الفصل السابع

التعدي والاستيلاء في الترجمة الثقافية المتعددة الجنسيات: ملاحظة تفكيكية

بقلم  تشين يونججو

ليس لعملي بالتفكير لغة أُم، بل ترجمات متتابعة، ونصوص يزيح بعضها بعضًا، وضروب من التكيف مع الظروف المتغيِّرة. ومذهب الترحال الذي أُدافع عنه باعتباره خيارًا نظريًّا موقفٌ وجودي وعليَّ أن أُترجمه إلى أسلوب في التفكير.

روزي برايدوتي، ١٩٩٤م١

الأدب المقارن الجديد يُظهر مغزى اختيار المترجم؛ ففي الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية يكمن التاريخ الخفي لألوان التمييز في مجال آخر — يخلُقه الفرنسيون ويُلغيه الإنجليز — وهو حافل بحركة اللغات والشعوب الدائبة، المترسِّبة دائمًا في القاع، في انتظار قدرة خيالنا الحقيقية على تصوُّرها، فإذا ظللنا نقتصر على الدراسات الثقافية الأمريكية باللغة الإنجليزية، فلن نتعلم أبدًا من تمثيل القدرة المقيدة على التغلغل، ولا من إظهار النص الذي يختفي في الترجمة من اللغات القومية الأوروبية وإليها، وهو الذي يُشكِّل أساس ما نعرفه باسم الأدب المقارن.

جاياتري تشاكرافورتي سبيفاك، ٢٠٠٣: ١٨
كنتُ قد حاولت في قسمٍ من أقسام مقالٍ لي بعنوان «السياسات الثقافية للترجمة»٢ أن أستخدم — من منظور ما بعد الاستعمار — مفهومَين مُهمَّين، وهما مفهوما الحد [أو الحدود] والتعدِّي عليه [أي اجتياز الحدود] المستعاران من مقال فوكوه «مقدِّمة للتعدي»٣ حتى أُبيِّن العلاقة غير السلبية، أو ما أسميتُه العلاقة التوليدية، بين الأصل والنص المترجَم في مجال الترجمة. وأما في هذه المقالة فأنا أرقُب الترجمة وحسب من منظورٍ آخر، وأحاول إجراء دراسةٍ تفكيكيةٍ للترجمة؛ إذ تشير الترجمة هنا، في نظري، إلى فعل التعدِّي، وإلى الحد الأصلي الذي يحاول فعل الترجمة أن يضعه ثم يتعدَّى عليه أو يتجاوزه؛ فطبقًا لما يقوله فوكوه (١٩٧٧: ٣٤) «يعتمد الحد والتعدي بعضهما على البعض في تحديد كثافة الوجود في كلٍّ منهما؛ فمن المُحال تصوُّر وجود حد لا يمكن اجتيازه على الإطلاق، وعلى غِرار ذلك لا معنى للتعدي إن كان لا يتجاوز إلا حَدًّا مكوَّنًا من أوهام وظلال». وتُعتبَر كثافة الوجود الشرط اللازم للنص الذي سوف يُترجَم ولفعل ترجمته؛ فالكتاب أو النص لا حياة له إذا وُضع على الرف أو في أي مكان يشغله. ويستطيع القارئ أو المترجم أن يمنحَه الحياة بقراءته أو ترجمته، وفي هذه الحالة يُعتبَر هذا حدًّا يمكن اجتيازه؛ فالقارئ يجتاز الحد ويتبيَّن درجة «كثافة الوجود» في داخل الكتاب، وكذلك فإن المترجم يتجاوز الحد في فعل الترجمة ويتبيَّن درجة كثافة الوجود خارج الكتاب. وفي الحالة الأخيرة يكتسب الأصل حياته في صورة العمل المترجَم، وهي الصورة التي يُفترض اختلافها عن الأصل واتصالها به معًا. وبهذا المفهوم، فإن أي كتاب أو نص — باعتباره حَدًّا — لا بد أن يكون قابلًا للتجاوز؛ أي للقراءة أو الترجمة، وإلا كان ميتًا. وهكذا فإن معنى الحد يكمُن، على وجه الدقة، في إمكان التعدي؛ أي فعل تجاوزه؛ ومن ثَم فإن حياة الأصل تكمُن على وجه الدقة في إمكان ترجمته.
ولكن ما يُحاوِل فوكوه إيضاحَه لا يتضمَّن الحياة اللاحقة للحد بعد اجتيازه، ولا اللحظة التي يقع فيها التعدِّي على الحد، ولا علاقة التضاد، كالأسود والأبيض أو الداخلي والخارجي، بينهما (فأمثال هذه الافتراضات لا وجود لها في نظره) (١٩٧٧: ٣٤-٣٥)؛ إذ يُعتقَد أن العلاقة بين الحد والتعدي «تتخذ صورةً حلزونيةً لا يستطيع أي اختراقٍ بسيطٍ إنهاءها» (ص٣٥) وهو يستخدم مثالًا ذا قدرةٍ إيضاحيةٍ بالغة، وهو سطوع ضوء البرق ليلًا، للتدليل على طاقة التكثيف المتبادلة بين الحد والتعدي، قائلًا إن البرق:

منذ أن بدأ الزمان، يمنح كثافةً سوداءَ عميقةً للَّيل الذي ينفيه، فهو يُضيء الليل من الداخل، من القمة للقاعدة، ومع ذلك فهو مدينٌ إلى الظلام بالوضوح الساطع للتجلي الخاص به، ولتفرُّده المتوازِن المُحزن؛ فومضةُ البرق تفقد ذاتَها في هذا الحيز الذي تُثبِت فيه سيادتها ثم تصمت بعد أن منحَت اسمًا للحُلْكة. (ص٣٥)

أي إن العلاقة ليست علاقة تعارُض أو تخريب؛ إذ يبدو أن البرق، بإضاءته للَّيل، يُعمِّق ظلامه، وفي الوقت نفسه تزداد شدةُ وضوحه بسبب الظلام، وهكذا يبيِّن لنا سلطةَ تفرُّده، التي تقوم بوظيفة قوة التوحيد. ومع ذلك، فعندما يُنهي البرق عمله في إضاءة الليل، وتعميق الحُلْكة وإثبات سيادته، يفقد ذاته في الحُلْكة ويعود إلى الصمت بعد الانتهاء من التسمية. فالبرقُ، بعبارة أخرى، يغرق مرةً أخرى في الحيز الذي أضاءه لتوِّه، فور الانتهاء من الإضاءة. ولكن هذا الحيز لا يُمكِن أن يكون الحيز نفسه الذي كان موجودًا قبل الإضاءة، تمامًا مثلما لا يكون النص المترجَم هو النص الأصلي نفسه. والاختلاف يتسبَّب فيه — ويتكون في أثناء — فعل الإضاءة/الترجمة/التعدي، وهو الفعل الذي يؤكِّد الوجود المحدود، والليل الحالك، والنص الذي ينتظر الترجمة، كما يقيس «المسافة الشاسعة التي يفتحها في قلب الحد»، ويرصُد «الخط البارق الذي يتسبَّب في نشأة الحد»، وأخيرًا يقفز إلى داخل اللانهائية ﻟ «منطقة الوجود» والتي هي «وجود الاختلاف» (ص٣٥-٣٦).

