الفصل الثاني

الترجمة في إطار التوتُّر بين العالمي والمحلي

بقلم  كاي دولروب

(١) ملاحظات تمهيدية

على الرغم من أن كاتب هذه المقالة أوروبي ذو معلوماتٍ محدودة عن ممارسة الترجمة ودراسات الترجمة في الصين (وإن كان لديه بعض الإلمام بالتطورات في العقد الماضي أو نحوه) فإنه يُركِّز في هذه المقالة على بعض القضايا الأساسية في دراسات الترجمة «المعولمة» اليوم. وأعتقد أن الكثير من القضايا المرتبطة بتلك العولمة تتطلب إعادة فحص المبادئ الأساسية في دراسات الترجمة. وهذا ضروري لتقييم اختلاف التركيز الذي تُحدِثه العولمة، وهو ما سوف يكون له تأثيره في العمل في المستقبل أيضًا. وسوف أُناقش في هذه المقالة مدى التعقيد الذي أصاب العمل بالترجمة في عصر العولمة. وأعتقد أن الباحثين من البلدان البازغة، ومن بينها الصين، قد يكونون أقدَر على معالجة التحديات الجديدة من الباحثين الذين نشَئوا في كنَف التفكير الغربي. فالباحثون الغربيون قد درَسوا مشكلاتٍ تقتصر في معظمها على الترجمة فيما بين اللغات الهندية الأوروبية والترجمة الدينية والأدبية، وهي مشكلات تُعتبَر — من الناحية الكمية — تافهةً في العمل بالترجمة اليوم.

(٢) مقدمة: مراحل الترجمة

أساس المناقشة الحالية أن الترجمة نمطٌ من أنماط الاتصال من خلال نقل رسالةٍ لغوية لها معنًى من ثقافة إلى أخرى من خلال المراحل التالية:

مُرسِل رسالة باللغة المصدر نشاط الترجمة رسالة باللغة المستهدفة يقبلها المُستقبِلون لها من أصحاب اللغة المستهدَفة باعتبارها صورةً للرسالة باللغة المصدر.

وإيضاحًا لهذه المراحل أُقدم النموذج في البراويز التالية:

البرواز ١

مرسل نص المتلقي ١ (باللغة نفسها)
المتلقي ٢
المتلقي ٣ … إلخ
المتلقي س = مترجم

البرواز ٢

مترجم وعملية الترجمة.

البرواز ٣

المترجم باعتباره مرسلًا نص المتلقي ١
المتلقي ٢
المتلقي ٣ … إلخ

ويُبيِّن البرواز ١ احتمال وجود نوعَين مختلفَين من المتلقين للرسالة المحدَّدة في الثقافة المصدر: (١) جمهور اللغة المصدَر و(٢) المترجمون. ولكن الغالبية العظمى من الرسائل في هذا العالم توجَّه فقط للجمهور الذي يتكلم لغة المُرسِل نفسها ولا تتضمن أية ترجمة (أو ترجمة فورية، أو ترجمة على شريط الفيلم … إلخ). أضِف إلى هذا أنه حتى في حالة عدم وجود ترجمة، فإن الوسطاء اللغويين قد لا يكونون من أفراد الجمهور في البلد الذي صدَرَت فيه الرسالة أولًا. صحيحٌ أن عليهم أن يكونوا على علم بالبلد الذي صدر فيه النص المصدر، ولكنهم لا يقيمون بالضرورة في كنف ثقافة اللغة المصدر؛ إذ إن معظم مترجمي الأدب، مثلًا، يعيشون في كنف ثقافة اللغة المستهدفة. والقضية المهمة هنا أن جمهور اللغة المصدر لا يتأثر بوجود المترجمين وعادةً ما لا يشعُر بوجودهم.

ويُمثِّل البرواز ٢ «عملية الترجمة»، وهي التي يُمكِن تعريفها بعدة طرق، ووصفها عددٌ من الباحثين وصفًا نظريًّا، مثل نايدا (١٩٦٤م)، ووصفًا تجريبيًّا مثل كرينجز (١٩٨٦م) وهونيج (١٩٩٥م). ولسنا في حاجة في السياق الحالي إلى التعمُّق في بحث هذا المجال، وإن كنتُ سوف أناقشه بإيجاز.

وفي البرواز ٣ نرى أن الرسالة موجَّهة لجمهور يتكلم (ويقرأ ويفهم) لغة غير اللغة التي تشكَّل بها النص المصدر في ذهن صاحبه وعبَّر بها لسانه. ويقتضي قيامَه بوظيفة النص أن يكون مفهومًا بتلك اللغة، وإلا لم يصبح رسالة. ويُمكِن تعريف قضية «إمكان الفهم» في الترجمة بطرائقَ عديدة، وتختلف باختلاف التوجُّه نحو الجمهور المقصود، مثل الأطفال، أو الجمهور العام، أو دائرة صغيرة من المتخصِّصين. ولكنها تختلف أيضًا من حيث الأطر المختلفة التي يُدرِكها مستخدمو اللغة أو فيما يتعلق بأنواع الانتظام في الشكل النصِّي، مثل الإيقاعات أو القوافي التي تسمح للقُراء على الفَور بإدراك أن الترجمة قصيدة، أو أنها نثرٌ في كُتيِّب التعليمات الذي يصف الخطوات اللازمة لاستعمال مجفِّف الشعر على سبيل المثال.

ولن نتمكَّن نحن، مستقبلي الرسالة باللغة المستهدَفة، من مقارنة «الرسالة» في البرواز ٣ بالأخرى في البرواز ١ والخروج بنتائج (ذاتية في معظمها) عن علاقتهما إلا بعد فهمنا للرسالة باللغة المستهدَفة أولًا. ولكن النصوص المترجمة عادةً ما تُستخدَم ويُنتفَع بها في عمليةٍ مستقلةٍ عن عملية التحليل المقارن، فالترجمات تُوضَع للانتفاع بها لا لإجراء أمثال هذه التحليلات. وأما التحليل المقارن فهو هيكلٌ مصطنع يستخدمه المعلمون والباحثون في الترجمة، ومما يُؤسَف له أنه يُعْمِي الكثيرين عن الغرض الحقيقي للنصوص المُترجَمة، ألا وهو الاتصال.

ويُضاف إلى ذلك أن جميع المقارنات بين نواتج البروازَين ١ و٣ تقوم على افتراضاتٍ مسبقة، ومنها على سبيل المثال:
  • أن النص باللغة المصدر خُلق قبل النص باللغة المستهدفة؛

  • وأن عملية نقلٍ حدثَت من اللغة المصدر إلى اللغة المستهدفة؛

  • وأن النص المستهدَف يقبله بعضُ المنتفعين به، لا جميعهم بالضرورة، في الثقافة المستهدَفة باعتباره مثيلًا لغويًّا للنص المصدر.

(٣) عوامل أخرى

يقوم جانبٌ كبير من نقد الترجمة على افتراض أن اللغتَين والثقافتَين، للنص المصدر والنص المستهدَف، متناظرتان. والكثير من معلمي الترجمة بل والباحثين فيها يُدْلون بأحكام مثل «لم تنجح الترجمة في نقل نغمة الأصل». وأمثال هذه الأقوال تُوحي بأن الناقد يُتقِن اللغتَين اتقانًا عميقًا، كما تُوحي بأن «النغمة»، و«نطاق الأسلوب»، و«اللهجة»، وبإيجاز جميع جوانب اللغتَين والثقافتَين تقبل التبادل وتتمتع بالعلاقات المتبادلة نفسها في اللغتَين. وهذا الافتراض خاطئ من الزاوية الأنطولوجية.

من الواضح أن «دراسات الترجمة تميل إلى إصدار أحكامٍ عامة استنادًا إلى مادةٍ أقل مما ينبغي» (دولروب ١٩٩٩: ٣٢٤). وإصدار هذه التعميمات أمرٌ مفهومًا تمامًا؛ فنحن جميعًا نبدأ بمنظوراتٍ محدودة، وهي أولًا منظوراتُ لغتنا الأم، وربما منظورات لغةٍ أجنبيةٍ واحدة (أو أكثر) وثقافةٍ أجنبيةٍ واحدة (أو أكثر). ولا بد من تأكيد أن أية نظرية وُضعَت حتى الآن مما نسمِّيه «نظريات الترجمة» قد تأثَّرَت بالحدود التي تفرضها اللغتان المعروفتان لمترجمين معيَّنين أو للباحثين في الترجمة.

