عندما يحدث التحول: دليلٌ مضاد لفرضية النُّظم المتعددة
يعتقد منظِّرو دراسات الترجمة أن الترجمة في الواقع العملي نشاطٌ ثقافي، أو إن شئنا الدقة، «مُداوَلة» بين ثقافتَين. ومن الممكن في ضوء هذا أن ننظر إلى الترجمة باعتبارها تحويلَ ما يقدِّمه نظامٌ لغوي/ثقافي إلى نظامٍ لغوي/ثقافي آخر. وعلى عكس الفكرة البنيوية التي لا تؤكد إلا دَور اللغة، تمنح هذه النظرة مكان الصدارة لوظيفة اللغة والثقافة معًا، وتُركِّز على تأثير الثقافة في الترجمة، وهو ما يستند إلى أن الترجمة نشاطٌ تتحكَّم فيه الثقافة بصورةٍ ما، ونستطيع إدراك ذلك لا في اختيار النصوص التي تُترجَم فحسب، بل أيضًا في اختيار استراتيجيات الترجمة؛ إذ تؤثِّر هذه الاستراتيجيات تأثيرًا مباشرًا في تشكيل النسق الأسلوبي في الترجمة.
وتقول فرضية تعدُّد النُّظم التي وضعها إيفن-زوهار إن وضع الثقافة المستهدَفة من حيث قوَّتها أو ضعفها بالقياس إلى الثقافة المصدَر قد يؤثِّر في اختيار المترجم لاستراتيجيات الترجمة، وهي التي عادةً ما تُقَسَّمُ إلى نوعَين؛ النوع الأول مُوَجَّهٌ إلى الثقافة المستهدَفة والثاني موجَّه إلى الثقافة المصدَر، أو بمصطلح فينوتي، استراتيجية التدجين واستراتيجية التغريب. ويعتقد إيفن-زوهار أن المترجم الذي ينتمي إلى ثقافةٍ قويةٍ إذا تصدَّى لترجمة نصٍّ من ثقافةٍ ضعيفةٍ فإن استراتيجيته ستكون ذات توجُّهٍ تدجيني [أي أقرب إلى مصطلح اللغة المستهدَفة وجمالياتها وثقافتها] ولو كان الحال عكس ذلك اتبع استراتيجيةً تغريبية. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة قد وجدَت أدلةً مقنعة على صحتها في إسرائيل، وكذلك في الولايات المتحدة إبَّان القرن العشرين، طبقًا لما يقوله لورنس فينوتي، فإنها تُواجِه أدلةً تثبت خطأها في فترةٍ معيَّنة في الصين، وهي الفترة التي تعايشَت فيها الاستراتيجيتان، إن لم نقُل تحمَّل بعضهما بعضًا.
(١) منظور النُّظم المتعدِّدة
لما كان التبادل الثقافي نشاطًا لا يتسم قط بالتكافؤ، فإن المترجم، باعتباره المُتفاوِض في هذا التبادُل ويمثِّل سلطةً ثقافيةً معيَّنة، يميل إلى اتخاذ موقفٍ محدَّد تجاه الثقافة التي اختير منها النص المرشَّح للترجمة. ويتجلى في هذا الموقف تجاه ثقافة المصدَر، سواء أكان احترامًا أم احتقارًا، إدراكٌ عميقُ الجذور لمكانة الثقافة التي يمثِّلها المترجم، كما يؤدي في آخر المطاف إلى نشأة استراتيجياتِ ترجمةٍ معيَّنة لغرضٍ اجتماعيٍّ براجماتي معيَّن.
وتُبيِّن الأدلة التاريخية دَور المترجم في المرحلة الأولية لأية حركةِ ترجمةٍ واسعة النطاق في أمةٍ من الأمم؛ إذ إن وعيه بالمكانة الثقافية للأمة المستقبِلة [للترجمات] ووعيه كذلك بالأدب المترجَم في النظام الأدبي القومي المتعدِّد الوجوه، هو الذي يدفعه إلى النظر في ثقافةٍ أخرى. وهكذا نرى، من زاويةٍ معيَّنة، أن حاجات الثقافة المستهدَفة تدفع المترجم إلى هذه الساحة من ساحات المداولات الثقافية، وأن وعيه المذكور يحدِّد موقف المترجم إزاء الثقافة التي اختير منها النص الذي سوف يُترجم. زِد على ذلك أن هذا الموقف يؤثِّر في اختيار استراتيجيات الترجمة؛ ومن ثَم فهو يُشَكِّلُ هُوية الثقافة والأدب المصدرَين، ويؤكِّد أو يهدم الأعراف والقيم السائدة في الثقافة المستهدَفة.