إن الذي يتعرض «للاستجواب» هنا [أي للتساؤل عن طبيعته] هو الأصل أو النص الأصلي؛ فالومضة باعتبارها إضاءة، تضع حدًّا للظلام، ثم تتجاوز هذا الحد عندما تُضيئه أو تفقد ذاتها فيه، فالليل يعود حالكًا مرةً أخرى، منتظرًا ومضةً أخرى، ثم ومضةً ثالثة. وكل ومضة تختلف عن جميع الومضات الأخرى؛ لأن كثافة البرق متفاوتة، فإذا ازدادت كثافة البرق استطعنا أن نرى المزيد عن العالم الذي يغشاه الظلام، والعكس بالعكس، فإذا استعنَّا بالقياس قلنا إن النص الأصلي تحوَّل إلى نصٍّ مترجَم وازدادت كثافته بفضل فعل الترجمة، ثم يحتاج النص المترجَم إلى المزيد من التكثيف إما من النص الأصلي أو من ترجمةٍ أخرى له تمثِّل اختبارًا لإمكان ترجمته ولأمانته، وهو ما يتمتع بدلالةٍ خاصةٍ في حقبة الترجمة الحالية، وحقبة إعادة الترجمة بل الترجمات المتنافسة٤. وكلما وقع التكثيف احتاج الأمر إلى وميض البرق، وكل وميض يمثِّل تعديًا على الحدود، أو عبورًا للحدود، واستبعادًا للأصل. واختفاء الأصل يُعلِن أمرَين؛ الأول موت الحدود القديمة، أو الحدود المحدودة للبشر، وهي التي يبدو فيها الإنسان موضوع المعرفة، والثاني مولد أراضٍ جديدة يقوم فيها «الشبح الصامت الساكن الذي يتلمس طريقه بشكل من أشكال الفكر باستجواب الحد» وحيث «يحل فعل التعدي محل حركة التناقضات» (ص٥٠). وفي هذا العمل يفتح فعل التعدي مساحةً جديدة أو منطقةً جديدة لا تعرف أصلًا ولا نهاية، بل إنها صيرورة وحسب؛ أي انفتاح إمكاناتٍ متعدِّدة تتيح، من ثَم، موقعًا لتجميع أجزاء آلة جديدة.

وقد يكونُ هذا «الشبح الصامت الذي يتلمَّس طريقه»، على الأرجح، ما أطلَق عليه كارل ماركس، وديلوز وجواتاري مصطلح رأس المال الذي يسعى لإقامة حدود ثم يتعداها في حركة الرأسمالية المالية المتَّسِمة بصيرورةٍ مستمرة، فإذا حاولنا أن نُصادِر أو نستولي على صورة رأس المال التي رسمَها ديلوز وجواتاري؛ أي باعتباره رحالةً أو جذمورًا (ما دام الاستيلاء أو المصادرة من الموضوعات التي تدور حولها حُجتي في هذا الفصل) من أجل شرح فكرة فوكوه عن الحد والتعدي، فسوف نجد أن كل حالةٍ من حالات التعدِّي تمثِّل مسار رحلةٍ معيَّنة، وبسطًا لثنيات الطريق، وطمسًا للحدود بين الأراضي التي كان رأس المال يحتلها ويستغلها حتى استنفد ما فيها؛ فطبقًا لما يقوله ماركس وديلوز، تُعتبَر حركة رأس المال من مكان لمكان، حركة وضع حدودٍ إقليميةٍ ثم إزالتها ثم وضع حدودٍ لأراضٍ أخرى. أما المصطلح الأول فيشير إلى لحظة وضع الحدود، وهي اللحظة التي يجد فيها رأس المال أفضل موقع للإنتاج، ولفائض الإنتاج أيضًا. وتأتي لحظة الإزالة عندما يحقِّق رأس المال قيمته الكاملة، وهنا تقوم قوًى جديدةٌ أكثر إنتاجًا بتحويل شكل الأجهزة القائمة للإنتاج والاستهلاك في غضون «الثورة المتواصلة لوسائل الإنتاج» (ص٥٠). ولكن لحظة التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي المذكورة تفرِز عنصُر السلطة التي تتميَّز به الرأسمالية، وهو الذي يعوقُ قوى الإنتاج الجديدة ويمنع استثمار هذا الفائض في إنتاج المزيد من الفائض، وهكذا لا يُعلي إلا قيمة رصيد رأس المال، وهو مذهبٌ عفَّى عليه الزمن، والاكتفاء بتحقيق الربح المتوافر من الاستثمارات السابقة. وهنا تحين لحظة وضع حدودٍ لأراضٍ أخرى، ومن البديهي أن ذلك يتزامن مع لحظة إزالة الحدود الإقليمية (القديمة) في عملية التنمية الرأسمالية.

أما الأساس الفلسفي لفكر إزالة الحدود الإقليمية فهو مفهوم الجذمور الذي وضعه ديلوز وجواتاري في كتابهما ألف هضبة٥. والجذمور في علم النبات هو الساق التي تنمو تحت الأرض لبعض النباتات مثل البطاطس، وهي التي يختلف تركيبها الأفقي عن التركيب الشجري الرأسي، سواء كان ذلك للشجرة أو لجذرها. ويقول ديلوز وجواتاري إن للجذمور ستَّ خصائص، يلخِّصها باتريك هايدن على النحو التالي:
  • (١)

    لديه القدرة على أن ينشئ دائمًا «روابط بين المنظمات السيميوطيقية للسلطة، والظروف الخاصة بالفنون والعلوم والعلوم الإنسانية» (ديلوز وجواتاري ١٩٨٧: ٧).

  • (٢)

    هذه العلاقات المنوَّعة خارجية، وتُنتِج نظمًا مفتوحة ومن المُحال أن تكون منغلقة على ذاتها. وهما يقولان: إن «طبائع» الأشياء ليست ثابتة أو مثالية أو رسمية، بل غامضةٌ مضطرِبة. وليست سوى صورٍ ذات استقرارٍ مؤقت لروابطَ لغوية وإدراكية وحركية وبيئية وسياسية تجمَّعَت بعددٍ متنوع من الأساليب، بل إنها في ذاتها آثارٌ نجمَت عن ظروف ومشروعات وأنشطةٍ معينة، والعلاقات فيما بينها هي العوامل التي تتحكَّم فيها (ص٧، ٣٦٧، ٤٠٧-٤٠٨).