وليس المقصود بهذا أن يكون نقدًا جارحًا، فليس الغرض منه إلا تبيان أننا جميعًا منظوراتنا محدودة، وقد نشأتُ أنا نفسي في عالمٍ ضيقٍ محصور، وكنتُ أتعامل مع لغاتٍ هنديةٍ أوروبية ترتبط بعلاقاتٍ فيما بينها (الدنماركية، والإنجليزية، والإسبانية). وكنتُ في مرحلة الدراسة أشعُر بالسعادة وأنا أهتف «هذا خطأ!» عندما أعثُر على «انحراف» — وهو ما يُسمَّى عادةً ﺑ «الصديق الخائن» — في الترجمة بين هذه اللغات. لكنَّني عندما بدأتُ أنظر نظرةً جادةً في الترجمة انتهيتُ إلى وجود نجاحاتٍ أيضًا، وعندما تجاوزتُ عالم اللغات الهندية الأوروبية أدركتُ أن كثيرًا من المفاهيم التي درجتُ عليها لا تنطبق على غير ذلك العالم.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن ابتكر يوجين نايدا (١٩٦٤م) مفهوم «التعادل»، وحاول أن يجعل هذا المفهوم قابلًا للتطبيق على حقائق واقع ممارسة الترجمة بتقسيمه إلى تعادُل «صوري» وتعادُل «دينامي»؛ إذ كان مشغولًا بترجمة الكتاب المقدَّس المسيحي. وتُبدي جميعُ الأديان قلقَها من احتمال تناول مترجم من بني البشر كتابها المقدَّس وعدم بلوغ الكمال في ترجمته. وهكذا فقد سبق نايدا روادٌ في العالم المسيحي، ابتداءً من القديس جيروم (٣٨٣–٤٠٦) الذي كان يميِّز بين ما نسمِّيه اليوم الترجمة «الحرة» والترجمة «الحرفية» (منداي ٢٠٠١: ٢٠) وعلى غِرار ذلك «كانت التقاليد [الإسلامية] تقضي بأن ترجمة القرآن غير مشروعة» (حسن مصطفى في بيكر ٢٠٠٠: ٢٠١).

ولم يكُن من قبيل المصادفة أيضًا أن كانت الترجمة في السياق الأدبي الأوروبي تُعتبَر بعد نحو عام ١٨٠٠م ثانويةً بالقياس إلى النص المصدر؛ إذ كان المؤلفون يُعتبَرون في الحقبة الرومانسية أفرادًا موهوبين موهبةً فريدة ويكتبون من طريق الإلهام أو البصيرة الخاصة أو الرؤيا التي نجد أمثلتها في قصيدة «قبلاي خان» للشاعر كولريدج (١٧٩٧–١٧٩٨م) وقصيدة «كنيسة تينتيرن» للشاعر وردزويرث (١٧٩٨م). ولم يكُن بمقدور أي مترجم أن يزعم تمتُّعه بمثل ذلك الوحي شبه الرباني والخلَّاق. وتُوحي فكرة الإلهام بأن النص الأصلي متفوقٌ نوعيًّا وفي جميع الحالات على جميع الترجمات، بل وبأن الترجمات من المُحال أن تصل إلى روعة النص الأصلي وبهائه. ومثل هذا الموقف يجعل من الصعب على البعض أن يصدِّقوا مثلًا (١) وجود نصوص مصدرية غير جديرة بالترجمة، و(٢) وجود نصوص مصدرية مشوَّشة و(٣) أن بعض الترجمات تُعتبَر، إلى حدٍّ ما، «أفضل» في الثقافة المستهدَفة من النصوص في الثقافة المصدر. واعتبار الترجمة جهدًا فرعيًّا يمنع المرء من قبول القول بأن إحدى الترجمات قد «تكسب» شيئًا في العملية الإبداعية المبيَّنة في البرواز ٢. ومن الطريف أن بين أيدينا الآن دراساتٍ كثيرة تبيِّن أن فكرة «الخسارة» يمكن استكمالها «بالمكسب»، وإن يكن ذلك في مواقعَ غير متوقَّعة؛ أي في ظواهر لا خلاف على جدَّتها مثل إضافة توجيهات القراءة اليابانية في الترجمة الأوروبية ﻟ «المانجا» (يونجست ٢٠٠٤م) والمتعة التي تجدُها الجماهير المستهدَفة من رسوم الكاريكاتير (دولروب وجرون ٢٠٠٣م).

والذي أقصده أن علينا تحديدَ خلفية كلٍّ منا والإقرار صراحةً باللغتَين اللتَين يبني كلٌّ منا ملاحظاته عليهما، ولا بُد من هذا حتى يستطيع غيرُنا أن يحكُم على مدى صحة نتائجنا الفردية أو القومية، فالنتائج التي نصل إليها على المستوى المحلي قد لا تنطبق على المستوى العالمي.

وعندما ننظر في الترجمة باعتبارها تبادلًا بين الثقافات والأنشطة الوطنية نجد أن هذا التبادل يجري بطريقتَين تختلفان اختلافًا جذريًّا. فأما الطريقة الأولى فهي «الفرض» بمعنى أن تفرض أمةٌ أو ثقافةٌ نصوصَها، باعتبارها ترجمات، على أممٍ أو ثقافاتٍ أخرى. وكان هذا فيما مضى حال المعاهدات السياسية التي تفرضُها الدول الكبرى، ونراها اليوم مثلًا عندما تقوم الصناعاتُ الأمريكية أو الصينية بتصدير منتجاتها إلى البلدان الأخرى، مصحوبة بترجمات وُضِعَتْ وَفْق المعايير الأمريكية أو الصينية. وعلى الطرف الآخر نجد «طلب الحصول» أو «طلب الاستعارة» الذي يعني أن الجهات المستقبِلَةَ في الثقافة المستهدَفة هي التي تطلُب ترجمةَ نصوص الثقافة المصدر (دولروب ١٩٩٧م). وأوضح النماذج، بطبيعة الحال، نماذج النصوص والآداب الدينية. ولكن حتى في هذا المجال نجد أن الخطوط الفاصلة مطموسة. فهل كانت أولى ترجمات «السوترا» البوذية من اللغة السنسكريتية إلى الصينية تنتمي إلى الترجمات «المفروضة» أم «المطلوبة»؟ ولا شك أن عددًا كبيرًا من ترجمات الكتاب المقدَّس قد أُنجزَت في العصور الغابرة من خلال الفَرْض، ولكن «تنقيح» هذه الترجمات (أو «تحديثها») اليوم يجري قطعًا بناء على الطلب. وفي هذه الأيام التي نشهد فيها الخداع والاحتيال على المستوى الدولي، وضروب المتاجَرة والمحادَثات، لا بد أن نضيف أيضًا عواملَ أخرى مثل «التفاوض»، و«الاتفاق»، و«توافق الآراء»، حيث يتفق طرفان أو أكثر من طرفَين على النص النهائي أو النصوص النهائية.

أضف إلى ذلك أنه ينبغي علينا، في سياق «العولمة»، أن نواجه الحقيقة التي تقول إن معظم المترجمين في شتى أرجاء العالم يترجمون إلى لغتهم الثانية أو الثالثة؛ أي إلى لغة غير لغتهم الأم. ولا يزال اتجاه معظم المترجمين إلى الترجمة إلى لغتهم الأم أساسًا أو إليها وحدها مقصورًا على البلدان الكبرى، وبصفةٍ رئيسيةٍ في العالم الناطق بالإنجليزية.

والظاهرة الأخيرة، البالغة الأهمية، أن الظروف المحيطة بكل عملٍ محدَّد من أعمال الترجمة تمثِّل عوامل يزداد تعقيدُها ويزداد من ثَم الكشفُ عنها باعتبارها موضوعاتٍ للمناقشات المُقْنِعة.

(٤) النصوص بين المحلية والعالمية

النغمة العامة لهذه المقالة نغمة الحذَر النقدي، حتى بشأن بعض الموضوعات «الساخنة» مثل «العولمة». وكما ذكَرنا فإن معظم النصوص لا تُنشأ بقصد ترجمتها، بل ولن تُستخدَم في الترجمة قط. وأوضح مثال على هذا النصوص الشفاهية، مثل الكلام في الحياة اليومية والثرثرة والمحادثة. وفي الوقت نفسه قد يحدُس المرء أن العولمة تعني ضمنًا أن النصوص المُنشأة للترجمة وجميع النصوص المترجمة قد اكتسبَت الطابع الدولي أو العالمي، وقد يعتقد المرء أيضًا أن أمثال هذه النصوص أقرب إلى الترجمة «الحرة». وليست المناقشة التالية جامعةً مانعة، بل هي أبعدُ ما تكون عن ذلك، وعلى الرغم من هذا فإنها تبيِّن أن العولمة لم تؤدِّ إلا إلى زيادة المعايير التي علينا أن نأخذها في اعتبارنا في دراسات الترجمة.

