دراسات الترجمة في الصين: ممارسة نظرية «عولمحلية»
يَنْصَبُّ الاهتمام الرئيسي لهذا الفصل، إلى جانب تأكيد صعوبات التغير المستمر في الصين، على رسم مسارٍ ثقافي مُطَّرِدٍ واحدٍ لدراسات الترجمة، انطلاقًا من التصور التقليدي للترجمة الذي يتميز بالتقسيم الثلاثي الشهير الذي وضعه «يان فو» لها؛ أي تقسيمها إلى الأمانة (خين) والتعبيرية (دا) والرشاقة (يا)، حتى شتى المحاولات التي بُذلَت لبناء أنماطٍ معرفية لفهم طبيعة الترجمة، وعملياتها وما يترتَّب عليها. وليس هذا ملخصًا للمسار في ذاته بل استقصاءٌ شامل للتقدم، مهما يكن بطيئًا ومتعرجًا، على طريق التنظير للترجمة في الصين، خصوصًا في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن دراسات الترجمة في الصين الحديثة تدور في معظمها حول ضروب إعادة التفسير، وأحيانًا إعادة التعريف، لنموذج الترجمة القائم على الأشكال الصرفية التي وضعها «يان» منذ قرنٍ كامل، ولكنها تؤدي أيضًا، كما هو مفهوم، إلى طرائقَ متعدِّدةٍ للخروج من المأزق المزمن. وقد أدت السياقات السياسية والأيديولوجية المتغيِّرة التي تتطلب زيادة الوعي بوجود الجمهور وبالغرض من الترجمة إلى إثارة أسئلةٍ كثيرةٍ تستهدف إزالة القيود التي تحدُّ من مواصلة تطوُّر دراسات الترجمة في الصين، ويبدو أنها قيودٌ فرضناها نحن على ذواتنا.
قام الباحثون باستكشاف عددٍ كبيرٍ من المفاهيم المعرفية الأساسية الخاصة بالترجمة وتطويرها، وإن كانت المداخل الكامنة تتسم بالتشتُّت في معظمها وأحيانًا بالفجاجة والسذاجة. ومن المعترف به أن معظم الاعتبارات النظرية غير محكمة أو منهجية بالدرجة الكافية. ومع ذلك فإن عملية «الاستجواب» و«التنظير» الصينية تتمثَّل في تجربة شتى المداخل التي تحاول معالجة قضايا الترجمة في الصين. كما أن علينا أن نُشير إلى أن جانبًا من التاريخ الحديث لدراسات الترجمة يتميَّز بتجنُّب نظرية الترجمة أو مقاومتها. والذين يدعون إلى مقاومة نظرية الترجمة يقيمون حُجتهم على أنها غيرُ حقيقية ولا تتصل فيما يبدو بممارسة الترجمة، وأن هذه الممارسة هي، على أية حال، الجانب الذي يتَّسم بالقيمة في ذاته بسبب صلته بالواقع وفائدته. وعندما يصبح التنظير غامضًا إلى الحد الذي يتعذر معه الفهم يشكِّك البعض في «المهابة» المرتبطة بالتنظير، ويحاولون تأكيد تفوق البحوث التجريبية. ومع ذلك فيبدو أن إدراك الناس يزداد بأن التركيز المتطرف والقصير النظر على ممارسة الترجمة والبحوث التجريبية لن يؤدي إلا إلى إعاقة تطور دراسات الترجمة في الصين. والواضح أننا نحتاج إلى زيادة وضع المفاهيم والنظريات حتى نزيدَ من فهمنا وإيضاحنا للمشاكل والقضايا المتصلة بالترجمة.
وعلى الرغم من أن الوفاء بهذا المطلب؛ أي بوضع إطار للتحليل أوسع وأبعد نظرًا، لم يبدأ إلا منذ عهدٍ قريب وبصورةٍ جزئية، فإن دراسات الترجمة تُحرِز تقدمًا يدعو إلى التفاؤل؛ إذ إننا نجد أعدادًا هائلة من المناهج العلمية والمداخل النظرية في الدراسات والبحوث الأكاديمية، كما تدُلُّنا كمية المناقشات النظرية على أن بعض العلماء العاملين في مجالاتٍ بحثيةٍ أخرى يُبدون حماسهم لدراسات الترجمة. وقام بعض باحثي الترجمة بإعادة النظر في نماذج التعبير التي تتميز بالصياغة التي تُشبِه الحِكَم والأقوال المأثورة التي تركها لنا «فو لي» و«قيان جونجشو»، ويمثِّلهما على الترتيب «التشابه الروحي» و«عالم التحولات». ولقد شهدنا في الواقع محاولاتٍ عديدةً للتنظير في مجال الترجمة في الثلاثينيات وفي الأربعينيات. ومن البديهي أن نجد تأملاتٍ وتعليقاتٍ تنم على بصيرةٍ نفَّاذةٍ عن الترجمة، ولكن مجرد غياب المحاولات المنهجية لوضع نظرية ترجمةٍ صُلبة جعل الكثيرين يعتقدون أن على الصين أن تستعير من الغرب بعض الأفكار عن الترجمة. والواقع أن الكثير من التعقيدات التي نصادفها عند التصدي لقضايا الترجمة في الصين يمكن اختزالها في عددٍ محدود من المبادئ أو المعايير، وهكذا يمكن القول بأن التنظير حول مشاكل الترجمة والتناقُش حولها لا يزالان إلى حدٍّ ما غير مكتملَين وغير فعَّالَين.
تُعتبَر العوامل السياسية والأيديولوجية مسئولة على الدوام، سواء كان ذلك سافرًا أو مضمرًا، عن كل استعراضٍ لأنشطة الترجمة في الصين؛ إذ نجد على سبيل المثال أن بعض الباحثين الصينيين في الترجمة يُبدون غرامًا والهًا بمذهب المحلية في دراسات الترجمة، ويسوقون الحُجة على وجود مدرسةٍ صينيةٍ لدراسات الترجمة. ومع ذلك فقد بُذلَت بعض الجهود التي تقوم أيضًا على دوافعَ سياسية، لمواجهة القومية الثقافية وسياسات الهُوية؛ ففي السنوات التي تلت انتهاءَ الثورة الثقافية بوقتٍ قصير واتسمَت بسرعة التأثر بما حولنا تعرَّضَت الصين لسيلٍ عرم من النظريات الغربية، وكانت من بينها نظريات الترجمة. وأبدى كثيرٌ من باحثي الترجمة حماسًا بالغًا لاعتناق نظرية الترجمة التي وضعها يوجين نايدا، وظل ذلك فترةً طويلة، والمعروف أن تلك النظرية تركِّز على التعادل الوظيفي، دون ما عداه تقريبًا، وكان ذلك الحماس دليلًا على الرغبة في العثور على طرائقَ مختلفةٍ للنظر إلى الترجمة، ولكنه يشير بالتأكيد إلى الآفاق المحدودة لباحثي الترجمة الصينيين آنذاك. وشهد عقد التسعينيات زيادة الانفتاح على العالم الخارجي عندما تُرجمَت نظرياتُ ترجمةٍ غربية من مدارسَ مختلفة إلى اللغة الصينية، وقُدمَت إلى جمهور القُراء الصينيين. وقد بشَّر هذا فعلًا ببداية مرحلةٍ جديدةٍ في تطور دراسات الترجمة الصينية، وهو ما ساعد على انقشاع الضباب الانطباعي وغير المنهجي إلى حدٍّ ما، وهو الذي كان يُظَنُّ عمومًا أنه يغشى البحوث الصينية التي ظلت تُهيمِن هيمنةً كبيرةً على مجال دراسات الترجمة زمنًا طويلًا.
وقد مكَّنَت هذه الآفاقُ التي ما فتئَت تتسع باحثي الترجمة من تحديث دراسات الترجمة باستكشاف مداخلَ جديدةٍ للترجمة تتسم في حالاتٍ كثيرةٍ بالمزج بين المباحث. ولم يكن من المدهش إذن أن تؤدي هذه الضروب البالغة التنوع من المنظورات والمداخل إلى تشويش الإدراك، وهو ما أضر بالصورة الحقيقية للتفسيرات والمفاهيم المتغيرة لطبيعة الترجمة وممارستها. ومع ذلك فإن دراسات الترجمة في الصين تنظر نظرةً رحيبةً إلى وقع ذلك التأثير الغربي، وعلى الرغم من عدم توافر نظرية ترجمةٍ منهجية، فقد سمعنا بالمزيد من نتائج البحوث القائمة على ما نهَلْناه وأدرجناه في عملنا من أفكارٍ ومناهجَ غربية. ومع ذلك فالواضح أننا لن نستطيع في هذا الفصل أن نرصُد التقدُّم الواسع النطاق الذي تحقَّق وأن نوفيه حقَّه كاملًا، فما دامت النظرة إلى الترجمة تتَّسم في معظمها بالتشتُّت والتقطُّع، فلا بد أن تكون مناقشتنا مُجَزَّأة، وألا تكشف إلا عن لمحاتٍ عابرةٍ عن تصور الترجمة ومداخلها. وهذا هو السبب أيضًا في عدم التزامنا التزامًا صارمًا بالتسلسل الزمني في عرض كثيرٍ من الآراء هنا؛ لأن رصد تسلسُلها كثيرًا ما يعتمد على الحَدْس. ومع ذلك، فإننا نعرض بعض الاتجاهات، على الرغم من اختلاف موضوعاتها، ونحلِّلها معًا في إطارٍ شبه زمني حتى تُتيح رؤية بعض الاستمرار التاريخي للتطوُّرات الحديثة والمعاصرة في دراسات الترجمة في الصين.
(١) المناقشات الساخنة لدراسات الترجمة
لم يتوقف الباحثون منذ منتصف الثمانينيات في الصين عن مناقشة اعتبار دراسات الترجمة مبحثًا مستقلًّا، ولكن دراسات الترجمة ظهرَت منذ بداية الخمسينيات في صورة مبحثٍ أكاديمي يُمكِن تحديد ملامحه، كما يشهد على ذلك نشر كتابَين؛ عنوان الأول «دراسات الترجمة»، وعنوان الثاني «تاريخ الترجمة في الصين». ومع ذلك، فقد تعذَّرَت مواصلة الدراسات الأكاديمية والمناقشات الحرة له بسبب التأثير السلبي للحركات السياسية الراديكالية في الجامعات، وكان من نتيجة ذلك أن سادت ضروب الخلط الشديد في الأسلوب اللازم لمعالجة دراسات الترجمة في الصين زمنًا طويلًا، بل وحتى الآن. وهكذا فلم يحدُث حتى منتصف الثمانينيات أن تمكَّن الباحثون الصينيون (الذين كانوا في البداية يستلهمون بعض نظريات دراسات الترجمة الغربية ثم تأثَّروا بها) من البدء في اعتبار دراسات الترجمة مبحثًا مستقلًّا وإيلاء أهميةٍ عظمى لهذه المسألة؛ ففي عام ١٩٨٧م نُشِر أكثر من عشرين بحثًا أكاديميًّا بهدف تأكيد أهمية إنشاء هذا المبحث، وهو الذي كان من المتوقَّع أن يعزِّز بدَوره ممارسة الترجمة وتعليم الترجمة والارتقاء بالمنزلة الاجتماعية للمترجمين والباحثين كذلك. وكما هو مفهوم، كانت أصواتٌ مختلفةٌ كثيرة تُجاهِد حتى يسمعَها الناس، وفي الفترة منذ منتصف التسعينيات إلى آخرها، بصفةٍ خاصة، كانت دراساتُ الترجمة تواجه معارضةً كبيرة، بل إن الكثير من معارضيها قالوا إنها غير مشروعة. ولكن المبحث الجديد استطاع في نفس الوقت اكتساب الدعم من باحثي الترجمة على نطاقٍ واسع، مثل «تان تايخي»، و«خو جون»، و«مو لي»، و«يانج زييان»، و«لو جون»، الذين تتابَعُوا في إقامة الحُجة على ضرورة إنشاء هذا المبحث من منظوراتٍ مختلفة. وأدت أمثال هذه الجهود إلى أن ظهَرَت دراساتُ الترجمة تدريجيًّا باعتبارها مبحثًا مستقلًّا بعد أن كانت مجهولةً نسبيًّا.
