نحو مداخل تعدُّدية وبَيْنية
نظرة على دراسات الترجمة في الصين المعاصرة
شهدَت الصين، منذ أن أعادت فتح أبوابها على العالم الخارجي عام ١٩٧٨م، موجاتٍ عاليةً من الترجمات الأدبية، للأعمال الكلاسيكية العالمية، والأعمال الروائية والشعرية المعاصرة، وما أعقَب ذلك من الفَيض الزاخر للأفكار الغربية، كما شَهِد العقدان الأخيران اهتمامًا متزايدًا من جانب الباحثين والمنظِّرين بدراسات الترجمة، وجهودًا علميةً دقيقة من جانبهم لجعلها مبحثًا مستقلًّا. والملاحظ أن باحثي الترجمة مُنهمِكون حاليًّا في إعادة التفكير في المشكلات القديمة في الترجمة، مثل طبيعة الترجمة، واستراتيجيات الترجمة المُستخدَمة، ومعايير تقييم الترجمات العملية؛ وأنهم يصادفون كذلك مشكلاتٍ جديدةً نابعة من تغيُّر السياقات الاجتماعية والثقافية، وهي التي تتطلَّب منهم مواصلة جهودهم لتحديث مناهجهم التحليلية وتوسيع رؤى بحثهم.
وفي عصر العولمة الحالي يزداد باطرادٍ تبادُل الرؤى الأكاديمية التي تربط مفكِّري العالم بعضهم بالبعض من خلال المؤتمرات وحلقات العمل والبحوث المنشورة، وهكذا نجد أن باحثي الترجمة من مختلف البلدان قد ارتبطوا بحواراتٍ «تفاعلية»، وأتَوا بنظراتٍ ونماذجَ مُثمرة بمداخلهم المتفاوتة. وقد أدى هذا المُناخ الأكاديمي المتَّسم بالانفتاح والبَيْنية؛ أي تداخُل التخصُّصات، في السنوات الأخيرة إلى تيسير التفاعل بين باحثي الترجمة الصينيين ونظرائهم الغربيين. وكان من نتائج ذلك أن ساعَد هذا التبادُل على بناء الوعي بتعدُّد المنظورات بين الباحثين الصينيين، ودعوتهم إلى تطبيق المفاهيم والنماذج التي تقدِّمها نظرياتُ الترجمة الغربية لمعالجة القضايا المحلية وزيادة تطويرها. وفي الوقت نفسه أصبحَت أصواتُ الباحثين الصينيين مسموعةً على نطاقٍ واسعٍ في منتديات التبادل الثقافي المختلفة، وأصبحَت منجَزاتُهم تمثِّل إضافاتٍ إلى مداخل دراسات الترجمة وتعميقًا لنطاقها الذي يشمل بعض القضايا المتصلة بها.
وحتى منتصف القرن العشرين كانت دراسات الترجمة في الغرب مبحثًا ناشئًا، يستوعب أفكارًا من المجالات المتصلة بها بصورةٍ تقليدية، مثل الهرمانيوطيقا [التفسير/التأويل] والفلسفة والأنثروبولوجيا، واللغويات، والأدب المقارن، والنقد الأدبي. كما اتجهَت دراسات الترجمة إلى تغيير بؤرة تركيزها وتوسيع حدودها، خصوصًا في العقدَين الأخيرَين اللذَيْن شهدا أفكارًا إبداعية من مذاهبِ ما بعد البِنيوية، والتفكيكية، والنقد النِّسوي، وما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية، وهي الأفكار التي انتشرَت في المجالات المجاورة لها. ويقول إدوين جنتزلر (٢٠٠٣: ١١): إن نظرية الترجمة قد شهدَت تكاثُرًا كبيرًا في النظرات الثاقبة الجديدة، وتفتَّحَت فيها براعمُ أفكارٍ إبداعيةٍ جديدةٍ مستقاة من التطورات في ميادينَ أخرى، ودراساتٍ بينيةٍ جديدة ومتعدِّدة. ولا شك في صحة وصفه القائم على نظراتٍ ثاقبة، وهو ما يصدُق أيضًا على دراسات الترجمة في الصين في الحقبة الراهنة.
(١) التطوُّر التاريخي لدراسات الترجمة في الصين الحديثة
يكشف الاستقصاء الموجز للتطوُّر التاريخي لدراسات الترجمة في الصين الحديثة عن أن التفكير في الترجمة كان يستند أساسًا إلى ذائقة المترجمين الأفراد وخبرتهم لا على نظريةٍ ذات بناءٍ منهجي للترجمة؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، وبعد انهيار الإقطاع، أطلَق عددٌ من المفكِّرين الإصلاحيين في الصين، وكان أفضلهم كانج يوواي، وليانج قيشاو، حملةً من الترجمات للأعمال الأدبية والفلسفية الغربية. وقد أفاد نشرُ المعارف الغربية البرنامجَ السياسي، وساعدَه على أن يحقِّق غايتَه في إرشاد الشعب الصيني وتعليمه ومساعدته على أن يطرحَ نِير الإقطاع ويُقصيه عن ذهنه. وكان من بين هؤلاء الباحثين والمترجمين الذي انكبُّوا على تقديم الأعمال الغربية وترجمتها، «يان فو» الذي وضع مَعْلَمًا على طريق التفكير في الترجمة في الصين الحديثة يتمثَّل فيما يُعتبَر مبادئَ هادية، وهي خين، دا، يا [أي الأمانة والتعبيرية والرشاقة]، والتي أصبح يُستشهَد بها على نطاقٍ واسعٍ منذ أن وضَعها. وكانت أفكار يان فو عن الترجمة تستند إلى معرفته الواسعة باللغتَين الصينية والإنجليزية، وكثرة ممارسته للترجمة. ومع ذلك فإن هذه الأفكارَ ذاتَ النفوذ الواسع لم تكن مستقاةً من نموذجٍ نظري لدراسات الترجمة، بل إنه عرضَها في تصديره لترجمته لكتاب التطوُّر والأخلاق الذي وضَعه توماس هكسلي، وهو الذي نشَر باللغة الصينية في عام ١٨٩٨م، باعتباره يقوم على خبرته الشخصية وفهمه لما ينبغي أن تكون عليه الترجمة الجيدة.
كان تقديم الأعمال الأدبية والفلسفية الغربية من العوامل التي ساعدَت على تحقيق الرسالة النبيلة، وهي الخروج من عهد الإقطاع وبناء ثقافةٍ حديثةٍ ديمقراطيةٍ علمية في مكانه. وإلى جانب ذلك، كانت التعليقات البنَّاءة التي قدَّمها عددٌ من المترجمين المتميِّزين في تلك الفترة بمثابة إسهامٍ في إرساء أساس نظرية الترجمة الصينية الحديثة.
وفي النصف الأول من القرن العشرين وصلَت إلى الصين المعارفُ الغربيةُ الحديثة والآدابُ الأجنبية، وتحقَّق التلاقي بين الثقافة والأدب الصيني وبين نظيرَيهما في الغرب من خلال الترجمة إلى حدٍّ كبير، فكان للأعمال الغربية المُترجَمة تأثيرٌ كبير في المجتمع الصيني قبل عهده الحديث، إذا أُدخلَت التجديدات في بواكير الأدب الصيني الحديث وخدمَت البرنامجَ السياسي المتمثِّل في تعليم وتثقيف السكان عمومًا. وبالإضافة إلى ذلك قدَّم المترجمون المتميِّزون أفكارهم عن قضايا الترجمة في تصديرهم [للكُتب المترجَمة] وتعليقاتهم ومراجعاتهم وبعض المقالات المستقلة، وهو ما أرسى الأساس لنظرية الترجمة الصينية الحديثة. وقد يُساعِدنا الاستقصاء الموجَز لها على أن نُدرك مبادئ الترجمة وممارساتِها في تلك الفترة.