وتتميز نظريات الترجمة الحديثة بطابعها البَيْني ومنظوراتها المتعدِّدة، وفرضية تعدُّد النظم التي وضعها إيفن-زوهار تتصل بما نناقشه في هذا الفصل. وكان مصطلح «تعدُّد النُّظم» قد قدَّمه إيفن-زوهار في دراسات الترجمة للإشارة إلى مجموع النظم الأدبية في ثقافةٍ ما (من دون استثناء شيء؛ أي من الأشكال «الرفيعة» أو «المعتمدة» مثل الشعر إلى الأشكال «المنخفضة» أو غير المعتمَدة مثل أدب الأطفال أو الروايات الجماهيرية). ويعترف إيفن-زوهار بالأهمية الأوَّلية للأدب المترجَم في التاريخ الثقافي (حيث يؤدي إلى ابتداع موضوعاتٍ ونماذجَ جديدة) وبالأهمية الثانوية له (من حيث تدعيمه للموضوعات والنماذج القائمة) (إيفن-زوهار ١٩٧٨أ: ٧- ٨؛ جنتزلر ١٩٩٣: ١٠٥). وهو يستخدم مصطلح «تعدُّد النُّظم» في فرضيته للإشارة إلى الشبكة الكاملة للنُّظم ذوات العلاقات المتبادلة — أدبية كانت أو غير أدبية — داخل مجتمعٍ ما، ويرمي بذلك إلى شرح وظيفة جميع أنواع الأشكال الأدبية داخل ثقافةٍ معيَّنة، من النصوص الأساسية المعتمَدة إلى أشد النصوص هامشيةً وابتعادًا عن الأدب المعتمَد، كما يرى أن المواقع التي يشغَلها الأدب المترجَم في النظام الأدبي المتعدِّد، الأولية والثانوية، قد تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في القرار الذي يتخذه المترجم عند اختيار استراتيجيته.
ويحدد إيفن-زوهار (١٩٧٨ب: ١٢١) ثلاثة ظروفٍ اجتماعية تتيح للترجمة الحفاظ على مكانتها الأولية، وهي (١) إذا لم يكن النظام المتعدِّد لم يتبلور بعدُ؛ أي عندما يكون الأدبُ حديثَ العهد، أو لا يزال في مرحلة الإنشاء؛ و(٢) إذا كان الأدب «هامشيًّا» أو «ضعيفًا» أو يجمع بين هذا وذاك، و(٣) عندما يمُر الأدب بلحظات تحوُّل أو أزمة أو تنشأ فيه فراغات. وفي الحال التي يشغل فيها الأدب المترجَم موقعًا أوليًّا، تنطمس الحدود بين النصوص المترجَمة والنصوص الأصلية، وتتحرَّر تعريفاتُ الترجمة؛ إذ تتسع لتشمل الصور المعدَّلة، والنصوص المحاكية، والنصوص المقتبَسة. كما أن المترجم إذا أراد أن يقدِّم أعمالًا جديدة في الثقافة المستقبِلة ويغيِّر العلاقات القائمة يميل إلى الالتزام الوثيق بشكل النص الأصلي في ترجمته له، وهو ما يؤدي إلى «إثراء» شفرات الأدب الأصلي في الثقافة المستقبِلة وإثراء الأدب المترجَم في الوقت نفسه (جنتزلر ١٩٩٣: ١١٩).
