الفصل الرابع

عن الترجمة الثقافية: منظور من زاوية ما بعد الاستعمار

بقلم  وانج نينج

من الواضح أن وظيفة الترجمة في عصر العولمة الحالي قد تحوَّلَت إلى حدٍّ كبير من مجرد النقل اللغوي إلى التفسير الثقافي؛ فالأشخاص الذين يعيشون في «القرية العالمية» ويتكلمون لغاتٍ مختلفة وينتمون إلى تقاليدَ ثقافيةٍ متفاوتة في حاجةٍ إلى التواصل فيما بينهم، حتى لا ينعزلوا عن العالم الخارجي. وهكذا فإن الترجمة تنهض بدَورٍ يزداد اعتباره محتومًا في بناء هذه الشبكات «الثقافية» والتواصلية. وأما فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي للترجمة في سياق العولمة اليوم، فقد وضَع الباحثون أوصافًا أو تعريفاتٍ شتى لهذه الظاهرة أو النشاط الذي يتعذَّر الحسم في طبيعته، سواء كان ذلك من المنظور اللغوي أو من المنظور الثقافي، أو حتى من المنظور عَبْر الثقافي، بعد أن أصبحَت دراسات الترجمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدراسات الثقافية، بل وازداد ارتباطُها المذكور بها زيادةً مطردة في السنوات الأخيرة (باسنيت وليفيفير ٢٠٠١م). وعلى الرغم من أنه قد سبق لي، أنا نفسي (وانج نينج ٢٠٠٠أ) أن أعَدتُ تعريف الترجمة من خلال ربطها بالدراسات الثقافية السائدة حاليًّا في مناسباتٍ أخرى، فإنني أودُّ هنا أن أؤكِّد من جديد أن الترجمة، في نهاية الأمر، مسألةٌ ثقافية، خصوصًا عندما نتكلم عن الترجمة باعتبارها تمثيلًا أدبيًّا وتفسيرًا ثقافيًّا فيما يتعلق بوظيفة التواصُل الثقافي والتفسير الثقافي التي تؤدِّيها. ومن المُحال ألا يُصادِف المرءُ عناصرَ ثقافية اليوم إذا كان يمارس الترجمة أو يعمل في مجال دراسات الترجمة، فإن ترجمة عملٍ أدبيٍّ حافل بظلال الدلالات الثقافية يعني تمثيلَ بل وتفسيرَ المضمون الثقافي الحافل والذي قد يدقُّ على الأفهام، وكذلك الروح الجمالية الكامنة في العمل الأدبي المكتوب بلغةٍ أخرى. ولكن كيف تتلاعب الثقافة بممارسة الترجمة؟ وعندما ننظر إلى الترجمة من منظورِ ما بعد الاستعمار، كيف ننظر إلى الترجمة باعتبارها قادرةً على «استعمار» ثقافةٍ معيَّنة و«تحريرها من الاستعمار» في الوقت نفسه إذا اضطلعَت بهذه المهمة؟ هذا هو ما يعتزم الفصل الحالي معالجتَه بأسلوبٍ نقدي ونظري، خصوصًا فيما يتعلق بتطور الثقافة الصينية الحديثة والتطور التاريخي للأدب الصيني الحديث، وهي «عمليات» قام فيها الأدب المترجَم بدَورٍ من المُحال إبدالُه أو فصلُه عن تشكيل الحداثة الثقافية والأدبية في الصين.

(١) الترجمة باعتبارها تمثيلًا ثقافيًّا ديناميًّا

لا شك أن الترجمة قد وُجدَت منذ زمنٍ طويل في الصين وفي الغرب، منذ أن بدأ الناس التواصُل فيما بينهم، بل إن الترجمة الأدبية قد نهضَت بدورٍ أهمَّ في تمكين الناس في شتَّى البلدان أو الأمم، أو ذوي الخلفيات الثقافية المتفاوتة، ومن يتكلمون لغاتٍ مختلفة، من قراءة وتقدير الأعمال الأدبية الممتازة المكتوبة بلغاتٍ أخرى أو المنتمية إلى شتَّى التقاليد الثقافية. ولولا وساطة الترجمة ما كُنا قرأنا ملحمتَي هوميروس قط ولا توقَّعنا قراءتهما بلغتهما اليونانية الأصلية، ولا كان بإمكان معظم القُراء الغربيين تقدير جمال الشعر الصيني المكتوب في عهد أسرتَي «تانج» و«سونج» باللغة الصينية. وهكذا فإن الترجمة في الواقع جسرٌ يصل ما بين الأمم المختلفة، ويَعبُر الحدود الثقافية واللغوية. والترجمة الجيدة قادرةٌ على نقل منتَجاتٍ ثقافيةٍ ممتازة من تراثٍ ثقافيٍّ معيَّن إلى تُراثٍ آخر، وبذلك تحقِّق «ترحال الأدب» وتُثري الإبداع الأدبي للأمة المستقبِلة لها، وعلى غِرار ذلك تؤدي الترجمةُ الرديئةُ دون شك إلى الحط من شأن أعمالٍ أدبيةٍ بلغتها الأصلية. ولكن كيف نصل إلى مستوى الترجمة الجيدة أو المناسبة، ما دام معيار الترجمة يستعصي دائمًا على التحديد؟ والواضح، كما تُثبِت حقائقُ متعددة، أنه لا وجود لما يُسمَّى الترجمة الجيدة أو المناسبة بصورةٍ «مطلقة»، ما دامت ممارسة الترجمة في أيدي البشر، وما دام المعيار المذكور يضعه البشر أيضًا؛ فالمترجم ليس آلة، بل هو إنسانٌ يتَّسم بفهمٍ دينامي، ويتميَّز أحيانًا بالتلقِّي الإبداعي للأصل الذي يفسِّره. ومن الأرجح في غضون ممارسة الترجمة أن يؤثِّر فهمه أو حتى سوء فهمه للأصل في تقديمه أو سوء تقديمه له في اللغة المستهدَفة. كما أن قدرته اللغوية والثقافية سوف تُقرِّر أيضًا إذا كان المترجِم قادرًا على أن يجعل نسخته [المترجَمة] أقرب إلى الأصل أم لا، من زاوية الشكل اللغوي والروح الجمالية والثقافية.