في السنوات الأولى من القرن العشرين، قام الباحثون والمُترجِمون أثناء حركة الرابع من مايو (١٩١٩م)، مثل لو خون وجوو موريو، بتقديم أفكار عن قضايا الترجمة تستند إلى أسلوب معالجتهم لمشكلات الترجمة الفعلية التي صادفوها في ممارساتهم للترجمة الأدبية، فكان «لو خون» يتبع الترجمة الحرفية، قائلًا إنه لا بد من تحقيق الأمانة ولو على حساب إمكان فهم النص (نينجخين اير بوشون). ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى قام، وكان ذلك في الثلاثينيات، بمعارضة منهج الترجمة القائم على خونيي (أي التدجين) [أي الترجمة بأسلوب اللغة المستهدَفة وثقافتها] الذي كان يدعو له أحد كبار مترجمي تلك الفترة وهو جاو جينجشين، ودعا إلى أن تُستبدل به استراتيجية بوخون (أي التغريب) وهي التي تتفق مع حُجة شلايرماخر التي تقول «إن المُترجِم يترك الكاتب [أي يبتعد عنه] إلى أقصى حدٍّ مُمكِن ويدفع القارئ إلى [الاقتراب من] الكاتب» (شولتي وبيجينيه ١٩٩٢: ٤٢). وكان سبب مناصرته لاستراتيجية التغريب أنها تسعى لإثارة الإحساس بوجود أجنبي أو غريب (واللفظة التي يستخدمها لو خون هي يانجقي) وتُلبِّي الحاجة المحلية للتجديد اللغوي، بالاستيلاء على بعض عناصر اللغات الأجنبية لإثراء اللغة الصينية. وكان لو خون أيضًا يُناصِر الحرفية (واللفظة التي يستخدمها هي يينجيي) بغرض الحفاظ على روح النص الأصلي وقوَّته (تشين فوكانج ٢٠٠٠، ٢٨٦–٣٠٧).
وشهدَت العقود الثلاثة التالية لفترة الرابع من مايو عددًا آخر من الكتاب والمترجمين البارزين الذين أسهَموا في وضع نظرية الترجمة الصينية، وهم جينج جينديو، ولين يوتانج، وجينج شينجهاو. أما جينج جينديو، الذي كان يعمل في دار نشر تُسمَّى «كوميرشال بريس» (أي دار النشر التجارية) في العشرينيات والثلاثينيات، فقد شرع في تنفيذ خطةٍ طموح تُسمَّى شيجي وينكو (أي المكتبة العالمية) معتزمًا ترجمة ونشر الكلاسيكيات العالمية. وبفضل الجهود الجبارة التي بذلها جينج وغيره من كبار المترجمين في البلد نُشر ما يربو على ١٠٠ كتاب من الكلاسيكيات العالمية ما بين عامَي ١٩٣٥م و١٩٣٦م. وكان لين يوتانج شخصيةً فذة؛ لأنه كان يمارس الترجمة من الصينية إلى الإنجليزية أيضًا، فقدَّم التراث الأدبي والفلسفي الصيني إلى العالم الخارجي. وأمَّا جو شينجهاو فقد تفرَّغ للترجمة الأدبية، على الرغم مما تعرَّض له في حياته الخاصة من أهوالٍ ومكابدةٍ بسبب الحرب، واستطاع أن يتوفَّر على ترجمة أعمال شيكسبير ويُنجِز منها ٣١ مسرحية.
وفي العقود الثلاثة التالية لإنشاء جمهورية الصين الشعبية، كانت الدوافع السياسية هي التي تتحكَّم في مسار الترجمة إلى حدٍّ كبير، وكان الأدب الثوري في الاتحاد السوفييتي المصدرَ الرئيسي للترجمة، وكان الإبداع الأدبي والترجمة الأدبية يُستخدمان لأغراض الدعاية. ومع ذلك فإن الجهود التي بذلها المترجمون الأفراد آتت أُكُلَها؛ إذ قدَّم بعضُ المترجمين البارزين في البلاد مثل فو لي، وقيان جونجشو، تعليقاتٍ بنَّاءة على الاستراتيجيات والتقنيات المستخدمة في الترجمة، وقدَّما حلولًا أيضًا لمشكلات الترجمة. ونحن نذكُر اليوم فو لي لمساهماته في ترجمة الأدب الفرنسي، وهو ما أدى إلى الشعبية التي يتمتع بها كبار الكُتَّاب الفرنسيين مثل بلزاك ورومان رولان. ويُعتبَر فو وقيان ممثلَين لكبار مترجمي ذلك العهد؛ لأنهما كانا من المفكِّرين الذين قدَّموا بحوثًا علميةً دقيقة واتَّسَموا بطاقةٍ لغويةٍ فذة، إلى جانب الإحاطة الواسعة بالثقافتَين المصدَر والمستهدَفة.
وفور انتهاء الثورة الثقافية (١٩٦٦–١٩٧٦م) شهدَت الصين موجةً جديدةً من ترجمة الأعمال الغربية. وكان الحرص على معرفة المزيد عن الغرب السمة التي تميَّزَت بها أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فتولَّى المفكرون النَّشِطون قضيةَ تقديمِ الأدب الغربي والأعمال الفلسفية الغربية وترجمتها تحقيقًا لهدف الحصول على المعارف اللازمة لإعادة الحيوية إلى الأمة. ولما كان ذلك قد حدث في أعقاب المجاعة الثقافية مباشرة، فإن ترجمة الأعمال الغربية كانت تمثِّل قناةً أساسيةً مكَّنَت الأدب الصيني أن يكتسب القوةَ من خلالها، وأتاح الثراءَ للثقافة الصينية. وكان ذلك هو السياق الاجتماعي والثقافي الذي تدفَّقَت فيه الكتاباتُ الأدبية الغربية والأعمال الأكاديمية إلى داخل الصين، فأثَّرَت تأثيرًا عميقًا في طبقة المفكِّرين. وجنبًا إلى جنب مع فَورة استيراد المعارف الغربية، بدأَت دراساتُ الترجمة تحظى باهتمامٍ أكاديمي، ومنذ ذلك الحين ودراساتُ الترجمة تُعتبَر مبحثًا ناشئًا، وتزداد في إطارها المناقشاتُ بين الباحثين حول شتى القضايا التي تثيرها الترجمة، ومن بينها أعراف الترجمة، واستراتيجيات الترجمة، ومعايير التقييم وهلُم جَرًّا.
ويُبيِّن هذا المسحُ التاريخي أن الترجمة الأدبية إلى اللغة الصينية ازدهرَت في بعض عقود القرن العشرين، وأن بعضَ الأفكار الأساسية في الترجمة الحديثة قد جاء بها المترجمون الصينيون استنادًا إلى ممارساتهم في الترجمة، ولكن عدة أسبابٍ أخرى أدت إلى تفرُّق هذه الأفكار في مقالات وكتبٍ مختلفة؛ الأمر الذي حرَمَها من تشكيل نظريةِ ترجمةٍ منهجية. وكان المترجمون هم الذين يقدِّمون معظم الإسهامات، لا الباحثون المشتغلون بدراسات الترجمة وحدهم. ونقول بصفةٍ عامةٍ إن دراسات الترجمة ظلت حتى نهاية السبعينيات بعيدةً عن أن تُعتبَر موضوعًا مكتمل التطوُّر للبحث العلمي، وكان ذلك يرجع — إلى حدٍّ كبير — إلى نقص الدقة النظرية، والمصطلحات النقدية، ومناهج البحث العلمي.
ولا شك أن العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين شهدا ازدهارًا غير مسبوق في الترجمة الأدبية وما يُعزى إليها من إحياء للاهتمام بنظرية الترجمة. ومنذ ذلك الحين وباحثو الترجمة الصينيون يشكِّلون حلقةً أكاديميةً قوية، يتركَّز بحثُها في موضوعٍ واحد وهو ما يحدُث في ترجمة النصوص والنصوص المترجَمة وما يتصل بهذا، بدلًا من القيام بالدَّور السابق وهو تحقيقُ أغراضِ تعليم اللغة والتعليم عمومًا. وقد شهدَت الأعوام الأخيرة أيضًا، بفضل جهودهم، عقد أعدادٍ متزايدةٍ من المؤتمرات، والحلقات الدراسية، التي يجري تنظيمُها على المستوى الدولي الأكاديمي، ونَشْر الكُتب والمقالات عن الترجمة. وإلى هؤلاء الباحثين المتفانين يرجع الدافع إلى بناء نظريةٍ صينيةٍ حديثة للترجمة.
