» (ص١٧٦).
«أحنى هامته انحناءَ حادًّا وقال متلعثمًا: «مي – يان – ني – أوه، آه – جوه – شيه». أنا في غاية الأسف يا سيدي.»
«وقلتُ مقهقهًا: جاين – تشا – ناه، مُعربًا عن تسامحي، ثم مددتُ يدي إليه وقلت «يوه – جي آن – جوه». تعالَ هنا واجلس». (ص٢٤٩)
وأحيانًا ما لا يتضمن إشعار القارئ بأن الكلام باللغة الكورية أية كتابة للألفاظ الكورية بالحروف اللاتينية، ومع ذلك فلا بد أن يتبيَّن القارئ أن الكلام باللغة الكورية؛ فعندما نقرأ ما يلي «كانت تقول: «أيها الزوج» لا بد أنك جوعان. تعود إلى البيت متأخرًا جدًّا. أرجو أن نكون ربحنا مالًا كافيًا اليوم».» (ص٥١) نعرف أننا لا نستمع إلى شخص يتحدث الإنجليزية باعتبارها لغته الأم. كما أن بعض الأفكار تشي بموقفٍ فكري ليس من المحتمل أن يُعبِّر عنه ابن اللغة الإنجليزية (أو على الأقل ليس من المحتمَل أن يُعبِّر عنه علنًا في زمن اللياقة الاجتماعية الحالي)؛ فعلى سبيل المثال نجد أن والد بطل الرواية يعتز اعتزازًا شديدًا بزوجة ابنه ذات البشرة البيضاء، واسمها ليليا. ويقول المؤلف: «إنه كان دائمًا يُحاوِل، كلما سنحَت له الفرصة، أن يقف إلى جوارها مباشرةً، ثم يُبدي فخره بمدى طولها واستقامة عودها، كأنها فرسةٌ شابةٌ جميلة، قائلًا ذلك باللغة الكورية، برنَّة الإعجاب» (ص٥٣). ويتجلى في هذه النماذج ما يسمِّيه ستيرنبرج «توافُق الوسائل» و«التجانُس العرفي» معًا، مثلما يتجلى في الحالات التي تُصاحِب الترجمة كتابة الكلمات الكورية بحروفٍ لاتينية، ويتجلى ضمنًا أيضًا في الأمثلة التي تُفصِح عن كون المتحدث كوريًّا بسبب حذلقة بناء العبارة أو التعصب القومي الشديد.
ولكن المؤلف «لي» لا يملك، إذا أراد إحداثَ تأثيرٍ درامي، أن يُضفِي الغموضَ على أفكار شخصيته أو أن يُعيقها بالشرح أو بإيجاد سياقٍ لها، بل ينتفع بكل الشفافية التي يُتيحها له «التجانُس العُرفي»، ولا يستخدم إلا الحروف المائلة للإشارة إلى أن ما قيل، لا ما هو مطبوع، كان باللغة الكورية أصلًا. وفي سبيل تصدير التعصُّب العرقي لدى الكوريين ضد السود، يجعل أحد شخوصه يقول: «أنت تعرف حال هؤلاء السود، فهم دائمًا ما يتوقعون معاملةً خاصة» (ص١٧١). وعندما نرى أن «آجوما»، التي تُعتبَر أمًّا وخادمًا بديلة لبطل الرواية، ترفُض التعامل إطلاقًا مع ليليا، الزوجة الأمريكية لابن مستخدمها، نجد أنها تردُّ عليه باللغة الكورية وحدها:
«وعند ذلك ناديتُ «آجوما»! وهتفتُ «آجوما»! من دون أن ألقى ردًّا.
«وأخيرًا ارتفع صوتُها المُجلجِل قائلًا: لا يُوجَد ما أتحدث فيه مع زوجتك الأمريكية. اخرُج أرجوك من المطبخ؛ فهو بالغ القذارة ويحتاج إلى التنظيف.» (ص٦٥)
من المُحال التعبير عن الانفعالات الشديدة إلا باللغة الأم، والمشاهد الحاسمة في هذه الرواية تستخدم الحوار باللغة الكورية، ولكنها لغةٌ يفهمها القارئ غير الكوري، ويستمتع بها كل الاستمتاع.