وعلى الرغم من شِبه استحالة الوصول إلى مستوى الترجمة الصحيحة أو «المناسبة» بصورةٍ مطلقة، فإن هذا المعيار جديرٌ باستكشافه. ولم يستطع جاك دريدا الذي يتميَّز بالارتياب الدائم في أي نمطٍ من أنماط الحقيقة النهائية، في غضون نقضه لجميع المذاهب والمفاهيم القائمة على مرجعياتٍ خارجيةٍ في الثقافة والميتافيزيقا الغربية، إلا أن يقدِّم (٢٠٠١م) وصفًا غير نهائي لطبيعة الترجمة المناسبة، قائلًا:

ومن ثَم فإن الترجمة المناسبة لن تعدُوَ كونَها ترجمةً «جيدة»؛ أي ترجمة تؤدي ما يتوقَّعه المرء منها، وباختصار، تصبح نسخة تؤدي مهمتها، وتُسدِّد دَيْنها، وتقوم بعملها أو بواجبها في أثناء نقشها في اللغة المستقبِلة لها المعادلَ الأنسبَ للأصل؛ أي اللغة التي هي الأصح، والأكثر ملاءمة واتصالًا بالأصل، والأقرب إلى الكفاية والتوفيق والدقة والوضوح في الدلالة، والاتفاق مع المصطلح اللغوي، وهلُم جَرًّا. (ص١٧٧)

وعلى الرغم من أن دريدا — الذي يمارس التفكيكية في زحزحة أي «مركزٍ» ثقافيٍّ أو لغويٍّ عن مكانه — يُدرِك بوضوحٍ أنه من شِبه المستحيل تحقيق ترجمةٍ مناسبةٍ فعلًا، فإن محاولته الوصول إلى هذا المثل الأعلى محاولةٌ قيِّمة، ما دام معظم منظِّري ما بعد الحداثة يُركِّزون على الإجراءات المتَّخَذة لا على النتيجة نفسها. وقد أدَّت قراءة دريدا التفكيكية إلى طمس الحد الفاصل في الواقع بين الأدب والفلسفة، واستبقَت نوعًا من «النهاية» للفلسفة (بمفهومها التقليدي). وهكذا فالمذهب التفكيكي يقول إنك لا تستطيع إلا الاقتراب من الحقيقة، ولكنك لا تستطيع الإحاطة بها أبدًا، وبذلك لا تكون ترجمة الثقافة والنظرية إلا دائرةً من دوائر التفسير، وأما الحسم القاطع الذي تأتي به الحقيقة (المعنى الأصلي) فهو غائب دائمًا. ويصدُق هذا على ترجمة العمل الأدبي وتفسيره؛ لأن ظلال الدلالات الأدبية حافلةٌ شاملة تقبل اختلافَ الفهم بل واختلافَ التفسيرات. وما الترجمة في الواقع إلا ممارسةٌ حوارية؛ أي إن المترجم دائمًا يشتبك في حوارٍ مع المؤلف والنص، بل وأحيانًا مع القارئ؛ وهكذا فإن «المعنى» المترجَم أو الدلالة المترجَمة من ثمار مثل هذه الممارسة الحوارية. وبذلك فإن مطلب الترجمة المناسبة يشبه تمامًا البحث عن «كأسٍ مقدسة» مثالية، وإن كانت النتيجة الكاملة النهائية سوف تظل دائمًا غير محقَّقة.

والواضح أنه لما كانت الأعمال الأدبية تتكون من علاماتٍ جماليةٍ توقيفية، وتتميَّز إلى حدٍّ ما بعدم الحسم، فإنه من شبه المستحيل تمثيل ظلال الدلالات الثقافية الدقيقة في عملٍ فنيٍّ معيَّن باللغة المصدَر تمثيلًا صادقًا أو «أمينًا». ويزداد وضوح ابتعاد عملية الترجمة عن إخراج نص «مناسب» خصوصًا في حالات الترجمة عَبْر الثقافية، مثل الترجمة من الإنجليزية إلى الصينية أو العكس. ولا شك أن منظِّري أو باحثي الترجمة في الصين وفي الغرب قد بذلوا جهودًا كثيرة للعثور على الأسلوب الفعَّال للنقل «الأمين» للمعنى اللغوي للنص المصدَر إلى اللغة المستهدَفة من دون تغيير المعنى الأصلي، ولكن جهودهم لم تُحقِّق النجاح حتى الآن. ونحن نذكُر أن «يان فو» — المُنظِّر الرائد للترجمة الصينية الذي استكشف عمليًّا صحة هذا المعيار، والذي تعرَّض معياره الخلافي الشهير للترجمة الأدبية الجيدة لمناقشاتٍ حاميةٍ منذ تقديمه له — قد حاول ذات يوم وَضْع مراتبَ تصاعديةٍ لعناصر معياره الثلاثة وهي خين (الأمانة) ودا (التعبيرية) ويا (الرشاقة)، قائلًا إن الأمانة تأتي أولًا في كل حالة، لكنه لم يُبيِّن بوضوح مدى إمكان تحقيق الأمانة. بل ولم تُثبِت ممارسته للترجمة فاعليَّتها. وهكذا فإن معياره لا يستطيع إقناع المترجمين بصورةٍ كاملة؛ لأنه يفتقر من ناحية إلى الأبعاد النظرية، ولسببٍ آخر أكثر أهمية، وهو عدم تأكيده تأكيدًا كافيًا للعناصر الثقافية للعمل الأدبي، ومع ذلك فإن معياره قد أتاح مساحةً كبيرةً للمزيد من النقاش والاستكشاف؛ ولهذا السبب يبدأ باحثو الترجمة الصينيون اليوم مناقشاتهم لمعايير الترجمة عادةً بالنظر في المعيار الثلاثي الذي وضَعه يان. وأودُّ أن أقول، صراحةً، إنه على الرغم من التطور السريع لنظرية الترجمة ودراسات الترجمة في الغرب، فإننا — نحن باحثي الترجمة الصينيين — لم نُنجِز شيئًا يُذكَر للدفع قُدُمًا بدراسات الترجمة الصينية في سياق الحوار الدولي. وهذا أيضًا من الأسباب المهمة التي تَحوُل دون قيام معظم باحثي الترجمة الصينيين بإجراء حواراتٍ على قدم المساواة مع نظرائهم الدوليين. وليست المشكلة مجرد مشكلةٍ لغوية، بل إنها عدة مشكلاتٍ نظريةٍ وثقافية، ما دام جميع المترجمين قادرين على الإحاطة بلغةٍ أجنبيةٍ واحدة على الأقل، ومن المتوقَّع إحاطتُهم بثقافتَين اثنتَين على الأقل. وقد أتاحت العولمة لنا، في هذا الصدد، مجالًا رحيبًا لإجراء دراسات الترجمة في سياقٍ عَبْر ثقافيٍّ أوسع والتواصُل المباشر مع البحوث الدولية.