(٢) دراسات الترجمة في العقدَين الأخيرَين: الاستيعاب والبناء
استفاد تطوُّر دراسات الترجمة في الصين من ثمار ازدهار هذا المبحث العلمي في البلدان الغربية؛ إذ شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين تكاثُر المقالات والكُتب التي صدَرَت عن دراسات الترجمة في الغرب، وهو ما اتفق زمنيًّا مع محاولات الباحثين الصينيين لبناء مبحثٍ مستقلٍّ لدراسات الترجمة. وسوف يُناقِش القسم التالي صورَ استيعاب باحثي الترجمة الصينيين للنظريات الغربية من حيث الخطاب النقدي، والمنظورات وطرائق التحليل. كما بذل هؤلاء الباحثون في الوقت نفسه جهودًا جهيدةً لبناء منهجٍ نظريٍّ لدراسات الترجمة الصينية.
وتتعرض مداخل دراسة الترجمة حاليًّا للتغيُّر السريع نتيجةً للعولمة الثقافية والثورة التكنولوجية. وفيما يلي عددٌ من الخصائص المميزة لدراسات الترجمة في العقدَين المنصرمَين.
(٣) بناء دراسات الترجمة الصينية: إنشاء مبحثٍ ديناميٍّ مستقل
وأدَّت عودة انبثاق الاهتمام بالترجمة إلى مناظرات ومناقشات حول إنشاء إطارٍ نظريٍّ للترجمة. وهكذا بُذلَت محاولاتٌ لبناء دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا مستقلًّا أو فرعًا من فروع العلم، وقد بدأ هذا البناء للمبحث الناشئ بالانطلاق الذي يتجاوز المداخل التقليدية للترجمة، التي كانت تخضع لذائقة المترجم وطبعه لا للمعرفة العلمية التجريبية. ويؤدِّي التخلُّص التدريجي من القيود الأيديولوجية إلى تحرُّر الباحثين الصينيين من المحاذير السياسية القديمة التي كانت تُثير الخوفَ والعَداء تجاه الأفكار والآراء الأجنبية، والشروع في استلهام المداخل المنهجية والعلمية التي وُضعَت في الغرب. وقد أدت مختلف الاتجاهات الحالية في نظريات الترجمة الغربية، والتي تتراوح ما بين المداخل ذات التوجُّه اللغوي في الخمسينيات والستينيات وبين المداخل الحديثة ذات التوجُّه الثقافي، إلى توسيع آفاق الباحثين الصينيين وزيادة مدى رؤاهم، فانتقل التركيز الذي كان مُنصَبًّا على المتطلَّبات الثلاثة في الترجمة وفقًا لمذهب «يان فو» — وهي الأمانة، والتعبيرية والرشاقة — وهي التي أثارت مناظراتٍ طويلةَ الأجل وظلَّت من القضايا الرئيسية في الترجمة عقودًا طويلة، إلى ترسيخ مبحث دراسات الترجمة، باعتباره مبحثًا ديناميًّا ناشئًا يتضمَّن أفكارًا ونماذج يستمدُّها من المجالات المجاورة له ويُطوِّرها لتحقيق أغراضه.
ففي أثناء العقد الماضي قام عددٌ من باحثي الترجمة، خصوصًا من بين باحثي هونج كونج الذين يُعتبَرون أقدَر على الحصول على نتائج البحوث الغربية الحديثة وموارد هذه البحوث، إلى جانب تمكُّنهم من التبادُل المباشر للأفكار مع الباحثين الغربيين، بكتابة دراساتٍ عميقةٍ عن بناء مبحث دراسات الترجمة في الفترة الجديدة (منذ بداية انفتاح البلد [على العالم الخارجي] في نهاية السبعينيات). وقد شجَّعوا الباحثين في الصين القارية على التواصُل مع سائر بلدان العالم وتحقيق التكامُل بين دراسات الترجمة الصينية وبين المباحث العلمية الدولية؛ إذ نشَرَت إيفا هوج (١٩٩٩أ) وهي من باحثي الترجمة المقيمين في هونج كونج، مقالةً عنوانُها «بعض المشكلات في دراسات الترجمة الصينية»، تستكشف فيها بدقَّة الدَّورَ الذي تلعبه الثقافة باعتبارها قوة «تعميق» في مختلف مراحل أنشطة الترجمة، من اختيار الأعمال الصالحة للترجمة وبث الرسائل التي يتضمَّنها النص المصدَر، إلى استقبال العمل المترجَم ودوره التاريخي. وهي تقدِّم اقتراحاتٍ بنَّاءة تُوصي فيها باحثي الترجمة الصينيين بالخروج عن المداخل النمطية لقضايا الترجمة — أي تلك التي تحصُر النظر إلى الترجمة في المستويات اللغوية أو الأدبية — وتُشجِّع الباحثين في الصين القارية على التواصل مع سائر مناطق العالم واستقاء الإلهام من المدخل الثقافي الحديث النشأة إلى الترجمة.
ومن المقالات الأخرى الجديرة بالذكر مقالةٌ كتبها جو تشونشن (٢٠٠٠م) وهو باحث من الصين القارية، ولكنه يعمل الآن معلمًا في هونج كونج. وهذه المقالة عنوانُها «الخروج من المناطق الخاطئة ودخول مناطق التفاعُل مع العالم»، ويُحاوِل المؤلِّف فيها تحديد مناطق الخطأ في دراسات الترجمة الصينية، وأهَم اثنتَين منها هما: أولًا افتراضُ أن دراسات الترجمة الصينية تُمثِّل نظامًا مستقلًّا مغلقًا بسبب ما تتميَّز به اللغة والثقافة الصينية من تفرُّد، وثانيًا: القول بأن أحد مقوِّمات السيكلوجية الثقافية الصينية هي الإحساس بالتعالي، وهو الذي «تجرحُه» الأفكار القادمة من الخارج. ويُدرِج المؤلِّف المنظور الدولي والتفاعلي في المناظرة الحالية حول بناء مبحث دراسات الترجمة الصينية من حيث اتجاهاته وتطوُّره في المستقبل. ويدعو الكاتب كذلك إلى بناء منهجٍ نظري للترجمة الصينية على أساس ضروب التفاعل مع المناهج القرينة التي وُضعَت في سائر بلدان العالم بحيث يصبح المنهج الصيني جزءًا لا يتجزأ من المنظومة العالمية لدراسات الترجمة. وأما فيما يتعلق ببناء نظرية الترجمة الصينية الحديثة، فيقول المؤلِّف إنه يوافق على الرأي الذي يُنسَب إلى باحثٍ صينيٍّ آخر في الترجمة، وهو فانج مينججي (١٩٩٦م) الذي يقول: إن بعض الأفكار الأساسية في نظرية الترجمة الحديثة يمكن أن نجدَها في أعمال المترجمين الصينيين الأوائل، ولكن الحدود التي فرضَها التطوُّر التاريخي جعلَت هذه الأفكار مبعثرةً في مختلف المقالات والكتب، وحالت بينها وبين تشكيل إطارٍ منهجيٍّ يتميَّز بالتعمق النظري. ويقتضي الخروج من هذا المأزِق أن نتعلم مما أنجزه باحثو الترجمة الأجانب.