فعندما تؤنِّب والدة من الجيل الأول [للمهاجرين المستوطنين] ابنَها الذي ينتمي إلى الجيل الثاني بسبب عصيانه لأبيه، لا بد أن تستخدم لغتها الكورية الأصلية، هاتفة «ومن تظن نفسك؟» وعندما يريد الوالد إثارة مشاعر البنوة الصارمة الرقيقة في أطفاله، نجد أن شخصًا ثنائي الثقافة مثل جون كوانج، الأمريكي الكوري المشتغل بالسياسة، يستخدم لغته الأصلية. «يقول لهما باللغة الكورية العامية وهما يقفان أمامه وقفة الجنود: عليكما أن تُحسِّنا سلوككما الليلة أثناء غيابي. وأَحسِنا معاملة والدتكما. فلَكَم أفنت نفسَها من أجلكما. كرِّماها بطاعتكما» (ص٢٥٢). ومن المستبعَد أن يقدِم والدٌ أمريكي ذو بشرةٍ بيضاءَ على التعبير عن رسالةٍ مثل هذه قط، في تعاليها وتكبُّرها.
صاح بنبرة حاسمة «بيونج – هو». كان صوته قد بدأ يتغير، وبدأ يتحول إلى الحديث باللغة الكورية، ويُعِدُّ حَلْقَهُ لذلك. ثم تكلم وهو ينهض استعدادًا للخروج: لن نسمع أي شيءٍ آخر عن هذا الأمر. سوف تأتي المرأة معنا إلى المنزل لترعاكما. هذا هو ما قرَّرتُه. لم تعُد لحديثنا أيةُ فائدة. لن تُوجد طريقةٌ أخرى. (ص٥٩)
ولا يقتصر ما يكشف عنه هذا الجمود على عناد الوالد بل يشي أيضًا بصلابة الشرعة الأخلاقية الكونفوشية، وهي التي تهَب الوالد سُلطةً صارمةً في الأسرة. والتعبير الكوري عن هذه القيم التي تتمتع بإعزازٍ عميقٍ لا يحتمل الجدل ويمثِّل الفضيلة التي تُزيِّن الشخص الذي يُعبِّر عن هذه المشاعر. وأما في مصطلح اللغة الإنجليزية، فإن هذه المشاعر نفسها تبدو من قبيل الاستبداد واللاعقلانية التي لا تُحتمل، وتُفصِح عن موقفِ والدٍ لم يصل بعدُ إلى مرحلة التنوير المستقى من العقلانية والمبادئ الديمقراطية، وهو التنوير الذي يقتضي منه الاشتباك مع ابنه في خطابٍ ينمُّ على المساواة.
ومن الأدلة على روعة الرواية أن الصراع بين الثقافتَين يبدأ تأثيره حتى في اللغة المنطوقة؛ فاللغة الكورية المُستخدَمة هنا، على الرغم من احتمال تطويعها وإكسابها التجانُس عند تحويلها إلى الإنجليزية، تبدأ في اكتساب نبرات التحدي والقتال التي تتسم بها الإنجليزية الأمريكية. وعلى الرغم من أن الفقرة تبدأ بصرخةٍ أزلية باللغة الكورية: «آييه!» فإننا نشهد بعد ذلك ترجمةً ذات شقَّين؛ الأول ترجمة الألفاظ في الأصل الكوري إلى الإنجليزية، والثاني تحويل الأفكار الكورية الأصلية، فيما يبدو، إلى عاميةٍ أمريكيةٍ واضحة. ويظهر الضغط في الدعوة التي يقدِّمها جون كوانج — «قُل ما تريد بالإنجليزية إن اضطُرِرتَ إلى هذا» — كأنما كانت اللغة الكورية، بما تفرضه من صيغٍ رسمية وتأدُّب واحترام، تضع قيودًا شديدة لا يتحمُّلها هذا التفجُّر الأصيل للكراهية والحنق.