وقد حاول يوجين نايدا (١٩٦٤م) — وهو لغويٌّ غربي تُناقَش أقواله وتُقتطَف على نطاقٍ واسعٍ في دوائر الترجمة الصينية — إلقاء الضوء على الدَّور الدينامي الذي ينهض به المترجم في ترجمة أحد النصوص من اللغة المصدَر إلى اللغة المستهدَفة. وهو يحقِّق جانبًا من استراتيجيته بتقديم مفهوم «التعادُل الدينامي»، الذي يهدف المترجم من خلاله إلى «تحقيق السمات الطبيعية الكاملة في التعبير، ويحاول وَصْل المتلقي بطرائق سلوك تتصل بسياق ثقافته الخاصة» (ص١٥٩). وهنا يقول نايدا: إنه ما دامت الترجمة تمسُّ مسألة الثقافة، فإن التعادل المطلَق غير لازم ومستحيل التحقيق بسبب الفوارق الدقيقة بين ثقافتَين أو أكثر. ولكن كلمة «المتلقي» (receptor) التي يستخدمها تقلُّ في ديناميَّتها كثيرًا عن كلمة «المستقبِل» (recipient) التي يستخدمها منظِّرو جماليات «الاستقبال». وهو يُحاوِل — تطبيقًا لاستراتيجيته الدينامية — العثور على طريقةٍ ملائمةٍ نسبيًّا لتمثيل المعنى الأصلي الذي تُعبِّر عنه لغة المصدَر بتقديم مفهومه ﻟ «التعادل الدينامي»، وَفْق مفهومه للوظيفة الدينامية للمترجم. والواضح أن الحل الذي يقدِّمه يمثِّل خطوةً مهمةً على طريق استكشاف الوظيفة الدينامية للثقافة في غضون ممارسة الترجمة. وعلى الرغم من أن نايدا قد أكَّد فعلًا وظيفة المترجم الدينامية، فما أيسَر أن ترى أن الحل الذي جاء به لا يزال على مستوى علم اللغة! أي إنه يمثِّل منظورًا للترجمة يقصرها على العلاقة بين لغتَين لا بين ثقافتَين؛ ومن ثَم فلا يُمكِن تطبيقه عند ممارسة الترجمة الأدبية.
ينبغي اعتبار الترجمة الأدبية، فيما أرى، أرفعَ مرحلة من مراحل ممارسة الترجمة، فإنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة، إلى حدٍّ أكبر من ارتباط علم اللغة بها، وإن كان الأدب في المقام الأول فنًّا لغويًّا. وباعتباره فنًّا فإنه لا يرجو التمثيل «الصادق» أو الأمين وحسب، بل ينشُد ما يزيد على ذلك؛ أي الإبداع أو إعادة الإبداع «الدينامي»؛ أي إن الترجمة الأدبية يمكن أن تُعتبَر عملًا إبداعيًّا يستند إلى أصلٍ ما. والعمل الأدبي يتميز قطعًا بظلال الدلالات الثقافية الحافلة والروح الجمالية الدينامية. وعلى المُترجِم الأدبي أن يكون قبل كل شيء كاتبًا مُبدعًا ممتازًا في ذاته؛ إذ إن ترجمته ربما حدَّدَت ما إذا كان العمل الأدبي سوف يلقى التقدير من القُراء باللغة المستهدَفة أم لا. وأحيانًا تقوم الترجمة الناجحة بعملٍ رائعٍ يتمثل في مراجعة المعيار الثابت، بمعنى السعي إلى إصلاح بعض المعايير.١ وبهذا المعنى إذن يصبح المترجم مراجعًا ومنقحًا لا خائنًا، ما دام دائمًا ما «يُراجِع» أو «يُنقِّح» الأصل استنادًا إلى فهمه الذاتي وتفسيره الدينامي للأصل. وهذا هو سببُ اجتذاب الترجمة الأدبية اهتمامًا كبيرًا من جانب باحثي الأدب المقارن وباحثي دراسات الترجمة في مناقشاتهم النظرية واستكشافاتهم الثقافية، فكل من الطرفَين يولي اهتمامًا خاصًّا لوظيفة الترجمة في تشكيل المعايير الأدبية وإعادة تشكيلها. وسوف أتناول هذه القضية في القسم التالي، بالإشارة إلى تشكيل المعيار الأدبي الصيني الحديث؛ إذ إنني أعتقد دائمًا أنها شديدةُ الاتصال بهذا الضرب من الترجمة والتفسير الثقافيَّين.

(٢) من الاستعمار إلى التحرُّر من الاستعمار: بناء وإعادة بناء الثقافة الأدبية الصينية الحديثة

وأما فيما يتعلق بالترجمة الثقافية، فإننا نتذكَّر على الفَور التحليلَ النظري الذي قدَّمه هومي بابا، الذي يقول (١٩٩٤: ٢٢٤):

إن هذا الحيِّز الذي تشغَله ترجمة الاختلاف الثقافي في الفراغات البينية (بين الثقافتَين) يغشاه الطابعُ المؤقَّت للحاضر، وَفْق تعريف فالتر بنيامين، الذي يُصوِّر لحظةَ انتقالٍ بارزة، لا مجرد الاستمرار الكلي للتاريخ. وهو سكونٌ غريبٌ يحدِّد معنى الحاضر الذي تصبح فيه كتابة التحوُّل التاريخي نفسها ظاهرةً للعيان ظهورًا عجيبًا. وأما الثقافة المهاجرة في «المابين» [أي في المنطقة البينية]؛ أي وَضْع الأقلية، فتُمثِّل تمثيلًا دراميًّا «فعل» استعصاء الثقافة على الترجمة، وبهذا تبين استحالة الاستيلاء على الثقافة، متجاوزةً حُلم الحالمين باستيعاب الثقافة، أو كابوس العنصريِّين، المتمثِّل في «النقل الكامل للمادة [الثقافية]».