وعلى العكس من ذلك نجد أنه إذا كانت الترجمة تُشكِّل نشاطًا ثانويًّا داخل النظام الأدبي المتعدِّد، حدث العكس؛ ففي هذه الحال نجد أن الأدب المترجَم يمثِّل نظامًا هامشيًّا داخل النظام المتعدِّد، ويتخذ عمومًا صفة الكتابة «التابعة» أو ذات المنزلة الأدنى؛ ومن ثَم ينعدم تأثيره في الأعراف الأدبية السائدة في الثقافة المستهدَفة. ويقوم النص المترجَم وفق نموذجٍ يتبع الأعراف التي سبق أن أنشأها وأرسى تقاليدها نمطٌ سائد. وهكذا فالأرجح أن تصبح الترجمة ذات استراتيجيةٍ محافظة. ويقول إيفن-زوهار: «وتفصح مفارقةٌ بالغة الطرافة عن نفسها هنا: ألا وهي أن الترجمة التي يُمكِن من خلالها تقديمُ الجديد من الأفكار والموضوعات والخصائص في أدبٍ ما، تُصبِح وسيلةً للحفاظ على الذائقة التقليدية» (١٩٧٨ب: ١٢٣). ويضيف الكاتب: «إن الجهد الرئيسي للمترجم» في هذه الحال يغدو «التركيز على العثور على أفضل النماذج الجاهزة لنصه الأجنبي» (ص١٢٥ والتأكيد من عندي). فالترجمات التي تستخدم مداخل مثل مدخل نايدا؛ أي التي تُفضِّل العثور على أشكالٍ حاضرة في الأدب المستهدَف تشكِّل نظامًا ثانويًّا، وتدعم الأعراف أو القيم الجمالية الراهنة بدلًا من استيراد أشكال وتقنياتٍ جديدة.
وهكذا فإن فرضية تعدُّد النظم تؤدي إلى توسيع حدود نظرية الترجمة التقليدية، وهي التي تميل إلى وضع تصورٍ ساكنٍ لما ينبغي أن تكون عليه الترجمة، وهو الذي يقوم في أحوالٍ بالغة الكثرة على نماذجَ لغوية، أو الأمانة في إعادة إخراج الشكل والمضمون للنص المصدَر، وذاك لأنها تضع الأدب المترجَم في سياقٍ ثقافي أكبر، وبذلك تفتح الطريق أمام نظرية الترجمة حتى تتقدَّم فتتجاوز إملاء معاييرَ جماليةٍ معيَّنة (جنتزلر ١٩٩٣: ١٢٥).
وتقول نظرية تعدُّد النُّظم إنه إذا كانت الثقافة الأدبية تتمتع بالقوة الكافية لإبقاء الأدب المترجَم في منزلةٍ ثانوية، فإن المترجم سوف يتخذ على الأرجح منهج التدجين أو إضفاء الصبغة الطبيعية [وفقًا لأعراف الثقافة المستهدَفة]، وإلا أصبحَت استراتيجية الترجمة ذات توجهٍ تغريبي. ولنضرب مثلًا بفرنسا التي اشتُهرَت بماضيها الثقافي العريق، ولكن واقع التاريخ يقول إن الثقافة الفرنسية قد تدهورَت تدريجيًّا من قمة المجد إلى أن أصبحَت من بلدان العالم الثاني منذ الحربَين العالميتَين. ويُبيِّن رومي هايلين (١٩٩٣م) في فحصه لستِّ ترجماتٍ فرنسيةٍ لمسرحية هاملت، وبأمثلةٍ واضحة، كيف يتجلى هذا التدهور الثقافي في اختيار المترجمين لاستراتيجيات الترجمة، وهي التي تطوَّرَت تدريجيًّا من التدجين في أيام الذروة التي وصل إليها الرأسمال الثقافي الفرنسي، إلى التغريب، وهو ما يتجلى فيه — سواء أكان ذلك مُصادفة أم لا — التدهور المطَّرد لمكانة فرنسا الثقافية.
ففي إحدى الترجمات المبكِّرة لمسرحية هاملت، وهي التي وضَعها جان-فرانسوا دوسيس عام ١٧٧٠م، يحذف المترجم مشهد المبارزة بين هاملت ولايرتيس، وكذلك تجرُّع جيرترود لكأس النبيذ المسمومة (هايلين ١٩٩٣: ٣٢) وذلك ابتغاء الالتزام بمتطلَّبات اللياقة الكلاسيكية. وفي الترجمة التي وضَعها ألكسندر دوماس وبول موريس (١٨٤٦م) لا يموت هاملت؛ لأن التصور السائد في الثقافة الأدبية الفرنسية آنذاك للبطل كان يمنع موته (ص٤٩)، وإن كانت الترجمة أقرب إلى الأصل وأقل تدجينًا من ترجمة دوسيس. وطبقًا للفحص الذي أجراه هايلين، كانت كل ترجمةٍ جديدةٍ للمسرحية تخطو خطوة تُبعِدها عن التوجه الأوَّلي نحو التدجين. وأما الترجمة التي أصدَرَها إيف بونفوا عام ١٩٨٨م، فإنها «تُحاوِل ترجمة الكثير من صور شيكسبير الشعرية حرفيًّا، وبأقصى ما يمكن من الدقة، وجعل النص الفرنسي يتمتع بالحياة التي تسمح بها روح المسرحية» (ص١١٥). ويشير هايلين إلى قول بونفوا إن مبادئه الفنية في الترجمة تنحصر في تغيير الشفرة، وإنه «باعتباره مترجمًا، سوف يقاوم عملية التثاقُف [التطويع الثقافي] في محاولة للحفاظ على أكبر قَدْرٍ مُمكِن من الثقافة الأجنبية» (ص١٠٠).