ولما كنتُ أريد لهذه المناقشة أن تكون شاملةً ومُركزة إلى أقصى حدٍّ ممكن، فسوف أخضع للحساسيات الوطنية وألتزم فيها بما أعرفه عن وطني، الدنمارك، والبلد المضيف لي وهو الصين. وسوف أقبل، في الوقت نفسه، المداخل التي تسود دراسات الترجمة في الدنمارك والصين حاليًّا، وذلك بأن أبدأ بالإشارة إلى الحقل الأدبي في المناقشة التالية.

(٥) المترجم، المحلي والعالمي: المترجمون وتأثيرهم

من ينظر في مناقشة باحثي الترجمة الأكاديميين للترجمة يتصوَّر أن المترجمين يتمتَّعون بالحرية ويقرِّرون بأنفسهم ما يُترجِمونه من الكتب على اختلافِها وأن المترجمين وحدهم المسئولون عن إيجاد الترجمات. ولا يتفقُ هذا مع حقائقِ واقعِ الترجمة، بما في ذلك الترجمة الأدبية خصوصًا. وسوف أحاول فيما يلي أن أصف دور المترجمين ونشاطهم في حدود ما أعرف.

(٦) المترجمون والبرواز ١: الترجمة الأدبية

بعض المترجمين يَعرِفون المؤلفين الذين يترجمون أعمالهم معرفةً شخصية، أو كانوا على الأقل، يتراسلون معهم (دولروب ١٩٨٧: ١٧٦؛ فلين ٢٠٠٤). ومع ذلك، فعلى الرغم من أننا قد نُصادف عَرَضًا مترجمًا ينجح في اقتراح ترجمة كتاب (خصوصًا لبعض المؤلفين الشُبان في الثقافات المصدر الذين لم يتمكَّنوا بعدُ من بناء شبكة [علاقات] خاصة بهم) فإن معظم الكتب المترجمة اليوم من اختيار دور النشر في الثقافات المستهدَفة. ويحدث هذا بطرائقَ معقَّدة دينامية ودائمة التغيُّر، وتختلف من بلد إلى آخر، وإن كنا نستطيع أن نتبيَّن فيها اتجاهاتٍ معينة.

كان الواقع في الماضي، قبل عصر حقوق التأليف والنشر، يقول إن تقديم مؤلفٍ أجنبيٍّ إلى السوق المحلية يعتمد على المصادفة، ويحدِّده أحيانًا مدى شعبية العمل أو شهرة المؤلف. ففي الدنمارك، كانت الشعبية العامة في أوروبا لكتاب ألف ليلة وليلة الذي ترجمه أولًا إلى الفرنسية ج. أ. جالان (١٧٠٤–١٧١٧م) هي التي أدت إلى ترجمته بعد ذلك إلى اللغة الدنماركية ١٧٥٧–١٧٥٨م، كما كانت شهرة شيكسبير في ألمانيا هي التي أتت باسمه إلى الدنمارك في نحو عام ١٨٠٥م، وكلاهما من النماذج الواضحة على «الطلب» من جانب الثقافات المُستهدَفة.

أما في الصين فكانت من أوائل الأعمال الأوروبية المترجمة، بعد عام ١٥٨٠م، ترجمات الكتاب المقدَّس التي أنجزها المبشِّرون، كما شهدَت الفترةُ نفسُها تعاون المترجمين الصينيين مع الغربيين في ترجمة كتب عن المخترعات العلمية والتكنولوجية (لوو وهونج ٢٠٠٤: ٢١). وعندما بدأ ازدهار ترجمة القصص الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت من وراء ذلك دوافعُ مختلفة تتراوح ما بين تقديم التسلية لجمهور القُراء المتنامي (وهو الذي كان لين شو يتولى إرضاءه) وبين رغبة المفكِّرين في التجديد في الفلسفة، وبين الحدب على تقديم التكنولوجيا الغربية (بولارد وآخرون ١٩٩٨م). ولا بد من اعتبار أولى ترجمات الكتاب المقدَّس إلى اللغة الصينية بمثابة «الفرض»، ولكن أولى جهود الترجمة الأخرى إلى اللغة الصينية كانت نماذج ﻟ «الطلب».

وقد شهدَت جميع البلدان فتراتٍ في تاريخها تميَّزت بتدخُّل الحكومات في نشر الكتب والترجمات. وانتهى هذا النوع من التدخل في الدنمارك عام ١٨٤٨م، ولكنه عاد في فترة الاحتلال النازي من ١٩٤٠–١٩٤٥م.١ ومنذ ذلك الحين جرت العادة على أن يخضع طلب الحصول على الترجمات لقوانين العرض والطلب بأشكالها المختلفة.

ونادرًا ما يتصدى الباحثون في دراسات الترجمة لأسلوب عمل دُور النشر، ولكن دُور النشر الكبرى تعمل أساسًا بالأسلوب التالي: يحضر ممثلو دور النشر المعارض الرئيسية للكتب، مثل معرض فرانكفورت للكتاب الذي يُعقد في الخريف في ألمانيا ويُعتبَر ذا أهميةٍ كبرى للأدب (القصصي وغير القصصي … إلخ) ومعرض بولونيا للكتاب الذي يُعقد في الربيع في إيطاليا، ويُعتبَر المكان الرئيسي لاجتماع ناشري كتب الأطفال. وهذه الأسواق تجمع بين كونها معارض، وإعلانات، واجتماعات، وفرص إنشاء شبكاتٍ غيرِ رسمية. أضف إلى ذلك أن دُور النشر تتلقَّى الأنباء من العديد من دور النشر الأجنبية، وكثيرًا ما تكون هذه مصحوبةً بملخَّصاتٍ أو «ترجماتٍ تجريبية» (بالإنجليزية) لعددٍ محدودٍ من صفحات العمل الذي تعتبره مناسبًا للسوق المستهدَفة أو الأسواق المستهدَفة. وقد تُرسِل دُور النشر كذلك «كشَّافين» أي أشخاصًا يُطْلِعُون المقر الرئيسي في الوطن على ما يجري في البلدان الأجنبية، وكلما بدا أن أحد الكتب قد اجتذَب الأنظار، بدأَت إجراءات تقييم نجاحه في سوق اللغة المستهدَفة، وهي إجراءاتٌ يشارك فيها مستشارون يُقَيِّمون مزاياه الفنية، ومحلِّلون يحسبون بدقةٍ عدد النُسَخ التي يُمكِن أن تُباع من الطبعة الأولى وما إلى هذا بسبيل. ولا يتصل الناشرون بالمترجمين إلا بعد انتهاء هذه المرحلة. ومعنى هذا، بعبارةٍ أخرى، أن اختيار عملٍ ما للترجمة، تتولاه دور النشر في معظم الحالات، ونادرًا ما يشارك المترجمون في اتخاذ هذه القرارات. وأما حالات نجاح المترجمين في ترويج أعمال المؤلفين والترجمات فهي محدودة (معلوماتٌ خاصة من مترجمي الأدب في الدنمارك. فلين ٢٠٠٤).

ودُور النشر تُخاطب المترجمين باعتبارهم أشخاصًا يمكن أن يصبحوا عملاء لها، وأهم معيارٍ لصلاحية المترجم، بطبيعة الحال، إتقانُه للغة النص المصدر، وهو ما يعني الاستبعاد تلقائيًّا للمترجمين الذين لا يتقنونها. وقد يرفض المترجمون بعض مهام الترجمة بسبب عدم رضاهم عن المؤلِّفين، ولكن في أغلب الأحوال، على الأقل في الدنمارك، يرجع سبب الرفض إلى أن مترجمي الأدب الممتازين كثيرًا ما يكونون مشغولين بمهامَّ أخرى كثيرة.٢ أضِف إلى ذلك وجودَ عواملَ غير مادية مثل ثقة الناشر في المترجم، وعمل المترجم السابق، وبعض العوامل «الدنيوية» مثل الأجر الذي يطلبه المترجم، فهذه جميعًا تنهض بدَورٍ رئيسي.
ومعظم دُور النشر في الغرب تتوقع أن يقدِّم المترجم النص على قرصٍ حاسوبي أو سي. دي. بعد مراجعته طباعيًّا بحيث يكون جاهزًا للمطبعة، وإن كانت جميع دُور النشر «ذوات الضمائر»، وكذلك دُور النشر التي تتوقع مبيعاتٍ واسعة النطاق، لديها محرِّرون داخل الدار يقومون بفحص الترجمات، وبعض هؤلاء يقتصرون على اللغة (وهذا هو المعتاد في الولايات المتحدة) ولكن المحرِّرين في دُور نشرٍ أخرى يفحصون الترجمة فعلًا ومدى مطابقتها للنص المصدر، بل وأحيانًا مطابقتها لترجماتٍ أخرى٣. وأهم مسألة تتعلق بالترجمة الأدبية هي أن الذي يقوم بها في العادة مترجمٌ لغتُه الأم هي اللغة المستهدَفة، وإن كانت لهذه القاعدة شواذ.