والتفسير النظري الذي يقدِّمه بابا يفتح في الواقع «حَيِّزًا ثالثًا» فيما بين الثقافات المركزية والهامشية، ويُمهِّد الطريق بذلك لنشأة نوعٍ من الترجمة الثقافية. ولا شك أن الترجمة، من منظورِ ما بعد الاستعمار، تقوم بدَورٍ مهم في حياتنا الثقافية والفكرية، حتى في سياق العولمة الحالي الذي يزداد فيه الإقبال على اللغة الإنجليزية، ويزداد باطرادٍ أعدادُ الذين يستخدمونها في عالم اليوم في الدراسة والبحث الأكاديمي والتواصل اليومي. فإذا شئتَ الحصولَ على معلوماتٍ من الإنترنت فالأفضل أن تفهم الإنجليزية؛ لأن ما يقرب من ٩٠٪ من المعلومات في الإنترنت بالإنجليزية، وإذا أردتَ أن تُغادرَ موطنكَ فعليك أن تحيط ببعض الإنجليزية على الأقل، ما دمتَ لا تريد أن تعزل نفسك عن الاتصال بغيركَ من الناس. ولما كانت اللغةُ وسيلةً رئيسية من وسائل الحفاظ على الهوية الثقافية، فما زلنا نحتاج إلى الترجمة في مناسباتٍ كثيرة. وعندما نتحدث عن عولمة الأدب والثقافة، فإننا لا نملكُ إلا التفكير في الاتجاه الراهن لتطوير اللغة الإنجليزية. وفي غضون تحوُّل اللغة الإنجليزية إلى لغةٍ عالميةٍ رئيسية نراها تتعرض لنوع من التفتُّت أو تغيير الصورة؛ إذ تتحوَّل من لغةٍ إنجليزيةٍ موحَّدةٍ واحدة إلى لغاتٍ إنجليزيةٍ كثيرةٍ «أصلية» تستخدمها ثقافاتٌ قوميةٌ مختلفة في إنتاج آدابها بالإنجليزية المعقَّدة أو بلغةٍ إنجليزيةٍ «أخرى» أو عدة لغاتٍ «إنجليزية». ويشرح بول جاي (٢٠٠١: ٣٣) المسألة قائلًا:

في ظل هذا الوعي تزداد باطرادٍ صعوبة دراسة الأدب البريطاني أو الأمريكي من دون تحديد موقعه الجغرافي، والثقافة أو الثقافات التي خرج منها، في عروضٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للحدود الوطنية ومرتبطةٍ بالعولمة. ونرى في الوقت نفسه أن التكاثُر الهائل في الأدب الإنجليزي المكتوب خارج بريطانيا والولايات المتحدة قد أوضَح أن هذا الأدب أصبَح لا يعتمد على الأمة التي تكتُبه بقَدْر ما يعتمد على لغةٍ يكتُب بها مؤلفون ينتمون إلى خلفياتٍ ثقافيةٍ وعرقيةٍ منوَّعة. وعولمة اللغة الإنجليزية، من هذه الزاوية، ليست صياغةً نظرية أو برنامجًا سياسيًّا وضَعه بعض الراديكاليين في العلوم الإنسانية ليحل محل الأدب المُعتمَد. ويزداد طابعُ ما بعد الاستعمار باطراد في الأدب الإنجليزي … وأود أن أسوق الحُجة على أننا نستطيع أن نُعيد تنظيم مدخلنا بصورةٍ أشدَّ فعاليةً إلى دراسةِ ما درجنا على معاملته حتى الآن باعتباره أدبًا أو آدابًا قومية (في مناهجنا وبرامجنا الدراسية) بتأكيد علاقة الأدب بضروب التقدم التاريخي للعولمة. وتتضمَّن مثل هذه الخطوة رفض القول بأن العولمة في جوهرها حدَثٌ معاصر والاعتراف بأن لها تاريخًا طويلًا.

والواقع أن العولمة ليست حدثًا معاصرًا بل اتجاهٌ عملي بدأ قبل الجزء الأخير من القرن العشرين بوقتٍ طويل (روبرتسون، ١٩٩٢م). وقد اتسع نطاقها وطمسَت الحدود الجغرافية للغة الإنجليزية، وهكذا فعندما نذكُر الأدبَ الإنجليزي اليوم فإننا نُشير في الواقع إلى الأدب البريطاني وآداب بلدان الكومنولث المكتوبة بالإنجليزية المعتمَدة أو بلغةٍ «إنجليزيةٍ» أخرى. ولما كانت الاختلافات تتزايد بين هذه اللغات «الإنجليزية» فسوف يزداد ظهور وظيفة الوساطة التي تقوم بها الترجمة الثقافية.

وعلى غِرار ذلك، وبالموازاة مع مسار العولمة الثقافية، شهدَت اللغة الصينية ولا تزال تشهَد ضربًا من التفتُّت أو التحوُّل في الشكل: من لغةٍ صينيةٍ واحدة (ماندارين) إلى لغاتٍ صينيةٍ (أصيلة) كثيرة؛ أي إننا أصبح لدينا اللغة الصينية القارية الرئيسية (إلى جانب اللهجات المحلية الكثيرة) والصينية الكانتونية المستعمَلة في جواندونج وفي هونج كونج، والصينية التايوانية (إلى جانب الكثير من اللهجات المحلية) والصينية السنغافورية، واللغات الصينية المستعمَلة في الجاليات الصينية المقيمة في البلدان الأجنبية وهلُم جَرًّا. وهكذا فإن لدينا نوعَين من الأدب الصيني؛ الأول هو الأدب المكتوب داخل الصين القارية، والثاني هو الأدب خارجها باللغة الصينية.٢ وعلى الرغم من أن المفكِّرين المحليين قد يتساءلون، محقِّين، عن الموقع الذي نحدِّّده لثقافتنا في مثل سياق العولمة المذكور الذي يزداد فيه التجانس بين الثقافات المختلفة، لا نملك إلا الإقرار بأن ««محلية» الثقافة القومية ليست موحَّدة أو فردية بالنسبة لنفسها، بل ولا يمكن أن تُرَى باعتبارها «الآخر» وحسب بالنسبة لما هو خارجها أو متجاوز لها» (بابا ١٩٩٠: ٤). وأنا أرى أن تسارع خطى عولمة الثقافة سوف يزيد من حالات تفتُّت بعض لغات العالم الرئيسية، ومن الأرجح أن يؤدِّي ذلك إلى التطوُّر «التعدُّدي» للثقافات الوطنية. وهكذا سوف تزداد الحاجة الماسة لوظيفة الترجمة (الثقافية) بدلًا من أن تقلَّ أهميتها.