وفي أثناء العقد الماضي — أو ما يقرب من عشر سنوات — تطوَّرَت القضية الأساسية فيما يتعلق بدراسات الترجمة من التساؤل عما «إذا كانت دراسات الترجمة موجودة» إلى التساؤل عن «كيفية إنجاز المزيد من التطوير لدراسات الترجمة، باعتبارها مبحثًا مستقلًّا»؛ إذ زاد الاهتمام بدراسات الترجمة زيادةً كبيرة وازداد بصورةٍ مطردةٍ عددُ طلاب الدراسات العليا المتخصِّصين في دراسات الترجمة على عكس ما كان عليه الحال في الماضي، حين كان الأشخاص يتحاشَون وصف أنفسهم بأنهم باحثون في الترجمة، ناهيك بأنهم أصحاب نظرياتٍ للترجمة. ولكن الصورة تغيَّرَت تغيرًا هائلًا اليوم، وهو ما يُعتبَر خطوةَ تقدُّم صعبة؛ إذ شَهِدَت العراقيل التي تعرَّض لها وكابدها المشتغلون بدراسات الترجمة. ومن اليسير أن نرى، حين نستعرض الماضي، أن إنشاء مبحث دراسات الترجمة يقوم بدَورٍ أساسي في تطوُّر الترجمة نفسها في الصين؛ فالمقبول على نطاقٍ واسعٍ أنه لا بد من الالتفات الواجب إلى البناء النظري لدراسات الترجمة ابتغاء تعزيز الترجمة في الصين.
ويقول «خو جون» في إطار تأملاته لتعزيز دراسات الترجمة في الصين (١٩٩٩م): إننا إذا أردنا إضفاء المشروعية على إنشاء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا مستقلًّا، فلا مندوحة عن تأكيد البناء النظري لدراسات الترجمة وتعزيز التبادل والتواصل مع النظراء في البلدان الأجنبية. كما يؤكِّد (٢٠٠١أ) أهمية إنشاء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا أكاديميًّا قائمًا بنفسه. وعندها يجب إيلاء الالتفات اللازم لتعزيز نظريات الترجمة وتعليم الترجمة، ولا بد من تدعيم فريق الأساتذة الذين يعلمون الترجمة ورَفْع مستواهم. كما أن تصميم المقرَّرات التعليمية يتمتع بأهميةٍ لا تقل عن ذلك، فمن المتوقَّع إعداد الكتب الدراسية الصحيحة والمناسبة، ويقتضي الأمر أيضًا تحسين أساليب التعليم. وتُعتبَر هذه الإجراءات المقترحة جميعًا قادرةً على الإسهام في إعداد مترجمين موهوبين. وقد يظُن من يقرأ هذا كله أنه يتسم بغموضٍ يَحُولُ دون الانتفاع العملي، ولكن مثل هذا الجهد المبذول لضمان تقديم دراسات الترجمة جديرٌ بالثناء. والواقع أن الوضع العام قد تحسَّن على مر السنين؛ فطبقًا لما يقوله «خو جون» (٢٠٠١أ) مرت دراسات الترجمة بالمراحل التالية في الصين: فترة الصحوة في السبعينيات والثمانينيات، وتلتها الجهود الدائبة التي بُذلَت لاستيعاب نظريات الترجمة المستقاة من العالم الخارجي في التسعينيات، والمرحلة التي نشهدها الآن، وهي مرحلة البناء الشامل الذي يعني اتجاه المبحث نحو النضج.
وأما فيما يتعلق بهوية المبحث، فقد أثار يانج زيجان (١٩٩٩م) مزيدًا من الأسئلة الخاصة باسم المبحث، والمعايير المعتادة لبناء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا مستقلًّا، والمؤشرات الأولية التي تدُل على نُضج المبحث، والفوارق بين العلم الطبيعي وبين العلوم الإنسانية. وهو ينظر بعد ذلك في خمسة أسئلةٍ مهمةٍ تتعلق بتشكيل أو ببناء مبحث الترجمة في الوقت الحاضر، ويُقدِّم بعض الآراء التي تتعلق أساسًا باسم المبحث ومجاله وطبيعته، وكذلك بنظريات الترجمة الصينية التقليدية. وأما عن أسلوب العمل في بناء المبحث فيناقش أساس البحث، والمبادئ النظرية، والهدف من الدراسة، وهيكلها الداخلي، ومعايير التقييم، ومنهجية البحث، وغير ذلك من القضايا النظرية ذات الصلة الوثيقة بالموضوع. أضف إلى ذلك أن مناقشته تتضمن إمكانية إدراج نظريات الترجمة الغربية في التفكير الصيني في الترجمة، ووضع معايير للترجمة، والترجمة الأدبية باعتبارها طريقة لإعادة الخلق، وتطبيق المنهجية المناسبة في ممارسة الترجمة. كما أن يانج (٢٠٠١م) يتعرض لقضايا الروح العلمية والمنهجية في البحث العلمي، وطبيعة دراسات الترجمة باعتبارها عِلْمًا. وهو يضع على كاهل دراسات الترجمة مهامَّ كثيرةً من بينها دراسة النظريات والممارسات الصينية والأجنبية للترجمة، وخصوصًا الغربية منها، بروحٍ علميةٍ حديثة تجمع بين العناصر المفيدة من المباحث المتصلة بها في وضع نظرية للترجمة. وهو ينعى نقص البحوث التجديدية والنماذج الأكاديمية الجديدة. وعلى الرغم من الحماس الذي يعرض به حُجته، فنستطيع أن نستشف إدراكًا ساذجًا إلى حدٍّ ما ﻟ «المنهجية العلمية»؛ إذ لا يقدِّم لها تعريفًا واضحًا. ومع ذلك فهو يدعو في الواقع إلى اتخاذ مدخلٍ بينيٍّ إلى دراسات الترجمة، ويُعرِب عن قبوله لاستعارة الأفكار من المباحث الأخرى وتطويعها، بما في ذلك العلوم [الطبيعية].
وتسوق مو لي (١٩٩٩أ) الحُجة على ضرورة تعزيز فهمٍ أعمق لأهمية بناء دراسات الترجمة، وإنجاز ذلك بصورةٍ عاجلة، باعتبارها مبحثًا علميًّا، وكذلك علاقتها بممارسة الترجمة وتعليمها. وطبقًا للأعراف والمعايير المعترف بها في الجامعات الحديثة، تقدِّم هذه الباحثة أدلةً قاطعة (٢٠٠٠م) من حيث توافُر الجمعيات المهنية، والنَّشر على المستوى المهني، والتدريس المهني، وممارسة الترجمة ونظرية الترجمة، بحيث تكاد تجعل اعتبار دراسات الترجمة مبحثًا أكاديميًّا مستقلًّا من البديهيات. وهي تؤكِّد (٢٠٠٣م) التفاعل بين بناء الموضوع وتدريس الترجمة؛ لأن بناء المبحث يؤدي إلى فهمٍ أفضلَ للعلاقة بين مبحث دراسات الترجمة والمباحث المتصلة به، وللدور الذي يلعبه تدريس الترجمة في دراسات الترجمة بصفةٍ عامة، وسوف يؤدي هذا الفهم الأفضل إلى تعزيز تطوير تعليم الترجمة، وبذلك يوفِّر التدريب للمزيد من باحثي وممارسي الترجمة. وسوف يؤدي هذا كله بلا شك إلى تشجيع زيادة تطوير دراسات الترجمة في الصين ودعمها.
ورغم ذلك فقد أبدى البعض تشكُّكَهم في ضرورة إنشاء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا منفصلًا. وقد فند تان تايخي (٢٠٠١م) حُجتهم بتقديم مبررٍ منطقيٍّ مباشر لضرورة تمتُّع دراسات الترجمة بمكانة المبحث الأكاديمي المستقل، وتلا ذلك بفحص «مُعَمَّقٍ» لاسم دراسات الترجمة وطبيعتها، قائلًا إن البناء النظري يتضمن عمليةً شاملةً من الفرضية إلى التحليل العقلاني ومنه إلى النتائج، ولا غنى عن المبادئ النظرية في هذه الخطوات الثلاث؛ إذ لا شك أن كل مبحثٍ ناضج له إطاره النظري، وعلى ضوء هذا نشَرَت المجلة العلمية جونجوو فايني (أي مجلة المترجمين الصينيين) سلسلةً من المقالات حول بعض المفاهيم الأساسية لدراسات الترجمة، وأخضعَت بعضَ مفاهيمها الرئيسية للفحص، وللشرح الوافي، والتعريف الدقيق. وكان ذلك يمثِّل خطوةً حاسمةً إلى الأمام في تطوُّر دراسات الترجمة.
وفي غضون ذلك ساد الاعتراف بأن الإدراك الواضح للعلاقة بين النظرية والممارسة له أهميةٌ كبرى؛ فمن شأن الإدراك الخاطئ في هذا الصدد أن ينشئ ويدعم الاتجاه إلى احتقار البحث النظري أو تجاهله، وسوف يعوقُ هذا بدوره تطويرَ دراسات الترجمة. ويشير وانج داوي (٢٠٠١م) إلى عدة مشكلاتٍ في مجال دراسات الترجمة في الصين، مثل ما يلي: عواقب «التغريب» الذي يفصل النظرية عن الممارسة، وعدم توجيه اهتمامٍ كافٍ للمعايير التقليدية للترجمة، والتطرُّف في استخدام المصطلحات التي تستعصي على الفهم ولا لزوم لها بعد أخذها من النظريات الغربية، وعدم مناقشة تقنيات الترجمة على المستوى النصِّي، وإجراء مناظرةٍ طويلةٍ وغير مثمرةٍ حول إمكانية إنشاء مدرسةٍ صينيةٍ لدراسات الترجمة.
(٢) إعادة النظر في النظريات الصينية التقليدية للترجمة
كيف تُفهم نظريات الترجمة الصينية التقليدية؟ قد يكون هذا السؤال ذا أهميةٍ حاسمة لتشكيل أساسِ دراساتِ الترجمة في الصين. يشير «تشو تشي-يو» (٢٠٠١م) وهو باحث من هونج كونج، إلى أن مبدأ «أن بين» (أي الاتباع الوثيق للنص المصدَر) ومبدأ «فيو خين» (أي طلب الأمانة) هما العنصران الجوهريان في نظريات الترجمة الصينية التقليدية. ويُمكِن رصد بداية نظريات الترجمة الصينية في مبدأ «جي» (الترجمة الحرفية) التي تؤكِّد المحاكاة الكاملة وإعادة إنتاج التركيب اللفظي للنص المصدر، ومبدأ «خين» (الترجمة الحرة) التي تسمح ببعض الحرية في أبنية العبارات، وأخيرًا مبدأ «هوا جينج» (أي بلوغ قمة الكمال) وهو الذي يُتيح رُوحَ الإبداع في الترجمة. وتُبيِّن هذه المداخل الثلاثة العامة كيف تُرى نظرياتُ الترجمة في الصين، ولكننا نستطيع أن نجد أفكارًا مماثلة عن الترجمة في نظريات الترجمة الغربية، وهو ما يجعل من العسير تبرير الزعم بوجود نظامٍ متكاملٍ لنظريات الترجمة في الصين. ومن ثَم فعلينا بصفةٍ عاجلة، إلى حدٍّ ما، أن نقوم بمراجعةٍ منهجية لنظريات الترجمة الصينية التقليدية.
ويقدم تشو تشي-يو (٢٠٠١م) فحصًا لبعض المفاهيم التي وُضعَت في مرحلةٍ مبكِّرة وكان لها تأثيرٌ واسع النطاق، مثل مفهوم «التشابه الروحي» و«التحول السياقي» في الترجمة الأدبية، وكان قد وضعَهما «فو لي» و«قيان جونجشو»، كما يلخِّص بعض الأفكار المماثلة التي وضعها «ماو دون» و«جوو موريو»، و«تشين خيينج»، و«زينج خو» في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال تحليل اللغة التي يستخدمونها، وإعادة تقييم نقاط القوة والضعف في حُججهم. ويشير إلى أن ما نُسمِّيه نظرية الترجمة الصينية التقليدية لا تتكوَّن فقط من المفاهيم والأفكار التي قدَّمها وأنتجها المترجمون والباحثون منذ نهاية عهد حكم أسرة هان حتى الستينيات والسبعينيات، بل تضُم كذلك المقالات والكتب المنشورة حديثًا، وهي التي تُتابع وتُطور الأفكار القديمة والمعاصرة عن الترجمة.
