الفصل السادس

نظرة عالمية على دراسات الترجمة

نحو مجالٍ بَيْني١

بقلم  إدوين جنتزلر

يقول جيديون توري، وهو رائدٌ لدراسات الترجمة من إسرائيل، في كتاب البحث عن نظرية للترجمة (١٩٨٠م): إن على الباحثين ألا يُبْدوا أي انحياز عند تعريف موضوع الدراسة لمجالهم، وأن يدرُسوا ظواهر الترجمة حيثما وُجدَت، وإن تعريف المجال يتضمَّن أيَّ نص «يُعتبَر ترجمةً من وجهة النظر الأصلية للنظام المستهدَف» (ص٧٣). ولما كان المجال حديث العهد إلى حدٍّ كبير، ولم يكن قد أعَد مجموعة النصوص اللازمة للدراسة، فإن توري يُحذِّر من أية أفكارٍ مُسبقة عن الترجمة، ومن استبعاد أية نصوص بسبب اختلاف التعريفات والتقاليد القومية. وكانت فكرة توري التي أَبدَيتُ ولا أزالُ أُبدي إعجابي بها تُعتبَر ثوريةً آنذاك؛ إذ إنها كانت تمثِّل طعنًا في التعاريف التقليدية، وتفتح المجال أمام أنواعٍ كثيرة من النصوص التي لم يكن المبحث ينظر فيها. وأريد اليوم أن أخطو خطوةً أبعَد على طريق توري، قائلًا بوجود نصوصٍ كثيرةٍ لا تعتبرها بعضُ الثقافات ترجماتٍ في حالاتٍ عديدة، ولكنها تحتاج أيضًا إلى الإدراج في تعريفات هذا المجال. وقد تكون الصين والولايات المتحدة الأمريكية من البلدان التي نجد فيها مثل هذه الترجمات الخفية.

وعلى الرغم من حداثة العهد النسبية لهذا المجال، فإنه قد انحصر، في بعض مناطق أوروبا، في مبحث يتسم بالضيق الشديد، وبمادةٍ دراسيةٍ دقيقة التعريف، ومنهجيةٍ بحثيةٍ ثابتة إلى حدٍّ كبير؛ أي ما أصبح يُعرف بدراسات الترجمة الوصفية. ولكنني أطرح مسألتَين هنا؛ الأولى أن عددًا كبيرًا من ظواهر الترجمة لم تُدرَج في هذا المبحث، خصوصًا الترجمات الشفاهية غير المنشورة التي نجدها عند المجتمعات الهامشية في الأمريكتَين وفي آسيا وأفريقيا، والثانية أن هذا المبحث لم يأخذ في اعتباره إلى الحد الكافي المنهجياتِ البحثيةَ المستخدَمة في مباحثَ أخرى، ومن بينها الفلسفة والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والعلوم السياسية. ويهدف هذا الفصل إلى إلقاء نظرةٍ عالميةٍ أشمل على مبحث دراسات الترجمة، والدعوة إلى أن ينتقل المجال إلى أشكالٍ بحثية تتميز بطابعٍ بَيْنيٍّ أكبر، فإذا كانت نسبةٌ كبيرةٌ من النصوص المترجَمة في بلدان تتسم بضخامة وقوة الولايات المتحدة والصين لم تُفحَص إلى الآن، فهل وصلنا حقًّا إلى الكتلة الحرجة (أي الحد الأدنى اللازم) لوضع تعريفاتٍ جامعةٍ مانعة ومناهجِ بحثٍ محدودة؟

وإذا كانت درايتي بالترجمة في الصين أقلَّ مما أرجوه، فلقد أجريتُ بحوثًا على ظواهر الترجمة في الأمريكتَين، وخصوصًا في الولايات المتحدة. وإذا شئنا تحديد أية خصيصة للترجمة في الولايات المتحدة قلنا إنها الافتقار الهائل إلى التوافق في الترجمة. فلسوف نجد نماذج لسوء الترجمة، والترجمات الزائفة، والفجوات، والتناقضات، والمصادفات، والنماذج العديدة من التحوُّلات العامدة وغير العامدة، والقيود الأيديولوجية، والقيود الاقتصادية، وكل هذه تشكِّل فيما يبدو جانبًا من جوانب نشاط الترجمة، وكلها تُلقي بغِلالة تحجُب وتُشوِّه البيانات «الظاهرة» للعيان. ويُوضَع عددٌ كبيرٌ من الترجمات بعيدًا عن عيون التيار الرئيسي للثقافة، وأحيانًا ما تتسرَّب هذه خلسةً إلى داخل الخطاب الرسمي، والأغلب أن تميل إلى إنكار ذاتها والاختفاء حتى تُفلِت من رقابة السلطات الاستعمارية التي كثيرًا ما لا تتكلم إلا لغةً واحدةً مسيطرة. وللترجمة في الصين أيضًا تاريخٌ طويل، وهو تاريخ يجري فيه استيعاب الترجمات، مثل النصوص البوذية، في الثقافة الصينية استيعابًا تامًّا إلى الحد الذي لا يجعلها تتميز في حالاتٍ كثيرةٍ عن الكتابات الصينية الأصلية. ويتضمَّن «خطاب» اليوم في الصين ترجماتٍ كثيرةً لنصوص عن العولمة، تشير من طَرْفٍ خفي إلى مباحثَ أخرى، كأنما هي أشكالٌ متنكِّرة للتعليق على الإصلاح الاجتماعي، وتتطلب منهجيةً تفسيريةً بَيْنية لاستكشاف معناها.

وحتى أتمكَّن من فحص أمثال هذه الظواهر، سوف أناقش دراسات الترجمة في الأقسام الأربعة التالية: (١) الحالة الراهنة لدراسات الترجمة في أوروبا؛ و(٢) دراسات الترجمة في الولايات المتحدة؛ و(٣) انطباعاتي الأولية عن دراسات الترجمة في الصين؛ و(٤) مستقبل دراسات الترجمة. وأما في إحالتي لبحوثي الخاصة عن الترجمة في الأمريكتَين، فإني أشير إلى احتمال وجود عدة صلاتٍ بَيْنية قد تؤدي إلى زيادة ثراء المجال المذكور. وتقول حُجتي إن باحثي دراسات الترجمة لن يُتاح لهم الوصول إلى تعريفٍ أشمل للترجمات والوظائف المنوطة بها في مجتمعٍ ما إلا إذا نظروا إلى الترجمات من منظورٍ عالمي وقَبِلوا تطبيق المداخل البَيْنية.

(١) دراسات الترجمة في أوروبا

يتفق معظم الباحثين الأوروبيين على أن مبحث دراسات الترجمة ظهر أوَّل ما ظهر في أوائل السبعينيات على أيدي مجموعةٍ من الباحثين من بلجيكا وهولندا وإنجلترا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا السابقة. وكان المجال الدولي البَيْني الجديد والمثير الذي ظهر يجمع بين أفضل ما جاءت به مدرسة براغ البِنيوية، والمذهب التجريبي البريطاني، ونظرية النظم الألمانية، والأجهزة الوصفية البلجيكية/الهولندية. وقد كتب جيمز هومز (١٩٨٨م) مقالًا بعنوان «اسم دراسات الترجمة وطبيعتها» يَرسمُ فيه الخطوط العريضة لهيكل المجال الجديد قائلًا إنه يتكوَّن من ثلاثةِ أفرعٍ هي النظرية، والدراسات الوصفية، والممارسة. وتقول الحُجة التي ساقَها هومز إن على الأفرُع الثلاثة أن يغذُو بعضها بعضًا، بمعنى أن المعلومات المكتسَبة من النظرية ومن البحوث الوصفية ستكونُ لها قيمتُها بالنسبة لفرع ممارسة الترجمة وتدريب المترجمين. وينطبق هذا التبادُل في رأي هومز على فرع النظرية أيضًا؛ إذ كان يرى أنه كان يخضَع آنذاك لنظرياتٍ جزئية، نطاقُها بالغُ الضيق؛ ومن ثَم فيُمكِنه أن يستفيد من فرعَي الدراسات الوصفية والممارسة. ومع ذلك فعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية لم تُحرِز الأفرُع الثلاثة نسبًا متساوية من التطور.