  • (٣)

    إن تعدُّدية الألفاظ المختلفة والعلاقات الخارجية المتفاوتة تمثِّل تجميعًا معيَّنًا، وكل «زيادة في أبعاد هذه التعددية التي تتغير طبيعتها بالضرورة كلما وسعَت الروابط فيما بينها» (ص٨) تتفاعل مع العلاقات العاملة، وتشترك في عملها مع العناصر غير المتجانسة، في وحدةٍ سيالة لتغيير الروابط القديمة، كما تشكِّل في الوقت نفسه روابطَ جديدة، بحيث يصبح هذا التجمُّع وحدةً تشكيلية ذات نهايةٍ مفتوحة.

  • (٤)

    هذه الوحدات ذات النهاية المفتوحة متعددة الاتجاهات، فهي تسير في خطٍّ معيَّن في لحظةٍ معيَّنة، وفي خطٍّ مختلف في لحظةٍ أخرى. وهذا على وجه الدقة ما أشرنا إليه باسم عمليات رسم الحدود الإقليمية، وإزالتها وإعادة رسمها؛ أي إنها «التحولات النوعية لتجمُّعاتٍ مركَّبة على أساس العلاقات المنتشرة بين الألفاظ غير المتجانسة» (هايدن، ١٩٩٨: ٩٦).

  • (٥)

    ودائمًا ما يكون لها مداخلُ متعدِّدة تسمح لنفسها بالعمل المثمر داخل مجالات نشاطٍ منوَّعة، وأنماطٍ مختلفة من الممارسة الاجتماعية، والجذمور نفسه يتشكَّل بفعل هذه المجالات والممارسات مثلما يغذوها.

  • (٦)

    وهي صيرورةٌ شاذَّة تنشَط في خلق أحلافٍ يُمكِن التعبير عنها، على ما بها من تضاد وصلاتٍ حيوية، بين الألفاظ المختلفة المتعايشة، التي تُشكِّل نظمًا أو تجمُّعاتٍ مفتوحةً قادرة على التحوُّل. هذه هي عملية الصيرورة التي «تقع في الفراغات البَيْنية التي تعبرها العلاقات الخارجية في داخل هذه الكيانات التعدُّدية» (ص٩٤–٩٧).

وهكذا فإن ملامح الجذمور المذكورة — الروابط، وعدم التجانُس، والتجمُّعات، وتعدُّد الاتجاهات، وتعدُّد المداخل، والصيرورة — «تخلق تركيبةً كاملةً من التعدُّدية … تتضمَّن نمطًا من التداعي الخلَّاق الذي يستعمل مفهوم الجذمور باعتباره مضادًّا عمليًّا للنمط المراتبي للهياكل الشجرية، ويتفق في روحه مع ضروب المسائل النظرية والاجتماعية والثقافية والسياسية» (ص٩٤). ويتميَّز بطرافةٍ خاصة هنا مفهوم «التجمع»، فهو باعتباره عملية وضع حدٍّ لأرضٍ ما، يضم معًا عناصرَ مختلفة أو غيرَ متجانسة، من المُحال أن تتغير إلا إن غيَّرت المجموع. وهي في الوقت نفسه إزالة للحدود الإقليمية ورسم لحدودٍ جديدة، لأنها — في تغييرها لطابعها العلائقي السابق — تغيِّر أيضًا التجمع الإقليمي فتحوِّله من نوعٍ إلى نوعٍ آخر، وهذا يُشبه على وجه الدقة الفواصل التي يُومِض فيها البرق فيُضيء الليل الحالك، فهي من المُحال أن تتطابق لأن اختلاف شدة الضياء يُحدِث آثارًا مختلفة في العالم الذي أضاءته. ونجد بالمثل أن الأصل، باعتباره حَدًّا أو حدودًا، يتغيَّر بعد اجتيازه وإزالة حدوده، ويتحوَّل نوعيًّا، ومن المُحال أن يتفق كميًّا أبدًا مع ألفاظه قبل الترجمة. إنه الآن نصٌّ أزيلت حدوده الإقليمية، أو تجمُّعٌ جديدٌ في إطار مجموعةٍ جديدةٍ من العلاقات، وما ذاك إلا لأن النص المترجَم موجَّه إلى جمهورٍ جديدٍ له خلفيةٌ ثقافيةٌ مختلفة. ويقول هايدن: «إن التجمُّع الجذموري لا يشبه، ولا يعيد إنتاج، ولا يمثِّل أي جوهرٍ أساسي يحدِّد طبيعته من حيث التوافق. وذلك لأن نوعية الجذمور تتولَّد من التفاعل العلائقي بين عناصره وأشكال التعبير عنه، وهي التي تتغيَّر مثلما يتحول الجذمور نفسه» (ص٩٦).

وتعتبر المجموعة الجديدة من العلاقات والألفاظ دَوَالَّ صغرى أو جُزَيئية على العكس من الدوالِّ الكبرى أو الرئيسية التي تلتزم التزامًا صارمًا بالمعاني والهُويات غير المتغيرة، وذلك «بإقصاء التحولات النوعية في سبيل التطابق العددي» (ص٩٧). ووجود العناصر الصغرى أو الجزيئية خصيصةٌ تتميز بها جميع أشكال الصيرورة، وهي لا تهدف إلى «محاكاة شيء أو شخص أو التطابق معه»، بل ترمي إلى «الدخول في تراكيبَ معيَّنة مع شيءٍ آخر» (ديلوز وجواتاري ١٩٨٧: ٢٧٢، ٢٧٤؛ وهايدان ١٩٩٨: ٩٧). ويقول إيان بوكانان (٢٠٠٠: ١١٩): إن فكرة التجمُّع المذكورة «تمنحُنا ثقةً يوتوبيةً بأن الأمور يُمكِن أن تتغير لأن تعريفها يقول إنها في حالة تحوُّلٍ مستمر.» ومثل هذا التحوُّل ناجم عن وضع الأشياء في أنواعٍ مختلفة من «التجمُّعات» الشاملة، وهو ما يؤدي إلى تفاعلاتٍ جديدة وتنظيم علاقاتٍ جديدة في نظامٍ منفتح إلى الأبد من العلاقات. وسيولة هذه العلاقات تسمح بإمكان التحول إلى «الآخر»، وبالتحول النوعي للعلاقات الجذمورية، والتعايش الجماعي لعناصرَ غيرِ متجانسة، وأخيرًا سياساتٍ صغرى نَشِطة.