ويقول «تشو تشي-يو»: إن مبدأ «يان فو» الذي يتكوَّن من ثلاثة عناصر (هي «خين» و«دا» و«يا») والمعروفة بالأمانة والتعبيرية والرشاقة، قد نهَض بدَورٍ بالغ الأهمية في تطوير نظرية الترجمة الصينية الحديثة، وإنه يُعتبَر أكثر المناهج النظرية تأثيرًا وإن كان خلافيًّا أيضًا. وخرج «يان فو» من دراسته لترجمات النصوص البوذية بالقول بخطأ مفهوم الترجمة الحرفية (جي) ومن ثم اقترح مبدأ الأمانة (خين). ولكن دراسات الترجمة الصينية الحالية تميل إلى الانشغال ﺑ «القواعد العامة» بدلًا من «القواعد الخاصة»، فالأخيرة تُركِّز على العلاقة بين طبيعة النص المصدر واستراتيجيات الترجمة. وعلى مدى القرن الذي انصرَم منذ نشأة مبدأ العناصر الثلاثة المشار إليه، كان باحثو الترجمة الصينيون يكشفون عن موقفٍ مذبذَب تجاه هذا المبدأ، فلم تتوافر لهم الثقة الكاملة في قبوله أو رفضه. ونتيجةً لذلك تراوحَت المواقف في أوقات متباينة ما بين تطويع المبدأ، أو تبنِّيه، أو إعادة تعريفه حسبما اقتضت الأحوال، استنادًا إلى اختلاف الحاجات واختلاف تفسيرات ذلك المبدأ. وأما جوهر القضية فقد كان يتمثَّل في عدم وجود مَهرَبٍ مُقْنعٍ من الدائرة المغلَقة التي يمثِّلها ذلك المبدأ الثلاثي، وهو ما يدل على طبيعة القيود الخانقة لأسلوب التفكير الكامن في نظرياتِ الترجمة التقليدية، وهو ما أدى إلى عدم تحقيق تطورٍ حقيقيٍّ في دراسات الترجمة في الصين. ورأي «تشو» يمثِّل آراءَ كثيرٍ من الباحثين في الصين. وعلى غِرار ذلك يقول جو تشونشن (٢٠٠٠م): إن المعالم المميِّزة لأي مبحثٍ في عالم اليوم يُمكِن أن تتشكَّل بصورةٍ أشدَّ فعاليةً من خلال التفاعل مع المذاهب الأخرى في المجال نفسه. ويشير إلى أننا لا ينبغي أن نعتبر الاختلافات في اللغة والثقافة حواجز أمام أمثالِ ذلك التفاعل أو ذرائعَ لتبرير الزعم بما يُسمَّى التفرُّد الخاص بدراسات اللغة الصينية؛ أي إن على دراسات اللغة الصينية أن تتجاوز الحدود الوطنية؛ فلقد كانت ولسوف تظل دائمًا جزءًا لا يتجزأ من النظام العالمي لدراسات الترجمة.
وفي عام ١٩٩٩م خصَّصَت مجلة المترجم الصيني قسمًا عنوانه «دراسات الترجمة الصينية في القرن الحادي والعشرين» لشق قناة أمام باحثي الترجمة لاستعراض دراسات الترجمة الصينية في القرن السابق، وبهذا أنشأَت مناظرةً ذات حيوية بعد فترة من الصمت النسبي في هذا المجال؛ فكما قال وانج دونجفينج (١٩٩٩م) كان تصدير يان فو لترجمته لكتاب التطور والأخلاق (للعلامة هسكلي) يمثِّل بدايةً لدراسات الترجمة الصينية في القرن العشرين. وقد مرَّت الآن ١٠٠ عامٍ على ذلك، وكاد أن يكتمل قرنٌ كامل على مولد دراسات الترجمة في الصين. وواجبنا أن نحدِّد نقائصنا من خلال المقارنة مع الفكر الأكاديمي الغربي وأن نُحاوِل تحقيق هدفنا المحدَّد. كما يشير أيضًا إلى وجوه الاختلاف بين دراسات الترجمة في الصين وفي الغرب وأسباب اعتبار الترجمة الصينية «حالةً خاصة»، وينتهي إلى أن دراسات الترجمة في الصين سوف تشهَد ازدهارًا كبيرًا؛ فنتاج بحوث المترجمين الصينيين قد وصل إلى العالم الخارجي، وانفتح الطريق الذي كان مسدودًا أمام بحوث الترجمة في الصين، بسبب الزيادة المطردة في ضروب التفاعل والتواصل بين الباحثين في الصين وفي الغرب.
ويُشير باحثون آخرون إلى الاختلافات الأساسية بين نُظم الترجمة في الغرب وفي الصين، ويحلُّون هذه الاختلافات؛ إذ يقول تان زايخي مثلًا (١٩٩٩ب) إن دراسات الترجمة بدأَت في الغرب قبل بدايتها في الصين بمائتَي عام، وإن الفارق الكبير، بصفةٍ عامة، بين نُظم الترجمة في الغرب ونُظمها في الصين يكمُن في الكم لا في الكيف، كما يقول إن أحد الفوارق المهمة هو الاختلاف بين النظام الواحد والنُّظم المتعددة، ثم يُركِّز بعد ذلك على دراسةٍ مقارنةٍ بين نظريات الترجمة الغربية والصينية. ويُناقِش مناقشةً معمَّقة بعض الاختلافاتِ الكامنةِ بين تقاليد نظريات الترجمة الغربية ونظائرها الصينية؛ إذ تتميز التقاليد الصينية لنظريات الترجمة بتأكيدها لإمكان تطبيق النظرية، وللدَّور المعياري لخبرة الترجمة، ومدى فهم المُترجم شخصيًّا للترجمة نفسها. ولكن التقاليد الغربية تُركِّز على انتظام النظرية ومنهجيتها، والأوصاف العقلانية لعملية الترجمة، وتحسين مفاهيم الترجمة وتجديدها. وينتقل تان بعد ذلك إلى الحديث عن مواقع التقاليد الغربية والصينية داخل النُّظم الاجتماعية والثقافية الخاصة بكلٍّ منهما، مُعربًا عن رأيه بأن نظرية الترجمة وممارستها تخضعان حتمًا للنُّظم الاجتماعية والثقافية التي تنتميان إليها. وهو ينتهي إلى نتيجةٍ تقول إن تأثير النُّظم الاجتماعية الثقافية في تقاليدهما الترجمية، وخصوصًا في تقاليد نظرية الترجمة، يقل تدريجيًّا على مَر الزمن بسبب تدعيم التواصل عَبْر الثقافات. ولهذه الدراسة التقابلية قيمةٌ عظمى لمن يريد أن يفهَم موقع نظريات الترجمة التقليدية الصينية وأن يحدِّد قيمتها في سياق التواصُل عَبْر الثقافات.
ومن الواضح أنه لا بد من مقارنة الفكر الصيني في الترجمة بنظيره الغربي، كما أن الأنساق المتغيِّرة لنظريات الترجمة الصينية التقليدية تُساعِد على تقدُّم البحوث؛ إذ إن «لياو قييي» (٢٠٠١م) قد قام، أثناء استعراضه لتطوُّر دراسات الترجمة في الغرب، بتحليل أمثال هذه الأنساق المتغيِّرة قائلًا إنه لا بُد من توسيع نطاق البحث النظري ابتغاءَ تقديم المزيد من نماذج البحوث المنوَّعة في الصين. ويقول خي تيانجين (٢٠٠٢م): إنه ما دام تشكيل التقاليد الصينية لنظرية الترجمة قد تأثَّر تأثُّرًا بالغًا بالثقافة الصينية التقليدية، فإن تطوُّر الثقافة الصينية هو العامل الحاسم في التأثير في دراسات الترجمة الصينية. وهكذا أصبح جانبٌ كبير من البحوث يُركِّز على المترجم. وفيما يتعلق بدراسات الترجمة التقليدية، فإن معنى النص المصدر كان يمثِّل دائمًا أولويةً عالية، وهو ما يُشير إلى مقصد المؤلف. وتحقيقًا لهذا الغرض تهتم دراساتُ الترجمة التقليدية ببعض القضايا المحورية مثل الترجمة الحرفية، والترجمة الحرة، وإمكان الترجمة والاستعصاء على الترجمة.
ويزداد الاتجاه إلى فحص المداخل الصينية التقليدية لدراسات الترجمة فحصًا نقديًّا. ويقول سي خيانجو (٢٠٠٢م): إن دراسات الترجمة الصينية بتأكيدها على البراجماتية لم تنشغل إلا بعدَدٍ محدودٍ من مهارات الترجمة في الممارسة الفعلية؛ إذ يحدوها الأمل في زيادة قدرة المترجم بين عشية وضُحاها، ولمَّا كانت المقارنة الشكلية بين النص المصدر والنص المستهدَف تحظى بجانبٍ كبير من التركيز، أصبحَت دراسة وتوصيف ظروف هذه المهارات وأحوالها لا تنالان إلا قَدْرًا أقل من الاهتمام، ولا يقتصر ذلك على كونه عيبًا أساسيًّا في نظرية الترجمة الصينية، بسبب تركيزه المُبالَغ فيه على التدريب على اكتساب مهارات الترجمة، بل إنه يمثِّل أيضًا نقطة انطلاق بحوث الترجمة الحالية والمستقبلية. أضِف إلى هذا أن الآراء التقليدية في الترجمة تقصُر تركيزَها على الدَّور البراجماتي للنظرية بالنسبة لممارسة الترجمة، وتتجاهل إلى حدٍّ كبيرٍ دورَها المعرفي.
ومع ذلك فإن ذلك لا يعني أن باحثي الترجمة يعتزمون التخلي عن نظريات الترجمة الصينية برُمتها، وليس من المدهش أنهم غدَوا يُعربون عن ضيقهم ببطء التقدم في دراسات الترجمة، وبأن القرن الماضي لم يأتِ بالانطلاقة المنشودة. ويعمل الكثير منهم حاليًّا على استكشاف السُّبل الكفيلة بتصحيح هذه الأوضاع، والواقع أن عددًا كبيرًا لا يُنكِر أهمية الدَّور الذي لعبه مبدأ «يان فو» ذو العناصر الثلاثة في تعزيز دراسات الترجمة في الصين، ولكنهم يعتقدون أن هذا المبدأ أصبح قيدًا يحدُّ من تطوير نظريات الترجمة في الصين. وهكذا فعلينا أن ننظر في سُبل التكامل بين ثلاثية «خين-دا-يا» (الأمانة، التعبيرية، الرشاقة) وبين نظريات الترجمة الغربية، أساسًا لأن بعض القضايا الرئيسية، مثل مسألة الاستعصاء على الترجمة ومسألة إعادة الخلق، تتصل بمبدأ «خين-دا-يا».
ولكن التغيُّر قد بدأ؛ إذ يقدِّم وانج هونجيين وليو شيكونج عرضًا حديثًا لنظريات الترجمة الصينية التقليدية في محاولة لوصف تقدُّم دراسات الترجمة الحديثة في الصين على طريق إنشاء مذهبٍ نظري يتخذ شكل الخطاب الحديث. ويمكن أن تؤدي دراسة الأدب المُترجَم إلى البحث في الأساس النظري للمعرفة ومصادرها إلى جانب تطوير الأدب الصيني الحديث والمعاصر.