وقد تحرَّر مبحث دراسات الترجمة في السنوات التي تلت الثورة الثقافية من الصيغة العتيقة التي تنحصر في تلخيص الخبرة المتراكمة من ممارسة الترجمة وتقديم الإرشاد للمترجمين الممارسين؛ إذ إن باحثي الترجمة الصينيين في الفترة الجديدة يَبْنون الآن مبحثًا علميًّا يجمع بين العمق النظري والمصطلحات النقدية. وقد اتفَق انشغالُ هؤلاء الباحثين في العقدَين الأخيرَين ببناء نظريةِ ترجمةٍ صينيةٍ حديثة مع الازدهار الكبير في دراسات الترجمة في الغرب، وهو الذي كانت تغذوه التطوُّراتُ في المجالات المجاورة، مثل ما بعد البنيوية، والنقد النِّسوي، وما بعد الاستعمار، والتفكيكية والدراسات الثقافية. وقد نجحَت دراسات الترجمة الصينية، في الجو الاجتماعي المتَّسِم بالانفتاح، وحيث يحظى التواصُل مع الغرب بالتشجيع، في اكتساب القوة من جوانب التقدُّم في نظريات الترجمة الصينية ونماذجها. ومع ذلك، فإن الأفكار والنماذج المقبلة من أماكنَ نائيةٍ لا تُستَوعَبُ بأساليبَ بسيطة: بل إنها تتعرَّض أولًا لاختبار مدى اتصالها بقضايا الترجمة الصينية، ثم يزيد الباحثون من تطويعها حتى يُمكِن تطبيقُها على القضايا المتصلة بالترجمة في السياق الثقافي الصيني. ويسعى القسم التالي لإيضاح الاستقبال الإبداعي لنظريات الترجمة الغربية في الصين.
(٤) الاستقبال الإبداعي لنظريات الترجمة الغربية في الصين
أدى ازديادُ تبادُل الآراء بين الباحثين من الشرق والغرب إلى أن تأثَّرَت دراساتُ الترجمة الصينية بمنجزات الغرب من حيث نظريات الترجمة ومنهجيات البحث، كما ازداد تواتُر التفاعُل بين الباحثين الشرقيين والغربيين بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة، مثل الإنترنت التي تُسهِّل عملية الاتصال تسهيلًا جوهريًّا، وإلى جانب ذلك فقد برَز عاملٌ حاسمٌ أسهَم في زيادة التبادل الثقافي بين الباحثين الصينيين وأقرانهم الغربيين؛ ذلك أنه في أعقاب انفتاح الصين على العالم، أصبحَت الصين تتميَّز بالمزيد من التسامح إزاء الأفكار والمنظورات المُستورَدة من الغرب، وقد أدَّى هذا إلى تمكين باحثي الترجمة الصينيين من الحصول بيُسرٍ أكبر وبصورةٍ أفضل على الموارد والخبرة المتوافرة في البلدان المتقدمة. كما أن الانفتاح الناجم عن ذلك في الطَّبع والنَّشر قد يسَّر نَشْر نظريات الترجمة التي وضَعها الباحثون الغربيون ومناهج البحث التي يستخدمونها، وهو ما جعل بعض باحثي الترجمة الصينيين الذين يستلهمون ما في الغرب يقتبسون المفردات والمنظورات النقدية الغربية، وهم يقولون إن النظريات والمداخل الغربية ذاتُ فائدةٍ كبرى وتُناسب التجديد الجاري في دراسات الترجمة الصينية. وهكذا فإن بعضَ الأفكار والمداخل الغربية المناسبة قد تحوَّلَت بفضل جهودهم إلى مقوِّماتٍ لدراسات الترجمة الصينية المعاصرة.
ومن الجوانب الأخرى لاستقبال نظريات الترجمة الغربية في الصين المقاوَمة التي يُبديها بعضُ الباحثين الذين يُعارِضون بكل قوةٍ نظرياتِ الترجمة التي وُضعَت في الغرب، ويُبالِغون في تأكيد التفرُّد المزعوم أو الأصالة المزعومة للغة والثقافة الصينيَّين، ويتخذون من ذلك ذريعةً قويةً لرفض القول بالتكامُل ما بين دراسات الترجمة الصينية ونظائرها في سائر بلدان العالم. ومن المفهوم أن بعض الناس يعتزُّون اعتزازًا شديدًا بهُويتهم الثقافية، ولكن هذا قد يؤدي إلى اتخاذ ما يُسمَّى بالحمائية الثقافية التي لا مناصَ من أن تقيمَ الحواجزَ في وجه الثقافات الأخرى، وتؤدي إلى الانتكاس والعودة إلى حالة العزلة الذاتية السابقة.
ولكن المعمول به بصفةٍ عامةٍ أن نظريات الترجمة الغربية ونماذجها تتعرَّض للاختبار في السياق الصيني، ويُطبِّقها الباحثون الصينيون في التصدي لقضايا الترجمة المحلية، إما ابتغاءَ توسيعِ نطاق نظرياتهم الخاصة أو لصوغِ نماذجَ جديدةٍ أقدَر على وصف نشاط الترجمة في السياقات الاجتماعية والثقافية الصينية.
كما أجرى بعض الباحثين في الصين دراساتٍ مقارنةً بين نظريات الترجمة الصينية والغربية؛ إذ نشَر تان تايخي (١٩٩٨م) وهو باحثٌ يقيم في هونج كونج مقالةً كثُر الاستشهادُ بها بسبب تحليلها المقارن بين منهجَين نظريَّين، عنوانها «أهمية الدراسات المقارنة بين نظريات الترجمة الصينية والغربية». ويقول فيها: إن المنهجَين النظريَّين يشتركان في بعض الملامح، ومن بينها أنهما تطوَّرا تاريخيًّا من أفكارٍ ونظراتٍ متعلقة بالترجمة، وهي التي نجدها في بحوثٍ أكاديميةٍ وكُتبٍ تدور حول الترجمة وحدها؛ فعلى سبيل المثال نرى في الغرب أن نظريات الترجمة تطوَّرَت من أعمال شيشرون، وهوراس، وسانت جيروم، وجون درايدن، إلى الكتابات التي وُضعَت عن الترجمة بأقلام ألكسندر تايلر، وفريدريش شلايرماخر، وفيلهلم فون همبولت، ويوجين نايدا، وجورج مونين، وج. سي. كاتفورد، وجيمز هومز، وأندريه ليفيفير، وسوزان باسنيت. وعلى غرار ذلك، تطوَّرَت دراساتُ الترجمة الصينية من كوراما جيفا، وخوان زانج، ويان فو، ولين شو، إلى ليانج قيشاو، ولو خون، ولين يوتانج، وفو لي، وقيان زونجشو، ودونج سيقوي، ووانج زيوليانج … إلخ. وقد سارت الصين في تطوُّرها بالتوازي مع الغرب؛ إذ اتبع كلٌّ منهما نهجه الفلسفي، ونظام القيم لديه، ولغته وثقافته. ولكن النهج النظري الصيني للترجمة يفتقر إلى المفردات النقدية وتصنيف الاتجاهات أو المدارس، وهو ما يُوجَد لدى الغرب، مثل أسماء الهرمانيوطيقا [التفسير/التأويل] والسيميوطيقا الاجتماعية [علم العلامات الاجتماعية] والمداخل الرومانسية، والبِنيوية، وما بعد البِنيوية، والتفكيكية، ومدرسة لندن، ومدرسة براغ وهلُم جَرًّا.
وأما في حقبة العولمة الحالية؛ حيث تجري الواردات والصادرات بانتظام، حتى في مجال الثقافة، فإن المصطلحات النقدية وتصنيف المدارس المستعارة من نظريات الترجمة الغربية تُسهِم إسهامًا كبيرًا في بناء المصطلحات النقدية وإضفاء أبعادٍ نظريةٍ عميقة على دراسات الترجمة الصينية. وكان المدخل الثقافي إلى الترجمة، الذي يعني استكشاف قضايا الترجمة من زاوية الدراسات الثقافية، وهو الذي بزَغ في التسعينيات، رافدًا أضاف الكثير وأسهَم إسهامًا بارزًا في تشكيل نظرية الترجمة الصينية المعاصرة من حيث مناهج البحث والمصطلحات النقدية.
(٥) التوجه البَيْني: ظهور المذهب الثقافي
تحتاج دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا ناشئًا إلى الاستفادة من المكتشَفات والنظريات في المجالات المُجاوِرة لها، وهي التي تغذوها الأشكال والنماذج التي آتت أُكُلها في تلك المجالات. وقد ثبت أن الطابع البَيْني لمبحث دراسات الترجمة ضرورة وذخيرة.
