عن الترجمة الثقافية: منظور من زاوية ما بعد الاستعمار
من الواضح أن وظيفة الترجمة في عصر العولمة الحالي قد تحوَّلَت إلى حدٍّ كبير من مجرد النقل اللغوي إلى التفسير الثقافي؛ فالأشخاص الذين يعيشون في «القرية العالمية» ويتكلمون لغاتٍ مختلفة وينتمون إلى تقاليدَ ثقافيةٍ متفاوتة في حاجةٍ إلى التواصل فيما بينهم، حتى لا ينعزلوا عن العالم الخارجي. وهكذا فإن الترجمة تنهض بدَورٍ يزداد اعتباره محتومًا في بناء هذه الشبكات «الثقافية» والتواصلية. وأما فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي للترجمة في سياق العولمة اليوم، فقد وضَع الباحثون أوصافًا أو تعريفاتٍ شتى لهذه الظاهرة أو النشاط الذي يتعذَّر الحسم في طبيعته، سواء كان ذلك من المنظور اللغوي أو من المنظور الثقافي، أو حتى من المنظور عَبْر الثقافي، بعد أن أصبحَت دراسات الترجمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدراسات الثقافية، بل وازداد ارتباطُها المذكور بها زيادةً مطردة في السنوات الأخيرة (باسنيت وليفيفير ٢٠٠١م). وعلى الرغم من أنه قد سبق لي، أنا نفسي (وانج نينج ٢٠٠٠أ) أن أعَدتُ تعريف الترجمة من خلال ربطها بالدراسات الثقافية السائدة حاليًّا في مناسباتٍ أخرى، فإنني أودُّ هنا أن أؤكِّد من جديد أن الترجمة، في نهاية الأمر، مسألةٌ ثقافية، خصوصًا عندما نتكلم عن الترجمة باعتبارها تمثيلًا أدبيًّا وتفسيرًا ثقافيًّا فيما يتعلق بوظيفة التواصُل الثقافي والتفسير الثقافي التي تؤدِّيها. ومن المُحال ألا يُصادِف المرءُ عناصرَ ثقافية اليوم إذا كان يمارس الترجمة أو يعمل في مجال دراسات الترجمة، فإن ترجمة عملٍ أدبيٍّ حافل بظلال الدلالات الثقافية يعني تمثيلَ بل وتفسيرَ المضمون الثقافي الحافل والذي قد يدقُّ على الأفهام، وكذلك الروح الجمالية الكامنة في العمل الأدبي المكتوب بلغةٍ أخرى. ولكن كيف تتلاعب الثقافة بممارسة الترجمة؟ وعندما ننظر إلى الترجمة من منظورِ ما بعد الاستعمار، كيف ننظر إلى الترجمة باعتبارها قادرةً على «استعمار» ثقافةٍ معيَّنة و«تحريرها من الاستعمار» في الوقت نفسه إذا اضطلعَت بهذه المهمة؟ هذا هو ما يعتزم الفصل الحالي معالجتَه بأسلوبٍ نقدي ونظري، خصوصًا فيما يتعلق بتطور الثقافة الصينية الحديثة والتطور التاريخي للأدب الصيني الحديث، وهي «عمليات» قام فيها الأدب المترجَم بدَورٍ من المُحال إبدالُه أو فصلُه عن تشكيل الحداثة الثقافية والأدبية في الصين.