ولم يكُن إنشاء مجالٍ جديدٍ في أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات بالأمر اليسير، فلقد كانت الترجمة مُدرَجة، على مَر التاريخ، في الجامعات الأوروبية، في مباحث علم اللغة، وفقه اللغة والدراسات الأدبية. وكان على الباحثين العاملين في المجال الجديد أن يعرفوا دراسات الترجمة بالتمييز بينها وبين المباحث الأخرى، وأن يضعوا أسسَ نماذجِ بحوثهم الجديدة، ويبتكروا منهجياتهم المستقلَّة لتحليل ظواهر الترجمة. وأدَّت ظروفُ العمل المذكورة إلى إنشاء نظامٍ مغلَقٍ إلى حدٍّ ما، يستريب بضروب التعاون مع التخصُّصات الأخرى، ويخشى عودة إدراج المجال الحديث النشأة مرةً أخرى داخل أطُر مباحثَ أكبر وذات أقدامٍ أشدَّ رسوخًا.

وهكذا كرَّس عددٌ كبير من أوائل باحثي دراسات الترجمة في أوروبا جهودهم للدراسات الوصفية، والتحليل المقارن و«دراسات الحالة» التاريخية. وانظر إلى باحثين من أمثال خوزيه لامبرت، وإيتامار إيفن-زوهار، وريموند فان دن بروك، وثيو هيرمانز، وكيتي فان لويفن-زفارت، الذين وضَعوا نماذجَ لتحسين توصيف الترجمات، وسعَوا إلى وضع «أعراف» لنشاط الترجمة، وأنساق أو قوانين للسلوك الترجمي يُمكِن تطبيقُها تطبيقًا «عالميًّا». وبدأ الباحثون يضعون «دراسات حالة» تاريخية ويشيرون إلى أهمية الترجمة للتطور الثقافي والأدبي. وأدى ظهور منهجيةٍ بحثيةٍ وعددٍ متزايدٍ من دراسات الحالة إلى مولد المجال الجديد وازدهاره. وقد انطلَق من هولندا وبلجيكا إلى شرق أوروبا ووسطها، ثم امتد إلى إسبانيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا والمجر وفنلندا وأيرلندا حتى وصل الآن إلى كل أمةٍ أوروبيةٍ تقريبًا. وتُعتبَر دراساتُ الترجمة حاليًّا نشاطًا أكاديميًّا مزدهرًا؛ إذ يُوجَد ما يربو على ٢٥ برنامجًا لدراسة الماجستير في هذا المبحث في إسبانيا وحدها.

وكان تطوُّر دراسات الترجمة في أوروبا إبَّان الثمانينيات والتسعينيات يسير في اتجاه الفرع الأوسط للنموذج الذي وضَعه هومز وهو الدراسات الوصفية. وكان معظم باحثي هولندا وبلجيكا يدافعون محقِّين عن ضرورة تقديم التوصيف على النظرية والممارسة؛ لأن الباحثين كانوا قد دأَبوا تاريخيًّا على زيادة تأكيد النظرية والممارسة على حساب العمل الوصفي. وتقول حُجتهم إن على الباحثين قبل استنباط نظرية للترجمة أن يُجْروا دراساتِ حالةٍ تجريبية حتى يكتسبوا المزيد من العلم بما يفعله المترجمون عمليًّا وطبيعة الوظيفة المنوطة بالترجمات في ثقافةٍ من الثقافات. وإذا كنتُ قد انتقدتُ هذا التعريف للترجمة وهذا التركيز على مناهج البحث التجريبية (جنتزلر ٢٠٠١: ١٤٠–١٤٤) فإن هذا النقد لم يأخذ في اعتباره المشاغل الحقيقية والفعلية في هذا المجال: ألا وهي تثبيت مكانته في الجامعة وابتداع المناهج العلمية للبحث التي يُمكِن أن تدعمَها المؤسَّسات البحثية. واليوم أقول بالضرورة البراجماتية لوضع مدخلٍ منهجيٍّ تجريبيٍّ وصفي من أجل إضفاء المشروعية على هذا المجال داخل المؤسَّسة البحثية للتعليم العالي في أوروبا.

ولا شك في مزايا تأكيد الدراسات الوصفية على ضوء الظروف الثقافية السائدة آنذاك، فإن منهجيَّتها البحثية التجريبية لم تقتصر على ترسيخ جذور المبحَث في التعليم العالي، بل أدت أيضًا إلى تحوُّلٍ كبيرٍ من التركيز على النص الأصلي إلى زيادة التركيز على النص المستهدَف والثقافة المستهدَفة. وإذا كنا اليوم نرى أن مثل هذه المناهج البحثية تتسم بقيودٍ كثيرة، فعلينا أن نذكُر أن الروَّاد الأوائل في ذلك الوقت الذي لم تكن دراسات الترجمة قائمة فيه باعتبارها مبحثًا [مستقلًّا] كانوا يشتركون في عدة اهتماماتٍ بَيْنية [مشتركة بين التخصُّصات] وقائمة على نظرياتٍ متعدِّدة، كان من بينها التاريخ الأدبي، وعلم اللغة، وعلم الأسلوب والبِنيوية. وشارَكَ في هذا باحثون من أمريكا، وهولندا، وبلجيكا، وروسيا، وتشيكوسلوفاكيا السابقة وإسرائيل. ويَرْوي لنا ثيو هيرمانز (١٩٩٩م) أمر روحه الرائدة في كتابه الترجمة في النظم؛ إذ يقول: إن هذا المجال فعَل ما يُماثِل النهجَ الذي يصفه توماس قون في كتابه بناء الثورة العلمية (١٩٦٢م) فاستقى بعضَ الأفكار الرئيسية في بضعةِ مباحثَ أخرى، والسائدة في شتَّى مناطق العالم، لتشكيل «قالب المبحَث» الخاص به (١٩٩٩: ١٠). ويقول: إننا نشهد أيامًا بالغة الإثارة بتجربة أفكارٍ جديدة، وتجنيد باحثين يافعين، وتنظيم مؤتمرات، ونشر الأفكار الجديدة. وهكذا فقد أنشأَ هذا المجالَ أصلًا، من عدة زوايا، باحثون يقبلون التداخُل بين التخصُّصات والتعاون الدولي. وأرجو أن يعود هذا المجال في المستقبل إلى هذه الروح العالمية والبَيْنية.

(٢) دراسات الترجمة في الولايات المتحدة

لم يتميَّز نُمو دراسات الترجمة باعتبارها مبحثًا مستقلًّا وقائمًا بذاته في الولايات المتحدة بالسرعة التي اتسَم بها في أوروبا؛ إذ لا يُقَدِّمُ إلا عَدَدٌ بالغُ الضآلة من الجامعات برامجَ على مستوى الدراسات العليا في دراسات الترجمة. وطبقًا لما جاء في كتاب دليل برامج الترجمة والترجمة الفورية في أمريكا الشمالية الذي وضَعه وليم بارك (٢٠٠٣م) فليس في الولايات المتحدة إلا جامعتان تقدِّمان درجات الدكتوراه في الترجمة، وهما جامعةُ ولاية بين وجامعة بنجهامتون (ولم تصدُر الموافقة على برنامج الدكتوراه في الجامعة الأخيرة إلا في عام ٢٠٠٤م). ومن بين آلاف الجامعات، لا تُقدِّم إلا ١٥ جامعةً برامجَ الماجستير في الآداب أو في العلوم؛ والعديد من هذه ماجستيراتٌ في الفنون الجميلة (أو في الكتابة الإبداعية مثل برنامج جامعة أيووا) أو مؤسسات للتدريب على الترجمة (مثل برنامج الترجمة الفورية القانونية في كلية تشارلستون، في ولاية كارولاينا الجنوبية) (بارك ٢٠٠٣: ١٩٠). ويُعتبَر الباحثون في الولايات المتحدة، من عدة زوايا، متخلِّفين بمقدار ٣٠ عامًا عن باحثي الترجمة في أوروبا، ولا يزالون في المراحل الأولى من تبادُل الآراء وتنظيم المؤتمرات وتجنيد التلاميذ. ونظرًا لطبيعة هياكل التعليم العالي في الولايات المتحدة أصبَح من المحتوم أن تتسم دراسات الترجمة بالبَيْنية، فمُعظَم الدارسين الذين يبحثون الترجمة حصَلوا على درجاتهم الجامعية الأولى في مباحثَ أخرى ولديهم اهتماماتٌ بحثية بتخصُّصات مختلفة، من بينها علم اللغة، والأدب المقارن، وعلم النفس، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والدراسات الثقافية وعلم الاجتماع.