ومن بين الممارسات الصغرى أو الجزيئية للسياسات الصغرى تحليل ديلوز لما يسمِّيه الأدب الصغير، ناهيك بالحقيقة التي تقول إن الأدب نفسه سياسة. وهو يسمِّيه «الصغير» تمييزًا له عن الكبير؛ لأنه يحدد موضوعه بأنه «كيانٌ أساسيٌّ صُلب، يُبنى من عناصر جوهرية متعارضة تتعلق بوظائف ومعانٍ وهويات لا تتغير» (هايدن ١٩٩٨: ٩٧) وإذن «فهذا تمييزٌ نوعي، ويشير في هذه الحالة إلى الطاقة الثورية الكامنة في جميع الممارسات اللغوية التي تتحدى هيمنة الشكل الثنائي للتفسير اللغوي من خلال قدرتها على توليد علاقات وروابطَ متكاثرة بين التعبير والمضمون» (ص٩٨) أي ببناء تعدُّدياتٍ وتجمُّعاتٍ تشير إلى الخبرة السياقية الجديدة. والأدب الصغير، أو إن شئنا التعبير الدقيق قلنا إنه أدب الأمم الصغرى، هو موضوع التحليل الذي يقوم به ديلوز وجواتاري للسياسات الصغرى، وهو مصطلحٌ اقترحه فرانز كافكا نفسه فيما كتبه في يومياته بتاريخ ٢٥ ديسمبر ١٩١١م، ويشير إلى مثل هذه الخبرة اللغوية الجديدة في المرحلة المبكِّرة من عمل كافكا بالكتابة. وقد استولى ديلوز وجواتاري على هذا المصطلح أولًا في كتابهما كافكا: نحو أدبٍ صغير، ثم توسَّعا في تناول المصطلح بالمزيد من التفصيلات ضاربين الأمثلة من كتابات مؤلفين آخرين في كتابهما ألف هضبة، ثم طبَّقا المصطلح أخيرًا على المسرح في مقال عنوان «أقل بمقدار مانيفستو واحد»، عن الكاتب المسرحي الإيطالي كارميلو بيني. وباعتبار الأدب الصغير موضوعًا وممارسة للسياسات الصغرى، يُمكِن تعريفه بأنه يشير إلى «استعمالٍ خاص للغة، وطريقًا لإزالة الحدود الإقليمية للغة من خلال تعميق وتكثيف بعض الملامح الكامنة فيها» (بوج ٢٠٠٣: ٩١).٦ وله ثلاث خصائص: (١) إزالة الحدود الإقليمية من اللغة؛ و(٢) ربط الفرد بالمباشرة السياسية؛ و(٣) التجميع الجماعي لوسائل التعبير (ديلوز وجواتاري ١٩٨٦: ١٨). وفي عالم ديلوز وجواتاري للتجمعات الآلية يصبح الأدب الصغير آلة التعبير، أو فعلًا لغويًّا يمزج التعبير بالمضمون «حتى يتحرك في اتجاه أطرافه أو حدوده» (ص٢٣). وهكذا فإن الجمع في آنٍ واحد بين كل فيضٍ للتعبير وكل فيضٍ للمضمون يتيح للآدابِ الصغرى، وللغاتِ الصغرى أيضًا في هذه الحالة، أن تتحدى الاتساق والتوافُق اللذَين تُحرِزهما الآداب واللغات الكبرى من خلال التناغم بين التعبير والمضمون بنائيًّا أو عضويًّا، بل وأن تبتكر حالاتِ صيرورةٍ لغوية من خلال تحويل أشكال العلاقات بين ما هو لغوي وما هو غير لغوي، وبين عناصر الخطاب وعناصر غير الخطاب داخل الخبرة البشرية، كي تبيِّن أن أية لغة قد تسلَّلَت إلى داخلها عدة لغات (هايدن ١٩٩٨: ٩٨).
ومن المهم هنا تقديم ملخص لما دوَّنه كافكا في يومياته بخصوص الأدب الصغير. والفقرة الطويلة الأولى تقدِّم قائمة بفوائد أو مزايا الأدب، ولا غنى عنها في مناقشتنا الراهنة، وتستحق من ثَم أن تُقْتَطَفَ بأكملها. يقول كافكا:

إن كل ما أفهمُه عن الأدب اليهودي المعاصر في وارسو، من خلال لووي، وعن الأدب التشيكي المعاصر، بفضل نظراتي الخاصة إلى حدِّ ما، يشير إلى أن جميع فوائد الأدب يمكن تحقيقُها حتى وإن لم يكن الأدب قد تطوَّر في الواقع فاتسع نطاقه اتساعًا غير معتاد، وإن بدا كذلك بسبب افتقاره إلى المواهب البارزة. والفوائد المشار إليها تتضمَّن تنبيه الأذهان، وبلورة الوعي القومي، وهو الذي كثيرًا ما لا يتحقق في الحياة العامة بل يميل دائمًا إلى التفتُّت، والفخر الذي تكسبه الأمة من أدبها الخاص، والدعم الذي تتمتع به في مواجهة العالم المعادي المحيط بها وبه، بل إن كتابتي لهذه اليوميات كتابة رجلٍ عقلانيٍّ تجعلها تختلف عن كتابة التاريخ اختلافًا تامًّا، وتؤدي إلى تطورٍ أسرع (وإن كان يخضع للفحص الدقيق)، وإضفاء البعد الروحاني على مجال الحياة العامة العريض، واستيعاب عناصر الاستياء التي يُنْتَفَعُ بها مباشرةً في هذا المجال الذي لا يضرُّه إلا الركود، والتكامل الدائم لشعبٍ ما، فيما يتعلق بكيانه الكلي الذي تخلقه الجَلبة الدائمة للمجلات، وتضييق التفات أمة إلى ذاتها، وقبول ما هو أجنبي من خلال التأمل وحسب، ومولد احترام للناشطين في الأدب، والإيقاظ العابر في جيل الشباب لآمالٍ أرفع، وهو ما يخلِّف آثاره على الرغم من ذلك، والإقرار بأن الأحداث الأدبية موضوعات عزلةٍ سياسية، وإعلاء شأن التناقض بين الآباء والأبناء وإمكان مناقشة ذلك، وتصوير العيوب القومية بأسلوبٍ بالغ الإيلام، ولا شك في هذا، ولكنه أسلوب يحرِّر النفس أيضًا ويستحق الصفح عنه، وابتداء تجارة كتب تحترم ذاتها وتتمتع بالحيوية، إلى جانب الحرص على الكتب كذلك. (كافكا ١٩٤٩: ٩١-١٩٢)