(١) الترجمة باعتبارها تمثيلًا ثقافيًّا ديناميًّا
لا شك أن الترجمة قد وُجدَت منذ زمنٍ طويل في الصين وفي الغرب، منذ أن بدأ الناس التواصُل فيما بينهم، بل إن الترجمة الأدبية قد نهضَت بدورٍ أهمَّ في تمكين الناس في شتَّى البلدان أو الأمم، أو ذوي الخلفيات الثقافية المتفاوتة، ومن يتكلمون لغاتٍ مختلفة، من قراءة وتقدير الأعمال الأدبية الممتازة المكتوبة بلغاتٍ أخرى أو المنتمية إلى شتَّى التقاليد الثقافية. ولولا وساطة الترجمة ما كُنا قرأنا ملحمتَي هوميروس قط ولا توقَّعنا قراءتهما بلغتهما اليونانية الأصلية، ولا كان بإمكان معظم القُراء الغربيين تقدير جمال الشعر الصيني المكتوب في عهد أسرتَي «تانج» و«سونج» باللغة الصينية. وهكذا فإن الترجمة في الواقع جسرٌ يصل ما بين الأمم المختلفة، ويَعبُر الحدود الثقافية واللغوية. والترجمة الجيدة قادرةٌ على نقل منتَجاتٍ ثقافيةٍ ممتازة من تراثٍ ثقافيٍّ معيَّن إلى تُراثٍ آخر، وبذلك تحقِّق «ترحال الأدب» وتُثري الإبداع الأدبي للأمة المستقبِلة لها، وعلى غِرار ذلك تؤدي الترجمةُ الرديئةُ دون شك إلى الحط من شأن أعمالٍ أدبيةٍ بلغتها الأصلية. ولكن كيف نصل إلى مستوى الترجمة الجيدة أو المناسبة، ما دام معيار الترجمة يستعصي دائمًا على التحديد؟ والواضح، كما تُثبِت حقائقُ متعددة، أنه لا وجود لما يُسمَّى الترجمة الجيدة أو المناسبة بصورةٍ «مطلقة»، ما دامت ممارسة الترجمة في أيدي البشر، وما دام المعيار المذكور يضعه البشر أيضًا؛ فالمترجم ليس آلة، بل هو إنسانٌ يتَّسم بفهمٍ دينامي، ويتميَّز أحيانًا بالتلقِّي الإبداعي للأصل الذي يفسِّره. ومن الأرجح في غضون ممارسة الترجمة أن يؤثِّر فهمه أو حتى سوء فهمه للأصل في تقديمه أو سوء تقديمه له في اللغة المستهدَفة. كما أن قدرته اللغوية والثقافية سوف تُقرِّر أيضًا إذا كان المترجِم قادرًا على أن يجعل نسخته [المترجَمة] أقرب إلى الأصل أم لا، من زاوية الشكل اللغوي والروح الجمالية والثقافية.
ومن ثَم فإن الترجمة المناسبة لن تعدُوَ كونَها ترجمةً «جيدة»؛ أي ترجمة تؤدي ما يتوقَّعه المرء منها، وباختصار، تصبح نسخة تؤدي مهمتها، وتُسدِّد دَيْنها، وتقوم بعملها أو بواجبها في أثناء نقشها في اللغة المستقبِلة لها المعادلَ الأنسبَ للأصل؛ أي اللغة التي هي الأصح، والأكثر ملاءمة واتصالًا بالأصل، والأقرب إلى الكفاية والتوفيق والدقة والوضوح في الدلالة، والاتفاق مع المصطلح اللغوي، وهلُم جَرًّا. (ص١٧٧)
وعلى الرغم من أن دريدا — الذي يمارس التفكيكية في زحزحة أي «مركزٍ» ثقافيٍّ أو لغويٍّ عن مكانه — يُدرِك بوضوحٍ أنه من شِبه المستحيل تحقيق ترجمةٍ مناسبةٍ فعلًا، فإن محاولته الوصول إلى هذا المثل الأعلى محاولةٌ قيِّمة، ما دام معظم منظِّري ما بعد الحداثة يُركِّزون على الإجراءات المتَّخَذة لا على النتيجة نفسها. وقد أدَّت قراءة دريدا التفكيكية إلى طمس الحد الفاصل في الواقع بين الأدب والفلسفة، واستبقَت نوعًا من «النهاية» للفلسفة (بمفهومها التقليدي). وهكذا فالمذهب التفكيكي يقول إنك لا تستطيع إلا الاقتراب من الحقيقة، ولكنك لا تستطيع الإحاطة بها أبدًا، وبذلك لا تكون ترجمة الثقافة والنظرية إلا دائرةً من دوائر التفسير، وأما الحسم القاطع الذي تأتي به الحقيقة (المعنى الأصلي) فهو غائب دائمًا. ويصدُق هذا على ترجمة العمل الأدبي وتفسيره؛ لأن ظلال الدلالات الأدبية حافلةٌ شاملة تقبل اختلافَ الفهم بل واختلافَ التفسيرات. وما الترجمة في الواقع إلا ممارسةٌ حوارية؛ أي إن المترجم دائمًا يشتبك في حوارٍ مع المؤلف والنص، بل وأحيانًا مع القارئ؛ وهكذا فإن «المعنى» المترجَم أو الدلالة المترجَمة من ثمار مثل هذه الممارسة الحوارية. وبذلك فإن مطلب الترجمة المناسبة يشبه تمامًا البحث عن «كأسٍ مقدسة» مثالية، وإن كانت النتيجة الكاملة النهائية سوف تظل دائمًا غير محقَّقة.