وإذا كان بإمكاننا التعميمُ والقولُ بأن دراساتِ الترجمة في أوروبا في الثمانينيات والتسعينيات كان يُهيمِن عليها الفرع الأوسط من نموذج هومز — أي الفرع الوصفي — فلقد حدَث العكس تمامًا في الولايات المتحدة؛ ولنا أن نقول إن الفرعَين الآخرَين — أي ذراعَي النظرية والممارسة أو فرعَي اليمين واليسار — هما اللذان شهدا نموًّا كبيرًا؛ ففي مارس ٢٠٠٤م عقد باحثو الترجمة في الولايات المتحدة المؤتمر الثاني (فقط) لجمعية دراسات الترجمة الأمريكية في جامعة ماساتشوستس، في أمهرست، وحضَره ما يربو على ١٢٠ باحثًا من شتى أرجاء الولايات المتحدة والعالم. وإذا كان باحثو الترجمة في الجامعات ذات برامج دراسات الترجمة الراسخة مثل بنجهامتون وجامعة ماساتشوستس، أمهرست، وجامعة ولاية كينت، قد أرسَلوا من يمثِّلهم، فقد حضَر المؤتمرَ باحثون آخرون لهم خلفياتٌ شتى وينتمون إلى مباحثَ مختلفة. ولا يزال المجال الجديد يُحاوِل أن يكتشفَ الباحثين العاملين في الترجمة، وأن يعرف خلفياتهم ومباحثهم (الأصلية)، وأفضل سُبل صَوغ منظَّمة بحثية جديدة. وهكذا نرى أن تعريف المجال نفسه في الولايات المتحدة لا يزال تعريفًا مفتوحًا مؤقتًا، ولا يزال يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على التعريفات الدولية والبحوث البَيْنية.

وللمرء أن يقول: إن بعض المباحث الأخرى تدفَع دراسات الترجمة إلى التطوُّر بسرعةٍ أكبر؛ فالأمريكيون براجماتيون إلى حدٍّ بعيد وذوو تفكيرٍ اقتصادي، وليس من المُستغرَب أن ينمُو فرع الممارسة بسرعةٍ كبيرةٍ في الولايات المتحدة. ومن المجالات الدافعة بوجهٍ خاصٍّ على ذلك مجال التجارة الدولية؛ أي إن كبارَ رجالِ الأعمال يحثُّون المجال على التطوُّر بأسلوبٍ نافعٍ وعملي بحيثُ يُساعِد على فتح الأسواق في الخارج. وقد أشار جريجوري شريف، أحد أعضاء جمعية دراسات الترجمة الأمريكية، والأستاذ في جامعة ولاية كينت، إلى الضغط من جانب رجال الأعمال باعتباره الغوريلا التي يزيد وزنها عن ٣٦٠كجم في غرفة المعيشة. ويتعرَّض عددٌ كبير من القضايا في هذا المجال — مثل سعر الترجمة، ونوعيتها، وسرعة أدائها، وأسلوب إخراجها على الورق، ووظيفتها، وتقييمها — للضغوط التي يُمارِسها رجال الأعمال وسوق الوظائف. وقد أدَّى هذا بدوره إلى المزيد من الارتباطات بمجالاتٍ أخرى مثل تكنولوجيا المعلومات والأدوات الحاسوبية، بما في ذلك ذاكرة الترجمة وقواعد بيانات المصطلحات. ولم تكن أكثر جلسات المؤتمر الذي عقدَته جمعية دراسات الترجمة الأمريكية ازدحامًا بالحضور، خاصةً من الشباب، الجلسات التي قدَّم الأساتذة فيها بحوثَهم، بل التي تحدَّث فيها فنيُّو الحاسوب وخبراء الترجمة بمساعدة الحاسوب، وكان بعضهم ينتمي إلى القطاع الخاص. واعترف الأكاديميون أنهم متخلِّفون عن التطورات الأخيرة في استخدام التكنولوجيا في الترجمة، وهو ما أرجعوه إلى افتقارهم إلى التدريب وموارد دخول هذا الميدان. وعلى أية حال، فسوف يكون على معلِّمي الترجمة، إن أرادوا تلبية مطالبِ قطاع الأعمال، أن يُدخِلوا تعديلاتٍ على مهاراتهم باستخدامِ تكنولوجيا المعلومات، وهو ما سوف يكون له تأثيرُه المكافئ له في البحث والنظرية.

وأما المجال الآخر الذي اجتذب أكبر عدد من البحوث في مؤتمر جمعية دراسات الترجمة الأمريكية فكان فرع النظرية؛ إذ كان على منظِّمي المؤتمر أن يُضاعِفوا عدد الجلسات المخصَّصة لنظرية الترجمة، ولكن هذه «النظرية» تختلف اختلافًا كبيرًا عن النظريات التجريبية التي تُهيمِن على برامج الترجمة الأوروبية؛ إذ إن المناهج المستخدَمة في دراسة ووصف الترجمات في الولايات المتحدة تقوم على نظرياتٍ متعددة، وربما كانت متأثرةً في هذا بتعليقات جاك دريدا على مقال فالتر بنيامين بعنوان «مهمة المترجم» (١٩٦٩أ) الذي قال عنه بول دي مان (١٩٨٦: ٧٣) «لَسْتَ بشيءٍ إنْ لمْ تكنْ كتبتَ عنْ هذا المقال»، أو بمقال جاياتري سبيفاك بعنوان «المبادئ السياسية للترجمة» (١٩٩٣م) أكثر من تأثُّرها بكتابات باحثي دراسات الترجمة الوصفية؛ فإن كبار الباحثين في الولايات المتحدة — لورنس فينوتي، سوزان جيل ليفين، ماريا تيموتشكو، دَجْ روبنسون، مارلين جاديس روز، جاياتري سبيفاك — على الرغم من قيامهم ببعض الترجمات وبعض العمل بتوصيف الترجمة — كان معظم ما أحرزوه من نجاح في النشر والمحاضرات العامة يرجع لبحوثهم وكتاباتهم في الدراسات الثقافية، والفلسفة الأوروبية، والدراسات الأدبية ونظرية ما بعد الاستعمار. وأقول إن التوسع الهائل في نظرية الترجمة يتجلى فيه تأكيد الدراسات البَيْنية في الولايات المتحدة؛ ففي السبعينيات والثمانينيات تعرَّضَت بعض المجالات الدراسية التي كانت منعزلةً ومستقلةً للغزو من جانب ضروبٍ منوَّعة من النظريات والمنهجيات الحديثة مثل ما بعد البِنيوية والتفكيكية والماركسية والنِّسوية وما بعد الحداثية؛ فعلى سبيل المثال كان أندريه ليفيفير، الذي انتقل من بلجيكا إلى الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات، قد تأثَّر تأثُّرًا شديدًا بازدهار النظرية الأدبية في الولايات المتحدة، وتغيَّر بعدها مدخله من التركيز على الحِيَل الأدبية إلى اهتمامٍ زائد بالنظرية، وبالدراسات الثقافية، والأيديولوجيا، وكان في أواخر عمله ينتقد ضيقَ نظرة المداخل المستعملة في أوروبا. وهكذا نرى أن ذراعَي المجال اليمنى واليسرى — أي النظرية والممارسة — يتطوَّران في الولايات المتحدة بسرعة تفوق سرعة تطوُّر الفرع الوصفي الأوسط.