وعندما نتفق على أن العولمة ليست على الإطلاق من أحداث القرن العشرين (وانج نينج ٢٠٠١م) فإننا نشير بصفةٍ خاصةٍ إلى حدوثها في الثقافة، فإذا كنا نعتقد أن العولمة الاقتصادية بدأَت باكتشاف كولمبوس لأمريكا عام ١٤٩٢م، فإن العولمة الثقافية كانت قد بدأَت قبل ذلك الوقت، وفي هذه العملية، كانت الترجمة ولا تزال تلعب دورًا مُهمًّا في الإسراع بخطوات العولمة الثقافية. ومن حق الناس أن يتصوَّروا أن العولمة الثقافية قد أتت بالتجانُس الثقافي، ولكن الواقع يقول إن العولمة قد أدَّت أيضًا، في إطار هذا التجانُس الثقافي، إلى تنوُّعٍ وتعدُّديةٍ ثقافية. وسوف أعالج هذه القضية بإلقاء الضوء على حالة الأدب الصيني الحديث الذي كانت الترجمة سببًا في وجوده إلى حدٍّ كبير.

نعرف جميعًا أن الصين كانت يومًا ما «إمبراطوريةً مركزية» قوية، وكان سكانها يرَون أنهم يقيمون في مركز العالم نفسه، وأن جميع الأمم الأخرى تقع على أطراف العالم. وفي عهد أسرة قينج الحاكمة وخصوصًا بعد حرب الأفيون، فقدَت الصين قوَّتَها الإمبراطورية وأصبحَت بالتدريج دولةً «هامشية» لا من الزاويتَين الاقتصادية والسياسية فحسب، بل أيضًا من الزاوية الثقافية. وأبناء البلدان المتخلِّفة الذين يريدون اللحاق برَكْب الدول المتقدمة في الاقتصاد والثقافة، دائمًا ما يبذلون جهودًا مُضنيةً للتعلُّم من الدول المتقدِّمة في مجال العلم والتكنولوجيا، وكذلك في الاقتصاد والإدارة والثقافة، بحيث لا يقتصر ما يستوردونه من تلك البلدان على العلم والتكنولوجيا، بل يتضمن الأدب والثقافة أيضًا، وإذا نظرنا إلى تاريخ الأدب والثقافة الحديثَين في الصين وجدنا أن الترجمة قد نهضَت فعلًا بدَورٍ مُهم في تشكيل الحداثة الثقافية في الصين، وإعادة بناء الخطاب الأدبي والنقدي للأدب الصيني الحديث؛ فإلى جانب الجهود الرائدة التي بذلها يان فو، قدَّم كانج يووي، وليان قيشاو، ولين شو، إسهاماتٍ كبيرةً في بناء الحداثة الثقافية الصينية من خلال حماسهم في الدعوة إلى ترجمة الأعمال الأدبية والأكاديمية الأجنبية. وكان من شأن دعوتهم النظرية وجهودهم العملية أن مهَّدَت الطريقَ إلى الترجمة الشاملة للتيارات الثقافية والأعمال الأدبية الغربية إلى اللغة الصينية في الجزء الأخير من القرن العشرين. وكانت أعمالهم الأدبية المترجَمة مصدَر إلهام لكُتَّاب حركة الرابع من مايو في كتاباتهم الإبداعية. وكان هؤلاء الكُتَّاب وغيرُهم من الأجيال اللاحقة، خصوصًا لو خون، وجوو موريو، وماو دون، وكاو يو، وبا جين، يرَون أن أعظم ما أثَّر في كتاباتهم لم يكن يتمثَّل بالضرورة في الثقافة والأدب الصينيَّين التقليديَّين، بل الأدب الأجنبي (المُترجَم) وخصوصًا الأدب والثقافة الغربيَّين. وقد قال «جوو» ذات مرة إنه يمثِّل في الصين ما يمثِّله الشاعر «وولت ويتمان» في أمريكا، وقال «كاو» إنه يرى نفسه «إبسن» الصين. وليس من الغريب إذن أن يرى بعض المفكِّرين الصينيين المحافظين أن الترجمة قامت بدور «استعمار» الثقافة والأدب الصينيَّين الحديثَين، لأن هؤلاء الكُتَّاب خرجوا على التقاليد الطويلة للثقافة والأدب الصينيَّين الكلاسيكيَّين. وكان من نتائج هذا أنَّ أوَّل موجةٍ عاليةٍ من موجات «اكتساب الطابع الغربي» ظهَرَت في النصف الأول من القرن العشرين حاملةً أشكالًا ذات طابعٍ غربيٍّ أو مُسْتَعْمَر، من الكتابة الأدبية والنقدية، وبعض المعايير الثقافية، في الصين.

وإن شئنا الصراحة قلنا إن اكتساب الأدب والثقافة الصينيَّين الحديثَين طابعًا «غربيًّا» أو «استعماريًّا» يمثِّل في الواقع البداية الحقيقية لعولمة الأدب والثقافة الصينيَّين، أو بتعبيرٍ أدق، إنه كان نوعًا من «العَوْلَمحَلِّية»؛ إذ إن هذه الأشكال التي تكتسي الطابع «الغربي» أو «الاستعماري» كانت كتاباتٍ مُهَجَّنَةً تضُم عناصرَ ثقافيةً (صينيةً) أصيلة؛ ومن ثَم فقد مكَّنَت الثقافة والأدب الصينيَّين الحديثَين من إقامة حوارات مع الثقافة والأدب الصينيَّين الكلاسيكيَّين، ومع نظرائهما الغربيين والدوليين. ويظهر هذا التيار «الاستعماري» بصورةٍ أوضحَ في عصر العولمة الحالي؛ إذ تزداد باطِّرادٍ أعدادُ الذين يتعلمون الحديث والكتابة باللغة الإنجليزية. وفي المجتمع الحالي، مجتمع المعلومات الذي جاء في أعقاب المجتمع الصناعي، أصبحَت المعلومات تعني السلطة، والثروة أيضًا. وعلى العلماء أن ينشروا مقالاتهم باللغة الإنجليزية في مجلاتٍ رفيعةِ المكانة حتى يضمَنوا اعتراف المجتمع الأكاديمي بمُنجَزاتهم البحثية. وهو ما يصدُق على علومنا الإنسانية والاجتماعية أيضًا. ومع ذلك، فلما كانت الترجمة تتناول ثقافتَين على الأقل، وربما أكثر من ثقافتَين، فإن هذا الضرب من «الاستعمار» الثقافي، إن كان موجودًا فعلًا، ليس ظاهرةً ذاتَ بُعدٍ واحد؛ فالعولمة، كما سبق لي أن ذكرتُ، قد أتت، في غضون عملها على تجانُس الثقافات العالمية، بالتنوُّع والتعدُّد الثقافي أيضًا، كما يقول رولاند روبرتسون (١٩٩٢م). وعادةً ما تؤدي العولمة إلى إضفاء الخصوصية على ما هو عالمي، والعالمية على ما هو خاص (ص١٠٠). وفي مواجهة الحقيقة التي تقول إن أعدادًا من الصينيين يدرُسون الإنجليزية ويستخدمونها في مناسباتٍ شتى، نرى أن الترجمة قد غيَّرت دَورَها التقليدي من ترجمة الأدب والثقافة الأجنبيَّين إلى اللغة الصينية، إلى ترجمة الثقافة والأدب الصينيَّين إلى لغاتٍ أخرى، وإلى الإنجليزية في معظم الأحوال؛ إذ تحظى هذه اللغة بأكبر درجة من الإقبال والشيوع، وتعمل في الواقع باعتبارها اللغةَ الدوليةَ الرئيسية، خصوصًا في الدوائر الأكاديمية. وهكذا يستطيع أبناء البلدان الأخرى أن يقرءوا ويتذوَّقوا المنتجاتِ الثقافيةَ الصينيةَ الممتازة من خلال الترجمة التي تقوم بدَور الوسيط أو باللغة الإنجليزية. وكان نجاح الطلب الذي قدَّمَته الصين لاستضافة دورة الألعاب الأوليمبية في بكين «بيجينغ» عام ٢٠٠٨م من بين أحدَث الأمثلة على ما نقول؛ إذ إن الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية والفرنسية لعبَت فيها دورًا رئيسيًّا وأثبتَت نجاحَها الباهر.٣