(٣) زيادة تفهُّم نظريات الترجمة الغربية
بدأ مبحث دراسات الترجمة الصيني منذ الثمانينيات اتصاله الأوَّلي بنظريات الترجمة الغربية، بعد فترةٍ طويلةٍ من العزلة الثقافية. وكان الاتصال في مبدئه، إلى حدٍّ كبير، من خلال ترجمة نظريات الترجمة الغربية، ثم بُذلَت محاولاتٌ لتطبيق هذه النظريات على ممارسة الترجمة في السياق الثقافي الصيني. وسرعان ما بدأ الباحثون الصينيون يقومون بأبحاثهم الخاصة، بعد انتهاء المرحلة التي شُغلوا فيها بالبحث النقدي في نظريات الترجمة الغربية. كما حاولوا «الاستيلاء» على النظريات المستعارة وتطويعها استجابةً لما اكتشفوه من وجوه النقص لديهم.
ويُعتبَر تقديمُ نظريات الترجمة الغربية واستعراضُها بصورةٍ شاملةٍ عملًا مهمًّا، ولا شك في الإقرار بأهمية التعلُّم والاستعارة من نظريات الترجمة الغربية. ويقدم «بان وينجيو» (٢٠٠٢م) عرضًا مفيدًا للتطوُّرات النظرية في دراسات الترجمة في العالم الغربي في السنوات الثلاثين الماضية، خصوصًا منذ التسعينيات. وهو يقدِّم، بوجهٍ خاص، تحليلًا مُفصلًا للأفكار الرئيسية لست مدارس تُمثِّل دراسات الترجمة في الغرب، ويُحاوِل أن يخرج ببعض الدروس الموازية من فَحصه للخبرة المكتسبة من إنشاء دراسات الترجمة في الغرب قائلًا: إننا إذا أردنا أن نُنمي دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا أكاديميًّا مستقلًّا في الصين، فعلينا أن ننتفع بخمسة جوانب للتطوُّر الذي شهدَته دراسات الترجمة الغربية، وهي التي تُقدِّم مادةً فكريةً ثمينة. مشيرًا إلى وجود ثلاث ثغراتٍ كبيرةٍ في البحوث النظرية بين الصين والعالم الغربي، ويقول: إنها تدُلُّنا على الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه دراسات الترجمة. كما يُبيِّن أن تخلُّف دراسات الترجمة في الصين يرجع إلى عدم مشاركة المفكِّرين، قائلًا: «إن دراستنا النظرية لن تستطيع التقدُّم إلا بمشاركتهم.» فدراسات الترجمة الغربية، على عكس دراساتنا، يُثريها ويدعمها الخبراء في مجالاتٍ أخرى، مثل الدراسات الثقافية والفلسفة.
وينظر لين كينان (٢٠٠١م) في أهمية الخطاب [أي التعبير] في نظريات الترجمة الغربية، فيقدِّم لمحةً عن القضية من منظورٍ مختلف، قائلًا إن كل نظريةٍ جديدة تنشأ في الغرب تأتي، فيما يبدو، بشيءٍ جديدٍ جدير بالملاحظة، وبعض هذه الأفكار الجديدة تكمُن في مصطلحاتٍ مهمة، فإذا فهمنا الكلمات الأساسية التي تمثِّل مجموعات الأفكار واستوعبنا معانيها، فسوف يسهُل علينا كثيرًا أن نعرف الكثير عن النظرية التي تحملها. وهكذا فهو يُرجع سبب فترة الهدوء النسبي الذي ساد دراسات الترجمة في السنوات الأخيرة إلى عدم فهم بعض المصطلحات في نظريات الترجمة الغربية أو إساءة فهمها، قائلًا إننا إذا أردنا علاج هذه الحالة المؤسفة، فعلينا أن نفهم المصطلحات الرئيسية في نظريات الترجمة الغربية الجديدة أثناء نقلها إلى الصين؛ إذ يرى أن دراسات الترجمة لن تُحرِز تقدمًا في الصين إلا من خلال تقديم نظرياتٍ تختلف عن النظريات الصينية التقليدية.
ومن الملامح البارزة في التفاعُل الصيني مع نظريات الترجمة الغربية المعاصرة أنه قد تجاوز المرحلة التمهيدية؛ أي مرحلة «العرض البسيط»، وانتقل إلى المستوى الأعلى للتحليل والتطوير؛ إذ نرى في الدراسة المقارنة لدراسات الترجمة الصينية والغربية اتجاهًا ما فتئ يشتد إلى التحول من مجرد العرض إلى المراجعة والاستيلاء على نظريات الترجمة الغربية. ويشكِّك شانج نام-فونج (٢٠٠٠م) في صحة الدعوة إلى إنشاء «دراسات ترجمة صينية» تعتمد على نظريات الترجمة الصينية التقليدية. ولكن المشكلة تتمثَّل في أن دُعاة هذا الإنشاء لا يجدون غضاضةً في رفض نظريات الترجمة الغربية من دون أن يُتيحوا لها فرصة الاختبار في سياقٍ صيني؛ إذ إن دراسات الترجمة، بمعناها المجرد، تُقدِّم أساسًا لنظريات الترجمة التطبيقية بدلًا من النظريات المجرَّدة. وأما التركيز المميز على نمط من أنماط دراسات الترجمة ذي الحدود الوطنية الواضحة فيُفصح عن تعصُّبٍ وطني غير عقلاني وعن شكلٍ من أشكال الوطنية الثنائية. لا بد أن تستعير الصين نظريات ترجمة من البلدان الأخرى وتُنشِئ إطارًا يُتيح لها اختبار هذه النظريات فيه وتطويعها بحيث تُشارِك في بناء وتطوير دراسات الترجمة في العالم من خلال تجاوُز الحدود الوطنية. وبعض الباحثين الصينيين يعزفون عن قبول أو رفض نظريات الترجمة الغربية، وهو ما يُمكِن أن يُعْزَى إلى التاريخ المديد للثقافة الصينية التي تتباهى بتقاليدها الحافلة في الترجمة. وقد يتطرَّفون باعتزازهم بتلك التقاليد إلى الحد الذي يَحُول دون إنجازهم أيَّ تقدُّمٍ كبير، وهو ما يعني وحسب أن التراث الحافل قد أصبح عبئًا على الذين يريدون تحديث دراسات الترجمة في الصين.
من المعروف أن آراء نايدا في الترجمة كان لها تأثيرها في الكثير من باحثي الترجمة في الصين. فكيف يرونها اليوم؟ يقول ليو سيلونج (٢٠٠١م): إن أكبر تغييرٍ جوهري يتجلى في موقف نايدا تجاه دراسات الترجمة. ووراء هذا التغيير أسبابٌ شتى، من بينها الخطأ في تصوُّر الدَّور الذي تنهض به نظريات الترجمة والتأكيد المُغالَى فيه لمبادئَ معزولةٍ عن الترجمة، والاعتماد الذي لا موجب له على علم اللغة. ويُبيِّن نايدا، بتحوُّله بعد ذلك من اللغويات الوصفية إلى نظرية الاتصال/التوصيل، ثم إلى السيميوطيقا (علم العلامات/السيمياء) الاجتماعية، أنه يُدرِك مناحي قصور المدخل اللغوي إلى دراسات الترجمة. وأما المشكلة الأساسية في زعم نايدا «عدم فائدة نظريات الترجمة» فهي أنه لا يميِّز بين نظرية الترجمة ونظرية الترجمة التطبيقية الرامية إلى إرشاد ممارسي الترجمة.
وبعد أن يقدِّم وانج هونجتاو (٢٠٠٣م) تأملاته في نظريات الترجمة الغربية، خصوصًا في جوانب التغيير في أفكار نايدا عن الترجمة في السنوات القليلة الماضية، يتحدث عن دلالة تطبيق نايدا لعلم اللغة الحديث على دراسات الترجمة، وإقدامه على القول بتحوُّل المرجعيات الدلالية، ومنهجية الاعتبارات البينية (المشتركة بين التخصُّصات). وهو يكشفُ أيضًا عن قصور نظرية نايدا باعتبارها مبنيةً على نظامٍ إلزامي وبنيوي، كما يفحص قصور نظرية نايدا بنيويًّا باعتبارها نظريةً تطبيقية.
ومن خلال هذه الفحوص التفصيلية لنظرية نايدا اشتبك باحثو الترجمة الصينيون في حوارٍ مع نظرية الترجمة الغربية؛ أي إن نظرية الترجمة الغربية قد خضعَت للفحص النقدي، وزادت محاولات تفسير هذه النظرية، كما بدأ الفكر الغربي يغذو البحوث في الترجمة، وهو ما يُعتبَر ذا دلالةٍ أكبر.
ويستخدم «تشانج نام-فونج» (٢٠٠١م) نظرية تعدُّد النُّظم إطارًا لتأمل ماضي دراسات الترجمة الصينية واستشراف مستقبلها. وهو يضع فرضية يسميها نظرية «ميتا تعدُّد النظم» أو «ماكرو تعدُّد النظم» [أي ما وراء نظرية التعدُّد أو تعدُّد النُّظم الشامل]، ويُقدِّم فيها تقسيمًا للنُّظم التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالترجمة، في إطار تعدُّد النظم ثقافيًّا، كما يشرح تأثير هذه النُّظم في تشكيل أعراف الترجمة. ويناقش في إطار تعدُّد النُّظم ممارسة الترجمة، والتقاليد الأكاديمية، والسيكلوجية الوطنية، والأيديولوجيات، والنُّظم الاجتماعية، والوضع الاقتصادي في الصين. كما يُبيِّن كيف يُمكِن للعوامل الاجتماعية الاقتصادية، مثل العلاقة بين الثقافة الصينية والثقافات الغربية، أن تؤثِّر في تطور دراسات الترجمة في الصين، قائلًا إن هذه العوامل الاجتماعية الثقافية — داخل الثقافة المستهدَفة أو خارجها — قادرةٌ على إحداث تأثيرٍ بالغ في الترجمة، من اختيار النصوص المصدر، إلى اتخاذ استراتيجيات الترجمة، إلى موقع النص المستهدَف ووظيفته في النظام الثقافي المستهدَف. وهكذا فإن تعدُّد النظم، كما ذكَر كثيرٌ من الباحثين، قد أدى إلى توسيع نطاق البحث، كما أنه يقدِّم مداخلَ جديدةً إلى دراسات الترجمة، الأمر الذي يؤدي إلى فهمٍ أفضلَ لظواهر الترجمة.
ويُحاوِل تشانج (٢٠٠١م) أيضًا أن يستكمل وينقِّح نظرية تعدُّد النُّظم، فيطرح «نسخته الدقيقة لتعدُّد النظم المعدَّة بوجهٍ خاص لدراسات الترجمة»، وطبقًا لفرضياته، تعتَمد معايير اتخاذ القرارات في الترجمة على ستة مصادرَ رئيسية، أو ستة نُظمٍ متعددة هي السياسة، والأيديولوجيا، والاقتصاد، واللغة، والأدب، والترجمة. وقد تتعاون هذه المعايير فيما بينها أو تتنافس بعضها مع البعض، وبذلك تجذب المترجم في اتجاهاتٍ مختلفة، ثم تصل أخيرًا إلى مرحلة التوازن مع استجابة المترجم، بحيث تخلُق معيارًا مركَّبًا يحكم أي نشاط في الترجمة. وهو يعود (٢٠٠٣م) ليؤكِّد أن نقص التبادُل الثقافي بين نظريات الترجمة الصينية والغربية يمكن أن يُعْزَى إلى الخصوصية الثقافية لنظريات الترجمة، لا إلى الخصوصية اللغوية. وتُعتبَر هذه بصفةٍ عامةٍ جهودًا مثمرةً تستهدف تقديم منظورٍ جديد، وإن كانت بعضُ الحُجج تفتقر إلى القوة والقدرة على الإقناع بالمعنى المفهوم.