ولكن إذا كانت دراسات الترجمة في الولايات المتحدة تتمتع بسماتِ قوةٍ مُستمَدة من الروابط البَيْنية، فإنها تتسم كذلك بنقاطِ ضعفٍ صارخةٍ في مجالَي توصيف الترجمة وبحوثها. وقد قدَّم لورنس فينوتي (١٩٩٥م) في كتابه اختفاء المترجم: تاريخ الترجمة تاريخًا للترجمة في الولايات المتحدة، ولكنه استقى جانبًا كبيرًا من مادته من المصادر الدولية مثل نظريات الترجمة البريطانية والألمانية، بل كان هذا الجانب أكبر من المادة التي استمدَّها من الولايات المتحدة، وعندما نظر في حال الأخيرة كان وصفُه أقرب إلى المدخل الحداثي في الواقع لتاريخ الترجمة؛ إذ ركز على بعض المترجمين من أمثال عزرا باوند، ودَدْلي فيتس، وسيليا ولويس زوكوفسكي، وبول بلاكبيرن، بدلًا من أن يُقدِّم تاريخًا شاملًا. ولنأخذ مثلًا آخر، كالكتاب الذي شارك في وضعه اثنان هما جان ديليل وجوديث وودزورث وعنوانه المترجمون عَبْر التاريخ (١٩٩٥م) إذ لا يشير إلى أي نشاطٍ تَرجمي في الولايات المتحدة. وهكذا نرى أننا نحتاج بوضوحٍ إلى إجراء بحوثٍ في نظرية الترجمة وتاريخها ومبادئها السياسية في الولايات المتحدة، بحيث يشمل البحث الفترة السابقة للاستعمار؛ أي بين السكان الأصليين، والفترة الاستعمارية، بما في ذلك الاستعمار الفرنسي والبريطاني والألماني والهولندي والإسباني؛ وفترة حركة الاستقلال التي شَهدَت إدراجَ الأفكار الخاصة بالديمقراطية المُستمدَّة من اللغة اليونانية القديمة، وبالحريات الفردية المستمدَّة من عهد التنوير الفرنسي، ومراحل الهجرة الكثيفة في القرنَين التاسعَ عشرَ والعشرين، وحتى حركة العولمة وإضفاء الطابع المحلي التي تُشكِّل جانبًا من ثقافة الولايات المتحدة اليوم. وأقول إن الباحثين في الولايات المتحدة قد يكونون قد تخلَّفوا قليلًا فيما يتصل بالنظرية؛ إذ يُصدرون مقولاتٍ عن الترجمة من دون إجراء البحث التاريخي الذي تستند تلك المقولات إليه، وأُضيف هنا: إن باحثي دراسات الترجمة في الولايات المتحدة يستطيعون أن يتعلَّموا الكثير من زملائهم في شتى أرجاء العالم، وخصوصًا في الصين حيث انطلَق العمل التاريخي والوصفي فقطَع مسافةً لا بأس بها.

(٣) دراسات الترجمة في الصين

قد أكون غير خبير بالقَطع في دراسات الترجمة في الصين، ولكنني أعرف أن دراسات الترجمة تنمو نموًّا سريعًا في الصين في الأفرع الثلاثة المذكورة — النظرية، والبحث، والممارسة — وأن بذور الحقل العالمي البَيْني تُبذر حاليًّا هناك.

من الواضح أن دراسات الترجمة تشهَد نهضةً في الصين، وهي حركةٌ بدأَت في أواخر السبعينيات عندما فتحَت الصين أبوابَها للغرب وشرعَت في تنفيذ برنامجها الطموح للإصلاح الثقافي. فأما من حيث الممارسة، فإن الترجمة قد انتشَرَت اليوم انتشارًا جعلَها تؤثِّر في كل جانبٍ من جوانب الحياة الصينية، بما في ذلك التجارة والعلم والتكنولوجيا، بل والأدب والفلسفة والفنون (لين كينان ٢٠٠٢: ١٦٨)؛ ففي مجال الأدب والفنون، مثلًا، نرى أن اقتصاد السوق الذي يزداد تحرُّرًا قد سمح للمترجمين أن يقوموا، دون تكليف من أية جهة، ببيع ترجماتهم لأكثر الكتب رواجًا إلى مجلاتٍ علمية مثل مجلة ييلين (أي ترجمات) وتُنشر المقالات عن الترجمة في مجلاتٍ أخرى مثل جونجوو فانيي «مجلة المترجمين الصينيين» وشنغهاي كيجي فانيي «مجلة شنغهاي لمترجمي العلم والتكنولوجيا». وتنشُر بعضُ دُور النشر مثل دار نشر شنغهاي لتعليم اللغات الأجنبية، وأيضًا دار نشر تعليم اللغات الأجنبية وبحوثها، بحوثًا متزايدةً في دراسات الترجمة. وطبقًا لمقالاتٍ حديثةٍ في الإنترنت (www.china.org.cn)، أصبحَت السوقُ الرائجة للترجمات من أهم الأخبار المتداولة في البلد. ويقول مارك جودفري (٢٠٠٤م): إن أفضل الكتب الرائجة في الغرب متاحة (باللغة الصينية) ومن بينها كتاب هيلاري كلينتون التاريخ الحي، والقصة التي كتبَتها مادونا للأطفال بعنوان ورود إنجليزية، وكذلك قصص هاري بوتر ذات الشعبية الدائمة التي كتبَتها ج. ك. رولينج، وهي التي بِيع منها خمسة ملايين نسخة حتى الآن، وتصدُر لها طبعاتٌ جديدة أثناء كتابتي هذا الكلام. بل إن بعض الروايات التي كانت محظورةً في الماضي غدت متاحة؛ إذ صدَرَت ترجمتان لروايات يوليسيس (أُوليسْ) للروائي جيمز جويس، إحداهما من ترجمة «جين دي»، والأخرى شارك في ترجمتها خياو قيان، ووين جييريو، إلى اللغة الصينية في الآونة الأخيرة، وكثُرَت المناقشات حول استراتيجيات الترجمة في كلٍّ منها ومزاياها. كما أصبح من المتاح الآن بعضُ الروايات التي كتبها بعض الكُتَّاب المقيمين في المَهجَر وينتقدون فيها الثورة الثقافية وسياسات الحكومة الصينية في الخمسينيات والستينيات، وكانت محظورةً فيما مضى، مثل رواية آكلي العنكبوت للكاتب راي يانج، أو بعض الأعمال المعاصرة لُكتَّاب المَهجَر الصينيين مثل رواية الانتظار للكاتب «ها جين»، وإن ظلت بعضُ النصوص التي تتضمَّن مثل هذا النقد خارج السوق «الرسمية». وسوف يؤدي هذا الازدهار، خصوصًا ظهور المترجمين الهواة الذين ينافسون المحترفين، إلى التأثير في دراسات الترجمة وتعليمها؛ فحين صدَرَت الترجمةُ الصينية لرواية عنوانها جاك: الحديث مباشرةً من الأحشاء، للكاتب جاك ولش، الذي كان رئيسًا لشركة جنرال إلكتريك، وبيع منها عددٌ يربو على ٦٠٠٠٠٠ نسخة، تصدَّى لها بالنقد جانج وايزو، الأستاذ في جامعة كابيتال نورمان، مبينًا آلاف الأخطاء التي وقع فيها المترجم (www.china.org.cn ١٢ أكتوبر ٢٠٠٤م). وإزاء التحول الاقتصادي وبزوغ سوق الترجمات، سيتعين على باحثي الترجمة في المستقبل أن يعالجوا بعض القضايا المهمة مثل علم اللغة، والمعايير، والتقييم، والنقد، والصيت، والتدريب.
وأما في مجال التجارة والعلم والتكنولوجيا فقد ازداد نشر النصوص الخاصة بالإدارة، وعلاقات العمل، والأسواق الاقتصادية العالمية، والعمل المصرفي والتأمين. ومن الموضوعات التي أفحصُها في بحوثي موضوع الصلة بين «القرصنة» والترجمة، خصوصًا قرصنة (أي ترجمة وتطويع) الأغاني والأفلام وبرامج الحاسوب (بصورةٍ غير مشروعة)؛ إذ تُوجَد سوقٌ رائجة للترجمات، خصوصًا ترجمة الأفلام الغربية على أقراص دي. في. دي. ويختلف تعريفُ قانون الملكية الفكرية وتراثه الثقافي في الصين عنه في الغرب، وهو ما يُغيِّر من مفهوم العلاقة بين المؤلِّف والمترجِم، وكذلك تعريف الترجمة نفسه؛ ففي المناطق الاقتصادية الخاصة الجديدة، مثل منطقة شينجين في مقاطعة جواندونج وفي المدن الكبرى مثل شنغهاي وبكين «بيجينج» يزداد تأثُّر الترجمة بالتطوُّرات الجديدة في تكنولوجيا المعلومات. وقد أدَّى العمل ببرنامج «ويندوز» ٢٠٠٠م، و«ويرد» ٢٠٠٠م، ومناهج المدخلات العالمية (أي IME) وسيادة الشفرة الموحَّدة، وزيادة سرعة وذاكرة الحاسوب الشخصي التي تسمح بزيادة سرعة الاتصال من خلال الإنترنت، إلى دخول الصين العالم السريع الحركة؛ أي عالم الحاسوب المتعدِّد اللغات والتكنولوجيات؛ ففي الإنترنت يزداد عدد المواقع والاتصالات بالبريد الإلكتروني باللغة الصينية بمعدلاتٍ استثنائية. وطبقًا لبيانات «جلوبال ريتش»، وهو الموقع الخاص باللغات والترجمة في الإنترنت (http://www.glreach.com/globstats/index.php3) زاد العدد الكلي لمستخدمي الإنترنت في الصين حتى شهر يونيو ٢٠٠٤م إلى ما يربو على ٨٧ مليونًا؛ أي ما يزيد على ١٣٪ من السوق العالمية، وتمثِّل الزيادة ٢٧٫٩٪ في العام الماضي وحده. وزاد عدد مستضيفي الحاسوب في الصين إلى ٣٦٫٣ مليونًا. وإذا استمر هذا المعدل فمن المحتمل أن تتجاوز اللغةُ الصينية في غضون عشرة أعوام اللغةَ الإنجليزية باعتبارها لغةَ الإنترنت السائدة. وهو ما سوف يؤثِّر تأثيرًا عميقًا في التدفُّق العالمي للترجمات ومراتب اللغات. وسوف يزداد تأثُّر الترجمة، في الصين وسائر بلدان العالم، بقوى العولمة والمصالح التجارية المتعدِّدة الجنسيات، بتركيزها على عواملَ معيَّنة مثل السرعة والوظيفة والتكاليف بدلًا من المعايير التقليدية مثل جودة اللغة والدقة. وسوف تتعرَّض النصوص المصدَرية للتبسيط لتقليل الغموض، وسوف يزداد توحيد المصطلحات واتساقها، بحيث تتضاءل مجالات ارتباطها بمعانٍ أخرى، ويتحقق الحد من حلول الترجمات الإبداعية. وسوف تؤثِّر أمثال هذه التغييرات في ممارسة الترجمة وتعليمها ونظريتها. لقد تحدَّث فالتر بنيامين (١٩٦٩ب) عن «الفن في عصر التكاثُر الآلي»، وأقول إن المنظرين المعاصرين سوف يضطرون إلى التفكير في الترجمة في عصر التكاثر الحاسوبي.