(٣) الغلام الرافض (١٩٥٧م)
ويدُل اسم «كانو-سان» على أن الكلام باليابانية، ويجعل القارئ يُدرك هذا على الفور. ويتعمد السياق ألا يُنسينا أننا نَسترِق السمع إلى محادثة باللغة اليابانية بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، ويوضِّح ذلك وضوحًا تامًّا؛ فالضمير «نحن» [الضمير المتصل في ضدنا] في الفقرة التالية مترجَم عن الكلمة المقابلة في اليابانية: «من الغريب أن استياءه كان، فيما يبدو، يسُرُّها. فرفعَت وجهها بوضوح وأجابته قائلة «ليس يابانيًّا؛ فلقد حارب ضدنا. وأتى لوالده بالعار ولنفسه بالحزن. من سوء الحظ أنه لم يُقتل».» (ص١٠٣) وهكذا ينجح أوكادا، بلمساتٍ دقيقة من اللغة الإنجليزية غير المألوفة، على سهولة فهمها، في إشعار القارئ بأنه «يسمع» اليابانية في لغة السرد الإنجليزية. وهو يستخدم ما يسمِّيه ستيرنبرج «الكليشيه المحاكي» في بعض العبارات مثل «كانو-سان» التي تصبغ لغة المتحدث الياباني بما يسمَّى الصيغة [كيجو] المألوفة، والمقصود الصيغة المهذَّبة في الإشارة. وحذلقة البناء، أو البناء النحوي الرسمي في عبارة «آها! الذي فقد إحدى ساقيه. كيف تستطيع مصادقة مثل هذا الشخص؟» يوحي بشخصٍ يتكلم اليابانية، وبأن معناه يُنقل — إن لم نقُل «يُترجم» — لنا. واللغة الإنجليزية غير السلسة تُقدم جانبًا من الطابع الرسمي لليابانية المنطوقة. والإحالة الإشارية بضمير الغائب في تعبير «ليس يابانيًّا» تزداد قوة في وعينا إذا تذكَّرنا أو تخيَّلنا أنها تُقال باليابانية، وفحوى «حارب ضدنا» توحي ضمنًا بخيانة الانتماء العِرقي الذي يمثِّله الوسيط (الياباني) للمحادثة. والاستخدامات الإشارية للضمير «نحن»، متصلًا أو منفصلًا، في حالتَي الفاعل والمفعول به، مضلِّلة بصفةٍ خاصةٍ عند ترجمتها، فليس الكلمة [نحن] حين تُقال باللغة الصينية معادلةً لترجمتها الإنجليزية؛ فمن زاوية علم اللغة السيكلوجي، لا يُعتبَر قولك «نحن الصينيين» معادلًا لقولك «ويمين هانرين»، ولا تعادل عبارة «ويمين مايجيو» على وجه الدقة عبارة «نحن الأمريكيين».
إن قضية أبطال رواية الغلام الرافض تنحصر تحديدًا في وطنيتهم، ولا بد أن يتجلى في اللغة التي يستخدمونها قطبا هُوياتهم؛ فلقد رفض «إتشيرو» هويته الأمريكية برفض الالتحاق بالجيش الأمريكي. وأما كينجي فهو يرفض هُويته اليابانية، مُضحيًا بأحد أطرافه، في سبيل القتال باسم الولايات المتحدة ضد اليابانيين. ومن المُحال تقدير هذا التوتُّر، أو هذا الصراع، ما لم «يسمع» القارئ اللغة اليابانية ﺑ «اللغة الإنجليزية»!
لا بد أن آخر مرة كانت قبل بيرل هاربر. يا ربي! ما أطولَ تلك المدة! ثلاث سنوات، لا بل أربع سنوات تقريبًا، كما أتصوَّر. عددٌ كبيرٌ من اليابانيين عادوا إلى الساحل. عددٌ كبيرٌ في مدينة سياتل. سوف تراهم هناك. وأمرهم غريب. يُصرُّون على طعام الأرز وشراب الساكي ووجود غيرهم من اليابانيين. هذا غباء في نظري. الأذكياء ذهبوا إلى شيكاغو ونيويورك وأماكنَ كثيرةٍ في الشرق، ولكن أعدادًا كبيرةً منهم لا يزالون يجيئون إلى هنا. (ص٢)
«إتشيرو؟» كان الرجل القصير الغليظ القوام الذي خرج من بين الستائر التي تحجُب خلفية الحانوت قد نطَق الاسم بتحذلُق مثلما تفعل العجائز، وأردَف قائلًا «نعم يا إتشيرو، لقد عدتَ إلى بيتك. ما أجمل عودتَك إلى بيتِك!» كان رنينُ اللغةِ اليابانيةِ المنطوقةِ برهافة والتي لم يكن قد سمعَها منذ وقتٍ طويلٍ غريبًا على أذنَيه. ولسوف يسمع الكثير منها الآن بعد عودته لبيته؛ فإن والدَيه، مثل معظم اليابانيين من كبار السن، لم يكونوا يتكلمون الإنجليزية تقريبًا. (ص٦–٧)
وأوكادا منحاز، بطبيعة الحال، في رسمه للشخصيات؛ لأنه يريد تصوير اليابانيين المستوطنين من الجيل الأول الذين لا يتكلمون الإنجليزية بتعاطُفٍ أكبر مما يُمكِنهم أن يتلقَّوه من جيلهم الثاني الذي لا يتكلم إلا الإنجليزية؛ إذ تمتاز كل لغةٍ بدرجةٍ معيَّنة من السحر الخفي الذي دائمًا ما يجعل التمثيل الدقيق للغات الأجنبية أو ترجمتها ترجمةً حرفية تُنتِج نصًّا دون المستوى المعتمَد باللسان المحلي؛ ولذلك فإن أي انحرافٍ عن اللغة الأم يمثِّل منزلةً اجتماعيةً خفيضة. (ومن الفروع المعتادة لهذا الموقف ذي المرجعية الخارجية قولُ بعضهم «إن كان بالذكاء الذي يزعمه، فلماذا لا يُجيد الكلام بالإنجليزية!») ويتجسَّد مرامُ كتابة أوكادا المناهضة للهيمنة في اختياره نماذجَ من «اليابانية» المهذَّبة وإقامة التضادِّ بينها وبين اللغة الأمريكية السوقية التي تتفق مع المصطلح اللغوي. وإنجازُه يتضمَّن مفارقةً معيَّنة، ألا وهي أنه يجعلنا نتعاطف مع اللغة اليابانية المنطوقة المُترجمَة إلى الإنجليزية أكثر مما نتعاطف مع اللغة الأمريكية المنطوقة.