الواضح أن كافكا يدعو إلى نُصرة الأدب الييديِّ (لهجة ألمانية تُكتب بالحروف العبرية) من ناحية، ونُصرة الأدب التشيكي من ناحية أخرى، وكلاهما من الآداب الصغرى لأممٍ صغرى، ولكن حجم إحدى الأمم أو الثقافات قد لا يلعب دورًا رئيسيًّا في اكتساب هذه الفوائد أو حتى في زيادتها. فالواقع أن الأمم الصغيرة تكسب من الفوائد أكثر مما يكسبه بلدٌ كبيرٌ من الربط بين الأدب والسياسة. فالكتاب المتنافسون في الأمة الصغيرة قد ينجحون في الحفاظ على استقلالهم بعضهم عن البعض بسبب عدم وجود شخصياتٍ مسيطرة تتحكَّم فيهم؛ ففي الأمة الصغيرة «يقدم التاريخ الأدبي نتاجًا كليًّا كاملًا لا يتغير ويُمكِن الاعتماد عليه ولا يكاد يتأثر بالذائقة المعاصرة» بحيث «ينعدم النسيان وينعدم التذكُّر» (ص١٩٣). وفي الأمة الصغيرة أيضًا «يصبح الأدب أمرًا يخص الشعب أكثر مما يخص التاريخ الأدبي، وهكذا يتيسر الحفاظ عليه في حالةٍ موثوقٍ بها على الأقل، وإن لم تكن حالته الأصلية الخالصة» (ص١٩٣)، وأخيرًا فإن «حدود» العمل الأدبي في الأمم الصغرى لا تتحكم فيها صلتُه بالأعمال الأخرى، بل صلتُه بالسياسة. ولما كان الأدب يعتمد في تدعيم وحدته في الأمم الصغرى على شعاراتٍ سياسية، ويستند في بنائه على التداخُل الوثيق بين العوامل الشخصية والعوامل السياسية، فإنه ينتشر في أرجاء البلد ويصل إلى جمهورٍ أوسع نطاقًا، ويستغرق الجميع كأنه قضية حياة وموت (ص١٩٤). وهذا الملمح الأخير؛ أي كوب الأدب الصغير ذا طابعٍ سياسيٍّ محض، وكون السياسة وظيفةً إلزاميةً للأدب في العالم ومن ثَم في حياتنا اليومية، هو السبب الوحيد الذي دفع ديلوز وجواتاري إلى استخدام هذا المصطلح [أي مصطلح الأدب الصغير].

وأما ما لم يذكُره كافكا، وإن حاول ديلوز وجواتاري إضافته إلى القائمة، فهو أن كافكا كان يكتب في ظروفٍ اجتماعية ولغوية بالغة الغرابة؛ إذ كان يهوديًّا من مدينة براغ يكتب باللغة الألمانية. وقد ذكر فريدريك كارل في سيرة حياة كافكا (١٩٩١م) أن كافكا يعيش في عالم:

يُحيط به الأعداء، ويغزوه موتُ إخوته أو احتضارُهم، ويُفصِح عن الأمور المُمْلاة من الداخل والخارج، وكان هو نفسُه هامشيًّا فيما يتصوَّره عن الدور المنوط به؛ إذ كان يطارده والدٌ لا يعرف إلا التجبُّر والضغط ومهاجمة حساسيات ابنه بحاجاته التي لا تعرف هوادة، كما كان كالضائع في عين والدته التي غدت كيانًا ملحقًا بعالم أبيه. (ص٣٧)

كانت هذه هي الأحوال الاجتماعية التي نشأ في كنفها الكثير من صغار الكُتَّاب اليهود في براغ. وأما من الناحية اللغوية، فقد درس اللغة التشيكية قبل بلوغ المرحلة الدراسية الوسطى، وكان يشعُر بأن تلك اللغة أقرب إلى قلبه من اللغة الألمانية، وإن كانت الأخيرة هي التي ارتقت به إلى مصافِّ عِظام كُتاب العالم. ولما كان كافكا يُعتبَر من الذين «لا ينتمون إلى الألمان إلا بالتعليم» (ص٣٧) فقد كان يعيش في جوٍّ لغوي يمثل خليطًا من الألمانية والتشيكية، وكانت اللغة الألمانية «البراغية» التي يتكلمها تشي بالتأثير الكبير لأساليب نطق اللغة التشيكية وتراكيبها ومفرداتها. بل كانت تُعتبَر من زاويةٍ معيَّنة لغة «ييدية» اكتسبَت الطابع الألماني، أو قل لغة ألمانية تحرَّرَت من حدودها الإقليمية، على نحو ما يصفها ديلوز وجواتاري. وهل تُعتبَر هذه «الييدة الألمانية» مثالًا لهيمنة لغة أقلية، أم هل تُعتبَر الألمانية المتحرِّرة من حدودها الإقليمية مثالًا لاستيلاء الأقلية على لغة الأكثرية ابتغاءَ تقويضِ هياكل سلطتها؟ كان ديلوز وجواتاري يقصدان الإشارة إلى العمل السياسي عندما استخدما المصطلح، فاللغة المتحرِّرة من حدودها الإقليمية تعتبر «استخدامًا صغيرًا للُّغة»، «وتشويهًا يزعزع مكانة العناصر المعتمَدة» (بوج ٢٠٠٣: ٩٧) فهي لهجة جماعةٍ من الأقليات نُحتَت من لغةٍ رئيسية. وهي تلائم الاستعمال الغريب على نطاقٍ صغير ويُمكِن تشبيهها «بما يستطيع السود في أمريكا اليوم أن يفعلوه باللغة الإنجليزية» (ديلوز وجواتاري ١٩٨٦: ١٧).