والواضح أنه لما كانت الأعمال الأدبية تتكون من علاماتٍ جماليةٍ توقيفية، وتتميَّز إلى حدٍّ ما بعدم الحسم، فإنه من شبه المستحيل تمثيل ظلال الدلالات الثقافية الدقيقة في عملٍ فنيٍّ معيَّن باللغة المصدَر تمثيلًا صادقًا أو «أمينًا». ويزداد وضوح ابتعاد عملية الترجمة عن إخراج نص «مناسب» خصوصًا في حالات الترجمة عَبْر الثقافية، مثل الترجمة من الإنجليزية إلى الصينية أو العكس. ولا شك أن منظِّري أو باحثي الترجمة في الصين وفي الغرب قد بذلوا جهودًا كثيرة للعثور على الأسلوب الفعَّال للنقل «الأمين» للمعنى اللغوي للنص المصدَر إلى اللغة المستهدَفة من دون تغيير المعنى الأصلي، ولكن جهودهم لم تُحقِّق النجاح حتى الآن. ونحن نذكُر أن «يان فو» — المُنظِّر الرائد للترجمة الصينية الذي استكشف عمليًّا صحة هذا المعيار، والذي تعرَّض معياره الخلافي الشهير للترجمة الأدبية الجيدة لمناقشاتٍ حاميةٍ منذ تقديمه له — قد حاول ذات يوم وَضْع مراتبَ تصاعديةٍ لعناصر معياره الثلاثة وهي خين (الأمانة) ودا (التعبيرية) ويا (الرشاقة)، قائلًا إن الأمانة تأتي أولًا في كل حالة، لكنه لم يُبيِّن بوضوح مدى إمكان تحقيق الأمانة. بل ولم تُثبِت ممارسته للترجمة فاعليَّتها. وهكذا فإن معياره لا يستطيع إقناع المترجمين بصورةٍ كاملة؛ لأنه يفتقر من ناحية إلى الأبعاد النظرية، ولسببٍ آخر أكثر أهمية، وهو عدم تأكيده تأكيدًا كافيًا للعناصر الثقافية للعمل الأدبي، ومع ذلك فإن معياره قد أتاح مساحةً كبيرةً للمزيد من النقاش والاستكشاف؛ ولهذا السبب يبدأ باحثو الترجمة الصينيون اليوم مناقشاتهم لمعايير الترجمة عادةً بالنظر في المعيار الثلاثي الذي وضَعه يان. وأودُّ أن أقول، صراحةً، إنه على الرغم من التطور السريع لنظرية الترجمة ودراسات الترجمة في الغرب، فإننا — نحن باحثي الترجمة الصينيين — لم نُنجِز شيئًا يُذكَر للدفع قُدُمًا بدراسات الترجمة الصينية في سياق الحوار الدولي. وهذا أيضًا من الأسباب المهمة التي تَحوُل دون قيام معظم باحثي الترجمة الصينيين بإجراء حواراتٍ على قدم المساواة مع نظرائهم الدوليين. وليست المشكلة مجرد مشكلةٍ لغوية، بل إنها عدة مشكلاتٍ نظريةٍ وثقافية، ما دام جميع المترجمين قادرين على الإحاطة بلغةٍ أجنبيةٍ واحدة على الأقل، ومن المتوقَّع إحاطتُهم بثقافتَين اثنتَين على الأقل. وقد أتاحت العولمة لنا، في هذا الصدد، مجالًا رحيبًا لإجراء دراسات الترجمة في سياقٍ عَبْر ثقافيٍّ أوسع والتواصُل المباشر مع البحوث الدولية.