(٧) الترجمة غير الأدبية

على الرغم من توافر كتبٍ ممتازة عن تاريخ الترجمة (مثل كتاب ديليل ووودزورث ١٩٩٥م، وكتاب لوو وهونج ٢٠٠٤م) فإننا لا نكاد نجد مادةً تاريخيةً عن الترجمة لغير النخبة وترجمة اللهجات المحلية، وهي الترجمة العامة أو مصدر الرزق. ولقد وُجد هذا النوع من الترجمة بلا شك منذ فجر حياة الإنسان الحديث، خصوصًا في حالة الترجمة الفورية وهي التي لا تفترض مسبقًا إلا وجود لغتَين منطوقتَين مختلفتَين فقط. وأما الترجمة التحريرية (المكتوبة) وهي أكثر تطورًا فلم يكن لها وجود قبل ٦٠٠٠ عام؛ إذ إنها تتطلب وجود حضارتَين لكلٍّ منهما لغةٌ مكتوبة، ونظمٌ تعليمية تُمكِّن المُرسِلين من كتابة رسائل، والمترجمين من إجادة لغتَين، والمستقبلين القادرين على القراءة.

وعندما أنظر في حياتي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً أتبيَّن في دهشة أنني لم أقرأ إلا ترجماتٍ أدبية ولم أكن أربط آنذاك بين بعض تلك الأعمال وبين «الترجمة»، وإن كنتُ أتبيَّن الآن أنها من ثمار نشاط الترجمة، ولم أكن أدرِك أن الكتاب المقدَّس عملٌ مترجم، وأن الترجمات كانت تشمل بعض النصوص الدينية في مدرسة الأحد (مترجمة عن الإنجليزية) والعهد الذي يقطعه صبيانُ فريق الكشافة (الذي كان يرجع أصلًا إلى بريطانيا). وأذكُر أيضًا أن الشركات التي كانت قد انعقَد لها لواءُ القيادة في مجالٍ من المجالات آنذاك كانت تُرسِل بعض موظفيها للعمل في بلدانٍ أخرى، بما في ذلك البلدان التي تُوصَف بأنها تقع «عَبْر البحار». واتضح لي نسقٌ معيَّن؛ كانت شركات السيارات الأمريكية في أوروبا يرأسها مديرون أمريكيون ورؤساءُ عمالٍ من أمريكا، وأما في الصين فإن الكثير من الفنادق ومباني الخبراء الأجانب ما زالت تشهَد على وجود الخبراء الروس الذين كانوا يُصدِّرون الخبرة إلى الصين في الخمسينيات. وكانت الأيدي العاملة رخيصة، وهو ما كان يعني إمكان نقل الخبرة من خلال أفرادٍ يتولَّون تعليم وتأهيل أبناء البلد شخصيًّا، لا من خلال الترجمة المكتوبة.

وتَحَسَّنَ مستوى المعيشة في الغرب بعد إعادة بناء البلدان التي خرَّبَتها الحرب العالمية الثانية في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات، ومن ثَم زاد عددُ الأفلام الأجنبية، وزاد عددُ أجهزة التليفزيون في المنازل، وصَاحَبَتْ ذلك طرائقُ جديدةٌ للترجمة. وازداد تطوُّر التكنولوجيا، وازدادت التجارة الدولية زيادةً هائلة، وأما نظام تعيين بعض الموظفين في الخارج فقدْ فَقَدَ جاذبيَّته لأن الخبراء غدَوا مطلوبين في بلادهم. وكانت ألمانيا هي المحرِّك التكنولوجي والمالي لقارة أوروبا برُمَّتها؛ إذ كانت ألمانيا تُصدِّر البضائع، وكانت الصناعة الألمانية تحتاج إلى أن تشرح للأجانب كيفية تشغيل المعدات والآلات التي كان الألمان يريدون بيعها في الخارج. وكان على المترجمين الألمان أن يترجموا من الألمانية إلى لغاتهم الثانية والثالثة، لا باعتبار ذلك بمثابة «فرض» أو «طلب حصول»، ما دامت البضائع موجودةً لدى الشارين فعلًا، ولكن بصفة «تفاوض». ونكاد نرى هنا علاقةً بين «نظرية الغرض» [من الترجمة] التي وضعها هانز فيرمير (١٩٧٨م) وبين العمل بالترجمة الألمانية المرتبط بتصدير البضائع الألمانية في السبعينيات.

وإذا نظرنا إلى الأحداث التي شهدها مجال الترجمة حتى نحو عام ١٩٧٠م، باعتبارها مجرد خطواتٍ مبدئيةٍ في العمل الدولي بالترجمة، فسوف تتضح لنا أهمية الوضع الألماني؛ إذ كان على المترجمين الألمان أن يترجموا من اللغة الألمانية ويستوثقوا من أن النصوص مقبولة ومفهومة لدى متلقِّيها باللغة المستهدَفة. فعلى نحوٍ ما أوضحَه، مثلًا، هايدرون فيته (١٩٩٤م) وجيفري كينجسكوط (٢٠٠٢م) كانت لدى العملاء الألمان خلفيات وتوقُّعات بشأن كُتيِّبات تعليمات [تشغيل الآلات] تختلف عن المعايير المحلية في البلدان المستورِدة لها، وكان على المترجمين تطويع ترجماتهم حتى تتفق مع الأسواق المتعدِّدة وذات الخصائص المختلفة ضمانًا للنجاح الاقتصادي الألماني. وشهد عقدُ السبعينيات فعلًا زيادةً كبرى في الترجمة وعلى نطاقٍ هائل في شتى أرجاء العالم.

وأقول إن الصين تُواجه اليوم أوضاعًا تُشبه كثيرًا أوضاع ألمانيا منذ عشرين أو ثلاثين عامًا من حيث الترجمة ودراسات الترجمة. ومن بين أوجه التشابه وجهٌ باهر حقًّا؛ إذ إن على المترجمين الصينيين، بسبب ضخامة حجم الصادرات الصينية، أن يتعاملوا مع مادة [لغوية] تُترجَم من اللغة الصينية إلى لغاتٍ أخرى، على رأسها جميعًا اللغة الإنجليزية (ومن خلال الإنجليزية إلى لغاتٍ أخرى). ومن ثَم نلحَظ، كما يشير محرِّرا هذا الكتاب، وجود توتُّر بين السياق العالمي والسياق المحلي فيما يتعلق بدراسات الترجمة الصينية. ونرى في الوقت نفسه أن الموقف العالمي مختلف. والعوامل الرئيسية هي (١) أننا نعرف المزيد عن «التطويع» و(٢) أن ذاكرات الترجمة تُستخدَم على نطاقٍ واسع في العمل بالترجمة الأدبية.

(٨) التطويع والترجمة: الترجمة الأدبية

كان من بين الصدمات الكبرى للمترجمين الصينيين بعد بداية العمل بسياسة الانفتاح توقيع اتفاقية بيرن الخاصة بحقوق التأليف والنشر عام ١٩٩٢م (دولروب ١٩٩٤م). ولكن الصين تعاملَت بسرعة وكفاءة مع هذا التحدي. ومنذ حل هذه المشكلة، شهدَت جميع البلدان زياداتٍ في الترجمات الأدبية المباشرة بين اللغة الصينية واللغات الأخرى (انظر مثلًا لو [١٩٩٩م] وخو [١٩٩٨م] فيما يتعلق باللغة الدنماركية، وهيينز [٢٠٠٣م] فيما يتعلق باللغة الهولندية). ومن الواضح أن التطويع يجري بهدوء على الجبهة الأدبية. ولما لم أكن أجيد اللغة الصينية، فسوف يتعذَّر عليَّ إثبات ذلك بنصوصٍ حديثةٍ محدَّدة، ولكنني أستطيع استخدام الدنمارك نموذجًا؛ إذ ثبت في دراسة شملت آلاف الترجمات إلى اللغة الدنماركية من «الحكايات» الألمانية للأخوَين جريم، في فترة زادت على ١٧٠ سنة، أن المترجمين الدنماركيين (البرواز ٢) قاموا تدريجيًّا ودون هوادة بحذف ما يلي: (١) أقسى القصص (التي لم تُترجَم قط أو نادرًا ما تُرجمَت)، و(٢) نغمة الرقَّة المصطنعة، التي كانت غريبة على الآذان الدنماركية، و(٣) الإشارات الفيَّاضة للدين وما إلى ذلك بسبيل (دولروب ١٩٩٩م). وليس هذا الإجراء من قبيل الرقابة أو التلاعب، ولكنه يبيِّن وحسب أن المترجمين المتميزين للأدب ماهرون في معالجة «النشاز الثقافي»؛ أي معالم النصوص التي لا تقبلها جماهير الثقافة المستهدَفة، والتي من شأنها إذن الإضرار بمبيعات الكتب، وكذلك بالمكانة التي يتمتع بها المؤلفون عند القُراء، وهكذا فإن هذه التعديلات يمكن أن نرى فيها إشارة إلى أن المترجمين «مخلصون» للنصوص (إذا استعرنا مصطلح كريستيان نورد ١٩٩٩م). كما يمكن أن تحدث هذه في النموذج الموجود في البرواز ١، بحيث تبدو بريئةً تمامًا؛ إذ رفض ناشر ياباني بيع كتاب مُصور تظهر فيه صورة السماء الساطعة في صيف الدنمارك عند منتصف الليل؛ لأنه كان واثقًا أن قُراءه لن يصدِّقوا أن السماء يمكن أن تظهر بهذه الصورة. وقد تشير النصوص القديمة أو المنتمية إلى ثقافاتٍ أخرى إلى معالمَ عفَّى عليها الزمن أو تزيد غرابتُها عن الحد المعقول في نظر الجمهور المستهدَف. ويحدث هذا في جميع حالات النقل الثقافي؛ إذ يكون على المترجمين أن يقرِّروا إما الإبقاء عليها أو شرحها أو حذفها.