(٤) دونالد دَكْ (١٩٩١م)
يزور مستر دونج العم دونالد دَكْ واقفًا أمام المقلاة الخاصة به، والتي تتصاعد منها أصواتُ الطشطشة والأزيز. وتتدافع الألفاظ من فمه مثلَ الأوامر العسكرية. فهتف قائلًا «آه – سيفو!» (أي مايسترو بالكانتونية لوالد دونالد). «آه – كنج سوك آه ه ه! آها! آه – سوك!» (كلمة تدل على الأُلفة ولكنها تُضمِر احترامًا شديدًا). «هو سي فوت تشوي. تشرَّفتُ كثيرًا برؤيتك تمارس فنَّك!» (ص٦٤)
يقول الوالد: «كما هو الحال في مطاعمي؛ فأنا لا أقول «شرائح نصال القرنبيط الصغير المشقوقة بالتبادل مع لحم فخذ الخنزير وصدور الدجاج. لا أقول هذا لأنه يُوحي للسامع بالكلام العلمي في المختبر. ومن ذا الذي يريد أن يأكل نوعًا ما من تشريح الجثث؟ فظيع! ولكني أقول ثمار شجرة اليَشَب الذهبية مع لحم فخذ الخنزير المدخن والدجاج. وجَرْسُ العبارة بالصينية أجمل! اسمع: يوك شور جوم واه فاو تور جاي كو. شجرة اليَشَب! الجَرْسُ جذابٌ لا يجعلك تشعُر بأنك دفعتَ مبلغًا باهظًا لتأكل القرنبيط الصغير.» (ص١٢٥)
ومن المفترض أن القارئ الثنائي اللغة الذي يتوجَّه إليه الكاتب يُجيد الإنجليزية أو اللهجة الكانتونية، ولكن هذا القارئ، مهما تكن أوجُه قصوره يرى المشهد — مؤقتًا — من منظورٍ كانتوني — أمريكي. وقد تكون في هذا لمسة تغريبٍ معيَّنة؛ إذ إن القُراء الذين لا يعرفون إلا الإنجليزية سوف يشعرون بوجود روح الشرق التي تستعصي على التعبير (ولا أقول ذات الأسرار) ولكن مشروع تشين يهدف، على وجه الدقة، إلى تفادي هذا اللون من «الاستشراق» من خلال أحاديثه الجانبية وتحديده للمسافات في السياق، وهكذا نتمكن — بفضل الاستنباط والشروحِ المقدَّمة — من الحصول على المعاني الكافية لنحدُس المعنى، حتى ولو كنا نجهل اللهجة الصينية الكانتونية. وهكذا تصبح خبرة القراءة، من زاويةٍ معيَّنة، أمريكيةٍ كانتونية، حتى وإن لم نكن نحن كذلك.