(٢) من الاستعمار إلى التحرُّر من الاستعمار: بناء وإعادة بناء الثقافة الأدبية الصينية الحديثة
إن هذا الحيِّز الذي تشغَله ترجمة الاختلاف الثقافي في الفراغات البينية (بين الثقافتَين) يغشاه الطابعُ المؤقَّت للحاضر، وَفْق تعريف فالتر بنيامين، الذي يُصوِّر لحظةَ انتقالٍ بارزة، لا مجرد الاستمرار الكلي للتاريخ. وهو سكونٌ غريبٌ يحدِّد معنى الحاضر الذي تصبح فيه كتابة التحوُّل التاريخي نفسها ظاهرةً للعيان ظهورًا عجيبًا. وأما الثقافة المهاجرة في «المابين» [أي في المنطقة البينية]؛ أي وَضْع الأقلية، فتُمثِّل تمثيلًا دراميًّا «فعل» استعصاء الثقافة على الترجمة، وبهذا تبين استحالة الاستيلاء على الثقافة، متجاوزةً حُلم الحالمين باستيعاب الثقافة، أو كابوس العنصريِّين، المتمثِّل في «النقل الكامل للمادة [الثقافية]».
في ظل هذا الوعي تزداد باطرادٍ صعوبة دراسة الأدب البريطاني أو الأمريكي من دون تحديد موقعه الجغرافي، والثقافة أو الثقافات التي خرج منها، في عروضٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للحدود الوطنية ومرتبطةٍ بالعولمة. ونرى في الوقت نفسه أن التكاثُر الهائل في الأدب الإنجليزي المكتوب خارج بريطانيا والولايات المتحدة قد أوضَح أن هذا الأدب أصبَح لا يعتمد على الأمة التي تكتُبه بقَدْر ما يعتمد على لغةٍ يكتُب بها مؤلفون ينتمون إلى خلفياتٍ ثقافيةٍ وعرقيةٍ منوَّعة. وعولمة اللغة الإنجليزية، من هذه الزاوية، ليست صياغةً نظرية أو برنامجًا سياسيًّا وضَعه بعض الراديكاليين في العلوم الإنسانية ليحل محل الأدب المُعتمَد. ويزداد طابعُ ما بعد الاستعمار باطراد في الأدب الإنجليزي … وأود أن أسوق الحُجة على أننا نستطيع أن نُعيد تنظيم مدخلنا بصورةٍ أشدَّ فعاليةً إلى دراسةِ ما درجنا على معاملته حتى الآن باعتباره أدبًا أو آدابًا قومية (في مناهجنا وبرامجنا الدراسية) بتأكيد علاقة الأدب بضروب التقدم التاريخي للعولمة. وتتضمَّن مثل هذه الخطوة رفض القول بأن العولمة في جوهرها حدَثٌ معاصر والاعتراف بأن لها تاريخًا طويلًا.
والواقع أن العولمة ليست حدثًا معاصرًا بل اتجاهٌ عملي بدأ قبل الجزء الأخير من القرن العشرين بوقتٍ طويل (روبرتسون، ١٩٩٢م). وقد اتسع نطاقها وطمسَت الحدود الجغرافية للغة الإنجليزية، وهكذا فعندما نذكُر الأدبَ الإنجليزي اليوم فإننا نُشير في الواقع إلى الأدب البريطاني وآداب بلدان الكومنولث المكتوبة بالإنجليزية المعتمَدة أو بلغةٍ «إنجليزيةٍ» أخرى. ولما كانت الاختلافات تتزايد بين هذه اللغات «الإنجليزية» فسوف يزداد ظهور وظيفة الوساطة التي تقوم بها الترجمة الثقافية.
وعندما نتفق على أن العولمة ليست على الإطلاق من أحداث القرن العشرين (وانج نينج ٢٠٠١م) فإننا نشير بصفةٍ خاصةٍ إلى حدوثها في الثقافة، فإذا كنا نعتقد أن العولمة الاقتصادية بدأَت باكتشاف كولمبوس لأمريكا عام ١٤٩٢م، فإن العولمة الثقافية كانت قد بدأَت قبل ذلك الوقت، وفي هذه العملية، كانت الترجمة ولا تزال تلعب دورًا مُهمًّا في الإسراع بخطوات العولمة الثقافية. ومن حق الناس أن يتصوَّروا أن العولمة الثقافية قد أتت بالتجانُس الثقافي، ولكن الواقع يقول إن العولمة قد أدَّت أيضًا، في إطار هذا التجانُس الثقافي، إلى تنوُّعٍ وتعدُّديةٍ ثقافية. وسوف أعالج هذه القضية بإلقاء الضوء على حالة الأدب الصيني الحديث الذي كانت الترجمة سببًا في وجوده إلى حدٍّ كبير.