والمسألة العامة فيما يتعلق بالترجمة الأدبية، في السياق الأكبر للترجمة، أنها سوف تُطلب (البرواز ٣) وتتضمن نشاط الترجمة (البرواز ٢) وسوف تظل بين أيدي الناس في المستقبل المنظور.

(٩) النصوص غير الأدبية

اتضح أن استراتيجيات الترجمة التي لا تتمتع بمكانةٍ رفيعةٍ في الدراسات العلمية تتمتع في الواقع بحياةٍ نابضةٍ ولها فائدةٌ كبرى في مجالاتٍ معيَّنة. وهكذا فإن الترجمة الحَرفية التي تخضع للمراجعة من خلال ردِّها إلى أصلها؛ أي بما يُسمَّى الترجمة العكسية، تُمثِّل السبيل الوحيد الذي تستطيع الشركات التي تتعامل بمادة تتكوَّن من عناصرَ كثيرة، مثل المنتجات الصيدلانية، أن تصل به إلى الثقة التامة في أن جميع المكوِّنات قد تُرجمَت مكوِّنًا مكوِّنًا؛ أي على أساس وضع كل مكوِّنٍ أمام ما يقابله باللغة الأخرى. والواقع أن الترجمات التي تحافظ على الشكل نفسه في الصفحة، قد تمثِّل من الزاوية الدلالية العليا نشازًا لأُذن اللغوي الحسَّاس وتؤذي بصره، ولكن مثل هذه الترجمات ذات معنًى كامل للمهندسين أو المندوبين المتخصِّصين الذين يحاولون الاتفاق على بعض التفاصيل التي تدقُّ على الأفهام عندما يجدون الكلمات مصفوفةً على السطر نفسه. أضف إلى ذلك أن النصوص القانونية تتطلب درجةً عاليةً من التحليل الدلالي، على نحو ما نرى مثلًا في العقود التجارية بين الشركات الصينية والشركات الأجنبية وكذلك في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

في الترجمة وفي دراسات الترجمة مساحاتٌ كبيرة تتطلب الفحص والدرس وإن يكن من المُحال في الواقع تحديد انتمائها لأنماطٍ نصيةٍ محدَّدة، ومع ذلك فهي تُمثِّل الطرفَين اللذَين سوف تُحلِّق بينهما ترجماتٍ كثيرةً في المستقبل.

ففي أحد هذَين الطرفَين نجد نصوصًا متصلبة، تشهد عليها النصوص القانونية التي أشرنا للتو إليها؛ حيث لا بد من استخدام الصيغ والعبارات الواردة في أولى الترجمات في الترجمات التالية، وهو ما يعني أن المترجمين لا خيار لهم، ولا قدرة على اتخاذ القرار، بل عليهم اتباع الحلول التي توصَّل إليها أسلافهم.

وفي الطرف الآخر نجد نصوصًا مرنة، وهي التي يغطيها حاليًّا الوصف «بالمحلية» في معظم الأحوال، ولكن تعريف «المحلية» يتغير طول الوقت، حسبما يقول بيرت إيسيلينك، أحد أبرز الباحثين في هذا المجال.٤
وتقول الفكرة الأساسية إن لدينا مصدرًا نصيًّا «عالميًّا» يخلو من أي مضمونٍ ثقافي (من ناحية المبدأ على الأقل) (إيسيلينك ٢٠٠٠: ٢٥–٥٥، الفصل الثاني) وإن هذا النص يُرْسَلُ إلى لغاتٍ محليةٍ مختلفة حيث يُمْنَحُ أشكالًا تتفق والمعايير المحلية. وابتغاء إيضاح هذا المفهوم العام، أعددتُ رسمًا بيانيًّا (دولروب ٢٠٠٢م) طبَّقَته تاين كريستنسن (٢٠٠٢م) بعد ذلك على عدد من كُتيِّبات الإرشاد السياحية الدنماركية المحدَّدة التي أُضفي عليها الطابع الدولي (وتقتصر هنا على ثلاث لغات) (انظر الشكل ٢-١).
fig1
شكل ٢-١: إضفاء الطابع الدولي والمحلي على كُتيِّب إرشاد سياحي.

وتبيِّن كريستنسن أن النسخة الإسبانية التي تتوسَّع في مناقشتها لم تكتسب الطابع المحلي إلى حَدٍّ مُرْضٍ لأن مترجم «النص الدولي» (وربما كان دنماركيًّا يترجم عن الإنجليزية) كانت لديه أحكامٌ مسبقة عفَّى عليها الزمن عن الحياة اليومية في إسبانيا.

وهكذا فإن الفكرة العامة تقول إن النصَّ المصدر الذي لا يحمل طابعًا ثقافيًّا محدَّدًا والذي يجوز أيضًا أن يكون مكتوبًا بلغةٍ مبسَّطة لتيسير الترجمة (أي بما يُسمَّى «اللغة المحدودة» [في مفرداتها وأبنيتها] يخضع للتطويع حتى يتفق مع اللغات وجماهير القُراء المحلية (موجنسن ٢٠٠٤م).

ولما كانت أمثال هذه «النصوص المحدودة» و«المجردة من الثقافة» عادةً ما تقتصر على الشركات الصناعية وتُعتبَر من الأسرار التجارية، فمن الصعب الإتيان بنماذجَ أصلية. أضف إلى ذلك أنها تُترجَم إلى الإنجليزية عادةً في أقرب المراحل إلى بداية العمل، ما دامت الإنجليزية هي اللغة الأجنبية المشتركة في عالم اليوم. ولكنني أستطيع ضرب بعض الأمثلة: إذا كان الإعلان عن لعبةٍ صينيةٍ يقول إنها هديةٌ ممتازة للأطفال في الحفلات الأسرية في احتفال الربيع، فإن ترجمة هذا الإعلان إلى الثقافة المسيحية يقول إن عيد الميلاد المجيد (الكريسماس) هو الحفل الأسري المقابل الذي تُقدَّم فيه الهدايا.