من الواضح أنه من المُحال في الوقت الحالي أن يستمع إلينا كل الناس في مناطق العالم الأخرى باللغة الصينية، لسببٍ يرجع في جانبٍ منه إلى الصعوبة البالغة في إتقانها، وفي جانبٍ آخر إلى أن اقتصاد الصين في الوقت الراهن لم يبلغ من القوة ما يُحفِّز الأجانب جميعًا على دراسة اللغة والثقافة الصينيَّين، وحتى حين يتقن زملاؤنا الغربيون اللغة الصينية إتقانًا حقيقيًّا، فإنه يتعذَّر عليهم، رغم ذلك، فَهْمُ الدلالات الدقيقة للثقافة الصينية وخوافي الروح الجمالية الصينية. وهكذا نعتمد مؤقتًا على اللغة الإنجليزية في التعامُل بفعاليةٍ أكبر مع المجتمع الدولي، فهي لغة العمل الدولية الأكثر شيوعًا، وبها نستطيع أن نُترجِم ونقدِّم منتجاتِنا الثقافية الممتازة إلى العالم. وأما الخطابان النقدي والنظري اللذان استعرناهما من الغرب، فعلينا أن نستعملهما في التواصُل مع زملائنا الغربيين إذا كنا نريد إقناعهم بأبنيتنا النظرية الخاصة. ولكن، مع ذلك، فإن هذَين الخطابَين المستعارَين قد سبق اختلاطهما بالخطابَين النقدي والنظري الصينيَّين الأصيلَين في غضون تواتُر استخدامنا لهما وإضفاء الطابع المحلي عليهما في السياق الصيني. ولما كانت الممارسة النقدية الصينية مستمدة من الإبداع الأدبي الصيني فإن أنواع هذا الخطاب «المستعار» من الغرب لم يتحوَّل شكلُها فقط وتكتسب الطابع الصيني، بل إنها أفرزَت دلالاتٍ جديدةً سوف تؤدي بدورها إلى إلهام زملائنا الغربيين والتأثير فيهم. وهكذا فإن التعارُض الثنائي بين «الاستعمار» الثقافي و«التحرر من الاستعمار» الثقافي قضية لا بد من نقضها، ما دامت الترجمة قادرةً على أن تنهض بدَورٍ مزدوج في التواصُل والحوار ثقافيًّا على المستوى الدولي.

(٣) نحو نوع من العولمحلية للترجمة الثقافية

لا شك أننا نعيش في عصر العولمة، وأن أحد المعالم المميزة للتمثيل الثقافي فيه هو اتجاهه نحو إضفاء التجانس. والثقافات ذات النفوذ (المُهيمِنة أو المُنتمِية إلى العالم الأول) دائمًا ما تفرض قِيمَها الثقافية ومبادئَها الجمالية على الثقافات الأقل نفوذًا (في العالم الثالث) من خلال الترجمة، وهو ما يتجلى أيضًا في ممارسة الترجمة الأدبية، ولكننا نرى من ناحيةٍ أخرى أن هذه القيم والمبادئ من المُحال أن تكتسب الطابع المحلي أو أن يُغيَّر شكلُها في أثناء مثل هذه الترجمة الثقافية؛ إذ إن التداخل الثقافي دائمًا ما يظهر في التواصل الثقافي الدولي، وهي «العملية» التي تلعب فيها الترجمة دورًا ذا أهميةٍ حيوية. ويشرح هومي بابا (١٩٩٤: ٢٢٨) — من منظور ما بعد الاستعمار — وصفه الجديد للترجمة الثقافية في سياق ما بعد الاستعمار على المستوى العالمي، قائلًا:

الترجمة هي الجانب العملي للتواصل الثقافي؛ فهي اللغة إبَّان العمل (أي أثناء التعبير وتحديد المواقع) لا اللغة من حيث الوظيفة (أي من حيث الفكر والمقولات). وللترجمة سمةٌ دائمًا ما تعلن أو تكشف عن الأزمنة والأمكنة التي تفصل بين السلطة الثقافية وممارساتها العملية. ويتكوَّن زمن الترجمة من حركة المعنى، وهو مبدأ الاتصال وممارسته التي تؤدِّي، كما يقول بول دي مان، إلى «تحريك الأصل ابتغاء نزع القداسة عنه، وإكسابه حركة التفتُّت، وتجوال التشرُّد، أو منفًى دائمًا من نوعٍ ما».