وانطلاقًا من النظرة البراجماتية التي تقول إن الفعل تُنجِزه مقولة، وإن المقولة تُنجِز فعلًا، نرى أن «التعريف الوحيد للُّغَة هو المجموعة التي تضُم جميع أفعال الأوامر، والمفترَضَات المسبقة المضمَرة، أو أفعال الكلام الشائعة في لغةٍ من اللغات في زمنٍ معيَّن (ص٧٩). ويتحدث ديلوز وجواتاري بالتفصيل في مناسبةٍ أخرى عن العلاقة بين المقولة والفعل فينكران أنها تقتصر على «زمنٍ معيَّن» فقط، ويؤكِّدان أنها لا بد أن تقع في مجالٍ اجتماعيٍّ معين، وفي سياقٍ اجتماعيٍّ معيَّن، وفي «عملية تفاعلٍ مستمرٍّ بين العلاقات والمفاهيم التي تنشأ من داخلها ضروبٌ منوَّعة من التجمُّعات» (هايدن ١٩٩٨: ١٠٠). وأما هذا الزمن المعيَّن، والمجتمع المعيَّن، والظروف المعيَّنة، والمنظورات المعيَّنة — وهي التي تُعتبَر في ذاتها نواتجَ لأنشطةٍ إنتاجيةٍ سابقة — فإنها مفاهيمُ وعلاقاتٌ متداخلة تُبنى فوقها علاقاتٌ جديدة، وخبراتٌ جديدة، وتعدُّدياتٌ جديدة، فإذا فهمنا الواقع على هذا النحو فسوف نجد أن عالمنا التجريبي يتعرَّض للتغيير المستمر، كما «يستمر بناؤه» دائمًا، وفقًا لأنواعٍ مختلفةٍ من العلاقات المتداخلة، إلى جانب أنه قادرٌ على الدوام على «أن يكشف طبيعة العلاقات الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي أُنشئَت ويستمر إنشاؤها وتغييرها أو التخلي عنها» (ص١٠١). وليست هذه جميعًا إلا مساراتِ رحيل؛ أي ضروب التنوُّع المستمر في اللغة الذي يحرِّرها من الحدود الإقليمية، ويُزعزِع مكانتها، ويشوِّه الأعراف والقواعد الخاصة بأية لغة من اللغات، وكذلك تجمُّعات الممارسات، والمؤسسات، والكيانات والحالات الخاصة بما تنفرد به كل لغة. وليست هذه إلا استراتيجيات التعدي والاستيلاء (أو المصادرة) التي تتخذها لغةٌ صغيرة لمقاومة الضوابط وما تفرضه من قيودٍ خاصة بالاستخدام المعتمَد للغة، ولإنشاء حدودٍ غير معتمَدة للهياكل اللغوية للسلطة، إذا اتبعنا الخطوات التي اتخذها ديلوز وجواتاري على طريق إزالة الحدود الإقليمية للغة باعتبارها فعلًا سياسيًّا.

ولكن ما علاقة هذا كله بممارستنا للترجمة وللأدب المقارن؟ الواقع أن استخدام ديلوز وجواتاري لحالة كافكا لخلق مفهوم الأدب الصغير لا يُقصَد به، بطبيعة الحال، تقديمُ تفسيرٍ شاملٍ لحياة كافكا وعمله؛ فالمؤلفان ينتقيان أمثلةً محددةً من يومياته وخطاباته، خاصةً ما يتعلق منها بالحديث عن الأدب الصغير، وهو الذي لا يشير فقط إلى آداب الأمم الصغرى، بل أيضًا إلى آداب الأقليات المقهورة وآداب الطلائع الحداثية. وفي إطار هذه الفئاتِ المتَّسِعة النطاق، يبدو لنا أن منزلة كافكا باعتباره كاتبًا «كبيرًا» يتمتَّع بالامتياز نفسه الذي يتمتع به جويس وبروست وبيكيت قد انخفضَت فأصبحَت منزلةً «صغرى»، وأنه تحوَّل من كاتبٍ عالمي إلى كاتبٍ عِرقي. ويرجع هذا، في جانب منه، إلى التجاهل السابق لهُويته العرقية باعتباره يهوديًّا من براغ فيما يُكتب من نقد عن كافكا، باستثناء بعض الإشارات الموجَزة إلى ذلك في سيرة حياته، كما يرجع في جانبٍ آخر منه إلى أن ديلوز وجواتاري قد توسَّعا في تطبيق ما يقوله كافكا عن اللغة والأسلوب في يومياته فجعلاها تشمل بعض العناصر الخارجية، وخصوصًا العناصر السياسية. والواقع أن هذا التوسُّع هو الذي أتاح لكافكا أن يظفر باهتمامٍ نقديٍّ وعامٍّ أبرز مما حظي به توماس مان، مثلًا، وهو ما يعني التكليف بمهامَّ جديدة لترجمة أعمال كافكا، وبالتالي ترجمة أعمال جميع الحداثيين، بل وجميع الأعمال الكلاسيكية التي أبدَعها عظماء الكُتَّاب. ونقول بصفةٍ عامةٍ إن ترجمات كبار الكُتاب السابقة جميعًا تقريبًا كانت تتَّسم بالتطبيع [يعني التدجين؛ أي إكسابها طابعَ اللغة المستهدَفة] إذ كان المترجمون لا يكادون يهتمون إلا بجعل الترجمات تتفق مع المعايير الجمالية لجماهيرَ معيَّنة بدلًا من جعل الترجمة تُرجِع صدى الأسلوب النثري للأصل، ناهيك بالطابع الخاص المُعبِّر عن الأقلية في عملٍ مثل أعمال كافكا، وهو الذي يستطيع أن يكشف عن الكثير إذا تميَّز مغزى الترجمة بالوضوح الذي يميِّز مغزى الكاتب.

ومما يُفصِح عن المزيد أن اهتمام ديلوز وجواتاري بالأدب الصغير، واستخدامه للغة، يُميط اللثام عن الصبغة السياسية للحركة الحداثية التي كانت دائمًا ما تُعتبَر محايدةً سياسيًّا، وعن الطابع السياسي للتجارب اللغوية، وهي التي كانت دائمًا ما تُعتبَر مجرد تجديداتٍ شكلية، إلى جانب كشفها عن جانبٍ أهمَّ وأشدَّ ارتباطًا بذلك ألا وهو النظرات النقدية الاجتماعية والسياسية التي كانت تتعرَّض للتجاهل فيما مضى وإن كانت مضمَرة في الكثير من الكتابات العظمى، ولا شك أنها سوف تبرُز عندما يتحول الاهتمام من الحياد السياسي إلى الالتزام السياسي. وقد يوفِّر ذلك برنامج عملٍ للترجمة الثقافية عَبْر القومية، ولأدبٍ مقارنٍ جديدٍ في سياق العولمة. ومن أسباب ذلك أن اللغة المتحررة من الحدود الإقليمية قد تؤدي إلى أدبٍ متحرر من الحدود ومن ثم إلى ترجمةٍ متحررة منها أيضًا، ويكمُن سببٌ آخر في ضرورة اتخاذ خطوات تعدٍّ واستيلاءٍ جديدة لصياغة مفاهيمَ ونظرياتٍ جديدة، والتكيُّف مع الأوضاع الجديدة، وإقامة علاقاتٍ جديدة، تحقيقًا للتوافق مع حالات التعدي والاستيلاء السابقة من جانب الطرف المُهيمِن. ومن الناحية المثالية، تُعتبَر التعددية في الترجمة أمرًا ممكنًا وقد تحقَّقَت فعلًا في ترجمة بعض الروائع فمهَّدَت الطريق إلى أدبٍ مقارنٍ مثمرٍ وجديد.