ولأقترح الآن مثالًا أخيرًا، فأفترض وجود برنامج تدريب للحفاظ على اللياقة البدنية، كُتب أصلًا باللغة الروسية، ثم نال رواجًا كبيرًا إلى الحد الذي جعله يُترجَم إلى لغاتٍ أخرى في شتى أرجاء العالم من خلال اللغة الإنجليزية (انظر الشكل ٢-٢).
fig2
شكل ٢-٢: والنص يقول: للحفاظ على لياقتك، عليك أن تمشي ٥٠ كيلومترًا (٣٥ ميلًا) يوميًّا وترفع أثقالًا يدوية وزنها ٤٫٥ كيلوجرام (١٠ أرطال) ٢٥ مرة.
ويمثِّل الشكل ٢-٢ الصور غير المتناظرة للغات المترجَم إليها. فأما النص المصدَر الروسي فيتحول إلى لغةٍ إنجليزيةٍ دوليةٍ محايدة نسبيًّا (فما زال معظم الناس في المملكة المتحدة يستخدمون «الأميال» [في قياس المسافات]) ومن هنا يبدأ إضفاء الطابع المحلي عليه لجماهير القُراء في الولايات المتحدة التي تستخدم «الأميال» و«الأرطال» ولجماهير القُراء في الدنمارك التي تستخدم الكيلومترات والكيلوجرامات، ولجماهير القُراء في الصين التي تستخدم «لي» والكيلوجرامات. ويبين الشكل إذن قوة نظام إضفاء الطابع المحلي، ولكنه لا يوضح بالدرجة نفسها نقاط الضعف فيه، فعلى الرغم من أن هذا النظام يكفل اتفاق القياسات والموازين مع المعايير المحلية، فإنه لا يكاد يكفُل، أساسًا، وجود معلومات لا لزوم لها.
ذكرتُ في بداية هذه المقالة أن جانبًا كبيرًا من الأفكار الخاصة بالترجمة يقوم على افتراض وجود «مرسل» (في البرواز ١). لكننا إذا نظرنا اليوم في دليل تشغيل فُرن بالميكروويف صُنع في الولايات المتحدة، فلن نجد إشارة إلى كاتب فرد يمكن التعرف عليه، للإرشادات في الكُتيب؛ إذ إن الفرن قد وضع تصميمه مهندسون وخبراء، وهم الذين وصفوا هذا المنتج وصفًا تفصيليًّا بمصطلحاتٍ تقنيةٍ بالغة التخصُّص. وقام بعد ذلك كُتَّابٌ فنيون بإعادة صياغة المعلومات التقنية بأسلوبٍ يتيح للقُراء والعملاء العاديين أن يفهموها (كينجسكوط ٢٠٠٢م). وبعد ذلك يخضع هذا النص للتحليل، وقد يتولى ذلك مثلًا مستشارون قانونيون، وسوف يُصِر هؤلاء على ضرورة إيضاح دليل التشغيل لبعض الحقائق، مثل نهي العملاء عن محاولة تجفيف الكلاب المبلَّلة في فرن الميكروويف،٥ والنص على أنهم إن فعلوا ذلك فلن تتحمل الشركة أية مسئولية عن ذلك. ويجب أن يتحقق الكُتاب الفنيون من أن النص مفهوم، وربما احتاج النص إلى التحرير لضمان التزامه ﺑ «اللغة المحدودة» (المشار إليها آنفًا) بحيث تسهُل ترجمتُه إلى اللغات الهندية الأوروبية الأخرى. وعلى أية حال فليس هنا مرسلٌ واحد بل فريق من مرسلي النص وفق البرواز ١.

وننتقل الآن إلى البرواز ٢. لقد بِيع فرنُ الميكروويف للتصدير إلى ٢٥ بلدًا. وكانت الشركات في الماضي تعيِّن مترجمين محترفين لديها، وأما اليوم فمعظم الشركات تُفضِّل الاستعانة بوكالات ترجمةٍ محترفة، وهي التي كثيرًا ما تُكلِّف المترجمين المحليين الذين يعملون بالقطعة بالقيام بالترجمة المطلوبة. وقد يكون لدى شركة أفران الميكروويف مترجمون أمريكيون، ولكنها على الأرجح تستعين — من خلال الوكالة المشار إليها — بمترجمين من البلدان المستوردة. ويقوم كل من هؤلاء المترجمين بترجمة كُتيب التشغيل إلى لغاتهم المستهدفة المختلفة، بحيث ينجحون في إضفاء الطابع المحلي على النص المصدر العالمي لكل بلد من البلدان الخمسة والعشرين. ويبيِّن البرواز ٢ وجود العديد من المترجمين لا مجرد مترجمٍ واحد.

ويستخدم معظم هؤلاء المترجمين المحترفين «ذاكرة الترجمة». ويعني هذا أن كل جزء يُترجم من نصٍّ مصدري (ويتكون عادةً من جملةٍ مفيدة أو عبارةٍ مكتملة المعنى) له نظير في اللغة المستهدفة ومخزون إلكترونيًّا. ويظهر هذا الجزء المخزون من النص المستهدف بصورةٍ تلقائية كلما مر على المترجم جزءٌ مطابق له في اللغة المصدر وكان عليه أن يترجمه، ربما بعد عدة أشهر. وتظهر الترجمة الأولى لذلك الجزء أمام المترجم الذي يستطيع أن يقبلها أو يرفضها.

ولنفترض أن مَعْلَمًا جديدًا أضيف في العام التالي إلى فرن الميكروويف، وهو ما يتطلب إضافة بضع جُملٍ إلى النص المصدر (البرواز ١). ولا تطلب الشركة بطبيعة الحال ترجمةً جديدة للكُتيب كله، بل تكتفي بتكليف البعض بترجمة السطور الجديدة. وهكذا تُوزع هذه الجُملُ على المترجمين بالقطعة (البرواز ٢). فلنتصور أن المترجم الذي قام بالترجمة الأولى للبلد رقم ١٨ قد تقاعد، وأن المترجم الخاص بالبلد رقم ٢٤ قد تُوفِّي. وهكذا، وعلى غير المتوقع، نجد أن شخصًا آخر هو الذي «يخلق» النص المصدر، أو بالأحرى «بعض أجزائه»، في بعض اللغات المستهدَفة. إن حالة البرواز ٢ أصبحَت معقَّدة.

وفي البرواز ٣، يظل النص باللغة المستهدَفة الذي وضعه المترجم السابق قائمًا لا يمسه التغيير، باستثناء الجُمل الجديدة. وهكذا فإن لدينا ترجمةً متصلبةً لا تتغيَّر إلا عند الضرورة، ولأسبابٍ مالية.

وكثيرًا ما تكون النتيجة في البرواز ٣ بشعة. فدليل تشغيل جهاز الدي في دي (DVD) عندي يقول — وأنا أحاول قَدْر الطاقة إبراز ركاكة صياغة العبارة في الترجمة: «إن آلة تشغيل الدي في دي آلةٌ ذات تقنيةٍ رفيعة وتتميَّز بالدقة. فإذا تعرَّضَت العدَسة البصرية وبعض أجزاء تسيير القرص إلى التلوُّث أو أصابها البِلى، فسوف تنحَط نوعية الصورة الخارجة من الآلة.» وعلى العكس من ذلك فإننا يُمكِن وضع نسخةٍ صحيحةٍ فصيحة ويسهُل فهمها إذا قلنا «جهاز تشغيل الدي في دي منتجٌ دقيقٌ ذو تقنيةٍ رفيعة. حافظ على نظافة وسلامة العدسة وجهاز تسيير القرص تَضمنْ نقاء الصورة.»

ويرجع أحد أسباب هذه الترجمة الركيكة إلى ما يُسمَّى «رقابة جودة» الترجمة، ولكن هذه «الرقابة» لا يمارسها اللغويون، بل يتولاها أشخاص يتحقَّقون من أن عدد الألفاظ و«التوضيب» العام — الذي يتضمَّن الصور — ثابتان في اللغات الأربع التي كُتب بها الكُتيِّب، وهي الدنماركية، والنرويجية، والسويدية، والفنلندية. ولن يستطيع مترجم إقناعَ العدد الكبير من المهندسين والمحامين الأجانب في شركةٍ متعدِّدة الجنسيات أن عددًا كبيرًا من الكلمات والفِقرات يجب أن تُوضَع بشكلٍ محدَّد حتى يصبح نص اللغة المحلية أكثر سلاسة.

ولكن الطابع المحلي لا تُضفيه جميع الشركات في شتى أنحاء العالم. وهكذا فإن العملاء (البرواز ٣) يُحرَمون من الإرشاد الصائب، وكثيرًا ما يلجَئون إلى استخدام الجهاز بأسلوب التجربة والخطأ.

(١٠) النصوص غير المفهومة

ناقشتُ في المثال السابق نصًّا صعب الفهم بسبب عوامل من البراويز الثلاثة جميعًا. ولكننا نستطيع أحيانًا تحديد برواز بعينه تحدث فيه الأخطاء. انظر الترجمة الإنجليزية التالية لنصٍّ دنماركي من نشرة إرشادٍ أسبوعية تصدُر في كوبنهاجن:

قل إنه بعض خُردة، أو «كراكيب»، أو قمامة، أو حُتات، أو ما شئت، ولكن الفَنَّانَ الألماني راينهارت روس — الجامع المحترف للأشياء — قد حشد مجموعةً رائعة، وربما كانت مجرد مجموعةٍ عاديةٍ من الأشياء اليومية من ثقافتنا الحديثة، للعرض في ديكور من الفن الكلاسيكي القديم الذي يرجع إلى خمسة آلاف سنة خلت في متحف ناي كارلسبرج جليبتوتيك، الذي لا يُجارى، في كوبنهاجن.