وتُعتبَر مناقشة «لياو قييي» (٢٠٠٠م) للعلاقة بين «الكوربوس» أي النص الممثل للُّغة [والمختزن في الكمبيوتر] ودراسات الترجمة مناقشةً مثيرةً وحافزة على التفكير؛ إذ إنه يشرح الأهمية المؤكَّدة للأنواع الثلاثة من ذلك الكوربوس لتدريس الترجمة، ولاستكشاف الأعراف الترجمية، وفحص المبادئ العالمية للترجمة التي وضعَها مُنظِّرو الترجمة. وقد بدأ بعض مُنظِّري الترجمة يستخدمون مثل هذا الكوربوس منذ التسعينيات فيما يتعلق بدراسات الترجمة ابتغاء إلقاء الضوء على طبيعة الترجمة وخصائصها. وتبيِّن دراستهم أن الكوربوس المترجَم [والمختزَن في الكمبيوتر] يُمكِنه إلقاء الضوء على ما يتَّسم به المترجم من الأنساق اللغوية، والأبنية الخاصة للعبارات، وأشكال التماسُك النصي، والبناء المُعتمِد على الثيمة وتنويعاتها، وعلامات الترقين [أي الفصل والوصل]. وهو يُسهِّل دراسة القواعد العالمية في الترجمة، وتحليل علم الأسلوب العالمي في النص المُستهدَف، والتنبؤ بالاتجاه الذي سوف تسير فيه الترجمة أو ميولها العامة؛ ومن ثَم فإن دراسة الكوربوس المترجم تقدِّم أدواتٍ جديدةً لدراسات الترجمة، وتؤدي إلى توسيع نطاق البحث وتهيِّئ منظوراتٍ جديدةً للدراسة النظرية.
ويُحدِّد جاو نينج (٢٠٠١م) عقبةً كبيرة في نظريات مدرسة تل أبيب؛ إذ إن أعمال هذه المدرسة متعلقة بصفةٍ رئيسيةٍ بدراسة الثقافة العبرية، وهو ما يَحُول دون أن تحظى بالاعتراف الواجب في البحوث الدولية؛ أي إن المكانة الهامشية للبحوث الإسرائيلية في الساحة الأكاديمية الدولية تعوق نشر نظريات هذه المدرسة. وإزاء التفاوت المهم بين النظريات القائمة على تعدُّد النُّظم وبعض نظريات الترجمة الغربية المهمة، مثل التفكيكية في فرنسا، ينبغي على مدرسة تل أبيب أن تبذُل جهدًا جادًّا في صَوغ تفكيرها حتى ترفَع من مستوى تفاعُلها مع نظريات الترجمة الغربية الأخرى، مع الحفاظ في الوقتِ نفسِه على سلامة نظريتها الخاصة. ويُناقِش «جاو» أيضًا القضايا الأساسية لأعراف الترجمة، التي بينها جيديون توري، ويشرح سببَ إحجام توري عن وضع معايير للترجمة، بل يُثبِت وحسب الأعراف التي يتبعُها المترجم من خلال دراسته للنصوص المُستهدَفة.
وتقدِّم «مياو جو» (٢٠٠١م) ما يُعتبَر تطويرًا تفصيليًّا للجوانب الثلاثة لنظرية الترجمة عند توري. قائلةً إن أعراف الترجمة تشغَل موقعًا أساسيًّا في إسهام توري في دراسات الترجمة، وهي (١) التخلي عن أفكار التوافُق الفردي [بين النصَّين] وكذلك إمكان التعادُل الأدبي/اللغوي (إلا إن حدث بالمصادفة)؛ و(٢) مشاركة الاتجاه الأدبي داخلَ النظام الثقافي المستهدَف في إبداع أي نصٍّ مترجَم؛ و(٣) زعزعة الفكرة القائلة بوجود رسالة أصلية ذات هوية ثابتة؛ و(٤) التكامل بين النص الأصلي والنص المترجَم في الشبكة السيميوطيقية للنظامَيْن الثقافيَّين المتقاطعَين (جنتزلر ١٩٩٣: ١٣٣-١٣٤).
ويتضح مما سلَف أنه على الرغم من النقص النسبي للاشتباك النقدي، والاقتصار على المناقشة العابرة لبعض القضايا الجوهرية، فإن الباحثين الصينيين قد جمَعوا الكثير من الجوانب الرئيسية لنظريات الترجمة الغربية في بوتقةٍ واحدة، وأضافوا بعضَ النظراتِ الثاقبة والملاحظاتِ النقدية، إلى جانب تقديم تحليلٍ صريحٍ في بعض الحالات، والعرض المُسهب الذي يُلبي حاجتَنا الماسَّة إليه. ونقول عمومًا إن باحثي الترجمة الصينيين قد نجحوا في سد الثغرات المهمة بين تقاليد الترجمة وممارستها في الصين وفي الغرب.
(٤) مناقشة القضايا الحاسمة في دراسات الترجمة
وبالتوازي مع تقديم نظريات الترجمة الغربية إلى الصين، يُبدي باحثو الترجمة الصينيون انجذابهم إلى بعض الشواغل الدائمة في دراسات الترجمة؛ إذ أصبح مفهوم فينوتي عن التدجين [استخدام لغة النص المستهدَف وثقافته في الترجمة] والتغريب [استخدام طرائق البناء والثقافة للنص المصدَر] من الموضوعات «الساخنة» في دراسات الترجمة بالصين، على نحو ما نرى عند وانج دونجفينج الذي يُحاوِل أن يجد لهما تعريفَين مقبولَين وشاملَين حتى يتمكَّن من الشروع في المزيد من التطوير لهذَين المفهومَين؛ فهو يرى أننا يُمكِن أن ننظر إلى الصراع بين التدجين والتغريب، باعتبارهما استراتيجيتَين متناقضتَين، في صورة امتدادٍ شعري وثقافي وسياسي، لا مجرد امتدادٍ لغوي، للخلاف المستمر حول الترجمة الحرة والترجمة الحرفية. ويبدو أن دُعاة التغريب حاليًّا أصحابُ الصوت الأعلى، وأما الذين يؤيِّدون التدجين فلم يبدءوا الهجوم المضاد. ولكن مثل هذا التقسيم الثنائي المتصلِّب ربما كان في حاجة إلى إعادة النظر من الزاوية الوصفية ما دام من النادر تقسيمَ الترجمة هذا التقسيمَ الكامل والحاسم.
وقد أصبحَت دراسة الترجمة من منظور ما بعد الاستعمار من أهم القضايا الرئيسية في دراسات الترجمة في السنوات الأخيرة؛ إذ يبحث وانج دونجفنج (٢٠٠٣أ) تعريفات وأصول نشأة بعض المفاهيم الأساسية المُستخدَمة في مثل ذلك المدخل إلى الترجمة، مثل دراسات ما بعد الاستعمار ومذهب ما بعد الاستعمار؛ ومثل التحرُّر من الاستعمار واستراتيجيات الترجمة، ومثل الاستشراق، والمركزية الأوروبية، والقومية، والتهجين. كما يقدِّم وصفًا تحليليًّا للعلاقة النظرية بين هذا المدخل وبعض المناهج البحثية.
وعلى مشارف القرن الجديد، ازداد باطراد عددُ المنظِّرين الأدبيين والثقافيين المنتمين للتيار الرئيسي في الغرب وفي الصين الذين شغَلوا أنفسَهم بدراسات الترجمة من منظورٍ ثقافي بسبب الاتساع المتزايد لمجال دراسات الترجمة والتحوُّل إلى الثقافة في دراسة الترجمة؛ فإلى جانب مشاركة وانج نينج بحماس في المناقشة النظرية الدولية والدراسات الثقافية، فإنه شارك على امتداد العقد الماضي مشاركةً فعَّالة في دراسات الترجمة. وقد اتخذ وانج نينج مدخلَ ما بعد الاستعمار في دراسات الترجمة، قائلًا (١٩٩٩م) إن العولمة تؤثِّر في تطوُّر العلوم الإنسانية وإن الحوار بين الصين والغرب يشكِّل المسار العام لهذا التطوُّر. وتقول حُجته إن دراسات الترجمة قادرةٌ على إزالة الحدود بين المركز والأطراف، ويقترح أيضًا (٢٠٠٠أ) إدراج دراسات الترجمة في الدراسات الثقافية بسبِّب سياقها الكبير، وهو ما يُمكِن أن يساعد على تغيير موقع الترجمة باعتبارها مبحثًا هامشيًّا يقع على حدود العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلم الطبيعي، فدراسات الترجمة تمُر بتغيُّراتٍ كبيرة من الترجمة الحرفية على المستوى اللغوي إلى التفسير والتمثيل ثقافيًّا، ثم يشير إلى أن (٢٠٠٢ب) الحياة الجامعية في الغرب، خصوصًا في العقد الأخير، قد شهدَت زيادة عدد المنظِّرين المُهيمِنين مثل جاك دريدا، وهيليس ميلر، وفولفجانج إيزر، وجاياتري سبيفاك، الذين يُركِّزون اهتمامهم على بعض القضايا في دراسات الترجمة من المنظور الثقافي، ويعتبرونها استراتيجيةً للتفسير والبناء من الزاوية الثقافية، ومع ذلك فإن دراسات الترجمة في الصين لا تزال مقصورةً على بعض الباحثين في مجال نظريات الترجمة، ومعظمهم قد تخصَّص أصلًا في اللغات والآداب الأجنبية. ولقد عانى تعليم اللغات الأجنبية في الصين زمنًا طويلًا من إهمال التدريب الأكاديمي بما في ذلك المنهجية البحثية؛ الأمر الذي أدى إلى تضييق المنظورات البحثية، وهو ما يفسِّر ندرة البحوث المُعمَّقة. وهكذا فإن على الباحثين الصينيين أن يكونوا على وعيٍ بالواقع المتغيِّر، وأن يُحاوِلوا العثور على مَخرجٍ منه. ويُدرِك الجميع ضرورة تدعيم التعليم النظري لطلاب الدراسات العليا في دراسات الترجمة ابتغاءَ تغييرِ الحال الراهنة؛ فلقد أسهمَت الآداب الأجنبية المترجمة إلى اللغة الصينية إسهامًا كبيرًا في تشكيل الحداثة في الثقافة والأدب في الصين. ويرى وانج ينبنج (٢٠٠٢ب) أن الحداثة والعالمية للثقافة والأدب الصينيَّين تدينان بدَيْنٍ كبيرٍ إلى الآداب المترجمة، والواضح أن دورها لا غنى عنه، بل إن الآداب المُترجَمة يمكن اعتبارُها إلى حدٍّ ما جانبًا لا ينفصل من جوانب الأدب الصيني الحديث؛ فالواقع أن ترجمة الأدب الأجنبي إلى اللغة الصينية هي التي عزَّزَت إعادة كتابة التاريخ الجديد للأدب الصيني والثقافة الصينية.
ولا تقتصر هذه التوكيدات على كونها ذاتَ دلالةٍ ثقافية، بل إنها تتسم كذلك بحساسيةٍ سياسيةٍ وأيديولوجية. ومع ذلك فإن ضروب التأثير الإيجابي في تطوُّر الصين الحديثة من الحقائق التاريخية، وعلى الرغم من أن بعض دُعاة الأيديولوجيات الوطنية المتعصِّبة لا تروق لها هذه الحقائق، فلا بد من مواصلة التواصُل عَبْر الثقافي. ومع ذلك فيجب ألا نقلِّل من قيمة الدَّور المهم المنوط بالآداب المترجمة. ويُناقِش جاو يو (٢٠٠١م) التأثير العميق للآداب المُترجَمة في تشكيل الأدب الصيني الحديث، وأفضل أسلوبٍ لفهم مثل ذلك التأثير يتمثَّل في النظر إلى تصوُّر الأدب، وأساسًا نفعية الأدب والمبادئ الجمالية. وتتبدَّى صورةٌ كبرى من صور التأثير التي شهدَتها الأنواع الأدبية بفضل الترجمة؛ فالأنواع الأدبية الأربعة الكبرى في الأدب الصيني، وهي الرواية، والشعر الجديد، والدراما، والمقال، قد استلهمَت الأدب الغربي إلى حدٍّ بعيد. ومع ذلك فإن أكبر تأثير هو ما شهدَته اللغة الصينية، وهو التأثير الذي امتد إلى طبيعة الأدب الحديث نفسها؛ فالكثير من الكُتَّاب الصينيين المحدَثين مترجمون، ولكن الباحثين لم يُولُوا أداءهم في الترجمة ما يجدُر به من الفحص.