وقد تنتشر هذه التعدُّدية في الترجمة خصوصًا في حالة بعض كبار الكُتَّاب مثل كافكا، وبيكيت، وكونراد، بل وحتى جويس، الذين يعلنون بألسنتهم أنهم أجانب، ولكنها قائمةٌ أيضًا عند بعض الكُتَّاب المعاصرين مثل موريسون، ورشدي، وكوتزي، الذين يكتبون بلغةٍ تُعتبَر من بعض الوجوه لغة عدوهم. وقد تمتد هذه القائمة لتشمل بعض النقاد والمفكرين مثل سعيد وسبيفاك وهومي بابا، الذين يهيِّئ لهم موقعهم في ظل ما بعد الاستعمار فرصةً ممتازةً لممارسة استخدام اللغة بالصورة الصغرى أو السياسة الصغرى. وللمترجم أن يتناول جادًّا مفهوم الأدب الصغير باعتباره استخدامًا للغة بالصورة الصغرى ابتغاءَ دعمِ الاهتمام بالطابع العِرقي، وحتى يصوِّر لهجات الأقلية الأجنبية تصويرًا أصدق وأقرب إلى الأمانة، ولكن المترجم قد يتجاوز هذه الخطوة بالضرورة ويصبح «خائنًا»؛ فالمترجم كاتبٌ صغيرٌ يختلف دَوره عن دَور المؤلِّف، أو الممثِّل، أو المخرِج، بل يقترب من دَور العامل الذي يُدير الآلة، أو يتولى ضبطها والتحكُّم فيها، أو الميكانيكي، أو حتى القابلة [الداية] التي تُساعِد على مولد مخلوقٍ شائهٍ أو عملاق. والمترجم ناقدٌ ينظر إلى الترجمة باعتبارها نوعًا من البحث النقدي في علاقات السلطة التي من المفترض أن تمثِّل الثوابت التي لا تتغيَّر في اللغة، والذي تتمثَّل مهمتُه في تفكيك الأصل حتى يرى ما عساه أن يخرج من التفكيك وأية أبنيةٍ جديدة يُمكِن أن تتشكل. والمترجم أيضًا مُحَلِّل، وينحصر الغرض من تحليله للأصل في تأليف نصٍّ منوَّعٍ مترابط يتكوَّن من جميع الأمثلة المجسدة المُمكِنة لدلالات الألفاظ والجُمل والنصوص، والتي تتضمن التنويعات في نبرات الصوت، ومواقع الضغط على الحروف، وتعبيرات الوجه، وأوضاع الجسم، والحركات والإيماءات وغير ذلك كله من العناصر غير اللغوية وغير المنتمية إلى «الخطاب». المترجم أخيرًا ممثلٌ يتكلم، ويقع التركيز عنده على الأداء اللغوي، وعلى الوظيفة الحاسمة لتقويض الأشكال التقليدية، وعلى الوظائف الخلَّاقة لإنتاج كيانٍ مستمرٍّ جديد للتحوُّلات (لا للأشكال الجديدة) من أجل توليد المضمون الدلالي في صوت الكلام المنطوق.

ويُمكِننا أن نرى مثل هذه الكيانات المستمرة للتحوُّلات، والمفاهيم الجديدة، والأفكار والنظرات التي تبرُز في اللحظة التي يُتَرجَمُ فيها نصٌّ من لغة إلى لغةٍ أخرى، ومن ثَم في اللحظة التي يُقرأ فيها النصُّ المترجَم باللغة المستهدَفة، في مثالٍ صادقٍ له، وهو ترجمة نصٍّ كلاسيكيٍّ عن الطاوية الصينية وهو تاي بي جين هوا زونج جي، الذي ترجمه ريتشارد فيلهلم بعنوان سر الزهور الذهبية٧ ففي النص الأصلي مفهومان مهمَّان، أولهما: هون، ويعني الشيء الذي يُوجَد خارج الجسم والمعتقد أن مصدَره هو العالم الأثيري أو الأوَّلي، والثاني بو، ويعني الشيء الذي لا يُمكِن أن يُوجَد إلا إذا التصق بجسم الإنسان، وعادةً ما يتسم بأنه غليظٌ ودنيوي، والمترجم يترجمهما إلى أنيموس (animus) وأنيما (anima) في ترجمته. وكلتا الكلمتين، في الاستعمالات السيكلوجية عند يونج، تستقي معناها الأصلي من الجذر اللاتيني لكلمة العقل، ولكن أنيما تؤكد الأنوثة (يين) وأنيموس تؤكِّد الذكورة (يانج). وهكذا فإن ترجمة هون إلى أنيموس، وكلمة بو إلى أنيما، ليست ترجمةً أمينة، كما لعلنا لاحظنا للوهلة الأولى؛ لأن الأنوثة والذكورة المشار إليهما في الجذر اللاتيني ليستا اﻟ «يين» واﻟ «يانج» ذواتَي الدلالة الثانوية في «بو» و«هون» ووفقًا لما جاء في وثائقَ صينيةٍ كلاسيكيةٍ لا حصر لها، يُمكِن أن نفهم «يين» باعتبارها مرتبطة بلفظة «بو» على أنها تُشير إلى الروح، أو إلى إلَه يمكن أن يدخل الجسد ويصبح دنيويًّا بمجرد أن يتحد مع المعرفة الإنسانية، ومن ثم يُصبِح غليظًا وسوقيًّا مُحمَّلًا بجميع ضروب الرغبات البشرية. إنه كيانٌ جسديٌّ دنيويٌّ مادي النزعات ومن ثم فهو يموت بموت جسد الإنسان. وفي مقابل ذلك نرى أن يانج، باعتبارها مرتبطةً بمفهوم هون، روح؛ أي كيان متعالٍ يختفي فيه قلب السماء أو الروح الأزلية. ولا يعتمد وجودها على وجود الجسد، بل تستطيع أن تدخله وتخرج منه باعتبارها كيانًا أثيريًّا لا تصل إليه الخبرة البشرية؛ ولذلك تظل هون حيةً بعد موت الجسد. وبهذا المفهوم فإن يانج في هون لا علاقة لها بالذكورة في أنيموس وكذلك فإن يين في بو لا علاقة لها بالأنوثة في أنيما.
ولكن مثل هذا الخطأ في الترجمة ليس بالضرورة نتيجة سوء فهمٍ متعمَّد، كما قال بذلك بعض الباحثين؛ لأن يونج — عندما بدأ تطوير نظريته عن «الأنيموس» — رأى أن يستبدل بهذا المصطلح الذي استخدمه فيلهلم مصطلحًا آخر وهو لوجوس (logos) لأن هذا الأخير يدل على الوعي الصافي والعقلانية، وهما بوضوحٍ خصائصُ ذكورية. وقد أصاب في استيلائه على المفهومَين الصينيَّين الكلاسيكيَّين «يين» و«يانج» لإثبات صحة نظريته عن الأنماط الفطرية، وإضافة أدلةٍ جديدةٍ تؤيد نظريته عن اللاشعور الجماعي، ولذلك سببان؛ الأول أن نظريته تقول إن الأنيما باعتبارها ميلًا أنثويًّا كامنةٌ في الذكورة، وإن الأنيموس باعتباره مثلًا ذكوريًّا كامنٌ في الأنوثة، والثاني أن يونج كان يرى في الفلسفة الصينية وفي جميع ألوان الأنشطة الروحية في الصين القديمة انشغالًا كاملًا بالرجال الذين يمثِّل مصطلح هون وعيَهم وعقلانيتَهم، ومن ثَم فهو مفهومٌ عالمي. وليس من اللائق أن نُصدِر حكمًا بصحة مثل هذا الاستيلاء أو خطئه؛ فمثل هذا الحكم لا معنى له في سياقنا؛ إذ لا تشغلنا قضية أمانة الترجمة أو إخلاصها، بل إن ما يشغَلنا، وما نُحاوِل التحقق من صحته، هو الطابع الإبداعي لهذا النوع من الاستيلاء في الترجمة، أو الامتداد والتجديد اللذان تتسم بهما الأفكار التاريخية التي ولَّدَتها أخطاء الترجمة. ويُعتبَر سوء الفهم، أو الاستيلاء، في حالة يونج، خصيصةً إبداعية؛ لأنها أعانته على أن يخرج من الأوحال التي وجد نفسه فيها عندما حاول الابتعاد عن معلمه وعن نظريته للاوعي الفردي، وساعدَتْه على أن يتعلم المزيد عن الثقافة الصينية، وخصوصًا الأفكار «الطاوية»، والتي يُمكِن أن تكون مرآة تتجلى فيها ثقافةٌ غريبة عن المفكِّرين الغربيِّين، وكذلك الوعي الذاتي بثقافته الخاصة. ومن شأن هذا أن يساعده على أن يبني جسرًا يصل بين طريقتَين مختلفتَين للتفكير، الطريقة الشرقية التي تؤكِّد الفهم الحَدْسي والتلقائي للحياة، والطريقة الغربية التي تؤكِّد النظر العقلاني والعلمي للواقع الموضوعي. وأما فيما يتعلق بالدَّور المهم الذي تنهض به الترجمة الثقافية في تشكيل الحداثة الثقافية في الصين، فقد تناولَه من قبلُ وانج نينج (٢٠٠٤م) بالتفصيل؛ ومن ثَم فلن أتصدَّى له هنا.