من الواضح أن النص المصدر (البرواز ١) كان بالغ الارتباك؛ إذ حاول الكاتب أن يضغط معلوماتٍ أكثر مما ينبغي في مساحةٍ محدودة ولم يكن يدري ما يُمكِن أن يصبح عليه حال النص عند الترجمة.

وتتضمن النشرةُ نفسُها التحذير التالي: «على قائدي السيارات أن يذكُروا أن الحد الأقصى للكحول هو ٠٫٥ ميلِّيجرام في كل ألف ليتر.» وسبب الخلط هنا يرجع إلى المترجم (البرواز ٢) الذي لم يستخدم المنطق؛ إذ مَن ذا الذي سمع عن إنسانٍ تجري في عروقه عدة آلافٍ من ليترات الدم؟

وعلى الرغم من أن هذَين المثالَين «ضعيفان» بصورةٍ صارخة، فإن الترجمات الركيكة قد تفي بالغرض أحيانًا؛ فقد رأيتُ خارج كنيسةٍ يونانيةٍ لافتةً معدنية تقول:

«أيها السيد/أيتها السيدة:

نرجوكم أن تأتوا إلى الكنيسة بملابسَ محتشمة.» [إلى جانب ترجماتٍ بلغاتٍ أوروبيةٍ أخرى لهذه العبارة].

لم يكن داخل الكنيسة سُياح يرتدون لباس البحر! وهكذا فعلى الرغم من بشاعة الترجمات فقد نقلَت الرسالة بوضوح إلى الجمهور المستهدَف. وهذا مما يلفت الأنظار في هذا السياق؛ إذ لا شك أن النص الأصلي باللغة اليونانية كان واضحًا وفصيحًا. ولكن المترجم أو المترجمين لا يُسألون وحدَهم عن الترجمات؛ إذ إنهم لم يكونوا الذين انفردوا بإنشاء النصوص باللغة المستهدَفة، فعمَّال الحَفْر على المعدن من ذوي المهارة الذين نقشوا النصوص على اللوحة كانوا يجهلون ضرورة وضع علاماتٍ معيَّنة فوق الحروف الفرنسية. وهكذا نرى أن (البرواز ٢) كان يضُم اثنَين أو أكثر من منشئي الترجمة، وليسوا جميعًا لغويين. وإذًا فإن على مترجمي اليوم أن يدركوا أن عملهم قد تتناوله أيادي غير اللغويين، بل وأحيانًا تقع في أيدي أشخاص لا يعرفون اللغة المستهدَفة، قبل أن تصل ترجماتهم إلى الجمهور المقصود. وقد يؤدي هذا إلى ما يُسمَّى «أخطاء في الترجمة». انظر الفقرة التالية من وصف حديث ﻟ «المدينة المحرَّمة» في بكين، وهي التي قد تُحيِّر السياح الغربيين:

… كان ارتفاع القاعة ٣٧ مترًا وبها

٥٥ غرفة، والمساحة الكلية تبلغ ٢

٣٧٧ مترًا مربعًا … (أي ٢٣٧٧)

ويدُل هذا فحسب على أن اللغة الصينية تختلف عن اللغات الغربية في تقسيم الكلمات والأرقام وعلى أن من يَصُفُّون الحروف لم يكونوا يعرفون أن تقسيمهم [للعدَد المذكور] لا يتفق مع المعايير الإنجليزية.

(١١) الأخدود الثقافي

كانت مناقشتي حتى الآن تدور حول مشكلاتٍ يمكن تحديدها إلى حدٍّ معقول. ولكنني أرى في إطار التوتُّر بين العالمي والمحلي مشكلاتٍ كبرى للمترجمين.

فالمترجم الدنماركي المحترف الذي يُطلب منه ترجمة نصٍّ عن طرائق الحصول على شُقق ومنازل في الدنمارك سوف يواجه عقباتٍ كأداء في إيضاح النظام الدنماركي المُحيِّر الذي يضم ما يلي:

“lejeboliger”, “ejerboliger”, “andelsboliger”, “kreditforeningslan med rentetilpasning”, “afdragsfrie kreditforeningslan”, “depositum”, etc.

وعلى غرار ذلك نجد أن المترجم الصيني المحترف الذي يُطلَب منه ترجمة نص عن البوذية بالصورة التي كانت تُمارَس بها في أحد معابد القرن الرابعَ عشَر في الصين يواجه تحديًا رهيبًا.

يبدو أن جانبًا كبيرًا من دراسات الترجمة يقبل دون مناقشة أن كل شيء ينبغي أن يُترجم، كما يدور عددٌ كبير من مناقشات مشاكل الترجمة حول نصوصٍ وفقراتٍ نصية لا نتوقع أن يطلب أحدٌ من مترجمٍ محترف أن يترجمها. والسؤال هو: هل تمثِّل الترجمات دائمًا الحل، وهل هي جديرةٌ بالجهد المبذول؟ أم أن علينا أن نخبر الذين يطلبون ترجمات لنصوصٍ ثقافية مغرقة في طابعها الثقافي أنها لن تجد لها جمهورًا يقرؤها؟

قرأتُ ذات يوم، في مجلةٍ صينيةٍ تُوزَّع على ركاب الطائرة، أثناء الرحلة الوصفَ التالي:

اذهب إلى غرب الصين! من الذي قدم الدعوة؟ إقليم نون نون يتوارى أمامك. // وهذا الرجل، ابن إقليم نون نون، الذي يجري في دمه دفء علم كونفوشيوس، يتوغل في مسيرته إلى الصحراء، ويرفع صوته بين سلاسل الجبال، ويجد المتعة في الهضبة الثلجية، ويركب الحصان في المراعي المنبسطة، ويزور القلاع القديمة والتلال الموحشة. وفي السنوات الشعرية يزحف إلى مكانٍ أعمق وأرحب.

وقد ساعدني إلمامي الكافي باللغة الصينية على أن أعرف أن النص المصدري الصيني، في البرواز ١، لا غبار عليه في أسماع الجمهور الصيني. والترجمة التي قدَّمها المترجم في البرواز ٢ «مخلصة» لما كتبه الصحفي. وأما المشكلة فهي أن النص يعجز عن التأثير في الجمهور الدولي الذي كان النص يقصد نقل المعلومات إليه (البرواز ٣). وأما الشخص الوحيد الذي يُحتمل أنه قد أدرك ذلك فهو المترجم؛ إذ لا يتمتع المُرسِل أو العميل بالكفاءة الثقافية اللازمة لإدراك أن هذه الترجمة لا تكاد تعني شيئًا. وهكذا فإن جانبًا من التحدي الذي يواجهه معلِّمو الترجمة يتمثَّل في بذل ما يكفي من الجهود لتدريب العملاء على تحديد الأشياء المحلية التي من المُحال أن تصبح عالمية.

(١٢) ما الخيارات؟

من الصعب وضع حلولٍ ميسرة، لكنني سوف أقتصر على الإشارة إلى العوامل التي يجب على المترجمين أن يلتفتوا إليها في الأعوام المقبِلة، فمن المحتوم أن ينشأ توتُّرٌ شديد بين الطابع المحلي والطابع العالمي في الترجمة، خصوصًا من حيث المصادمات الثقافية.

فلنفحص بعض العوامل الإيجابية، مثل زيادة استخدام «ذاكرة الترجمة»؛ إذ سوف يصبح ذلك نعمة، على الأقل في الأجل الطويل، للمترجم الذي يترجم إلى لغته الثانية والثالثة، وهو ما ينطبق على معظم المترجمين الدنماركيين والصينيين اليوم. ويرجع السبب إلى أن الترجمة المقترَحة المخزونة سوف تظهر أمام عينَي المترجم عند ترجمته لجزءٍ مماثلٍ من اللغة المصدر، فإذا ثبت له أن الترجمة الأولى، عند ظهورها للمرة الثانية أو الثالثة، ليست أفضلَ ترجمةٍ ممكنة، فله أن يُحَسِّنَها. ويعرف جميع من يتكلمون الإنجليزية من غير أبناء اللغة الأم، ومهما تكن إجادتهم لها، أنهم لا بد أن يقعوا في أخطاء من حيث التوافُق أو حروف الجر وما إلى هذا بسبيل. ولا شك أن مثل هذه الأخطاء المزعجة يمكن تقليلها كثيرًا بين المترجمين المحترفين من خلال ذاكرات الترجمة.