اللغة من عوامل الأيديولوجيا ومادةٌ أولية لممارسات الخطاب، ويُطبِّق ليو جونبنج وليانج جيفانج (٢٠٠٣م) نظرية السلطة والمعرفة والخطاب التي وضعها فوكوه في مناقشتهما لأهمية خطاب السلطة بين النصَّين المصدر والمستهدَف بالنسبة لاختيار المُترجِم استراتيجياتِ الترجمة. وهما يرصُدان تطوُّر نظريات الترجمة في القرن الماضي في محاولةٍ لإثبات أن تطوُّر نظريات الترجمة يتفق اتفاقًا شديدًا مع الفكر الثقافي إبَّان الفترة نفسها.
وإلى جانب تأثير الدراسات التفكيكية، إيجابيًّا وسلبيًّا، في دراسات الترجمة في الصين، فقد حظي يورجين هابرماس أيضًا ببعض الاهتمام النقدي؛ إذ يقترح لو جون (٢٠٠١أ) بضرورة اعتناق مذهب التداولية العام الذي وضَعه هابرماس باعتباره الأساسَ الفلسفي لدراسات الترجمة؛ فهو يحلِّل المبادئ الرئيسية لذلك المذهب مشيرًا إلى دلالته التي تُرشِدنا إلى إنشاء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا مستقلًّا، ويقدِّم استقصاءً استكشافيًّا لدراسات الترجمة في الصين، مصنفًا إياها في ثلاثِ مراحلَ مختلفة؛ مرحلة فقه اللغة، ومرحلة البنيوية ومرحلة التفكيكية. ويعتقد أن دراسات الترجمة في الصين تمُر حاليًّا بمرحلة التفكيك، ولكن التفكيك لا يمثِّل الهدف، ولا يؤدِّي إلى إنشاء دراسات الترجمة؛ إذ إن إنشاء دراسات الترجمة بصفتها مبحثًا مستقلًّا يتطلَّب اختيار مذهب التداولية العام أساسًا فلسفيًّا لها، ولكن هذا الزعم لم يلقَ إلا استجابةً لا تكاد تُذكَر حتى اليوم.
كما يُقدِّم لو جون (٢٠٠٢ب) بحثًا نقديًّا للأُسس الفلسفية للنظرات السائدة إلى الترجمة من زاوية فقه اللغة ومذهب البنيوية ومذهب التفكيكية، قائلًا إن إعادة بناء دراسات الترجمة يجب أن يعتمد على نظرية التداولية العامة التي وضَعها هابرماس، ثم يعرض المبادئ العامة لهذه النظرية شارحًا إياها، ومحلِّلًا اختلافاتها عن الفلسفة المعرفية والفلسفة الهرمانيوطيقية [التفسيرية/التأويلية]. ويشير «لو» أيضًا إلى أن التداولية العامة يمكن أن يكون لها تأثيرٌ إيجابي في نظرية الترجمة وممارستها، قائلًا إن المدخل التفكيكي ليست له أهميةٌ بنائية لدراسات الترجمة، ومع ذلك فهو يمثِّل الطريق المحتوم إلى إنشاء دراسات الترجمة، فمن المُحال الشروع في البناء إلا من خلال عملية التفكيك.
وقد اجتذبَت مسألةُ الذاتية في دراسات الترجمة اهتمامًا متزايدًا في الآونة الأخيرة؛ فالتحوُّل إلى الثقافة في دراسات الترجمة في السبعينيات في الغرب أضاف أبعادًا ومداخلَ نظريةً جديدة إلى دراسات الترجمة؛ إذ أصبحَت الهُوية الثقافية والدَّور المنوط بالمُترجِم تحظيان بالصدارة في عملية الترجمة، وهكذا غدت ذاتية المترجم وميوله الثقافية والجمالية من موضوعات البحث المهمة والضرورية عند باحثي الترجمة. ويُمكِن القول إن التحوُّل إلى الثقافة في دراسات الترجمة عاملٌ من عوامل «اكتشاف» المترجم، وهو ما جعل دراسةَ ذاتيةِ المترجم من الموضوعات «الساخنة». وبعد أن أجرت «مو لي» مع «شي يي» (٢٠٠٣م) استقصاءً لدراسات الترجمة في العقدَين الأخيرَين في الصين، ناقشا ذاتية المترجِم. وابتغاء إثراء البحث في الذاتية، جعلا يستكشفان الدلالات العميقة الكامنة في الذاتية، في علاقتها بالترجمة، من الجوانب التالية؛ عملية الترجمة، زيادة وعي المترجِم بالثقافة المستهدَفة، وحساسية القارئ لها أو عدم حساسيته، والتناص بين النص المصدَر والنص المستهدَف، وأدب اللغة المستهدَفة، والتفاعل بين ذاتية المترجِم، وذاتية المؤلِّف، وذاتية القارئ (للنصَّين المصدَر والمستهدَف).
ويقدِّم سو ييفنج (٢٠٠٣أ) تحليلًا للعلاقات المتداخلة المعقَّدة بين الأعراف والذاتية في الترجمة، على ضوء «الاختفاء» المزعوم للمُترجِم؛ فالأعراف الكامنة في المؤسسة الاجتماعية والثقافية تتولى تنظيم ممارسة الترجمة باعتبارها عاملًا مساعدًا ما دام معظم المترجمين يرَون أن شغلهم الشاغل هو إمكان فهم نصوصهم. ونظرًا لذلك فإن ذاتية المترجِم تتجلى أولًا (١) فيما يُسمَّى الاستيلاء [أي تَبنِّي أفكار اللغة المصدَر] باستخدام ضروبٍ بالغة التنوُّع من الوسائل والحِيَل لتيسير دخول الترجمة نظام اللغة المستهدَفة، وثانيًا (٢) فيما يُسمى التدخُّل الفعَّال، وهو الذي يتخذ صورة التلاعب أو التحكُّم في النص المُترجَم من خلال ذاتية المترجِم، وهي التي دائمًا ما تكون مدفوعةً بأيديولوجيةٍ معيَّنة أو مبادئَ جماليةٍ خاصة. وتُساعِد الترجمة الناجمة على إظهار الهوية الأساسية للمُترجِم وإثبات ذاتية الترجمة. والتفاعل المُركَّبُ بين أعراف الترجمة والذاتية يُحدِث تأثيرًا مباشرًا وعميقًا في نشاط الترجمة.
وقد ناقَش عددٌ أكبر من الباحثين دَور المترجِم في الترجمة الأدبية، وهو عنصرٌ أساسي من عناصرها وإن يكن كثيرًا ما يلقى التجاهل، والواقع أن تأكيد الدَّور الذاتي للمُترجِم ذو أهميةٍ قصوى؛ إذ إنه يُتيح التعليق على جهد المترجِم بمزيد من الموضوعية، وتدعيم إحساس المترجم بالمسئولية. وعلى نحو ما تبيَّن، نجد أن دلالة دراسة مدى مشاركة العوامل الذاتية في عملية الترجمة لا تقتصر على تفاوت المنظورات البحثية. والواقع أن مسألة وضع أُسسٍ لنقد الترجمة واستكشاف المداخل الفعَّالة لنقد الترجمة مسالةٌ مُلِحة إلحاحًا شديدًا. ويستخدم «خو جون» (٢٠٠٢م) في دراسة لحالة نمطية ثلاث ترجماتٍ مختلفة للجملة الأولى من رواية جون كريستوفر لتركيز مناقشته لدَور المؤلف ودَور المترجم ودَور القارئ في ترجمة النص واستقباله. وهو يُقارِن الترجمات الثلاث بعضها ببعض للنظر في بعض العوامل مثل السياق النصي، والسياق الثقافي، ومقصد المؤلف، والمقصد النصي المشترك وعمل المترجم. وهو يؤكِّد أن على المترجم أن يأخذ في اعتباره في عملية الترجمة الفعلية العلاقات الجدلية بين المعنى المحلي والمعنى العالمي لأي نصٍّ من النصوص على المستويات اللغوية والجمالية والثقافية. كما يقدِّم نقطةً مرجعيةً يستعين بها في مناقشة أساليب النقد والتقييم للنصوص المُترجَمة. أضف إلى ذلك أن «خو جون» يُحاوِل، في أثناء فحصِ إمكانِ تحقيقِ ما يُسمَّى «الخيانة الخلاقة»، أن يعرض قضية العوامل الذاتية في الترجمة وإقامة إطارٍ نظري لتأكيد صحتها.
ويكشف سون جيلي (١٩٩٩م) في دراسة عنوانها «نقد الترجمة في الحقبة الجديدة» الاتجاهاتِ السلبيةَ في نقد الترجمة في الصين ويقدِّم بعض المقترحات الخاصة لمعالجة المشكلات، من خلال حَث الناس على فَضْح الترجمات السيئة ومواجهة مناهج الترجمة التي لا تقوم على الإحساس بالمسئولية، قائلًا: على الرغم من ضرورة إبداء التقدير للترجمات الجيدة لما بها من أجزاءٍ حسنة، فإنها أيضًا تحتاج إلى المقترحات البَنَّاءة والنقد البَنَّاء. كما يؤكِّد أن نقدَ الترجمة شرطٌ أساسي لتعزيز دراسات الترجمة في الصين. ويقدِّم وانج إنميان (١٩٩٩م) أيضًا بعضَ التأمُّلات في نقد الترجمة في الصين قديمًا، مُشيرًا إلى أن أفضل ما يُوصَف به نقدُ الترجمة في العقد الأخير هو أنه كان قلقًا ومتخلفًّا، ويقول: إنه من الواضح أننا في حاجة إلى فريقٍ من الباحثين الذين يتخصَّصون في نقد الترجمة، ولما كنا نفتقر إلى مبادئ نقد الترجمة ومعاييره ومنهجيته، فإن الموقف السائد تجاه نقد الترجمة يمثِّل أيضًا مشكلةً إلى حدٍّ ما. مُضيفًا أنه يعتقد أن المهمة الرئيسية تتمثَّل في وضعِ معاييرَ معيَّنة للترجمة.
من الواضح أن الترجمة الأدبية تنهض بدَورٍ بالغ الأهمية في التبادل الثقافي بين الصين وسائر بلدان العالم. كيف يختار المترجم ما يُترجمُه من بين مختلف الأعمال الأدبية؟ وما العوامل المهمة في الترجمة وفي البحث في الترجمة؟ ما الخصائص المحددة لعمليات اختيار الأعمال الأدبية الأجنبية وترجمتها؟ ويُحاوِل «خو جون» (٢٠٠١ب)، استنادًا إلى مادةٍ علميةٍ حافلة، أن يُجيب عن هذه الأسئلة أساسًا من خلال تحليله للخصائص البارزة للترجمات الصينية للأدب الفرنسي في القرن العشرين. ويرى أن البحث قادر على تعزيز الترجمة في الجوانب التالية: (١) يستطيع البحث أن يساعد على الإصابة في اختيار المؤلفين الجديرين بالترجمة؛ و(٢) يستطيع البحث توسيع آفاق المترجِم وتحسين فهمه للنص المصدَر؛ و(٣) يستطيع البحث أن يؤدي إلى زيادةِ جودة الترجمة زيادةً كبيرة؛ و(٤) يؤدي البحث إلى تقبُّل النصوص المترجَمة بتدريب القارئ المستهدَف المتوسِّط على قراءة النصوص الأدبية الأجنبية؛ و(٥) يستطيع البحث تحديد الوظيفة الكاملة للترجمة، التي تقوم بدَورٍ مهم في إثراء الثقافة المستهدَفة وتعزيزها. ويقدِّم خياو هونج وخو لون (٢٠٠٢م) أسلوبًا منهجيًّا لفحص رأي «فو لي» في الترجمة، بتأكيد الجوانب الثلاثة التالية: الدافع إلى الترجمة، واهتمام القُراء، والسعي لتحقيق الظواهر الجمالية. وهذا من شأنه أن يجعل المترجم يشغل مركز الاهتمام بدلًا من المقارنة النصية التقليدية؛ إذ إن نظريات الترجمة التقليدية تُركِّز على أولوية النص المصدَر، وبذلك تستبعد المترجم من أي مشاركةٍ ذاتية، فإذا كان الغَرض وضع نصٍّ مستهدَف تُفترض فيه الأمانة الكاملة للنص المصدَر، فإن المشاركة الذاتية للمترجِم في عملية الترجمة تتعرَّض دائمًا للتجاهل.