ولكننا إذا تحوَّلنا إلى النظر في المكانة الثقافية لفرنسا فسوف نجد أن تطور الاستراتيجية من التدجين إلى التغريب في ترجمات هاملت الفرنسية تتفق زمنيًّا مع تدهور المنزلة الثقافية لفرنسا؛ فبعد أن كانت دولةً عظمى أصبحَت في المرتبة الثانية. وعلى الرغم من أن هايلين لا يُرجِع التغيُّر في استراتيجية الترجمة في النصوص الفرنسية لمسرحية هاملت إلى الاتجاه الهابط في الثقافة الفرنسية، فنستطيع بيُسرٍ أن نرى تلك العلاقة المضمَرة في هذا الدليل من منظورِ تعدُّد النظم.
وأما في الثقافات الصغرى أو الأحدث عهدًا، فإن الحال تختلف اختلافًا بينًا؛ فإن إسرائيل دولة-أمة ذات تاريخٍ بالغ القصر، ويرتبط سكانها ارتباطًا وثيقًا بالثقافات الأجنبية، وهُويتُها الثقافية تتعرَّض للتغيير؛ ومن ثَم فإن عليها أن تتعلم من الثقافات الأقوى من خلال الترجمة، وهي التي لا تقتصر على تقديم أفكارٍ جديدةٍ بل تقدِّم شتى الأشكال والأنواع الأدبية إلى هذه الثقافة اليافعة نسبيًّا. وفي مثل هذه الحال يتخذ الأدب المترجَم مكانةً أولية في إطار تعدُّد النظم، وهي أوليةٌ بالغةٌ إلى الحد الذي يجعل بقاء الأمة مرهونًا ﺑ «دقة الترجمة» (جنتزلر ١٩٩٣: ١٠٦). ومن ثَم فإن استراتيجية الترجمة تميل إلى الالتزام بالمصدَر. وكما يقول (جنتزلر ١٩٩٣: ١٠٧): «إن مستقبل العالم قد يتوقف على الترجمة الدقيقة لكلمةٍ واحدة؛ ولن نجد حالةً يظهر فيها صدق هذه المقولة مثل الحالة الدبلوماسية والسياسية الهشَّة في الشرق الأوسط». ويُوجَد موقفٌ مماثل في ثقافة هونج كونج، المستعمرة البريطانية السابقة؛ فقد كانت ثقافتُها، باعتبارها منطقةً مستعمَرة، مرغمَةً على أن تكون تابعةً للغة الإنجليزية، وهكذا سادت الترجمة التغريبية؛ الأمر الذي أدى إلى إحلال ترجماتٍ تغريبيةٍ محل الكثير من التعبيرات المحلية، وكانت معظم هذه الترجمات كتابةً مُحرَّفة للألفاظ الأصلية بحروفٍ صينية، مثل كلمة شيديوبيلي (وهي بالصينية كاومي) المحرَّفة عن «ستروبري» [أي الفراولة أو توت الأرض] ومثل شيديو (بالصينية شانجديان) المحرَّفة عن «ستور» [أي متجر أو مخزن] ومثل باتيو (بالصينية ليانرين أو قنجرين) المحرَّفة عن بارتنر [أي شريك] ومثل بيو (بالصينية قيو) المحرَّفة عن «بول» [أي كرة] أو شازهان (بالصينية جونجشي) المحرَّفة عن سارجنت [أي جاويش أو رقيب].