وعلى عكس الحال في الولايات المتحدة حيث تقل بحوثُ دراسات الترجمة الخاصة بتاريخ الترجمة، تشهد الصين حاليًّا عملًا زاخرًا دائبًا في دراسات الترجمة الوصفية، خصوصًا تاريخ الترجمة؛ فقد نُشرَت منذ عام ١٩٨٤م عدةُ أعمالٍ مهمة ترصُد تاريخ الترجمة في الصين، من بينها كتاب «ما زويي» (١٩٨٤م) وعنوانه موجَز تاريخ الترجمة في الصين حتى عام ١٩١٩م، وكتاب مختارات (١٩٨٤م) عنوانه مجموعةُ بحوثٍ في الترجمة من تحرير جمعية المترجمين الصينيين، وكتاب تشين يوجانج (١٩٨٩م) وعنوانه تاريخ الأدب المترجَم في الصين، وكتاب تشين فوكانج (١٩٩٢م) وعنوانه تاريخ نظرية الترجمة في الصين. وهذه الكتب مجتمعة ترصُد تاريخ الترجمة في الصين من عهد أسرة هان الشرقية الحاكمة (٢٥–٢٢٠ ميلادية) وترجمة الكتب البوذية المقدَّسة، حتى اليوم. ويشير المؤلِّفون الذين يكتبون عن تاريخ الترجمة في الصين، ومن بينهم المُساهِمون في هذا الكتاب، بصفةٍ عامة، إلى كُتب التاريخ الوصفية المذكورة ويتوسَّعون فيما تتضمَّنه.

مَرَّ تاريخُ الترجمة في الصين، على نحو ما يبيِّن المؤلِّفون الآخرون في هذا الكتاب، ببضع فتراتٍ متميِّزة؛ ففي أثناء الفترة البوذية التي استمرَّت من نحو عام ١٤٨م إلى عام ١٠٣٧م، قام المترجمون الصينيون والرهبان الهنود بترجمة آلاف النصوص البوذية السنسكريتية إلى اللغة الصينية. وأما الفترة الثانية التي بدأَت بنهاية عهد أسرة مينج الحاكمة وبداية عهد أسرة قينج أي نحو عام ١٦٥٠م، فقد نجحَت في نقل العلم والتكنولوجيا والصناعة من الغرب إلى الصين. وحلَّت الفترة الثالثة بعد حَربَي الأفيون في الأربعينيات من القرنِ التاسعَ عشر، عندما فُتحَت أبوابُ الصين أمام المستعمرين من بريطانيا وغيرها من الأمم، ونُقلَت خلالها أعمالٌ كثيرةٌ في العلوم الإنسانية والاجتماعية من الغرب إلى الصين. وبدأَت فترةٌ رابعةٌ بحركة الرابع من مايو عام ١٩١٩م، وهي التي تُعتبَر بدايةً للتاريخ الصيني الحديث، وكانت تتضمَّن البحث عن أشكالٍ جديدةٍ في الفن وإصلاح اللغة، ونهضَت فيها الترجمة بدَورٍ رئيسي. وفي الخمسينيات بدأَت فترةٌ خامسة وكانت تُركِّز على ترجمة الأعمال الروسية وتقديم الكثير من الأفكار الشيوعية. وبدأَت الفترة الأخيرة في السبعينيات، وهي التي أنجزَت الصينُ فيها الإصلاحات وأعادت انفتاحَها على الأفكار الغربية. وتُتَرْجَمُ حاليًّا نصوصٌ من جميع الأنواع، بما في ذلك العلم والتكنولوجيا والتجارة والأدب والفلسفة.

وقد كتب لين كينان مقالًا (٢٠٠٢م) عنوانُه «الترجمة باعتبارها عاملًا مساعدًا على التغيُّر الاجتماعي في الصين»، ويقول فيه مُحِقًّا: إن معظم كُتب تاريخ الترجمة في الصين تُركِّز إما على رصد الحقائق الخاصة بالترجمة — مثل العناوين والتواريخ والمؤلِّفين — وإما تقتصر على تقديم التحليلات اللغوية، وترجع أهمية مقال لين إلى أنه يربط ما بين الحركات التي شَهدَتها الصين وبين الحركات المماثلة في ثقافاتٍ أخرى، ويُبيِّن كيف أن تاريخ الترجمة يزخر في أعماقه باعتباراتٍ أدبيةٍ وأيديولوجية. ويُرجع «لين» أصداء ما قاله وانج زيوليانج (١٩٨٤م) إذ يقول: إن المفهوم الذي وضَعه يان فو لرشاقة الأسلوب قد تعرَّض لانتقادٍ أكثر مما ينبغي. وهو يستخدم مناهجَ مستمَدة من دراسات الترجمة الوصفية قائلًا: إن الناس الذين كانوا يعيشون في ظل ثقافةٍ إقطاعيةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ في ذلك الوقت كانوا قد اعتادوا اللغةَ الصينيةَ الكلاسيكية، وإن اعتبارات مراعاة الثقافة المستهدَفة أرغمَت يان فو على الانصياع للأعراف اللغوية والأدبية السائدة آنذاك (لين ٢٠٠٢: ١٧٧). وفي مثالٍ آخرَ نجد أن لين يُقيم بعض الروابط الدولية، قائلًا: إن الفترة الخامسة للترجمة؛ أي إبَّان الفترة السوفييتية، التي كانت الأعمالُ المرشَّحة للترجمة أثناءها تتطلَّب العرض على النظام الروسي وإجازته لها، يُمكِن مقارنتُها بفترة الثلاثينيات والستينيات في إسرائيل عندما كانت الترجماتُ من الألمانية إلى العبرية تمُر من خلال «مصفاة» الولايات المتحدة. وأمثال هذه النظرات الدولية والبَيْنية مما نرحِّب به ونحبِّذه.