(٥) التطور السريع في تعليم الترجمة والبحث وتعليم الترجمة الفورية
تزداد أهمية التدريب على الترجمة وتعليم الترجمة باطراد بسبب ازدياد الطلب على المترجمين في الألفية الجديدة، وهو ما يؤدي إلى المزيد من البحوث في تعليم الترجمة. ويقول تشين هونجوي (١٩٩٩م): إن المقرَّرات الدراسية في الترجمة يجب أن تصبح جسرًا يربط مبحث الترجمة بالمباحث الأخرى، وعلى معلِّمي الترجمة أن يصبحوا أكثر إبداعًا، وأن ينظروا نظرةً جادةً إلى تعليم الترجمة تعليمًا رفيعَ المستوى حتى يمثِّلوا طبيعتها المتعدِّدة التخصُّصات. وعلى غرار ذلك تفحَّص «مو لي» (١٩٩٩ب) تأثير عصر المعلومات الحالي في تعليم الترجمة من الجوانب التالية: تحدي الأفكار التقليدية؛ تنويع أهداف الترجمة؛ جوانب التغيير في طرائق الترجمة؛ «نظام الترجمة الذاتية بمساعدة الحاسوب» وتعليم الترجمة؛ وإجراء البحوث في الكتب الدراسية الإلكترونية وتطويرها.
وتمُر دراسة تعليم الترجمة بتغيراتٍ كبرى؛ إذ يشير «فينج ييهان» (٢٠٠١م) إلى أن النظر في تأثير التعليم الحاسوبي في قاعة الدرس قد أثار مناقشاتٍ واسعةً حول مستقبل تعليم الترجمة في قاعة الدرس، فأصبح على معلِّمي الترجمة أن ينظروا في وسائل إدراج تكنولوجيا الحاسوب في طرائق تعليمهم. ومن المزايا المهمة لقاعدة الدرس الحاسوبية، التي توفِّر شبكةً حاسوبية لتعليم الترجمة وتعلُّمها، أن الأدوار التقليدية للمعلمين والطلاب قد اختلفَت، وأن الفوارق الاجتماعية بين الطرفَين يقل وضوحها باطراد؛ فتعليم الترجمة حافل بالحيوية للطلاب الذين يرَون فيه وسيلةً حيويةً مهمة للتواصل، لا مجرد أداء يقيِّمه المعلمون. وهكذا تُصبِح قاعة الدرس مجتمعًا لإجراء التحاور عَبْر الثقافي.
وبعد مو لي، جاءت ليو هبينج (١٩٩٩م) لتضع تمييزًا حاسمًا بين التعليم بالترجمة، ومجرد تعليم الترجمة، قائلة إن ممارسة التعليم لن تنجح إلا إذا توافَر فهم ظلال المعاني النظرية، وهكذا فإن تعليم الترجمة يجب أن يركِّز على تعليم أسلوب في التفكير، وإن على المعلمين أن يُولُوا اهتمامًا بالغًا للقضايا التربوية. ومن خلال تحليلها لترجمة لإحدى رسائل شيراك تُبيِّن الباحثة (٢٠٠٠م) الفرق بين الترجمة اللغوية والترجمة المهنية، شارحةً أن الترجمات المختلفة لا تقتصر على اختلاف وظائفها وتأثيرها بل تتجلى فيها أساليب تفكير مختلفة، ومن ثَم فإن تعليم اللغة يختلف عن تعليم الترجمة، وينبغي ألا يحلَّ الأول محلَّ الأخير.
وعلى غِرار ذلك نرى أن دراسات الترجمة الفورية ترتبط إلى حدٍّ كبيرٍ بتعليم الترجمة الفورية، وتقييمها واختبارها، وبالعملية المعرفية السيكلوجية. ويتزايد عدد الكتب الدراسية المطبوعة في السنوات الأخيرة عن الترجمة الفورية، ويُبدي بعضُ المعلمين حَيرتَهم عند اختيار الكتاب المناسب؛ ولذلك تقترح «ليو» (٢٠٠١أ) ضرورة إعداد كتابٍ موجَزٍ شامل للترجمة الفورية، باعتباره يمثِّل حلًّا لمشكلة الاختيار المذكورة، شارحةً السببَ المنطقي الذي يُبرِّر وجوده من حيث طبيعة الترجمة الفورية، والهدف منها، وكذلك عمليات التفسير، وأسلوب التفكير بلغتَين في الوقت نفسه، إلى جانب الهدف من التدريب على الترجمة الفورية ومناهجه ومهاراته. كما تُركِّز على ضرورة نَشر الكتاب المشار إليه في ضوء علاقته بالسوق والكتب الدراسية.
وتستعرض الباحثة «ليو» كذلك الفرق بين الترجمة الفورية للمضمون العلمي والترجمة الفورية في المؤتمرات، وتضع معايير للتقييم في بعض الجوانب مثل خصائص الترجمة الفورية للمضمون العلمي، وتخطيط كلام المتحدث، وتوقُّعات جمهور السامعين المستهدَف، وإجراءات الترجمة الفورية وتقييم جودتها. وتستعرض «ليو» كذلك الوضع الراهن لنظريات الترجمة الفورية والبحوث الجارية في الصين لتعليمها، استنادًا إلى الأبحاث التي قُدمَت إلى المنتدى الوطني الثالث لنظريات الترجمة الفورية وتعليمها. وتقول إن لديها آمالًا عريضة في تحقيق تطوُّر في دراسات الترجمة الفورية في الصين في المستقبل، كما تقدِّم وصفًا تفصيليًّا لنشأة مدرسة الترجمة الفورية وخصائصها النظرية والمُسمَّاة «التفسير من أجل الترجمة».
ولا شك أن دراسات الترجمة الفورية في الصين تحظى باهتمام يزداد تدريجيًّا، كما يزداد تحسينُ مناهجها البحثية. وتُركِّز كاي خياوهونج (٢٠٠١م) على عملية الترجمة التتبُّعية وتطوير القدرة على الترجمة الفورية. وهي تبدأ بتقديم ملخصٍ وافٍ للدراسة الشاملة التي أجرتها على شتَّى نماذج الترجمة الفورية والتتبُّعية التي ظهَرَت في المباحث المتصلة بهذا المجال على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة. كما تُقدِّم بالإضافة إلى هذا وصفًا للنظام النظري الذي وضعَتْه ويتضمَّن عددًا من النماذج التي تتضمَّن نماذجَ عملية الترجمة التتبُّعية، وتوزيع انتباه المُترجِم الفوري، وتطوير القدرة على الترجمة الفورية. والغرض من ذلك وصف عملية الترجمة التتبُّعية وشرحها وتحليلها وتطوير القدرة على الترجمة الفورية. وأما المقصود بالنماذج النظرية فتطبيقها عمليًّا ابتغاءَ استكشافِ أية إمكانياتٍ جديدة يُمكِن الانتفاعُ بها في دراسة الترجمة الفورية من منظورٍ بَيني [مشترك بين عدة مباحث]. ويقدِّم جونج وايهي (٢٠٠١م) نموذجَين لتدريب المترجمين الفوريين؛ نموذج دانييل جايل ونموذج جامعة خيامين. وينتهي من مقارنة النموذجَين إلى أن تدريب المترجمين الفوريين يجب أن يركِّز على المهارات والتقنيات لا على الموضوعات. وبعد ذلك يقدِّم أهمَّ مهارات الترجمة التتبُّعية والفورية التي ينبغي للمتدرِّبين اكتسابها، ويتلو ذلك بمناقشة لمنهجية لتعليم الترجمة الفورية، ووَضْع المقرِّرات الدراسية اللازمة لتدريب المترجمين الفوريين في الجامعات.
ويُحاوِل وانج ليدي (٢٠٠١م) تطبيقَ بعض الأفكار الأساسية والمناهج المميزة لنظرية التخطيط، التي ترجع أصولها إلى علم النفس المعرفي، على عمليتَي الترجمة الفورية والتحريرية بهدف إلقاء الضوء على الدَّور الذي ينهض به تخطيطُ المعرفة في تسهيل فهم اللغة المصدَر، وعمل الذاكرة، واسترجاع المعلومات، وإعادة تشفير الرسالة باللغة المستهدَفة. ويشير تشين جينج (٢٠٠٢م) إلى أننا في خَلْقنا لأية حالةٍ توصيلية، مثل السياق، نعتبر الصدقَ القاعدةَ التي يجب اتباعُها في إجراء اختباراتٍ من خلال الترجمة الفورية لقدرات الشخص من حيث المعرفة والمهارة والصحة الجسدية والنفسية معًا.
- (١)
كيف نستطيع أن نتجنَّب التكرار في الأبحاث؟ فمن المعروف أن العلوم الإنسانية تتسم بإعادة النظر في المسائل القديمة، ومع ذلك فالواجب أن نتجنَّب كثرةَ التكرارِ للعمل على المستوى المنخفض؛ إذ نجد أن عددًا كبيرًا من المقالات البحثية متشابهة إلى حدٍّ عجيب من حيث طريقة الكتابة والمضمون، وبعضها يواصل الحديث عن قضايا أو مسائلَ وجد الباحثون لها حلولًا قاطعةً منذ زمنٍ بعيد؛ ولهذا السبب نحُثُّ الباحثين على استقصاء الدراسات السابقة استقصاءً مديدًا، على المستويَين الوطني والدولي.
- (٢)
كيف نستطيع تعزيز بناء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا أكاديميًّا مستقلًّا؟ لقد انقضت سنواتٌ عديدة منذ إنشاء هذا المبحث في الصين، ولكن دون التوصُّل إلى نتائج مُرْضية؛ فالباحثون في هذا المجال يُقيمون الحجة مرارًا وتكرارًا على أن المبحث مشروع، ولكن العجز الواضح عن التقدُّم مُخيِّب للآمال. وأما سببُ هذا العجز فوجود حالاتٍ معيَّنة من سوء الفهم لدراسات الترجمة.
- (٣)
نجحَت دراسات الترجمة في الصين في الخروج من مأزق الركود؛ فنشرُ الأعمال النظرية في العامَين أو الأعوام الثلاثة الماضية يقطع بالارتفاع الكبير في مستوى الوعي النظري عند باحثي الترجمة. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني بالضرورة أننا قد أصبحنا نشغَل موقعًا قياديًّا في دراسات الترجمة. ما زلنا أبعدَ ما نكون عن ذلك! لا بد أن ننظر نظرةً متعقِّلة إلى الفجوات الكبيرة بين نظريات الترجمة الصينية ونظائرها الغربية، وعلينا، من ناحية، أن نقدِّم منجزاتنا إلى المجتمع الأكاديمي الدولي، ومن ناحيةٍ أخرى، أن نتعلم ونستفيد فائدةً كاملةً بالجوانب المتصلة بعملنا في نظريات الترجمة الغربية؛ فتفهُّم هذه النظريات هو السبيل الوحيد لإجراء حوارٍ أكاديميٍّ صادق مع نظرائنا الغربيين، وكذلك مع بحوث الترجمة الدولية.
- (٤)
لقد بدأ القرن الجديد وبدأَت الألفية الجديدة معه. كيف ستتطوَّر دراسات الترجمة الصينية في عصر العولمة؟ لقد أحرزَت الترجمة الآلية تقدمًا كبيرًا، ولكنها لن تحل أبدًا محل المخ البشري؛ فإن البشر هم الذين يقومون بممارسة الترجمة وبناء نظريات الترجمة. ولنا أن نتصوَّر أن عصر المعلومات سوف يحتاج إلى أعدادٍ متزايدةٍ من المترجمين التحريريين والمترجمين الفوريين؛ ومن ثَم فإن دراسات الترجمة في عصر العولمة الحالي سوف تفتح آفاقًا مثيرة لتعليم الترجمة والتدريب عليها.