واتجهَت دراسة الترجمة في السنوات الأخيرة إلى مجالاتٍ تتجاوز المستوى اللغوي؛ إذ اتسع نطاقُ دراستها، كما دُرسَت على المستوى الثقافي. وعندما بدأَت مجالاتُ البحث التي اتسمَت بسرعة النمو مثل علوم الاتصال والدراسات الثقافية تطعن في المداخل التقليدية للترجمة، أصبح مفهوم الترجمة الذي يقول إنها تعني نقل كل كلمة بما يقابلها [أي الترجمة «الحرفية»] على المستوى اللغوي مفهومًا تزداد صعوبةُ الدفاع عنه باطِّراد. وكان من نتائجِ تأثيرِ نظرياتِ ما بعد الحداثة أن تحوَّل تركيزُ الباحثين من دراسة الترجمة باعتبارها تواصُلًا عَبْر اللغات إلى دراستها باعتبارها تواصُلًا عَبْر الثقافات، محاولين استكشاف التفاعُل بين الترجمة والثقافة. ويُشير تعبير «التحوُّل إلى الثقافة» — وهو استعارةٌ عالجَتْها سوزان باسنيت مع أندريه ليفيفير في عملهما الضخم الترجمة والتاريخ والثقافة (١٩٩٠م) — إلى الانتقال من الترجمة باعتبارها مسألةً لغويةً إلى الترجمة باعتبارها مسألةً ثقافيةً وسياسية.
ويُنظر إلى الترجمة اليوم باعتبارها تواصُلًا عَبْر ثقافي وأنها تخضع لعواملَ ثقافية. وهكذا بدأ باحثو الترجمة في إجراء البحوث في أسلوب تعرُّض الترجمة أيضًا للتأثُّر بعواملَ غيرِ لغوية وغير أدبية، من بينها العوامل الاجتماعية والسياسية. وقام عددٌ من باحثي الترجمة من ذوي التوجُّه الثقافي مثل سوزان باسنيت، وأندريه ليفيفير، ومونا بيكر، ولورانس فينوتي، وأني بريسيه، بإثراء المبحث الأكاديمي الجديد نسبيًّا بنظراتٍ ثاقبة، وذلك من خلال تطبيق النتائج التي توصَّلَت إليها الدراساتُ الثقافية لتحديد ملامح مشكلات الترجمة وإيضاحها.
كما كان للاتساع الهائل في نطاق دراسات الترجمة في السنوات الأخيرة تأثيرٌ كبيرٌ في باحثي الترجمة الصينيين؛ إذ اطَّلعوا على كتابات أندريه ليفيفير وسوزان باسنيت ومونا بيكر ولورنس فينوتي، إما بقراءة الأصل أو قراءة ترجماته؛ ومن ثَم بدأ هؤلاء الباحثون الصينيون الذين اكتسبوا تلك المعارف بتحويل التركيز على الجوانب اللغوية إلى التركيز على القضايا الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالترجمة.
ومنذ نهاية القرنِ التاسعَ عشر؛ أي منذ طرح يان فو مبادئه الثلاثة المطلوبة للترجمة — ذات التأثير البالغ — والمدخل التقليدي للترجمة في الصين يُركِّز على المقارنة بين النصَّين الأصلي والمصدَر، معتبرًا أن «الأمانة» أعلى المعايير قاطبة. وظلت المناظرات والمناقشات المتعلقة بقضايا الترجمة تدور على امتداد سنواتٍ طويلةٍ حول مدى الأمانة في النقل، وهي قضيةٌ رئيسية؛ أي إن كان النص الأصلي قد تُرجم ترجمةً دقيقةً أم لا. ويُمكِن للوصف بالدقة أن يكون خلافيًّا، وأن يؤدي إلى الدقة بالمعنى اللغوي أكثر من الدقة بمعنى الدلالة أو التأثير، فالأول يشير إلى الترجمة الحرفية؛ أي نقل كل كلمة في النص الأصلي بما يقابلها بقصد الحفاظ على المعالم اللغوية والخصائص المميزة للمؤلف بقَدْر ما تسمح به اللغة المستهدَفة من محاكاةٍ للغة الأجنبية، والأخير يشير إلى الترجمة الحرة؛ أي نقل كل معنًى بما يقابله في إطار روح النص الأصلي بإعادة إنتاج الانطباع نفسه، ورد الفعل ذاته للنص الأصلي في الترجمة.
وقد استلهَم باحثو الترجمة الصينيون ما جاء به الباحثون الغربيون أخيرًا من افتراضاتٍ نظرية ودعاوَى معيَّنة عن الترجمة، فتجاوزوا بذلك المنظورَ اللغويَّ وشَرَعوا يدرُسُون قضايا الترجمة في سياقها الواسع، بفحص العوامل الثقافية والأيديولوجية في الترجمة. وهكذا بدءوا يستكشفون الدوافع السياسية من وراء سياسات اختيار المادة المرشَّحة للترجمة ووظيفة الترجمات في إطار الأحوال الثقافية الاقتصادية، والأسباب الأيديولوجية من وراء نهج الترجمة السائد، سواء كان التغريب أو التدجين، ونقول بصفةٍ عامةٍ إن دراسات الترجمة الصينية قد تمكَّنَت بفضل تبادُل الآراء والمشاركة في الأفكار بين باحثي الترجمة عَبْر الحدود القومية من التحرُّر من مذهبها القديم وكسر طوق الركود والانتقال إلى مرحلة تتميز بالتطوُّر السريع، والاشتمال على مداخل ومنظوراتٍ متنوِّعة.
وشَهِد العقدُ الأخير وصولَ مداخل الدراسات الثقافية إلى الصين، والتأثير الذي أحدثَته ثلاثةُ مجالاتٍ مهمةٍ منها في باحثي الترجمة الصينيين، أوَّلها نظرية إعادة الكتابة التي قدَّمها أندريه ليفيفير، وثانيها مدخل ما بعد الاستعمار إلى الترجمة الذي دعا إليه هومي بابا وجاياتري سبيفاك، وثالثها دعوى لورنس فينوتي ذات النفوذ الكبير والمتعلِّقة باختفاء الترجمة والمترجم، وتصنيفه لاستراتيجيات الترجمة ما بين التغريب والتدجين.
… ترجمة الأدب لا تحدُث في فراغٍ تلتقي فيه لغتان، بل في سياق يضم جميع تقاليد الأدبَين. وتحدُث أيضًا عندما يتلاقى المؤلفون ومترجموهم، وهو لقاءٌ ينتمي فيه أحد الطرفَين إلى البشر، فهو إنسانٌ من لحم ودم ولديه نظرته الخاصة. والمترجمون يقومون بالوساطة بين تقاليد أدبَين، ولديهم هدفٌ يقصدونه يختلف عن مجرد «إتاحة الأصل» بصورةٍ محايدةٍ موضوعية. والترجماتُ لا تُنتَج في ظروف المختبَر المحكَمة. والأصول تُتاح بلا شك للقُراء، ولكن بشروط المترجم، حتى لو تصادف أن أدت هذه الشروط إلى إخراج ترجمةٍ بالغة الدقة والحرفية (الأمانة).
ويُدرِك بعض الباحثين في الصين القارية وفي هونج كونج العلاقة الوثيقة بين الترجمة والثقافة، وهم يبذلون جهودهم لتوسيع حدود دراسات الترجمة بالسعي لاستكشاف الروابط المعقَّدة الدقيقة بين الأيديولوجيا والترجمة، وهي الروابط التي تكمُن في كل تواصُل عَبْر الثقافات.