وتاريخ الترجمة في الصين تاريخٌ دولي بطبيعة الحال، بسبب مشاركة عددٍ كبيرٍ من المترجمين والمبشِّرين الغربيين فيه، وقد كتبَت إيفا هونج (١٩٩٩ب) مقالة بعنوان «دَور المترجم الأجنبي في تقاليد الترجمة الصينية» تستكمل فيها كتاب التاريخ الذي وضَعه «ما»، وإن كانت لا تُركِّز على المترجمين الصينيين قَدْر تركيزها على المترجمين «الأجانب»، ومعظمهم مبشِّرون غربيون أو إداريون من الأتراك. فلما كان الصينيون، بل ورجال الفكر منهم، لا يعرفون لغاتٍ أجنبيةً كثيرة، ولا يتمتَّعون بخبرة تُذكَر بالحياة خارج بلدهم، كان المبشِّرون الغربيون يُضطَرُّون بصفةٍ عامةٍ إلى تعلُّم اللغة الصينية، وقد أجادها عددٌ كبيرٌ إجادةً تامة. وكان المبشِّرون أحيانًا يستعينون ببعض الصينيين في الحديث، ولكن المبشِّرين كانوا يتحمَّلون عبء الترجمة بأنفسهم بصفةٍ عامة. وتقول «هونج» في مقالتها إن الفترات التي كان يُهيمِن عليها المترجمون الصينيون — مثلما سادت ترجماتُ خوان زانج في أواخر الفترة البوذية — تُعتبَر الاستثناء لا القاعدة، وإذا كان بعض المترجمين، مثل «يان فو»، و«لين شو»، من ذَوي النفوذ في الفترة التالية لحربَي الأفيون، فإن نفوذ بعض المترجمين اليسوعيين كان أكبر، مثل تيموثي ريتشارد (١٨٤٥–١٩١٩م) وجوناثان فراير (١٨٣٩–١٩٢٨م)؛ إذ أنجزوا ترجماتٍ لنصوصٍ دينية ونصوصٍ للمعارف الغربية. ولم يزدَدْ عددُ اللغات الأجنبية التي تُعَلَّمُ وتتَّسعْ دائرة المترجمين الصينيين المؤهَّلين إلا في وقتٍ لاحق؛ أي بعد نشأة اقتصاد المدن، وزيادة الروابط الدولية، والتغييرات التي شَهدَها النظام التعليمي، وتختتم هونج مقالتها بتحذير باحثي الترجمة من قَصْر تركيزهم على المترجمين الصينيين للأعمال الغربية داعيةً إياهم إلى قبول مساهمات المترجمين غير الصينيين في تطوير الثقافة الصينية، وبذلك فهي تدعو إلى تدويل مجال الدراسة.

وإلى جانب الازدهار الذي تشهده ممارسة الترجمة، وزيادة البحوث في ضروب تاريخ الترجمة في الصين، يشهد البلد حركةً بالغة القوة في مجال النظرية، وهو الذي يضُم نظرية الثقافة ونظرية الترجمة، والواقع أن النظريتين ترتبطان ارتباطًا وثيقًا في الصين، وهو ما قد يفسِّر نجاح دار شنغهاي لتعليم اللغات الأجنبية في السلسلة التي نشرَتْها حول نظرية الترجمة؛ إذ قدَّمَت معظم المُنَظِّرين الغربيين، ومن بينهم سوزان باسنيت، ويوجين نايدا، وبيتر نيومارك، وأندريه ليفيفير، وماري سنيل-هورنبي، وجديون توري. فإذا أضفنا إلى ذلك توافُر فكر ما بعد البِنيوية الفرنسي، بما في ذلك توافُر نصوص ميشيل فوكوه، ورولان بارت، وبول ريكور، وجاك دريدا، إلى جانب نصوص منظِّري الأدب الأنجلوأمريكيين مثل فريدرك جيمسون، وجوناثان كالر، وهارولد بلوم، والمنظِّرين العاملين في الولايات المتحدة مثل إدوارد سعيد وجاياتري سبيفاك، وجدنا المقوِّمات متوافرةً لإجراء مناقشةٍ مثمرةٍ لنظرية الترجمة.

وأما استقبال هذه النظريات فليس مُوَحَّدًا؛ إذ يحتضن بعض باحثي الترجمة الصينيين النظريات الغربية، ويظل البعض الآخر متشككًا إزاءها، وانطباعي الأولي يقول إن الكثير من النظريات الغربية للترجمة والعولمة لا تنطبق على الصين بالضرورة؛ فالتقسيمات التي تفصل البِنيوية عما بعد البِنيوية، ودراسة المذهب «الاستعماري» عما بعد الاستعماري لا تتمتَّع بالوضوح المعهود في الصين؛ فهل الثقافة الصينية ما بعد استعمارية أم إمبريالية أم تجمع بينهما؟ وتختلف في الصين أنساق الهجرة، والهيمنة اللغوية، والفوارق الطبقية، والعلاقات بين الأقليات والأغلبيات عما هي عليه في كثيرٍ من الثقافات الغربية؛ إذ نجد على سبيل المثال أن الكثير من التشكيلات المهجَّنة التي تتمتَّع بشعبيةٍ جارفةٍ في نظريات الغرب، مثل أوصاف الأمريكي الآسيوي، أو الأمريكي الأفريقي، أو النيويوريكان — أو الوجود المفتت، مزدوج اللغة، ثنائي الثقافة، لمثل هؤلاء الأشخاص — يختلف اختلافًا كبيرًا عن الحال في الصين. والواقع أن ما يشُد انتباهي في الصين إلى درجةٍ كبيرةٍ وجود تشكيلاتٍ مهجَّنة من نوعٍ آخر مثل «إقطاعي ما بعد حداثي»، «كلاسيكي شعبي»، «رأسمالي شيوعي»، «كونفوشيوسي نِسوي» أو «حاسوبي بوذي»؛ إذ يقتحم الماضي مُسْرِعًا كيان الحاضر. وعلى الرغم من النماذج والقوالب اللغوية الجديدة، فإن عددًا كبيرًا من المناقشات لا يزال يدور حول السياسات الثقافية التي تسيطر عليها الدولة، وحول استثناءاتٍ شعبيةٍ وتجارية أقلَّ خضوعًا لهذه السيطرة. وفي المقال الذي كتبه جوناثان أراك (١٩٩٧: ١٤٤) بعنوان «ما بعد الحداثية وما بعد الحداثة في الصين: برنامج للبحث»، يرى المؤلف وجود اتجاهٍ نحو ما بعد الحداثية، ولكنه يستدرك قائلًا إن النماذج الغربية كثيرًا ما تتعرَّض لإضفاء الطابع الصيني عند تطبيقها على الصين؛ فعلى سبيل المثال تقول «تشين خياومي» في كتابها الاستغراب (١٩٩٥م) [ليس باعتباره النهجَ المقابلَ للاستشراق بل بمعنى اعتناقِ النهج الغربي] إنه ليس قوةً عالمية، بل إنه قد يصبح في بعض الحالات خطابًا هامشيًّا يشتبك من موقعه على أطراف الدائرة بالسلطة المُهيمِنة في مركزها، وبهذا تعكس موقعي قطبَي نظرية ما بعد الاستعمار في الغرب. وإذا كان مفهومها للاستغراب باعتباره يقع على الحدود أو في المركز قد أثار إشكاليةً معيَّنة في الصين المعاصرة (انظر وانج ١٩٩٧م) فإن عمل تشين يُبيِّن بوضوح مدى الخصوصية الثقافية لبعض مفاهيم ما بعد الاستعمار الشائعة والمُطبَّقة في الغرب، ومن بينها الافتراضات التي طرحها بعض باحثي دراسات الترجمة مثل إريك تشيفيتز وتيجاسويني نيرانجانا. وإذا كان صحيحًا أن في الصين اليوم سلطاتٍ مركزيةً بالغة القوة، فليس في الصين تاريخٌ واحد بل منظوراتٌ متعدِّدة للتاريخ، بما في ذلك الصين القارية، وإن لم يكن مقصورًا عليها، وتايوان الصينية، وهونج كونج، وسنغافورة، وجاليات صينية متعدِّدة تعيش في الشتات في شتى أرجاء العالم، وأقليات متعدِّدة داخل الصين، ولكلٍّ منها سياقٌ اجتماعي وسياسي مختلف، ودرجات متفاوتة من الانضمام والإقصاء. وفي غضون أخذ الصين بأسباب الحداثة وزيادة انفتاحها على القوى الخارجية، سوف تنهض الترجمة بدَورٍ جوهري في تطوُّر الثقافة، وعلى جميع المنظِّرين الثقافيين والاجتماعيين أن «يتعاملوا» معها، بما في ذلك الباحثون في الدراسات الثقافية. وأرجو أن يفعلوا ذلك من منظورٍ عالمي وبالانفتاح البَيْني الذي وصف به ثيو هيرمانز مجالَ الترجمة في أيام يفوعه في أوروبا.