وغنيٌّ عن البيان أن التغريب يُضفي على النص المترجَم قيمًا لغوية وثقافية مختلفة، وهو ما يتناقض أشد التناقُض مع التدجين الذي يحاول إرضاء القارئ المستهدَف بتأكيد السلاسة و«الذائقة التقليدية»، المتميِّزة بالقوالب الثابتة والتعبيرات التي عفَّى عليها الزمن. والتغريب يطعن في نماذج التغيير القائمة؛ ولذلك يميل إلى استخدام أشكالٍ تجديديةٍ غير مألوفة. ونقول إن هذا الذي تدعمه فرضية تعدُّد النُّظم من حيث التوجُّه الاستراتيجي السائد للترجمة يتعرض للتعميم الشديد، وله بالقطع استثناءات، ومن الممكن تفسيرها في ضوء عدة عوامل من بينها المواقف المختلفة التي يتخذها المترجمون الأفراد تجاه العلاقة بين الثقافة المصدَر والثقافة المستهدَفة. وهذه المواقف بدَورها ثمارُ أحوال الواقع الثقافي المختلفة في فتراتٍ تاريخيةٍ متفاوتة.
(٢) الأدلة المضادة في الترجمة الصينية
من الممكن في معظم الحالات تفسير العلاقة بين مكانة الثقافة الصينية والاختيار الاستراتيجي للمترجمين الصينيين في إطار فرضية تعدُّد النظم، ولكنه لا بد من النظر في بعض العوامل الأخرى؛ فلقد تعرضَت مكانة الثقافة الصينية لتغيُّر أو «تحوُّل» تاريخي من احتلال قمة الثقافة العالمية في إبَّان أسرة تانج الحاكمة (٦١٨–٩٠٧م) إلى الهبوط الذي جعلها من بلدان العالم الثالث، بسبب نهضة الدول الغربية وقيامها بغزو الصين، إلى جانب أسبابٍ أخرى. ونرى في هذه الحال أن مكانة الثقافة المستهدَفة، وفق نظرة المترجم الذاتية لا الموضوعية، تلعب دورًا أكثر أهمية في تحديد التوجُّه الاستراتيجي للترجمة. ومن الممكن القول بأن مكانة الثقافة يمكن أن تكون في الوقت نفسه حقيقةً موضوعية، ورؤيةً ذاتية في وعي المترجم، فإذا تداخل الجانبان؛ أي إذا كانت المكانة الموضوعية للثقافة تتفق مع رؤية المترجم الذاتية لهذه الثقافة، فإن الاختيار الاستراتيجي للمترجم يتفق مع ما تقول به فرضية تعدد النظم، لكنه حين تتعارض المكانة الموضوعية للثقافة مع موقف المترجم تجاهها، فهل يختار المترجم في هذه الحال استراتيجية الترجمة وفق ما تفترضه نظرية تعدُّد النظم؟ وما عسى أن يكون عليه الحال إذا اختلفَت المواقف بين المترجمين إزاء مكانة ثقافةٍ معيَّنة في فترةٍ تاريخيةٍ معيَّنة، خصوصًا عند مرور تلك الثقافة بنقاط تحوُّل؟ هذه الأسئلة لا تلقى إجابات في فرضية تعدُّد النظم.
والشرط التي تضعه فرضية تعدُّد النظم — أي «عند مرور الثقافة بنقاط تحوُّل» — يعني حرفيًّا أن الواقع الاجتماعي أو الثقافي يتغير من حال إلى حال. ومع ذلك فإن الحال القديم والحال الجديد لا يستطيعان قطع جميع روابطهما فجأة وفي الوقت نفسه، بل إن ذلك يعني ضمنًا أنه عندما تنشأ نقطة تحوُّل في الثقافة، يتناقص الوعي السائد القائم بمكانة الثقافة المعنية؛ إذ لا بد من وجود فريقَين متعارضَين، فيما يبدو، أحدهما محافظ والآخر تقدمي. أما المحافظ فهو يقاوم «التحوُّل» ويستمسك بالقيم القائمة، وأما الفريق التقدمي فيحتضن هذا التحوُّل ويُحاوِل هدم المعايير القائمة بخلقِ معاييرَ جديدة. ومعنى هذا احتمال تعايُش موقفَين متعارضَين تجاه الثقافة «المتحولة» عند «نقطة التحول» نفسها، ومن ثَم وجود نظامَين من نظم القيمة؛ أي وجود توجهَين استراتيجيَّين للترجمة، هما التدجين والتغريب. ولا يتسنَّى للوعي أن يتحول إلى وعيٍ سائد إلا عندما يتوقف «التحوُّل» أو يصل إلى موقفٍ مستقرٍّ نسبيًّا بحيث يطغى أحد نظامَي المعايير على النظام الآخر، قديمًا كان أو جديدًا. ففي الولايات المتحدة، مثلًا، وهو الذي يُوصَف بأنه بلد «حديث العهد» أو «ضعيف» وشهد تاريخه لحظاتِ تحوُّل كثيرة، مَرَّ الأدب بلحظة التحول من كونه فرعًا من فروع الأدب الأوروبي إلى أن أصبح أدبًا أمريكيًّا مستقلًّا، ولكن هذا حدث منذ زمنٍ بعيد. وعلى الرغم من تعرُّض ذلك البلد للكثير من التيارات الفكرية التي تأتي وتذهب، فإن موقف الأمريكيين اليوم تجاه ثقافتهم باعتبار بلدهم دولةً عظمى في العالم لا يزال ثابتًا. وهذا هو السبب الذي يحدو بالباحث فينوتي إلى القول بأن الاستراتيجية السائدة للترجمة في أمريكا استراتيجية «التدجين الإمبريالي»، في حين أن إيفن-زوهار يصف المعيار السائد للترجمة في إسرائيل بأنه ذو توجُّهٍ تغريبي؛ حيث يتسم الأدب بأنه «حديث العهد» و«ضعيف».