وقد نشَر سون ييفنج مقالة (٢٠٠٣أ) عنوانها «دراسات الترجمة والأيديولوجيا: إتاحة مساحة للحوار عَبْر الثقافي»، والمعروفُ عن باحث الترجمة المذكور المقيم في هونج كونج تأييدُه الشديد للمنظور الثقافي واهتماماته بالأيديولوجيات، وهو الذي يتجلى في مشاركته الواسعة في اللقاءات العلمية الخاصة بالترجمة داخل البلد وخارجها، وهو يقدِّم في هذه المقالة مفهوم الأيديولوجيا عَبْر الثقافية ويُناقِش ضروب التأثير المتنوِّعة للأيديولوجيا في الترجمة في سياقٍ عَبْر ثقافي. وهو يتبع فيها مفهوم «إعادة الكتابة» الذي قدَّمه أندريه ليفيفير مع سوزان باسنيت أصلًا، الذي يعني تلاعُب الأيديولوجيا والأسس الفنية بالنص الأدبي عند إعادة كتابته؛ أي عند نقله من «نظام» إلى «نظام» آخر. والترجمة باعتبارها ممارسةً عَبْر ثقافية تمثِّل مسرحًا للتلاعُب الأيديولوجي؛ فالمعاني يُعاد بناؤها في الترجمة؛ أي عند إعادة الكتابة، كما يحدُث انكسارٌ للمسار أثناء عملية الترجمة. ويرى «سون» أن ترجمة الكتابات الصينية المعاصرة تقدِّم أمثلةً تؤيِّد القول بأن الأيديولوجيا يُمكِن تدعيمُها أو إفسادُها من طريق الترجمة.
إن الاهتمام بالأمانة يُفسِح الطريق في السياقات الثقافية للتوافُق بين اللغتَين والثقافتَين في النص المصدَر والنص المستهدَف. والانفتاح على الثقافات الأخرى يُتيح للمترجمين أن يقدِّموا صورًا مقبولة لكتاباتٍ وُضعَت في أطرٍ ثقافيةٍ أخرى وتقاليدَ إقليميةٍ مختلفة. وعلى الترجمة، حتى تتجنَّب عدم الفهم، أن تهدف إلى نقل أكبر قَدْرٍ مُمكِنٍ من المعلومات الثقافية إلى النُّظم المستقبلة للترجمة … أي إن على الترجمة باعتبارها نشاطًا ثقافيًّا مركبًا أن تتعرَّض بالضرورة لإعادة التكيُّف الثقافي. (ص٣٥)
يجب أن يكون معنى الترجمة اليوم جامعًا للنقل اللغوي والتفسير الثقافي، مع زيادة تأكيد الأخير … [فعليها] أن تحوِّل وظيفتها من مجرد التفسير اللغوي إلى التمثيل الثقافي. أما الشق الأول فيُمكِن أن تقوم به آلة ترجمة، ولكن الشق الثاني لا يمكن أن يقوم به إلا إنسان؛ إذ لا يستطيع غيرُ البشر إدراكَ الدلالات الدقيقة للثقافة إدراكًا صحيحًا وتمثيلها بأكثر الأساليب ملاءمةً لها. (وانج نينج ٢٠٠١: ٤)
قامت الترجمة بدَورٍ مهم في تشكيل الحداثة الثقافية في الصين، وإعادة بناء الخطاب الأدبي والنقدي للأدب الصيني الحديث … وكانت [ترجمة الاتجاهات الثقافية والأعمال الأدبية الغربية إلى اللغة الصينية] مصدَر إلهام للكتابات الإبداعية للكُتَّاب في فترة الرابع من مايو في بكين الذين حاولوا أن يستبدلوا ﺑ «الإقطاع» ثقافةً علميةً ديمقراطيةً حديثة … وقد أسهمَت الترجمة في «استعمار» الثقافة والأدب الصينيَّين عندما انحرفَت عن التقاليد الكلاسيكية الصينية. (وانج نينج ٢٠٠٢ب: ٢٧٨)
وتكتسب نظرية الترجمة من منظورِ ما بعد الاستعمار أهميةً خاصةً للسياق الصيني في عصر العولمة الحالي؛ إذ يُشكِّك المؤلف في صحة الزعم بأن ثقافاتٍ يزدادُ تجانُسها باطِّراد، مستشهدًا بما قاله بابا (١٩٩٠: ٤) من أن ««الكيان المحلي» للثقافة القومية ليس موحَّدًا أو واحدًا في حدود علاقته بذاته، بل ولا ينبغي أن يعتبر مجرد «آخر» في علاقته بما هو خارجه أو ما يتجاوزه.» فعندما تفرض البلدان المتقدِّمة قيَمَها الثقافية ومبادئها الجمالية على البلدان النامية من خلال الترجمة (الاستعمار) فإن هذه القيَم والمبادئ تتعرَّض للتحوُّل واكتساب الطابع المحلي قبل أن تصبح جزءًا من الثقافة المستهدَفة، وقد تؤدي هذه العملية في بعض الحالات إلى دلالةٍ جديدةٍ تقوم بدَورها بإلهام الغرب والتأثير فيه (التحرُّر من الاستعمار). ومن هذه الزاوية نرى أن «الترجمة عاملٌ رئيسي في «استعمار» الثقافات القومية و«تحريرها من الاستعمار» اللذَين يحدُثان في الوقت نفسه» (وانج نينج ٢٠٠٢ب: ٢٨٠). ويستعير المؤلف أيضًا من سبيفاك (٢٠٠١) فكرة «الغيرية» (وانج نينج، ٢٠٠٢ب: ١٢٤) دعمًا لافتراضه «أن الترجمة من المُحال أن تتجنب «الغيرية» وهي التي قد تؤدي أحيانًا إلى ظهور دلالةٍ جديدةٍ في سياقٍ ثقافيٍّ آخر» (وانج نينج ٢٠٠٢ب: ٢٨١). وقد سبق لي أن ذكَرتُ أن إيفا هونج (١٩٩٩أ) تقول إن المترجمين يُصدِرون قراراتٍ تستند لا إلى المادة البنائية والدلالية في النص الأصلي فقط، بل إنهم يتأثَّرون أيضًا بالقوى الثقافية.
وقد نشَر وانج دونجفينج (٢٠٠٢ب)، وهو باحثٌ آخر من أبناء الصين القارية، واشتُهر بدعوته المتحمِّسة للمدخل الثقافي للترجمة، مقالًا يتضمَّن عنوانُه استعارةً هي «اليد الخفية»، والعنوان الكامل هو «اليد الخفية: التلاعب الأيديولوجي في ممارسة الترجمة»، ويسعى المؤلف فيه إلى أن يُبيِّن كيف قامت الأيديولوجيا بدور «اليد الخفية» التي تتلاعب بممارسة الترجمة، في دراسة حالةٍ تاريخيةٍ معيَّنة وهي ترجمة الكتب المقدَّسة البوذية وأسلوب «يان فو» العملي في الترجمة. كما كتب وانج دونجفينج أيضًا عددًا من المقالات التي أسهمَت في تقديم المداخل الجديدة لقضايا الترجمة، وهي المداخل التي تستند إلى مذهبِ ما بعد الاستعمار والدراسات الثقافية وبناء المفردات النقدية الخاصة بالترجمة.
وكلما ازداد الاهتمام بالتفاعل بين الثقافة والترجمة، ازداد عدد الكتابات التي تُسهِم في إقامة الرابطة بين الأيديولوجيا والترجمة؛ إذ أُجريَت البحوث التي تستكشف مدى تأثير الأيديولوجيا في الترجمة في الصين الحديثة في فتراتٍ مختلفةٍ على امتداد السنوات المائة والخمسين الماضية (وانج يوجوي ٢٠٠٣م).