(٤) مستقبل دراسات الترجمة

سبق لي في مقدمة كتابي «نظريات الترجمة المعاصرة (جنتزلر ٢٠٠١م)» أن قلتُ إنني أُرحب بنظريات الترجمة الجديدة التي تساعد على نقض الفرضيات التقليدية عن الترجمة وتفصيل العلاقات التي يُبنى المعنى من خلالها، ولكنني حذَّرتُ أيضًا من مغبَّة الاستيلاء دون تمحيصٍ على نظريات ما بعد الحداثة وما بعد البِنيوية التي وُضعَت في الغرب (ص٤). وإذا كنتُ قد وجدتُ الفلسفة الأوروبية مثمرةً في عملي بتحليل الترجمة في الأمريكتَين فإنها يُمكِن أن تصبح أيضًا قوةً استعماريةً مستقلة، فتَصبغ مناهج البحث بأسلوبٍ يحدُّ مما يُمكِن أن يُرى. والفلسفة الأوروبية المشار إليها تعني تحديدًا حَفنةً من الفلاسفة الذين يُوجَد معظمهم في فرنسا. وبعض المناقشات الدائرة في الصين، والمُعبِّرة عن الخوف من الطابع النُّخبوي لنصوص ما بعد الحداثة وأخطار العولمة، قد لا تكون بعيدة عن الصواب؛ فالواقع أنني أدعو إلى تعدُّد النظريات، والجمع بين المناهج والنظرات البَيْنية والدولية، وإعادة النظر باستمرار في تصوُّراتنا المسبقة، والاهتمام الشديد بالجماعات المحلية المُهمَّشة، حتى نسمح باكتساب نظراتٍ ومنظوراتٍ جديدة. وأقول إن باحثي دراسات الترجمة حاليًّا في أوروبا والولايات المتحدة يمكن أن يتعلموا الكثير من البحوث الجارية في دراسات الترجمة الجارية حاليًّا في الصين. ويُعتبَر هذا الكتاب محاولةً أولى لنقل تلك البحوث إلى أوروبا والغرب. وإيضاحًا لبعض النظرات المُمكِنة سأضرب أمثلةً من بحوثي الخاصة.

أعمل حاليًّا في إعداد كتابٍ عنوانه نظريات ترجمةٍ جديدة في الأمريكتَين، وكنتُ قد نشرتُ بداياته في مقالتَين عنوان الأولى «ما وجه اختلاف الترجمة في الأمريكتَين؟» (٢٠٠٢م) والثانية «الترجمة، والثقافة المضادة، والخمسينيات في الولايات المتحدة» (١٩٩٦م). وبدلًا من أن أستخدم مناهجَ البحث التجريبية الأوروبية في وصف ظواهر الترجمة في الولايات المتحدة، فعلتُ عكس ذلك تقريبًا، فاستخدمتُ مناهج التحليل النفسي، والمناهج الماركسية والتفكيكية في الوصول إلى تاريخ الترجمة النصي المرئي، وأيضًا تاريخ الترجمة الخفي وغير المرئي. وتقول حُجتي إن في الولايات المتحدة نمطَين من تاريخ الترجمة؛ الأول يتعلق بالثقافة الرسمية التي تتضمَّن الكُتب والخُطب الرسمية، والمعاهدات التفاوضية، والمراجعات، وضروب «الكلام» الجماهيري، أي ما نُسمِّيه الثقافة المطبوعة؛ ويتعلق الثاني بالثقافة الفرعية أو الثقافة المضادة، بما في ذلك الترجمات في المستشفيات والمحاكم والمدارس وجماعات المجتمع المحلي، والمنازل، وهيئات الخدمة الاجتماعية، إلى جانب السجون، وأحياء الإسبانيين، والمحميات، وأحياء أبناء الصين. أما الثقافة الرسمية فتستخدم دائمًا مترجمين محترفين يتقاضَون أجورًا، والترجمات تُسَجَّل. وأما الثقافة الفرعية فتستخدم الأصدقاء، وأفراد الأسرة، والعاملين بخدمة المجتمع، والبوَّابين وأفراد السكرتارية، وهم دائمًا غير محترفين ولا يتقاضَون أجورًا وترجماتهم لا يُسجِّلها أحد.

وقد حذَّرَنا توري، كما ذكرتُ آنفًا، من التساهُل في تعريف الترجمة أو هدف الدراسة في مجال دراسات الترجمة، قائلًا إن علينا أن ندرُس أي نص تُعَرِّفُه إحدى الثقافات باعتباره ترجمة. وأودُّ أن أخطُو خطوةً أبعَد فأقول إن هذا التعريفَ «المفتوح» لا يفي بالغرض، بل أقول إن على باحثي دراساتِ الترجمةِ أن يبحثوا أية ظاهرةٍ ترجميةٍ في أية ثقافة حيثما تُوجَد تلك الظاهرة، سواء أكانت الثقافة المستهدفة تعتبرها ترجمة أم لا؛ إذ أجد أن الترجمة تختفي داخل ما ليس بترجمات؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وخصوصًا في القصص والروايات، والسير الذاتية، وأدب الرحلات، وخصوصًا في المذكِّرات التي يكتُبها الجيل الأول والثاني من المهاجرين المستوطنين، وقد أصبحَت الآن نوعًا أدبيًّا يحظى بإقبالٍ شديدٍ بين الناس، نجد الترجماتِ الخفيةَ مضمرةً في أعماقها؛ فنحن نجد مثلًا أن كثيرًا من المحادثات التي تجري في بيت المُستوطِن، ورغم ظهورها في النص باللغة الإنجليزية، كانت قد أُجريَت، بوضوح، بلغةٍ أخرى ثم تُرجمَت من اللغة الأم للمُستوطِن، مثل المحادثات مع الآباء والأجداد أو رواية الزيارات التي قام أحدُهم بها إلى بلد المُهاجِر الأصلية. والثقافات الشفاهية، وهي التي تشمل عددًا من أفقر الجماعات وأشدها تهميشًا في الأمريكتَين، تسمح بمرور ترجماتٍ كثيرةٍ بعيدًا عن أعين الصحافة الرئيسية؛ فعلى سبيل المثال كان العبيد يستخدمون اللغات الأفريقية قبل أن يقوم مُلَّاكُهم بتفريقهم أو حتى بقَطعِ ألسنتهم، وبعدها وضَع العبيد لغةً سرية وكانوا يتواصَلون بها من خلال الموسيقى والرقص والإيقاع والتنغيم، من وراء الستار، ولا تزال بعض آثارها قائمة إلى اليوم. وقد وضع الأمريكيون من ذوي الأصول الإسبانية والأفريقية وجماعات السكان الأصليين شكلًا من أشكال الترجمة يستخدم الإنجليزية ولكنه يدرُس فيها مصطلحاتٍ وإحالاتٍ ثنائية اللغة والثقافة، بحيث تخلقُ معانيَ مزدوجة حتى يتمكَّنوا من نقل رسائلهم دون أن تلحظها السلطات ذات اللغة الواحدة. والأنماط البديلة للتاريخ والأساطير تنتقل من جيل إلى جيل داخل البيوت والأماكن الخاصة في كنَف الثقافة، من غير أن تترك وراءها أي سجلٍّ رسمي لها.

كيف يصل الباحثون إلى مثل هذه الترجمة الخفية المجَّانية غير المنشورة؟ استنادًا إلى المناهج التي وضعها باحثو دراسات الترجمة من أمثال أصحاب النظريات في البرازيل والأرجنتين، مثل روزماري أرويو، وإلزي فييرا، وأدريانا باجانو، قمتُ بتطبيق المناهج التي استخدَمها الباحثون من أصحاب «التوجُّه القصصي» في الترجمة؛ إذ تُحلِّل إلزي فييرا مثلًا أعمال كُتَّاب القصة في أمريكا اللاتينية مثل ماري دي أندرادي، وخوزيه لويس بورخيس، وجوناو جيمارياس روزا، وجابرييل جارثيا ماركيز، مُبيِّنةً كيف يستخدمون الترجمة باعتبارها ثيمة في أعمالهم للطعن في الأفكار الأوروبية عن اختفاء [المترجم] والأمانة في عملية الترجمة (انظر فييرا ١٩٩٤م و١٩٩٨م). كما أنني استعرتُ بعضَ المناهج التي لا تعتمد على أي مبحث من مباحث دراسات الترجمة قَدْر اعتمادها على مناهج البحث المستقاة من المباحث العلمية الأخرى؛ إذ استعرتُ استراتيجيةَ التحليل النفسي المستقاة من سيجموند فرويد، وجان-جاك ليكليركيل، وجاك لاكان، للبحث عن لحظات التحوُّل، وعثَرات اللسان، والتناقضات، والغموض، والتوريات، للوصول إلى الشفرات والمعاني النابعة من اللاوعي. واستخدمتُ النظريات الماركسية، مثل التي أتى بها لويس ألتوسير، وبيير ماشري، وماو زيدونج، في النظر إلى التناقُضات في النص التي تكشف عن لحظات عدم الاتساق النصي فتُميط اللثام عن المعاني التي قد تُخفيها طبيعة اللغة الواحدة للنص؛ فقد استخدم ماو زيدونج (١٩٥٣م) في كتابه عن التناقُض بعض الاستراتيجيات الماركسية ليكشف عن ظواهر عدم الاتساق في بعض النصوص، مُبيِّنًا ضروب النفاق والقلقلة في الاقتصاد والأبنية الاجتماعية البورجوازية والرأسمالية، وعلى غِرار ذلك أستخدم أنا التناقُضات والفجوات لأكشفَ عن ظواهر التعدُّد اللغوي والترجمة خلف واجهة الاقتصار على اللغة الإنجليزية في مجتمع الولايات المتحدة ذي اللغة الواحدة. كما استخدمتُ استراتيجيات التفكيكية، كالتي استخدمها جاك دريدا وبول ريكور، وميشيل دي سيرتو محاولًا إزالة القِناع عن الآثار المحظورة للحضور والاختلاف الكامنة في الترجمة.