ولن نبالغ إذا قلنا إن أمثال هذه القراءات الخاطئة أو الاستيلاء المشار إليه شائعةٌ إلى حد التغلغُل في الترجمة، وخصوصًا الترجمة في المجالات السياسية والثقافية والأيديولوجية؛ فما إن يتجاوز المرء حدود الترجمة ويتخذ خطوةً أخرى في مجالات التجديد والإبداع الأيديولوجي، حتى يكون قد بدأ ممارسة الترجمة باعتبارها جهازَ استيلاءٍ لا يقتصر على «القيمة التبادلية» للشيء المترجمَ بل يشمل أيضًا «القيمة النفعية» له. ومن الأرجح أن المترجم سوف يعمل حسابًا، بالضرورة، ﻟ «حق الملكية» الذي يتمتَّع به النص الأصلي، وأن يُراعيه بصورةٍ جادة، ولكن غايته القصوى يجب أن تتمثل في تغيير وظائف المنتج وآثاره. ونقول بعبارةٍ أخرى إن الترجمة نشاطٌ اقتصاديٌّ سياسي يُركِّز على التناقض بين الاختلاف اللغوي الداخلي والقيم غير اللغوية الخارجية، وهو التناقض الذي يتقاطع مع أنشطة الاستيلاء على النص والاستيلاء على العالم؛ فالمترجم حين يتجاوز الكتاب «في العالم» يستولي أيضًا على العالم «في الكتاب». وإذا كنا لا نزال نستمسك بالمبدأ الذي يقول إن الترجمة كتابة، فلا بد أن ندرك أن «الكتابة تعني متابعة خط الترحال» (ديلوز وجواتاري ١٩٨٧: ٤٣). ويعود بنا هذا إلى مفهومَي فوكوه عن الحدود والتعدي، وأفكار ديلوز وجواتاري عن الجذمور وتحرير اللغة من الحدود الإقليمية في أية حالةٍ «صغيرة». ومن هذه الزاوية نرى أن العلاقة بين الأصل والترجمة من المُحال أن تكون ثابتة، بل إنها دائمًا في حالة صيرورة؛ إذ إن عليها أن تتكيف مع الظروف المتغيرة للإنتاج وﻟ «الملكية» من ناحية، وكذلك مع العلاقة المتغيرة بين المترجم ومجتمعه من ناحيةٍ أخرى. ونرى في آخر المطاف أنه ليس من الممكن «تمامًا» تقديم كافكا ولغته الألمانية البراغية [الخاصة بمدينة براغ] في صورة لغةٍ متحررةٍ من الحدود في الترجمة، وأما الممكن حقًّا فهو استخدام فكرته عن «الأدب الصغير» بالمعنى الذي استخدمه ديلوز وجواتاري لها، وبذلك يعود بالفائدة لا على الأمة الصغيرة التي تملك أدبًا صغيرًا، بل أيضًا على دراسات أدبٍ مقارنٍ جديدٍ تساعده الدراسات القطاعية أو العِرقية (سبيفاك ٢٠٠٣م).

١  انظر كاهيل وهانسين (٢٠٠٣: ٥٧).
٢  مقال سبق تقديمه في مؤتمر تسينجهوا-لينجنان حول نظرية الترجمة، في ٥–٨ يونيو ٢٠٠٤م، هونج كونج. ونُشرَت صورتُه باللغة الصينية في مجلة وييني يانجيو رقم ٥، عام ٢٠٠٤م.
٣  فوكوه (١٩٧٧م).
٤  دامروش (٢٠٠٣: ١٨٧).
٥  ديلوز وجواتاري (١٩٨٧م).
٦  بوج (٢٠٠٣م).
٧  فيلهلم (١٩٢٩م). انظر أيضًا فيلهلم ويونج (١٩٢٩م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