وفيما يتعلق بالمدخل الثقافي للترجمة، نجد أن قضية الاختيار بين اتخاذ استراتيجية ترجمة تقوم على التدجين (جويهوا فا باللغة الصينية) أو التغريب (ييهوا فا) يدور حولها نقاشٌ مُستعِرٌ في بحوث الترجمة الأدبية الحديثة. وقد قام سون جيلي، (٢٠٠٢م) وهو باحث من أبناء الصين القارية، بتقديم بعض النظرات الثاقبة والمفيدة في استراتيجيات الترجمة الأدبية التي يستخدمُها المترجمون الصينيون؛ إذ يرى أن الترجمة الأدبية ظلت في المائة عام التي انقضَت من سبعينيات القرن التاسعَ عشرَ إلى سبعينيات القرن العشرين خاضعةً لهيمنة استراتيجية التدجين وهي التي تسعى إلى تحقيق السلاسة والجمال الفني في الترجمة، وإن كانت فترة السنوات العشرين التالية لحركة الرابع من مايو قد شهدَت غلبة استراتيجية التغريب، وهي التي تحقِّق أهداف اكتساب عناصرَ لغويةٍ وأدبية من الأدب الغربي لإثراء اللغة والأدب في الصين الحديثة. وأما في العقدَين الأخيرَين من القرن العشرين فقد أدَّى تأثير نظريات الترجمة الغربية إلى ظهور استراتيجية التغريب وابتداء الإقبال عليها من جانب المنظِّرين والمترجمين (سون جيلي ٢٠٠٢: ٤٠-٤١). ويتنبَّأ المؤلِّف بأن استراتيجية التغريب سوف تستمر في الهيمنة على الترجمة الأدبية في القرن الحادي والعشرين، ما دام الاتجاه قائمًا بالإبقاء على أكبر عددٍ من العناصر اللغوية والأدبية التي تسمح اللغةُ المستهدَفة ببقائها؛ ولذلك فإن النص المستهدَف أقدَر على التواصل مع القارئ إذا استبقى المزيد من أساليب التركيب اللغوي الأجنبية، ومن الدلالات الثقافية المضمرة في النص المصدَر، وتقنيات الكتابة الخاصة بالمؤلف الأصلي (ص٤٣-٤٤).
وفي مقال آخر كتبه سون جيلي (٢٠٠٣م) ويسير فيه على نفس المنوال، نراه يستمد الدعم النظري من كتاب اختفاء المترجم الذي وضعه لورنس فينوتي (١٩٩٨أ) ابتغاءَ مُساندةِ مقولتِه عن ضرورة إيلاء الأولوية لاستراتيجية التغريب في الترجمة، وعن عدم تطبيق استراتيجية التدجين إلا كمنهجٍ تكميلي (وعبارتُه تقول «التغريب أولًا والتدجين ثانيًا») (ص٤٨). ويُقدِّم المؤلف أيضًا مزيدًا من الأمثلة المُستمَدة من بعض الترجمات الصينية للأعمال الكلاسيكية العالمية، حتى يشرح كيف يستعين المترجم باستراتيجية التغريب لتسهيل التواصُل الثقافي، وتلبية التوقُّعات الفنية للقارئ، وإضافة المزيد من التعابير ذات الصور الحية بهدف إثراء اللغة الصينية أيضًا.
لا بد من أن يرجع منهج توري … إلى النظرية الثقافية ابتغاءَ تقديرِ دلالاتِ البيانات وتحليل الأعراف. وقد تكون الأعراف بالدرجة الأولى لغويةً أو أدبية، ولكنها تتضمَّن أيضًا نطاقًا مُنوَّعًا من القيَم المحلية والمعتقدات والصور الاجتماعية التي تحمل قوةً أيديولوجية في تحقيقِ مصالحِ جماعاتٍ معينة. وهي دائمًا ما تكمُن في المؤسسات الاجتماعية التي تُنتج فيها الترجمات وتُوضع داخل الخطَط الثقافية والسياسية. (ص٢٩)
وهكذا يُبيِّن فينوتي (١٩٩٥م) أن استراتيجية التدجين في الترجمة كانت ولا تزال سائدة في ثقافة الترجمة الأنجلوأمريكية، ويستكشف السبب من وراء هيمنة التدجين قائلًا إنه يتضمن «ما يُعتبَر اختزالًا قائمًا على المركزية العِرقية للنص الأجنبي بحيث يجعله متفقًا مع القيم الثقافية للغة المستهدَفة؛ ومن ثَم فإن المترجم يعود بالمؤلِّف معه إلى وطنه [وطن المترجم]» (ص٢٠-٢١). و«اختفاء المترجم» يعني أن الترجمة تُصاغ بأسلوبٍ شفَّافٍ سلس، وأن التعابير اللغوية الأجنبية والرسائل الثقافية المضمَرة فيها لا تُمثَّل في النص المستهدَف. وهكذا فإن الاختلافات الثقافية، وخاصةً العناصر التي تُعارِض القيَم الثقافية السائدة في اللغة المستهدَفة، تُستبعَد من النص المستهدَف وتعجز عن الوصول إلى جمهور القُراء في الثقافة المستقبِلة للنص المترجَم. وفي مقابل ذلك نجد أن استراتيجية التغريب تعني «وجود ضغط من انتماءٍ عِرقيٍّ مختلفٍ على القيَم [في الثقافة المستهدَفة] لإثبات الاختلاف اللغوي والثقافي للنص الأجنبي، وبهذا يُرسِل المترجم القارئ إلى خارج وطنه» (ص٢٠). والتغريب يُوحي ضمنًا بالإدراج المتعمَّد لعناصرَ أجنبية، مثل الالتزام الشديد بالأبنية اللغوية والتراكيبية للنص المصدَر. وهكذا فإن استراتيجية الترجمة غير السلسة والبارزة للعين تُظهِر الهُوية الأجنبية للنص المصدَر وتؤكِّدها بحيث تُمثِّل تحديًا للقيم الأخلاقية والسياسية السائدة في الثقافة المستقبِلة للنص المترجَم. وهذه الاستراتيجية هي التي تُبرِز حضور المُترجِم الذي يسعى إلى الكشف عن الاختلافات الثقافية لا إخفائها.
ومن بينِ إسهاماتِ فينوتي الرائعة في دراسات الترجمة قوله إن الاستراتيجيات التي يستخدمها المترجِم الفرد في عملية الترجمة تتَّسم بسياقٍ واسع؛ إذ إن الاختيارات والقرارات التي يتخذها المترجم لا ترجع إلى ذائقته الشخصية أو ميوله الخاصة بقَدْر ما تخضع للشروط والقيود الثقافية؛ أي إن القوى الثقافية الأكبر هي التي تُمارِس عملَها هنا، والمترجمون قد يعملون، عن وعيٍ أو عن غير وعي، على تدعيم أو إضعاف المُفترَضات الأدبية المُهيمِنة والقيَم السياسية والثقافية.
ومع ذلك فعند ترجمة الأعمال الأدبية الصينية إلى الإنجليزية ينزع المُترجِم إلى نشدان السلاسة، حتى تظهر ترجمةٌ مألوفة للقارئ الناطق بالإنجليزية؛ أي إن المترجمين يبتعدون عن الأساليب والقيم السائدة في الثقافة الأصلية حتى يُقدِّموا ترجماتٍ سلسةً وشفَّافة موجَّهة لاستهلاك القُراء الأنجلوأمريكيين، وبذلك يطمسون كل ما هو أجنبي وغريب. ويؤدي منهج التدجين المذكور إلى محو الكثير من العناصر اللغوية والثقافية الصينية المضمَرة في النص المصدَر، وعدم ظهورها في النص المستهدَف. والواجب عند ترجمة الأعمال الأدبية المنتمية إلى البلدان النامية استخدام استراتيجية التغريب، لإظهار صورة الآخر الثقافي وإبرازها في النص المستهدَف، ابتغاء تحدِّي هيمنة المعايير الأدبية الغربية والأيديولوجيات الرئيسية وتشجيع تنمية ضروبٍ مختلفةٍ من الخطاب. وهكذا لا بد من إتاحة الفرصة — في عصر التعدُّد الثقافي الحالي — لرؤية صور وسماعِ أصواتٍ من الثقافات الأخرى، ومن أجل تحدِّي الآراء الأدبية والأيديولوجية المحلية السائدة؛ أي إن على المترجمين أن يقدِّروا قيمة التنوُّع الثقافي ويحافظوا على حساسيتهم للاختلافات الثقافية. والواقع، من الزاوية الاجتماعية الثقافية، أن الترجمة القائمة على التغريب لأدب البلدان النامية قادرةٌ على تصحيح هيمنة الأدب الأنجلوأمريكي والآراء الأيديولوجية الأنجلوأمريكية في عالم النشر.