نعرف جميعًا أن الصين كانت يومًا ما «إمبراطوريةً مركزية» قوية، وكان سكانها يرَون أنهم يقيمون في مركز العالم نفسه، وأن جميع الأمم الأخرى تقع على أطراف العالم. وفي عهد أسرة قينج الحاكمة وخصوصًا بعد حرب الأفيون، فقدَت الصين قوَّتَها الإمبراطورية وأصبحَت بالتدريج دولةً «هامشية» لا من الزاويتَين الاقتصادية والسياسية فحسب، بل أيضًا من الزاوية الثقافية. وأبناء البلدان المتخلِّفة الذين يريدون اللحاق برَكْب الدول المتقدمة في الاقتصاد والثقافة، دائمًا ما يبذلون جهودًا مُضنيةً للتعلُّم من الدول المتقدِّمة في مجال العلم والتكنولوجيا، وكذلك في الاقتصاد والإدارة والثقافة، بحيث لا يقتصر ما يستوردونه من تلك البلدان على العلم والتكنولوجيا، بل يتضمن الأدب والثقافة أيضًا، وإذا نظرنا إلى تاريخ الأدب والثقافة الحديثَين في الصين وجدنا أن الترجمة قد نهضَت فعلًا بدَورٍ مُهم في تشكيل الحداثة الثقافية في الصين، وإعادة بناء الخطاب الأدبي والنقدي للأدب الصيني الحديث؛ فإلى جانب الجهود الرائدة التي بذلها يان فو، قدَّم كانج يووي، وليان قيشاو، ولين شو، إسهاماتٍ كبيرةً في بناء الحداثة الثقافية الصينية من خلال حماسهم في الدعوة إلى ترجمة الأعمال الأدبية والأكاديمية الأجنبية. وكان من شأن دعوتهم النظرية وجهودهم العملية أن مهَّدَت الطريقَ إلى الترجمة الشاملة للتيارات الثقافية والأعمال الأدبية الغربية إلى اللغة الصينية في الجزء الأخير من القرن العشرين. وكانت أعمالهم الأدبية المترجَمة مصدَر إلهام لكُتَّاب حركة الرابع من مايو في كتاباتهم الإبداعية. وكان هؤلاء الكُتَّاب وغيرُهم من الأجيال اللاحقة، خصوصًا لو خون، وجوو موريو، وماو دون، وكاو يو، وبا جين، يرَون أن أعظم ما أثَّر في كتاباتهم لم يكن يتمثَّل بالضرورة في الثقافة والأدب الصينيَّين التقليديَّين، بل الأدب الأجنبي (المُترجَم) وخصوصًا الأدب والثقافة الغربيَّين. وقد قال «جوو» ذات مرة إنه يمثِّل في الصين ما يمثِّله الشاعر «وولت ويتمان» في أمريكا، وقال «كاو» إنه يرى نفسه «إبسن» الصين. وليس من الغريب إذن أن يرى بعض المفكِّرين الصينيين المحافظين أن الترجمة قامت بدور «استعمار» الثقافة والأدب الصينيَّين الحديثَين، لأن هؤلاء الكُتَّاب خرجوا على التقاليد الطويلة للثقافة والأدب الصينيَّين الكلاسيكيَّين. وكان من نتائج هذا أنَّ أوَّل موجةٍ عاليةٍ من موجات «اكتساب الطابع الغربي» ظهَرَت في النصف الأول من القرن العشرين حاملةً أشكالًا ذات طابعٍ غربيٍّ أو مُسْتَعْمَر، من الكتابة الأدبية والنقدية، وبعض المعايير الثقافية، في الصين.