(٦) بعض المشكلات والعقبات المُلِحة
وهكذا، فربما استطعنا أن نقول بعد أن قدَّمنا تلخيصًا لحالة دراسات الترجمة في الصين، إن دراسات الترجمة، على الرغم من تاريخها الطويل، لم تُحرِز تقدمًا يُذكر من الزاوية المنهجية منذ القرنِ التاسعَ عشر؛ فلقد زاد الاهتمام عما ينبغي بما يُسمَّى معايير الترجمة وتقنياتها. ولذلك أسبابٌ كثيرة، أحدها أن الناس ترى الترجمة مسألة مفروغًا منها، ومن ثَم لم يقُم أحدٌ بأبحاث تُذكَر في طبيعة الترجمة و«عملياتها»، ناهيك بذاتية المترجم. أضِف إلى ذلك أن نقص البحث في نقد الترجمة وتاريخها يفسِّر أوضاع دراسات الترجمة غير المُرْضية. صحيحٌ أن البعض قد نشَر المزيد من المقالات حول نظرية الترجمة، ولكن الممتاز منها قليل، وعدد المشتغلين بالدراسة النظرية لا يزال محدودًا. ومع ذلك، فلقد تغيَّرت الحال كثيرًا منذ الثمانينيات، ونستطيع أن نرى، استنادًا إلى البحوث التي أُنجزَت في السنوات القليلة الماضية، أن دراسات الترجمة تتطوَّر تطورًا منتظمًا. والواقع أننا في أثناء استعراض نظريات الترجمة الصينية التقليدية والتعليق عليها، قد بدأنا نقدِّم ونستوعب ونطبِّق نظرياتٍ للترجمة من خارج الصين حتى نضمنَ تطويرَ دراسات الترجمة الصينية في المستقبل. أضِف إلى ذلك أن عددًا ما فتئ يتزايد من طلاب الدراسات العليا قد شرَعوا في دخول مجال دراسات الترجمة.
وطبقًا لما يقوله تان تايخي، كانت الصين تسير جنبًا إلى جنب مع البلدان الأخرى من حيث دراسات الترجمة في الخمسينيات. ولكن المقالات المنشورة من عام ١٩٥١م حتى ١٩٨٠م كانت بها مناقشاتٌ تدور في معظمها حول الترجمة الأدبية. وتتَّسم معظمُ المداخل بكونها انطباعيةً ومستقاةً من الخبرة الشخصية للمُترجِم، وكان من الصعب أن نجد في حالاتٍ كثيرة استعمالَ إطارٍ نظريٍّ مفيد. ولا بأس في أن يعلِّق الأدباء على الترجمة من واقع خبرتهم بها، ولكن الدراسة لا يمكن أن تقتصر على آراء نقَّاد الأدب وتتجاهل تطبيق المناهج العلمية للبحث اللغوي على دراسات الترجمة. ويقول «تان»: إن دراسات الترجمة في الغرب تطوَّرَت بمعدَّلاتٍ سريعة إبَّان السنوات الثلاثين التي شهدَت انخفاضَ نشاط دراسات الترجمة في الصين؛ الأمر الذي تسبَّب في ظهور فجوةٍ هائلةٍ بين الغرب والصين، وأما في العقد المنصرم فقد قُدِّمَت أعدادٌ متزايدةٌ من نظريات الترجمة إلى القُراء الصينيين، بفضل الانفتاح التي تتمتع به الحياة الجامعية في الصين، وهو الذي يدُل أيضًا على التطوُّر الاجتماعي الذي جعل ذلك ممكنًا. وفي هذا الصدد تفوَّق الباحثون الصينيون على زملائهم في الغرب. وأفضل شكلٍ يُمكِنه تمثيلُ تطوُّر دراسات الترجمة في الصين في العقد الماضي هو النموذج التالي: التأمل الذاتي – التعلُّم من الغرب – استيعاب نظرياتٍ أخرى – التجديد النظري.
وهنا أيضًا يُستخدم مفهوم العلم فيما يتعلق بدراسات الترجمة، وقد نهض «تان» بدَورٍ أساسيٍّ في تقديم نظرية الترجمة التي وضَعها نايدا إلى الصين. ولكن تغيير نايدا لموقفه بالنسبة للترجمة بصفتها علمًا لم يؤثِّر في احتضان «تان» لها باعتبارها أداةً معرفيةً في دراسات الترجمة. ومع ذلك فلا يبدو أن هذا التأكيد الشديد لاعتبار الترجمة علمًا يحظى بتأييدٍ كبير. وربما كان المجتمع الأكاديمي يحتاج إلى أن يشهد أدلةً وبراهينَ أكثر قدرة على الإقناع بصحته. وإذا كانت نظرياتُ الترجمة الصينية التقليدية تؤكِّد معايير الترجمة، فإن ما تلقَّاه القُراء الصينيون كان يتكوَّن في معظمه من نظرياتٍ لغوية رُئِيَ أنها ذاتُ صلة بدراسات الترجمة. وأما الأفكار المستعارة من المباحث الأخرى فقد كانت عمومًا تتعلق بعلوم اللغة، مثل السيميوطيقا، وعلم الدلالة، والتداولية، وعلم الأسلوب وما إليها. وقد تمكَّن الأدب المقارَن في السنوات الأخيرة في الصين من تحقيق انطلاقاتٍ حاسمة في دراسات الترجمة؛ الأمر الذي يُوحي بإمكان إنشاء مدرسةٍ أدبية في دراسات الترجمة الصينية. كما حقَّقَت الدراسات الثقافية إسهامًا بالغ التأثير في دراسات الترجمة في الصين منذ بداية القرن الجديد.
والواقع الحالي لدراسات الترجمة الصينية يقول بأن الوعي الأدبي لم يستيقظ يقظةً كاملة، وبأنَّ جانبًا كبيرًا من البحوث لا يزال مقصورًا، أساسًا، على النقل اللغوي ومهارات الترجمة وتعليم اللغات. وإذا لم نعترف بأوجه القصور المذكورة، فلن نجد في مستقبل دراسات الترجمة ما يبعثُ على التفاؤل في الأجل الطويل. فأما المدخل اللغوي لدراسات الترجمة، والذي نفترض فيه الصحة العلمية، فإنه يقوم على المحادثات في إطار علم اللغة بين اللغات الغربية، ولقد كانت دقة إطارها التحليلي الشامل، ولا تزال، مصدر إلهام لباحثي الترجمة الصينيين، ولكننا نُدرِك أيضًا في غضون ذلك أن مثل هذا المدخل يفتقر إلى الاهتمام بالحساسية الجمالية، والقدرة على إعادة الخلق الكامنة في الترجمة الأدبية والثقافية، والعلاقة بين الأدب المترجَم والأدب الوطني للغة المستهدَفة، وتاريخ الأدب المترجَم. كما أدَّت الهوية المزدوجة للمترجِم إلى ارتباكٍ شديد، ويُضاف إلى ذلك أن بعض القضايا لا يمكن أن يشرحها [المدخل اللغوي] شرحًا صحيحًا مثل نقل المعلومات الثقافية، وإمكان نشأة التضارب الثقافي، وصور تشويه الترجمة وطرائق استقبالها [في اللغة المستهدَفة].
ويُقال أيضًا إن نظرية دراسات الأدب المقارن ومنهجيته يُمكِن تطبيقها في دراسات الترجمة تطبيقًا مثمرًا، فإننا إذا نظرنا من وجهة دراسات الأدب المقارن وجدنا أننا نستطيع أن نعتبر عمليةَ الترجمة ونتيجتَها وسائلَ اتصالٍ مهمة بين الثقافة والأدب، فإذا اعتبرنا الترجمة «وسيطًا» استطعنا افتراض قدرتها على تفسير تاريخ الاتصال ما بين الآداب والثقافات لشتى الأمم، مع توجيه الاهتمام بصفةٍ خاصةٍ إلى استقبال الأعمال المترجَمة، وتحوُّل مواقع التأثير، والأدوار الإيجابية والسلبية التي يقوم بها الاتصال في التبادُل ما بين الثقافات.
وأما البحث في تعليم الترجمة فيُمكِن إدراجُه في نظرية الترجمة التطبيقية؛ إذ يزداد الوعي بأهمية النظرية في تدريس الترجمة، ولا شك أن مسألة استرشاد تعليم الترجمة بنظرية الترجمة مسألةٌ جديرة بالبحث؛ فكثيرٌ من معلمي الترجمة يُناقِشون أمثال هذه القضايا، ويتجاوزون فيها المدخل التقليدي لتعليم الترجمة، الذي يتَّسم بتعليقات المعلمين على الأعمال المترجمة ومهارات الترجمة المستخدمة فيها. ولقد بُذلَت محاولة لإلقاء الضوء على ما يبدو لنا تمييزًا مشكوكًا في صحته بين التعليم بالترجمة ومجرد تعليم الترجمة، وأمثال هذه المناقشات ما فتئَت تجتذب المزيد من الاهتمام.
وقد اكتسبَت المناقشة في غضون ذلك حيويةً جديدة بسبب الاهتمام العميق بمعايير الترجمة، و«وحدات الترجمة»، ومستويات الترجمة، والقيود التي تفرضها الاختلافات الثقافية على الترجمة، وتأثير دَور الترجمة وتعزيزه في التواصل الثقافي. أضف إلى ذلك أن قضية إكساب الترجمة طابعًا أوروبيًّا و/أو صينيًّا لا تزال قضيةً خلافية، كما تُوجَد بعض القضايا الأخرى التي تحتاج كذلك إلى المزيد من الفحص، مثل الطرائق التي تؤثِّر بها أساليبُ التفكير في عملية الترجمة، وأسباب سوء الترجمة، وحدود إمكان ترجمة نصٍّ من النصوص، وكذلك مناهج تقييم الترجمة. ولم يتناول الباحثون حتى الآن تناولًا مُقْنعًا بعض المسائل الأخرى، وإن أحرزوا نجاحًا كبيرًا في التصدي لها، مثل النماذج المختلفة للنقل الثقافي في الترجمة، ودرجات إعادة الخلق في الترجمة الأدبية، والعلاقة بين أنواع اللغة والترجمة الأدبية، والعلاقة بين الشكل والمضمون.
ومن المأمون أن نقول إن ممارسة الترجمة في الصين قد طَمَسَت إلى حدٍّ كبير دراسات الترجمة. فإذا كان ينبغي لنا الإقرار بالمنجزات الجديرة بالإطراء في مجال دراسات الترجمة — بما في ذلك مهارات الترجمة، وتعليم الترجمة، ونقد الترجمة، وتاريخ المترجمين، والترجمة اهتداءً بنظريات الترجمة — فإن مبحثَ دراسات الترجمة ما زال يكافح في سبيل الاعتراف به على نطاقٍ أوسع. وكان تقديم نظريات الترجمة الغربية في الصين في الأعوام القليلة الماضية بمثابة حافزٍ قويٍّ للتغيير، وإن كان التعلُّم من الغرب يسير بخطًى عشوائية. وأما فيما يتعلق بنظرية الترجمة الصينية التقليدية، فإن الباحثين الصينيين يتأرجَحون ما بين قطبَين متنافرَين؛ الأول مباركة وتكريس المبادئ الثلاثة وهي «خين-دا-يا» (الأمانة، التعبيرية، الرشاقة) والثاني رفضها رفضًا باتًّا.
ويبدو أن الآراء تتفق عمومًا في هذه الأيام على ضرورة الجمع بين تقديم نظريات الترجمة الغربية وبين تُراث نظريات الترجمة الصينية التقليدية، فهذا مُهمٌّ للتقدُّم نحو تحقيق فهمٍ صادقٍ لجميع نظريات الترجمة على مَر التاريخ وعَبْر الحدود الوطنية. والأهم من ذلك ضرورة الفحص الدقيق لشتى المداخل النظرية للترجمة وزيادة تطويرها جنبًا إلى جنب مع ممارسة الترجمة. والواضح أن على باحثي الترجمة الصينيين أن يجمعوا ما بين ما يُسمَّى نظرية الترجمة الغربية، وهي تسميةٌ فضفاضة، وبين نظرية الترجمة الصينية، في محاولة لتدعيم الارتباط والحوار عَبْر الثقافي بين الصين وسائر العالم ابتغاءَ زيادةِ تعزيزِ دراسات الترجمة في الصين.