وأقول إن نتائجَ مثل هذا البحث قد تكون مؤشِّرًا صادقًا يُفصِح عن تاريخ الترجمة في الولايات المتحدة وطبيعة أسلوب عمل الترجمة في ذلك البلد، كما تؤدي أيضًا إلى إعادة تعريف الترجمة. والترجمة التي أُشير إليها لا تقتصر على النمط التقليدي للنقل من لغة إلى لغة، ولكنها تتضمَّن أيضًا شكلًا آخر للترجمة أقرب إلى الاصطباغ بصبغةٍ سيكلوجيةٍ اجتماعية، وهو الذي يختفي جانبٌ كبيرٌ منه بسبب ما يتعرَّض له من كبت وتهميش من جانب التيار الرئيسي للثقافة وأنصار استعمال اللغة الإنجليزية وحدها. إنه شكل من أشكال الترجمة يقوم على المفارقة، وأما تفصيل هذه المُعضِلة فيعرضه دريدا في كتابه «مذهب اللغة الواحدة عند الآخر» (١٩٩٨م) على النحو التالي: (١) إننا نتكلم دائمًا لغةً واحدة؛ (٢) إننا لا نتكلم أبدًا لغةً واحدة. وحتى فيما نُطلِق عليه نصوص اللغة الواحدة، نجد ترجماتٍ خفيةً كامنة تحت السطح، أو قيد الشَّطب أو قيد المَحْو، [بمعنى أنها مشطوبة ولكنها موجودة] وذلك نوع من الثقافة الفرعية القائمة وإن كانت خفية. ودريدا مؤهَّل للإحاطة بهذا، فهو يهوديٌّ أفريقي فَرنسي، وُلد في الجزائر في الوقت الذي كانت الثقافة الرسمية تحظُر اللغة العربية، ولم يكن يستطيع أن يدرُس العربية إلا باعتبارها لغةً «أجنبية». وأقول إننا إذا نظرنا للولايات المتحدة، وتأملنا تعدُّد الهُويات المركَّبة فيها، وكيف تستخدم كلُّ هويةٍ مركَّبة الترجمة يوميًّا طيلة حياتها، لوجدنا تعقيدًا ترجميًّا اجتماعيًّا نفسيًّا كامنًا تحت سطح ما يُسمَّى بثقافة اللغة الواحدة في الولايات المتحدة. وإذا كان عددٌ كبيرٌ من الأقليات والجماعات الهامشية قد «ترجموا» أنفسهم إلى اللغة الإنجليزية، فإن ذلك لم ينجح في أن يمحو تمامًا الهُوية «الأخرى» الخاضعة للكبت، والتي تظهر بأسلوب الشيزوفرينيا إلى السطح بين الفَينة والفَينة، فتُميط اللثام عن خلفياتٍ ثقافيةٍ مختلفة، وما تستهويه تلك الهوية من الزاوية النفسية الاجتماعية. أفلا يمكن أن تُوجَد ظاهرةٌ مماثلةٌ في بلدانٍ أخرى تسودها جماعةٌ لغويةٌ واحدةٌ قوية مثل الصين؟

(٥) الخاتمة

تتسم الولايات المتحدة بحداثة عهد بالغة إن قُورنَت ﺑ «الدول الأمم» في أوروبا وخصوصًا عند مقارنتها بالصين. وإذا كانت دراسات الترجمة قد وُجدَت في أوروبا والصين لمدة تربو على ثلاثين عامًا، فإنها بدأَت للتو في الولايات المتحدة. وتُراودني شكوكٌ عميقة في إمكان تطبيق نماذج دراسات الترجمة الأوروبية — سواء التقليدية منها القائمة على نظريات نقل النص المصدَر إلى النص المستهدَف، أو النماذج الوظيفية الجديدة الخاصة بالنص المستهدَف، وهي التي يزداد قبولها باطراد — عند تحليل ظواهر الترجمة في الولايات المتحدة؛ فإن المظاهر قد تكون خادعة؛ فالثقافات المحلية الصغرى تزداد قوة ومكانة، وتلعب الترجمة دورًا كبيرًا في هذا التحول؛ فالجيل الحديث من المهاجرين من أمريكا اللاتينية الذين استوطنوا الولايات المتحدة، مثلًا، لا يتميَّزون بالاستيعاب الذي كانت جماعاتُ المهاجرين السابقة تتميز به، بل إنهم، على العكس من ذلك، يعملون جاهدين للحافظ على لغاتهم وتُراثهم الثقافي، ويستغلون المزايا التي تُتيحها لهم قوانين مناهضة التمييز في الإصرار على حقهم في ترجمة أقوالهم في المستشفيات والمحاكم والمدارس والمصارف ولجان الاقتراع. ولقد أثبتَت الإنترنت أنها نعمةٌ كبرى لجماعات اللغات الهامشية في الولايات المتحدة. وما دامت قد انفتحَت جبهاتٌ جديدةٌ أمام اللغات غير المشهورة، فقد أصبحَت الترجمة تُستخدم لمقاومة الاستيعاب والحفاظ على اللغات والثقافات [الأصلية]. وهكذا، فإن الترجمة، على الرغم من كَبْتها، تعود ببطء إلى الولايات المتحدة، وربما كانت سيادةُ اللغة الإنجليزية في الاقتصاد العالمي قد بدأَت حصونُها تتصدَّع أيضًا.

ولستُ أريد أن أقول إن منهجية بحثي أفضل أو أسوأ من أي مدخلٍ آخر لدراسة الترجمة، لكنني أقول إن على باحثي دراسات الترجمة أن يُبدوا الانفتاحَ دائمًا على التجديدات البَيْنية والنماذج البديلة للبحث العلمي، وكذلك للعمل الذي يقوم به حاليًّا باحثو دراسات الترجمة من أي عدد من بلدان العالم ومناطقه المختلفة. لقد كان ثيو هيرمانز يتحدث عن أيام الريادة في دراسات الترجمة في أوروبا بانفتاح وحماس بَدَأتُ أشعُر بهما من جديد، ما دام الباحثون من شتى التخصُّصات ومن شتى مناطق العالم يتبادلون الأفكار، ودراسات الحالة، ونماذج البحوث، على نحو ما نراه من التبادل في هذا الكتاب بين باحثي الترجمة الصينيين والغربيين. ولستُ واثقًا من المقصد الذي يتجه إليه الآن مجال دراسات الترجمة على وجه الدقة، ولكن الشعور بالطاقة والالتزام يرون لي، فلا بد أن تؤدي هذه النظرة العالمية والارتباطات البَيْنية إلى مساعدة الباحثين على اكتساب نظراتٍ ثاقبةٍ جديدة في طبيعة الترجمة وأساليب تأثيرها في الحياة اليومية.

١  قدَّمتُ صورةً أولى من هذا البحث إلى المؤتمر الذي عقدَته الجمعية الصينية للدراسات المقارنة بالإنجليزية والصينية في تشونجقين، في الصين، في ٢٣ أكتوبر ٢٠٠٤م. وأشكُر «تانج جون» على مراجعتها للتجارب الطباعية وإبداء رأيها حول القسم الخاص بالصين في هذا البحث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