من الواضح أنه من المُحال في الوقت الحالي أن يستمع إلينا كل الناس في مناطق العالم الأخرى باللغة الصينية، لسببٍ يرجع في جانبٍ منه إلى الصعوبة البالغة في إتقانها، وفي جانبٍ آخر إلى أن اقتصاد الصين في الوقت الراهن لم يبلغ من القوة ما يُحفِّز الأجانب جميعًا على دراسة اللغة والثقافة الصينيَّين، وحتى حين يتقن زملاؤنا الغربيون اللغة الصينية إتقانًا حقيقيًّا، فإنه يتعذَّر عليهم، رغم ذلك، فَهْمُ الدلالات الدقيقة للثقافة الصينية وخوافي الروح الجمالية الصينية. وهكذا نعتمد مؤقتًا على اللغة الإنجليزية في التعامُل بفعاليةٍ أكبر مع المجتمع الدولي، فهي لغة العمل الدولية الأكثر شيوعًا، وبها نستطيع أن نُترجِم ونقدِّم منتجاتِنا الثقافية الممتازة إلى العالم. وأما الخطابان النقدي والنظري اللذان استعرناهما من الغرب، فعلينا أن نستعملهما في التواصُل مع زملائنا الغربيين إذا كنا نريد إقناعهم بأبنيتنا النظرية الخاصة. ولكن، مع ذلك، فإن هذَين الخطابَين المستعارَين قد سبق اختلاطهما بالخطابَين النقدي والنظري الصينيَّين الأصيلَين في غضون تواتُر استخدامنا لهما وإضفاء الطابع المحلي عليهما في السياق الصيني. ولما كانت الممارسة النقدية الصينية مستمدة من الإبداع الأدبي الصيني فإن أنواع هذا الخطاب «المستعار» من الغرب لم يتحوَّل شكلُها فقط وتكتسب الطابع الصيني، بل إنها أفرزَت دلالاتٍ جديدةً سوف تؤدي بدورها إلى إلهام زملائنا الغربيين والتأثير فيهم. وهكذا فإن التعارُض الثنائي بين «الاستعمار» الثقافي و«التحرر من الاستعمار» الثقافي قضية لا بد من نقضها، ما دامت الترجمة قادرةً على أن تنهض بدَورٍ مزدوج في التواصُل والحوار ثقافيًّا على المستوى الدولي.
(٣) نحو نوع من العولمحلية للترجمة الثقافية
الترجمة هي الجانب العملي للتواصل الثقافي؛ فهي اللغة إبَّان العمل (أي أثناء التعبير وتحديد المواقع) لا اللغة من حيث الوظيفة (أي من حيث الفكر والمقولات). وللترجمة سمةٌ دائمًا ما تعلن أو تكشف عن الأزمنة والأمكنة التي تفصل بين السلطة الثقافية وممارساتها العملية. ويتكوَّن زمن الترجمة من حركة المعنى، وهو مبدأ الاتصال وممارسته التي تؤدِّي، كما يقول بول دي مان، إلى «تحريك الأصل ابتغاء نزع القداسة عنه، وإكسابه حركة التفتُّت، وتجوال التشرُّد، أو منفًى دائمًا من نوعٍ ما».
الظهور التدريجي في العلوم الإنسانية لنماذجَ مشوَّشة مُفتَّتة للبحث، مثل النماذج التي تُتيحها المجالاتُ الجديدة لدراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات العِرقية، والدراسات القائمة على الهُوية وغيرها من الموضوعات الخاصة المحدودة، تبيِّن غروبَ شمسِ النماذج السلطوية القديمة القائمة على المركزية الأوروبية، وسطوعَ نجمٍ جديدٍ هو الوعي العالمي ما بعد الحداثي، وهو الذي سُلب «خطورة» التاريخ، طبقًا لأقوال بنيتا باري وغيرها. ولقد تحوَّلَت نظرية التحرُّر المناهض للاستعمار وتاريخ الإمبراطورية الحقيقي، بمذابحه واستغلاله، إلى مركز لضروب القلق وازدواجية الدلالات في نفسِ المستعمِر، ومن ثم أصبح المستعمِر الصامت مستعمَرًا منتزعًا من موقعه بصورةٍ ما.