والواضح أن بابا يتمتع ببعض الخلفية الشرقية والآسيوية؛ ومن ثَم فهو مؤهَّل بما يكفي لمناقشة مثل تلك الترجمة الثقافية، ضاربًا المثل بحالة الهند؛ فهو يرى (٢٠٠٢م) من ناحية، وجود محاولة العولمة، ومن ناحيةٍ أخرى وجود اتجاهٍ إلى «تعميم الأقليات» أو «ضم الأقليات» عالميًّا، وهو نمطٌ آخر من أنماط العولمة. ومعنى هذا أننا نجد أن الترجمة، من ناحيةٍ معيَّنة، لا تزال تُمارَس من خلال اللغة، ولكن هذه اللغة، من ناحيةٍ أخرى، قد وسَّعَت نطاقها حتى يصل إلى نطاق الثقافة أو السرد؛ أي إن الترجمة تُمارَس عادةً على مستوى التواصل عَبْر الثقافي لا عن طريق مجرد التواصل اللغوي. وهذا هو السبب الذي كتب على الترجمة أن تلعب دَوْر من «يستعمر» ثقافةً وطنية ومن «يحرِّرها من الاستعمار» في الوقت نفسه. وعلى نحو ما ذكره إدوارد سعيد (٢٠٠١: ٦٦) قُبيل وفاته نجد أن:

الظهور التدريجي في العلوم الإنسانية لنماذجَ مشوَّشة مُفتَّتة للبحث، مثل النماذج التي تُتيحها المجالاتُ الجديدة لدراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات العِرقية، والدراسات القائمة على الهُوية وغيرها من الموضوعات الخاصة المحدودة، تبيِّن غروبَ شمسِ النماذج السلطوية القديمة القائمة على المركزية الأوروبية، وسطوعَ نجمٍ جديدٍ هو الوعي العالمي ما بعد الحداثي، وهو الذي سُلب «خطورة» التاريخ، طبقًا لأقوال بنيتا باري وغيرها. ولقد تحوَّلَت نظرية التحرُّر المناهض للاستعمار وتاريخ الإمبراطورية الحقيقي، بمذابحه واستغلاله، إلى مركز لضروب القلق وازدواجية الدلالات في نفسِ المستعمِر، ومن ثم أصبح المستعمِر الصامت مستعمَرًا منتزعًا من موقعه بصورةٍ ما.

والواضح أن الصراع بين الاستعمار ومناهضة الاستعمار أو التحرُّر من الاستعمار لم يتوقَّف قَط. وهذا هو سببُ الزيادة المطردة في أعداد باحثي الترجمة المهتمين بموضوعِ ما بعد الاستعمار؛ لأنه متصلٌ بممارسة الترجمة. ولهم، من منظور ما بعد الاستعمار أن يتجاوزوا النقل اللغوي، وأن يتعاملوا مع بعض القضايا النظرية في دراسات الترجمة، وأن ينظروا إلى الترجمة باعتبارها استراتيجيةً سياسية وأيديولوجية في ممارستهم للاستعمار والتحرُّر منه. والواقع أن المواجهة مع العولمة الثقافية لم تُعفِ أية ثقافة من التأثُّر بها، إلى حدٍّ ما، ولا تستطيع أية ثقافة أن تتجنَّب — أثناء تأثيرها في الثقافات الأخرى — أن تتأثَّر أيضًا بها، وهكذا فإن التداخُل الثقافي يتجاوز توقُّعات المرء ومقاومته. وأما بالنسبة للترجمة الثقافية الصينية الغربية، فإن القُراء الصينيين لن يتمكَّنوا من فهم القِيَم الثقافية والأفكار الأدبية الغربية، مهما بلغَت قوَّتُها وبلغ نفوذها، إلا إذا عبَّر المترجم عنها بالصينية الفصحى التي يسهُل فهمها. وفي غضون ترجمة هذه القيم الثقافية والأفكار الجمالية إلى الصينية الفصحى، نرى تحقيقَ درجةٍ كبيرةٍ من إضفاء المحلية الثقافية أو «التحرُّر من الاستعمار»؛ فطبقًا لمفهوم نايدا عن «التعادل الدينامي»، نجد أن هذه الأفكار قد صُبَّتْ في قوالب الأعراف اللغوية والثقافية الصينية. وبمرور الوقت سوف تكتسب الطابع الصيني ثم تصبح في آخر الأمر جزءًا من اللغة والثقافة الصينيتَين. وخُذ على سبيل المثال كلمات ذات أصولٍ غربية مثل sofa [أريكة] وcoffee [قهوة] وlogic [منطق] وtaxi [سيارة بالأجرة] (وهذه الأخيرة تُنطق «ديشي» بالصينية الكانتونية وإن كانت تُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ اليوم في جميع بلدان الصين القارية) تجد أنها قد أصبحَت من الكلمات التي يُكثِر الصينيون من استعمالها بل وقد أُدرجَت في المعجَم الصيني. وعلى غرار ذلك نجد أن بعض الكلمات الإنجليزية ذات الأصول الصينية مثل mahjong [لعبة تشبه الشطرنج] وtofu [طعام مستخرج من فول الصويا] وkung fu [رياضة قتالية فردية] أصبحت تُستخدم على نطاق واسع في البلدان الناطقة بالإنجليزية، أو أصبح الحاسوب قادرًا على الاعتراف بها.٤ وهكذا لا نستطيع التوصل إلى نتيجةٍ متعجِّلة تقول إن ترجمة الثقافة الغربية إلى اللغة الصينية يمثل «استعمارًا» للغة والثقافة الصينيتَين، ما دمنا نشهد ظهور شيءٍ مختلف في الوقت نفسه؛ ففي مجال الترجمة الأدبية والثقافية تُعتبَر أية ممارسةٍ للترجمة مراجعةً أو إعادةَ كتابةٍ بلغةٍ أخرى، وفي هذه العملية تتغيَّر أشكال بعض عناصر النص الأصلي وتظهر في صورةٍ مهجَّنة في النص المستهدَف، وربما يكون ذلك نتيجةً مباشرةً للترجمة الثقافية.