(٦) اتجاه دراسة الترجمة في المستقبل: نحو مداخل تعدُّدية
لا تتمتَّع الصين، باعتبارها بلدًا كبيرًا ذا ثقافةٍ مديدة، بموقعٍ دوليٍّ بارزٍ في مجال دراسات الترجمة، على الرغم من تقاليدها المتينة في الترجمة وسوقها الشاسعة للأعمال المُترجَمة. ولكن هذا الحال سوف يتحسَّن. ففي السنوات التالية للثورة الثقافية أدَّى طوفانُ ترجمات الأدب الحديث وأدب ما بعد الحداثة والنظريات الأدبية الغربية في القرن العشرين إلى مناقشة طبيعة الترجمة، ومعيار تقييمها، واستراتيجيتها ونقدها، وغير ذلك من القضايا المرتبطة بالترجمة. كما أدَّى انتشار نظريات الترجمة الغربية في السنوات الأخيرة إلى تعميق فهمنا للموضوع وانفتاحِ طرائقِ تفكيرٍ جديدة.
ولقد تطوَّرَت دراسات الترجمة تطورًا هائلًا لسببَين، أما السبب الأول فهو انفتاح المُناخ الأكاديمي، وأما السبب الثاني فهو الجهود المضنية التي بذلها بعضُ باحثي الترجمة الصينيين لتقديم نظريات الترجمة الغربية وتطبيقها على القضايا الناشئة في السياق الصيني، فالواقع أن انتشار أفكار الترجمة الغربية ونماذجها البحثية يُمكِّن الباحثين الصينيين أيضًا، ممن يعرفون الإنجليزية وممن لا يعرفونها، من مسايرة أحدثِ منجَزات البحوث الدولية في الترجمة.
كما أدَّت التطوُّرات المثيرة الأخيرة في دراسات الترجمة في الغرب إلى إثراء دوائر الترجمة الصينية بمنظوراتٍ جديدة، وانطلاق البحث العلمي حتى يتجاوزَ المناظرةَ اللانهائية بين الترجمة الحرفية والترجمة الحرة، أو الاقتصار على النظر إلى الترجمة على المستوى اللغوي وحده، فقد بزغ الاهتمام بقضايا تتعلق بجميع جوانب الترجمة تقريبًا، خصوصًا الاهتمام بالآثار الاجتماعية والعواقب السياسية للترجمة.
ومن الآراء التي يعتنقُها الباحثون الصينيون على نطاقٍ واسعٍ اليوم أن معنى الترجمة يزيد عن الانتقال من لغة إلى أخرى، بل هو الانتقال من ثقافةٍ إلى أخرى، وهكذا تُعتبَر الترجمة تواصُلًا عَبْر ثقافي لا عَبْر لغوي. ويزداد نفوذ الفكرة التي تقول إن مداخلنا إلى الترجمة قد تكون غير لغوية؛ أي قائمة على مفاهيم التواصل، أو الأيديولوجيا، أو الثقافة وهلُم جَرًّا. وكانت هذه جميعًا بمثابة تغييراتٍ جوهريةٍ في التفكير الصيني عن الترجمة، كما أنها مهَّدَت الطريقَ للمزيد من تطوير دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا ناشئًا تتسع حدودُه وتتعدَّد منظوراتُه.
وإلى جانب ذلك أدَّت المكتشَفات في مجال مذهب التفكيكية وما بعد الاستعمار والدراسات الثقافية إلى إضافة نظراتٍ ثاقبةٍ جديدة في قضايا الترجمة. فمذهب ما بعد الاستعمار يهدف إلى تقويض الاستراتيجيات الاستعمارية في الترجمة، والقضاء على الهيمنة في الدوائر الأكاديمية، وهو بسبيله إلى أن يصبح قوةً فكريةً تطعن في أية صرامةٍ سلطويةٍ بل إنه يشجِّع الحوار بين الصين والغرب؛ ففي عصر العولمة الحالي يطلب البحث في الترجمة منظورًا عالميًّا معينًا، وضروب التفاعُل بين الباحثين على المستوى الدولي تُساعِدهم على الإحاطة بالأفكار والنظرات الجديدة واختبارها وزيادة تطويرها. وقد بدأَت دراساتُ الترجمة في الصين تشهَد نهضة في الآونة الأخيرة، كما أن بعض العناصر المتصلة بعملنا في النظريات الغربية تُستوعَب في دراسات الترجمة الصينية، وهو ما أدى إلى الإسهام في زيادة تطوير هذا المبحث إسهامًا لا ينمَحي أثَره. أضف إلى ذلك الدَّور التحريري الذي نهض به نَشرُ هذه المفاهيم الغربية ومنظوراتها ونماذجها بين الباحثين الصينيين؛ إذ إن توسيع الرؤى وتحرير الأذهان يساعدانهم على الابتعاد عن المداخل التقليدية المحدودة وقبول النتائج الجديدة والمنظورات المختلفة.
وتتعرَّض النظريات الغربية أثناء ممارسة تأثيرها الواسع النطاق في دراسات الترجمة الصينية للاختبار والمزيد من التطوُّر في السياق الصيني؛ إذ تتميَّز الصين المعاصرة بتغيُّراتٍ اجتماعية وثقافية سريعة، وهو ما يوفِّر تربةً خصبةً لتقييم المدخل الثقافي لدراسات الترجمة، الذي اشتُهر باهتمامه بالآثار الاجتماعية والعواقب السياسية. ويقومُ بعضُ الباحثين بإجراء البحوث في بعض هذه الآراء والنظريات لاستكشاف أهميَّتها عند معالجة دراسات الترجمة في السياق الثقافي الصيني، ونقاط القوة والضعف فيها، فيما يتعلق بالاستجابة للمسائل والمشاكل الجديدة التي نشأَت في حقبة التغيُّرات الثقافية/الاجتماعية السريعة.
تُعتبَر الوظيفة الأساسية للأعمال الأدبية المُترجَمة في الصين اليوم نشر الأفكار والمعارف الغربية، وقد أبدى جمهور القُراء العام تعطشًا لا يرتوي للأدب المُترجَم، خصوصًا عند العالم الناطق بالإنجليزية. وقد أدى ظهور التوجُّه الثقافي أخيرًا إلى توسيع نطاق دراسات الترجمة حتى تأخذ في اعتبارها العواملَ السياسية والأيديولوجية المؤثِّرة في نشاط الترجمة، فإن المدخل الثقافي قد عَمَّقَ فهمَنا للترجمة باعتبارها تفسيرًا وممارسةً ما بين الثقافات، كما عَمَّقَ نظرتنا إلى الثقافة باعتبارها قناةً ذات أهميةٍ حيويةٍ تُتيح للمؤثِّرات الأجنبية أن تخترق الثقافة المستقبِلة وتغيِّرها. وهكذا أُثيرت الأسئلة التي كنا نتجاهلها من قبلُ وهي: كيف تُستقبَل الترجمات وتُفسَّر في الثقافة المستهدَفة، وكيف تعمل الترجمة، إلى حدٍّ ما، على تقوية أو إضعاف أو حتى «تخريب» التيار الرئيسي للثقافة والخطاب السائد؟ وأما الإجابة على هذه الأسئلة الناجمة عن تلاقي الثقافات من خلال الترجمة التي تقوم بدَور الوسيط، فتتطلَّب إجراء المزيد من البحوث المُعَمَّقة بأسلوبٍ منفتحٍ بَيْني يرمي إلى وضع نظريات الترجمة المناسبة للسياق الصيني.
ولكن ظهور نظريات الترجمة ذات التوجُّه الثقافي لا يعني إلغاء الاتجاهات الأخرى؛ إذ إن الفكرة التقليدية التي تقول إن مداخل الترجمة تنتمي إلى فئةٍ واحدةٍ تقريبًا، بحيث تُستبعَد الإمكانيات الأخرى، لم يعُد لها أساسٌ من الصحة؛ فمستقبل دراسات الترجمة يكمُن في توسيع حدودها وإتاحة جمعها بين مداخلَ متعدِّدة، نتيجةً لتفاعل الجهود التي يبذلها الباحثون وطابعها البَيْني.