سبق لي أن أشرتُ في مناسبةٍ أخرى (وانج نينج ٢٠٠١م) إلى أن العولمة، من المنظور الثقافي، لا تؤدِّي بالضرورة إلى التجانس بين جميع الثقافات الوطنية؛ إذ إنها أتت كذلك بالتنوُّع والتعدُّدية في الثقافة. وهكذا ففي عصر العولمة، حيث يُهاجِر الناس من مكانٍ إلى مكان، تتعرَّض هُويتُهم الوطنية والثقافية أيضًا إلى الانقسام إلى هوياتٍ متعددة بل ومختلفة. وفي غضون حديث جاياتري سي. سبيفاك عن كونها هندية و«أجنبية» في الولايات المتحدة، وفي إطار التراث الهندوسي، تقول — وهي المتخصصة في النقد من منظور ما بعد الاستعمار — في كتابها الأخير (١٩٩٩: ٣٩٥): «ما دامت «الأصول الوطنية» للمهاجرين الجُدُد، كما يُصوِّرونها في خيالهم، لم تُسهِم حتى الآن في الثقافة البعيدة وغير المُعترَف بها للولايات المتحدة، فإن ما نُطالِب به هو أن تعترف الولايات المتحدة بتعدُّد ألواننا نحن باعتبارنا جزءًا من تاريخها للحاضر.» ومن الصحيح فعلًا أن سبيفاك باعتبارها تتمتع بالإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، دائمًا ما تحتفظ بجواز سفَرها الهندي، وتتحدث في المنتديات الدولية باسم مفكِّري العالم الثالث إلى حدٍّ ما، بما في ذلك مفكِّرو الهند. ولم يتعرَّض تكوينُ فكرها النظري وأسلوبها في الكتابة «للاستعمار» قط، بل إنهما، على العكس من ذلك، قد أثَّرا في العديد من الباحثين والنقَّاد الغربيين المنتمين إلى الجيل الأصغر. وهكذا فإن الحقبة الحالية لا تزال تشهد معارضةً للعولمة الثقافية من جانب قوةٍ جبَّارة وعنيدة، وهي إضفاء المحلية الثقافية التي تتجسَّد بصفةٍ خاصةٍ في الترجمة الثقافية. ويشتد ساعد العولمة حينًا، كما يشتد ساعد «المحلية» حينًا آخر، ولا يزيد مستقبل توجُّه الثقافة العالمية عن هذَين الاتجاهَين المتجاورَين والمتقابلَين، بمعنى أننا قد «نُفكِّر تفكيرًا عالميًّا» ثم «نتصرف تصرُّفًا محليًّا»، أو إذا شئنا الدقة ظهر أمامنا نوع من «العولمحلية». ولما كان البشر هم الذين يقومون بالترجمة، فلن تستطيع الترجمة أن تتجنَّب أيَّ نمط من أنماط «الغَيرية»، ومن الأرجح أن تنجح في إنتاج دلالةٍ جديدة من نوعٍ ما في سياقٍ ثقافي آخر، على نحو ما توضحِّه سبيفاك التي تقول «إن الشروح الثقافية المعتادة، الكلاسيكية منها والحديثة، لمذهب الوحدانية الهندوسية الذي يفترض التعالي المطلَق للغَيرية [أي للآلهة] أصبح يتعايش مع هذه الصور للتغيُّر السريع، وهي التي تستوعبها الغيَرية استنادًا إلى حُجةٍ مستمدَّة من القصص الرمزي» (سبيفاك ٢٠٠١: ١٢٤). ولكن تُرى أي العوامل سوف تساعد على تحقيق هذا الهدف؟ الإجابة تقول إنه الترجمة؛ فالترجمة بأوسع مفهوم لها، لا تعني التغيير أو التحوُّل من لغة إلى لغة وحسب، بل تعني أيضًا التغيير أو التحوُّل من ثقافة إلى ثقافة من خلال اللغة. وإذا كان صحيحًا أننا، باعتبارنا مفكِّرين صينيين، عندما نريد أن نأتي إلى الصين بكل شيءٍ متقدمٍ من الغرب، يقتصر تركيزُنا على الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة الصينية، فمن الصحيح أيضًا أننا بعد أن نتعلم ما يكفي من الغرب، نستطيع إقامة حوار على قدم المساواة مع زملائنا الغربيين، وتكون لنا المبرِّرات الكاملة لتقديم ثقافتنا الخاصة إلى زملائنا الغربيين من خلال الترجمة؛ لأن معظم زملائنا الغربيين لا يستطيعون الآن التواصل معنا باللغة الصينية. وإذا كان الجانب الأول من هذه المقولة لا يزال يُعتبَر في نظر البعض ممارسة ﻟ «الاستعمار» الثقافي، فلا بد أن يُعتبَر الجزء الأخير منها، بلا شك، ممارسةً ﻟ «التحرُّر من الاستعمار» الثقافي. وعلينا، نحن المترجمين وباحثي الترجمة الصينيين، أن ننهض بمهمة تحرير ثقافتنا وأدبنا من الاستعمار إن كانا حقًّا قد تعرضا للاستعمار في الماضي.