سبق لي أن أشرتُ في مناسبةٍ أخرى (وانج نينج ٢٠٠١م) إلى أن العولمة، من المنظور الثقافي، لا تؤدِّي بالضرورة إلى التجانس بين جميع الثقافات الوطنية؛ إذ إنها أتت كذلك بالتنوُّع والتعدُّدية في الثقافة. وهكذا ففي عصر العولمة، حيث يُهاجِر الناس من مكانٍ إلى مكان، تتعرَّض هُويتُهم الوطنية والثقافية أيضًا إلى الانقسام إلى هوياتٍ متعددة بل ومختلفة. وفي غضون حديث جاياتري سي. سبيفاك عن كونها هندية و«أجنبية» في الولايات المتحدة، وفي إطار التراث الهندوسي، تقول — وهي المتخصصة في النقد من منظور ما بعد الاستعمار — في كتابها الأخير (١٩٩٩: ٣٩٥): «ما دامت «الأصول الوطنية» للمهاجرين الجُدُد، كما يُصوِّرونها في خيالهم، لم تُسهِم حتى الآن في الثقافة البعيدة وغير المُعترَف بها للولايات المتحدة، فإن ما نُطالِب به هو أن تعترف الولايات المتحدة بتعدُّد ألواننا نحن باعتبارنا جزءًا من تاريخها للحاضر.» ومن الصحيح فعلًا أن سبيفاك باعتبارها تتمتع بالإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، دائمًا ما تحتفظ بجواز سفَرها الهندي، وتتحدث في المنتديات الدولية باسم مفكِّري العالم الثالث إلى حدٍّ ما، بما في ذلك مفكِّرو الهند. ولم يتعرَّض تكوينُ فكرها النظري وأسلوبها في الكتابة «للاستعمار» قط، بل إنهما، على العكس من ذلك، قد أثَّرا في العديد من الباحثين والنقَّاد الغربيين المنتمين إلى الجيل الأصغر. وهكذا فإن الحقبة الحالية لا تزال تشهد معارضةً للعولمة الثقافية من جانب قوةٍ جبَّارة وعنيدة، وهي إضفاء المحلية الثقافية التي تتجسَّد بصفةٍ خاصةٍ في الترجمة الثقافية. ويشتد ساعد العولمة حينًا، كما يشتد ساعد «المحلية» حينًا آخر، ولا يزيد مستقبل توجُّه الثقافة العالمية عن هذَين الاتجاهَين المتجاورَين والمتقابلَين، بمعنى أننا قد «نُفكِّر تفكيرًا عالميًّا» ثم «نتصرف تصرُّفًا محليًّا»، أو إذا شئنا الدقة ظهر أمامنا نوع من «العولمحلية». ولما كان البشر هم الذين يقومون بالترجمة، فلن تستطيع الترجمة أن تتجنَّب أيَّ نمط من أنماط «الغَيرية»، ومن الأرجح أن تنجح في إنتاج دلالةٍ جديدة من نوعٍ ما في سياقٍ ثقافي آخر، على نحو ما توضحِّه سبيفاك التي تقول «إن الشروح الثقافية المعتادة، الكلاسيكية منها والحديثة، لمذهب الوحدانية الهندوسية الذي يفترض التعالي المطلَق للغَيرية [أي للآلهة] أصبح يتعايش مع هذه الصور للتغيُّر السريع، وهي التي تستوعبها الغيَرية استنادًا إلى حُجةٍ مستمدَّة من القصص الرمزي» (سبيفاك ٢٠٠١: ١٢٤). ولكن تُرى أي العوامل سوف تساعد على تحقيق هذا الهدف؟ الإجابة تقول إنه الترجمة؛ فالترجمة بأوسع مفهوم لها، لا تعني التغيير أو التحوُّل من لغة إلى لغة وحسب، بل تعني أيضًا التغيير أو التحوُّل من ثقافة إلى ثقافة من خلال اللغة. وإذا كان صحيحًا أننا، باعتبارنا مفكِّرين صينيين، عندما نريد أن نأتي إلى الصين بكل شيءٍ متقدمٍ من الغرب، يقتصر تركيزُنا على الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة الصينية، فمن الصحيح أيضًا أننا بعد أن نتعلم ما يكفي من الغرب، نستطيع إقامة حوار على قدم المساواة مع زملائنا الغربيين، وتكون لنا المبرِّرات الكاملة لتقديم ثقافتنا الخاصة إلى زملائنا الغربيين من خلال الترجمة؛ لأن معظم زملائنا الغربيين لا يستطيعون الآن التواصل معنا باللغة الصينية. وإذا كان الجانب الأول من هذه المقولة لا يزال يُعتبَر في نظر البعض ممارسة ﻟ «الاستعمار» الثقافي، فلا بد أن يُعتبَر الجزء الأخير منها، بلا شك، ممارسةً ﻟ «التحرُّر من الاستعمار» الثقافي. وعلينا، نحن المترجمين وباحثي الترجمة الصينيين، أن ننهض بمهمة تحرير ثقافتنا وأدبنا من الاستعمار إن كانا حقًّا قد تعرضا للاستعمار في الماضي.

١  أودُّ أن أستشهد بمثالَين بارزَين هنا، الأول ترجمة الرواية الصينية الكلاسيكية هونجلو مينج (أي قصة الحجر) للمترجم البريطاني ديفيد هوكس، المتخصِّص في الشئون الصينية، والثاني هو ترجمةُ ملحمة بوولف الإنجليزية القديمة للشاعر الأيرلندي شيماس هيني. فلقد ساعدَت كلٌّ من هاتَين الترجمتَين على إقبال الناس على عملٍ أدبيٍّ معترف بانتمائه للأدب المعتمَد في لغةٍ مستهدَفة في الحالة الأولى وفي اللغة المصدَر في الحالة الثانية.
٢  في الحالة الأولى يجب أن تكون الترجمة الصينية «جونجيو وينخيو»، وفي الحالة الأخيرة يجب أن تكون الترجمة هانيو وينخيو أو «هياوين وينخيو».
٣  على الرغم من أن القاعدة التي وضعَتها اللجنة الأوليمبية الدولية تنُص على عدم السماح لأعضائها بقبول الدعوة لزيارة المدن المتقدِّمة بالطلب في أثناء إجراءات تقديم الطلب، فمن العجائب حقًّا أن اللجنة الأوليمبية في بكين التي تقدَّمَت بالطلب قد نجحَت في ترجمة جميع تلك الوثائق بلغةٍ إنجليزيةٍ سليمة من كل الوجوه في فترةٍ زمنيةٍ محدودة. بل إن المتحدثين باسم الصين استطاعوا التعبير عن آرائهم بلغةٍ إنجليزيةٍ ذات سلاسة وطلاقة، وكان ذلك في نظري من العوامل التي قرَّبَت قطعًا بين المُدافع والمُعارض. ومن أهم ما حدث أن السيد «هي جينليانج» الذي عبَّر عن أفكاره، باسم الوفد الصيني، بطلاقة باللغتَين الإنجليزية والفرنسية، قد تمكَّن من التأثير في أعضاء اللجنة الدولية.
٤  من الطريف، وإن كان يتضمن مفارقة، أن الحاسوب الذي أستخدِمه في كتابة هذا الفصل دائمًا يقول إن الكلمات decolonisation [التحرُّر من الاستعمار] وpostcolonialism [ما بعد الاستعمار] وpostmodernity [ما بعد الحداثة] تُمثِّل أخطاءً لغوية، ولكنه يقبل كلمات مثل «كونج فو» و«توفو» باعتبارها كلماتٍ صحيحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