يظهر النادلُ العجوزُ الأصلع في مطعم العَم من الباب المتأرجح المؤدي إلى المطبخ حاملًا صِحافًا من الطعام في كل يدٍ من يدَيه وصِحافًا أخرى على ذراعَيه. ويُلقي نظرةً سريعةً على طابور الأشخاص المصطفَين لدخول المطعم، ويشير إليهم بأنفاسٍ متقطِّعة في هذرمته التي لا تتوقف وهو يضع طعام الإفطار الساخن على الموائد ويصيح لإبلاغ مَن في المطبخ بالطلبات الجديدة: «بيضٌ ولحم خنزير وبيضٌ مخفوق، وأرزٌ من دون صلصة. أوه! كنج سيفو! مايسترو! كم عَدَدُكم؟ خمسة؟ يا للهَول! سأُخلي لكم مكانَ أحد، ولكن ذلك يجلب الخسائر! ولكن إن لم تستطيعوا الانتظار …»
ويقول الوالد: «بل نستطيع الانتظار.» ثم ينادي على العَم العجوز قائلًا: «اسمع يا بوك.» وهذا يُفيد الاحترامَ الشديد.
«ريشةُ لحمِ خنزير، بيضٌ مخفوق، بطاطسُ مقليَّة، لك. وأنت فطائرُ نقانق، بيضٌ مَقْلي. أوكيه. وأنت فطيرة. وسأُحضِر العسَل اللازم لها. لا تقلَق.» (ص١٤٧)
ويستطيع كل قارئٍ صادَف صاحبَ مطعمٍ في الحي الصيني في أي بلدٍ يتكلم الإنجليزية أن يفهم بعض اللهجات الصينية التي تُنطَقُ بها الإنجليزية [نماذجها لا تُترجَم].
وينجح تشين في التصدي للعدَاء الصيني العام للكانتونية المستخدمة في الأحياء الصينية باستكشاف جذورها الأدبية. فالفقرة التالية تشير إلى حلوى «دُونَتْسْ» [أو ما نسمِّيه بالعامية «لقمة القاضي»] والمعروفة في مناطق أخرى بالصين باسم «يوتياو» (ومعناها الحرفي «أصابع زيتية» أو «شقائق زيتية»): «… إنهم يقطعون العجينة ويَلْوونها ليصنعوا منها يو جاو جواي، وهي الدُّونَتْس المعروفة باسم الشياطين المسلوقة في الزيت» (ص١٤٠).
نجوك فاي جندي في الصين القديمة … وبعض الأشرار يزعمون أن نجوك فاي هرب من الجيش وأنه خائن. وتأمُر والدةُ نجوك فاي ابنَها بأن يذهب إلى الإمبراطور ويُريه ظَهرَه، وتَحفِر وشمًا على ظهره من عدة كلمات، أو شعار يقول ما معناه إنه مخلصٌ للإمبراطور وللأمة إلى الأبد. ويفشل المشروع؛ إذ يريد الإمبراطور أن يقطع رأسه، فيهرب نجوك فاي ويختبئ ولكنَّ رجلًا وامرأة يُذيعان سِرَّه، ويَكشِفان مخبأه في مقابل المكافأة، ولكن الناس يكافئونهما بأسلوبهم؛ إذ يُطلِقون على الزوجَين اسم «دُونَتْ» يو جاو جواي ويَقْلون هذَين الزوجَين في الزيت ويقطعُونهما ويأكلُونهما رمزيًّا كل يوم، معبِّرين بذلك عن كراهيتهم الشديدة لهما. وهذه هي قصةُ يو جاو جواي.» (ص١٤١)
ولا تقتصر هذه القصة على العلاقة بين لغتَين بل تتضمَّن أيضًا العلاقة بين لهجتَين. ولا تُوجَد مثل هذه القصة من وراء هذه الحلوى باللهجة الصينية الماندرينية؛ أي إن اللهجة الكانتونية وحدها هي التي تجعلُ اسمَ الحلوى يستدعي هذه الإحالة الأدبية الكاملة. وهكذا فإن هذه القصة المألوفة للصينيين قد تُرجمَت إلى الأمريكية العامية، وهو ما يمنحُها نكهةً خاصة، نكهةً مشتركةً بين اللغات وبين اللهجات، ومن المُحال أن ينجح مجرَّد تفسيرها في نقلها للقارئ. والقصة لا تُروى باعتبارها من الغرائب، مهما تبلغ جاذبيتُها لمن لا يعرفونها، بل تُقدَّم باعتبارها فكرةً ذاتَ جذورٍ عميقةٍ في ثقافة المتكلم، حتى ولو رواها بلغةٍ أجنبيةٍ تمامًا بالنسبة للسياق الأصلي. وتُستغل الفوارق اللغوية بسبب ثراء تعقيدها، ولا تتسبَّب في الضيق مثل الانحرافات عن الأعراف. وهكذا فإن اللهجة الكانتونية العامية واللغة الإنجليزية الصحيحة يجلسان جنبًا إلى جنب أمام المائدة اللغوية، باعتبارهما شريكَين متساويَين في القصة. ويستمتع القارئ بسهولةٍ فَهم القصة وبسحرِ شيءٍ جديد، أو قُل بشيءٍ مألوفٍ يُقدَّم إليه في ثوبٍ لغويٍّ جديد.