ومن العوامل ذات الإشكاليات ما نشهده من التوسُّع الهائل في السوق العالمية للترجمة، فإذا كان ينبغي لهذا التوسُّع أن يرفع من منزلة المترجم المحترف والمعترَف به، ويُحيي الأمل في زيادة دخله، محليًّا وعالميًّا، فسوف نجد أسواقًا محلية تستخدم أي أشخاصٍ لديهم بعض المعرفة بلغةٍ أجنبية، وكثيرًا من العملاء، في الترجمة؛ إذ تفترض هذه الأسواق أن المعرفة باللغة الأجنبية تكفي لتحقيق الامتياز في الترجمة. وقد يكون بعض هؤلاء الأشخاص فعلًا مترجمين ﺑ «الفطرة» أو ﺑ «الطبع» ولكن معظمهم ليسوا كذلك، ولا شك أنهم سوف يستفيدون من التعليم أو من عدم محاولة الترجمة على الإطلاق.٦

ويُوجَد عاملان آخران يتصلان بالعمل بالترجمة ولا بد للمترجمين ألا ينسوهما؛ أولهما عامل «الوساطة الثقافية»؛ أي الكفاءة والقدرة على إدراك الجوانب «غير المتفقة» ثقافيًّا، والتي لا تنتمي إلا إلى ثقافة النص المصدر (البرواز ١). ومن ثَم ينبغي عدم ترجمة هذه الجوانب، بل لا بد من اختفائها في عملية الترجمة (البرواز ٢) حتى يتمكَّن المترجم من صوغ بديلٍ مفهومٍ سلس باللغة المستهَدفة للرسالة في اللغة المصدر (البرواز ٣). وعلى العكس من ذلك، بطبيعة الحال، ستنشأ حالاتٌ أخرى تقتضي إضافة بعض المعلومات إلى الرسالة، في البرواز ٣، حتى تصبح مفهومةً للجمهور المستهدَف. ومن الاستراتيجيات المستخدمة في هذا الصدد «إضفاء الطابع المحلي». والقضية تتجاوز مجرد الموازنة؛ لأنها لا تقتصر على ضرورة الإتقان الحق للغتَين والثقافتَين، بل تتطلب أيضًا الإحاطة بطرائق الحصول على المعلومات المتخصِّصة عن هاتَين اللغتَين والثقافتَين، وليست هذه المعلومات متاحةً دائمًا على الإنترنت، وهو ما يقتضي الإفادة من الخبرة الأنثروبولوجية التي قد تتجاوز قدرة الكثير من المترجمين الأفراد.

ويتمثل العامل الثاني في القدرة على التنبؤ بأن الترجمة قد لا تصيب أي قَدْر من النجاح، وهو ما يتطلب الكياسة والدبلوماسية. ولدينا بعض الحالات التي تشير إلى احتمال نجاح المترجمين الغربيين في إقناع العملاء بتغيير نصوصهم المصدرية (فرانكلين وويلتون ٢٠٠٠م) ولكن معظم المترجمين يقولون إنهم وجدوا من الصعب عليهم تحديد أماكن الأشخاص الذين يملكون سلطة السماح لهم بتطويع نصٍّ من النصوص لإحدى اللغات المستهدَفة.

ولنا أن نقسِّم النصوص بطرائقَ عديدة، ولكن فلنَقنَع بتقسيمها إلى مجموعتَين؛ أما المجموعة الأولى فتضُم النصوص التي تبدو أجنبية لأسماع الجماهير المستهدَفة، مثل المقال المنشور في مجلة الطائرة الصينية المقتطَف آنفًا. وفي حالاتٍ أخرى قد تُحوِّل الترجمة نصًّا غارقًا في ثقافة لغته المصدر إلى شيءٍ آخر في الثقافات المستهدَفة؛ فلقد بذلت محاولات عديدة مثلًا لترجمة الترنيمة الدنماركية الوطنية (أو الملكية) إلى اللغة الإنجليزية. وتُركِّز هذه الترجماتُ أحيانًا على المضمون، ولا غبار على ذلك من ناحية المبدأ، ولكنه لا يكاد ينقل ويفسِّر الوقار والجلال اللذَين تشعر بهما الجماهير الدنماركية في هذه الترنيمة. ولكن الشك يزداد في صحة لجوء المترجمين، مثلما فعل الشاعر الأمريكي وليم وادزويرث لونجفيلو، إلى ترجمة هذه الترنيمة في شكلٍ غنائي (في نحو عام ١٨٥٠م) وهي الترجمة التي استخدمَتها جوقاتُ المنشدين في الحفلات الأمريكية، فإن ذلك يُحوِّل دُرَّةً ثقافيةً ووطنية إلى عرضٍ مسرحي يعتمد على الإبهار البصري.

ونقول في الختام إن علينا أن نتحلى بالحكمة ونقبل تعذُّر تحويل بعض النصوص المحلية إلى نصوصٍ عالمية، وأن بعض النصوص سوف تظل غريبة/أجنبية تمامًا في ثقافاتٍ أخرى؛ فهي لا تُسهِم في فهمنا العالمي والدولي المشترك وتُعتبَر جزءًا من ثقافةٍ واحدة فقط، مثل مقال المجلة الصينية المخصَّصة للمسافرين جَوًّا، كما أستطيع أن أشير إلى مثالٍ آخر من الدنمارك، وهي دولةٌ لها ماضٍ (وحاضر) استعماري فيما يتعلق بجزيرة جرينلاند وسُكانها من الإنويت (أي الإسكيمو)؛ ففي العشرينيات قصَّ رجلٌ من الإنويت قصةً لا غاية لها إطلاقًا، وبصورةٍ فريدة، على الرحَّالة الدنماركي الشهير ومستكشف القطب الشمالي كنود راسموسين، وعندما سأله الرحَّالة «وما المفترض أن تعنيه تلك القصة؟ إنني أجد النهاية غريبة.» رد الرجل قائلًا «لا نطلب دائمًا أن يكون لقصصنا معنًى، ما دامت ممتعة. لا يطرح إلا ذوو البشرة البيضاء أسئلةً عن السبب والكيفية. ولذلك فإن حكماءنا يُوصُوننا بمعاملة ذوي البشرة البيضاء معاملةَ الأطفال الذين يريدون دائمًا أن يفعلوا ما يريدون. وسوف أقُص عليك قصةً أخرى تتفوق على هذه القصة في انعدام المعنى، وإن كنا نعتبرها جيدةً على الرغم من ذلك» (راسموسين ١٩٣٢: ١٠٢).

١  من الغريب أن الرقابة النازية لم تكن تتمتَّع بكفاءةٍ كبيرة، وانتهز المترجمون الدنماركيون لحكايات جريم الألمانية هذه الفرصة وترجموا عددًا منها بلغ الغاية في تصوير سفك الدماء إلى الحد الذي جعلها لا تُترجم قط، لا قبل الاحتلال النازي ولا بعده (دولروب ١٩٩٩: ٢٤٧، ٢٥١).
٢  بِناءً على معلوماتٍ من عدد من الناشرين الدنماركيين. وأعتقد أن هذا يصدُق على كثير من البلدان الصغيرة الأخرى التي لا تتمتع إلا بأعدادٍ محدودة من مترجمي الأدب. ولم أحصل على مقالة بيتر فلين (٢٠٠٤م) إلا منذ عهدٍ قريب، وهي تُسجِّل بوضوح عددًا كبيرًا من الملامح نفسها في بلجيكا (التي تُعتبر بلدًا آخر من بلدان اللغات «الصغيرة»).
٣  يصعُب الحصول على معلومات في هذا الصدد، ولكن بوش (١٩٩٧م) يناقش كيف استخدمَت محرِّرة في إحدى دُور النشر ترجمةً فرنسية لكتاب بالإسبانية في مراجعتها لترجمة بوش الإنجليزية التي قام بها مباشرةً من الإسبانية.
٤  معلومات خاصة.
٥  حدث فعلًا أن حاولَت امرأةٌ أمريكية تجفيف كلبها المُبلَّل في فرن ميكروويف، وحصلَت على مبلغٍ فلكي تعويضًا عما حدث للكلب؛ لأن تعليمات تشغيل الفرن لم تنهَ صراحة عن ذلك. وهذا هو السبب الذي يجعل أفران الميكروويف المصنوعة في الولايات المتحدة تُباع مع كُتيِّب يتضمن هذا التحذير العجيب.
٦  استعنتُ بمترجمين ومترجمين فوريين في بلدانٍ كثيرةٍ لا أعرف لغاتها الوطنية، ولا تُوجَد لديها برامج دراسات ترجمة. وتدُلُّني خبرتي على أن «غير المحترفين» لم يكونوا يجيدون الأداء، ولكن يبدو أن العمل كان يقوم على مبدأ الانتقاء، بحيث لم يكن الأجانب يتصلون بأضعفهم. كما صادفتُ كذلك نماذجَ للأداء الممتاز، بما في ذلك حالات أداءٍ متصلٍ استمر بعضها ١٥ دقيقة من الترجمة التتبُّعية، وتمكَّنتُ من تقدير دقتها من الإجابات التي تلقَّيتُها ممن حادثتُهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