وتُعزى روعة كتابة تشين إلى نجاحه في إبداع إنجليزيةٍ تتَّسم بنبرات اللهجة الكانتونية من دون الحط من منزلة الشخص الذي يتكلمها، ومن دون أي تَعالٍ في سرد الأحداث. وعباراتُه العِرقية لا تُقدَّم في صورة أخطاءٍ أو انحرافاتٍ عن الكلام المعياري (الصحيح)؛ أي إنه شريحةٌ باهرة الألوان مما يحدِّده سوسير باعتباره الكلامَ المنطوقَ لا المنطقَ الكامنَ في اللغة. كما أنها تُعتبَر عباراتٍ أدبيةً مثل اللهجات الريفية التي نسمعها في رواية هاكلبري فين للكاتب مارك توين، ومثل عامية المراهقين في رواية هولدن كولفيلد للكاتب ج. د. سالينجر، ولهجات شوارع شيكاغو في رواية أوجي مارش للكاتب صول بيلو، أو عامية السود في رواية جيم الزنجي للكاتب مارك توين.
(٥) الخاتمة
تُبيِّن هذه النماذج الإيضاحية من كتابات المؤلفين «لي» و«أوكادا» و«تشين»، كيف تؤدي القصص العِرقية إلى خلق قراءة ثنائيِّي الثقافة، إن لم يكونوا ثنائيِّي اللغة. ولا شك أن هؤلاء الكُتَّاب جميعًا — «لي» الأمريكي الكوري، و«أوكادا» الأمريكي الياباني، و«تشين» الأمريكي الصيني — يعارضون، بصفةٍ شخصية، إمبريالية الأنجلوسكسونيين البروتستانت من ذوي البشرة البيضاء وضروب تعصُّبهم في الولايات المتحدة. والتحدي الذي يواجهونه باعتبارهم مؤلفين يتمثل في تقديم خطاب مفهوم مناهض للهيمنة في داخل الخطاب السائد، وهو بالإنجليزية، في المقام الأول، في هذه الحالة. ويمثِّل الأدب المتعدِّد الأعراق الصعوبات التي نواجهها إذا اكتفينا بالتمييز المبسَّط بين اللغة الاستعمارية واللغة المناهِضة للاستعمار وبين لغة الهيمَنة ولغة مناهَضة الهيمنة. والأعمال الثنائية الثقافة تتطلب، من زاويا معيَّنة، مؤلفين قادرين على خلق تقنياتٍ جديدة لنقل السمات اللغوية لإحدى لغات الأقلية، أو مؤلفين يفترضون منذ البداية وجود قُراء ثنائيِّي اللغة. وتحقيق هذا من دون السقوط في هوة الكاريكاتير (كما في حالة الإنجليزية الهجين) أو التغريب (على نحو ما نرى في أفلام تشارلي تشان) أمر تزداد صعوبتُه عندما تسود ضروب التعصُّب اللغوي (سواء كان تعصُّبًا لنسقٍ معيَّن في النحو أو في اللهجة أو النطق). ولا بد أن يحافظ خطاب الأقلية بالإنجليزية على حيويته من دون تعالٍ عليه وإلا أصبحَت نماذجُه أقربَ إلى الوثائق الأنثروبولوجية منها إلى الأعمال الخيالية؛ أي إثنوغرافيا لا أدبًا، والمفارقة أن يؤدي ذلك إلى ما يُمكِن اعتباره أقسى هيمنة، بمعنى تناوُل الكُتَّاب العرقيين وتهميشهم. إن الروايات الثلاث؛ لغة ابن البلد، والغلام الرافض، ودونالد دَك، تصف ثقافاتٍ أصلية مثلما يفعل جيمز جويس في تصوير دبلن، وهي أصيلةٌ مثل روايات ويسيكس عند هاردي، وهي واقعيةٌ مثل وصف فلوبير لباريس. وهي ليست أعجب من رواية يوليسيس (أوليس)، ولا رواية تيس ابنة دربرفيل، ولا رواية التعليم العاطفي.