ولكن الحال في الصين أشد تعقيدًا؛ إذ شهد تاريخ الثقافة الصينية أربع فترات ازدهار في الترجمة، صاحبَتْها أربع لحظات تحوُّل. كانت فترة الازدهار الأولى فترة ترجمة الكتب البوذية المقدَّسة من عام ١٤٦م إلى ١١١١م تقريبًا. وعندما تطوَّرَت الثقافة تطورًا مطردًا آنذاك ووصلَت إلى الذروة في عهد أسرة تانج الحاكمة، انتقل التوجُّه في الترجمة من التغريب إلى التدجين، وَفْق ما تفترضه نظرية تعدُّد النُّظم. ويقول ليانج (١٩٨٤م): «إن ترجمة [الكتب البوذية المقدَّسة] بدأَت منذ أواخر أسرة هان الحاكمة (٢٠٦ق.م.–٢٢٠م)، وكانت معظم الترجمات آنذاك ترجماتٍ حرفيةً فجَّة» (ص٥٧). ولكننا عندما نصل إلى أسرة تانج الحاكمة، وهي أوج الثقافة الصينية القديمة، نجد أن ترجمة الكتب البوذية المقدسة قد ازداد اقترابها من الثقافة المستهدَفة عما كان عليه. ويقول لوتشينج: إن خوان زانج، وهو من أشهر مترجمي الكتب البوذية المقدَّسة في عهد أسرة تانج الحاكمة، قد غيَّر النص الأصلي، وهو ما لم يشهده أحدٌ من قبلُ (ما ١٩٨٤: ٥٨). ومن الأدلة الواضحة على هذا التطور من التدجين إلى التغريب أن عددًا كبيرًا من التعبيرات المنقولة من الأصل [بحروفٍ صينية] في المرحلة الأوَّلية قد استُعيض عنها بترجماتٍ دلالية (ليانج ١٩٨٤: ما ١٩٨٤). وكان هذا التطوُّر في الترجمة يسير جنبًا إلى جنب مع تقدُّم تطوُّر الثقافة آنذاك، على الرغم من مشاركة عواملَ أخرى في هذه العملية. وكانت هذه حالةً اتفقَت فيها المكانة الموضوعية للثقافة مع تصوُّر الثقافة الذاتي عند المترجم. وهكذا فإن توجُّه الاختيار الاستراتيجي للمترجم يتفق مع فرضية تعدُّد النُّظم.
وشهد التاريخ الصيني فترة الازدهار الثانية في الترجمة في أواخر عهد حكم أسرة مينج الحاكمة في أوائل القرن السابع عشر، وكانت الترجمة في هذه الفترة تتسم بهيمنة الاهتمام بنقل العلم والتكنولوجيا من الغرب وبالعمل المشترك الذي قام به المبشِّرون الغربيون والباحثون الصينيون. وكانت مشاركة المبشِّرين الغربيين سببًا في اختلاط نشاط الترجمة آنذاك بالوعي الثقافي الأجنبي، كما تميَّز ذلك النشاط إلى حدٍّ كبير بالترجمة غير الأدبية، ومن ثَم فإن هذه الفترة لا تُعتبَر نموذجًا صالحًا للتحليل وَفْق نظرية تعدُّد النُّظم.
وأما فترة الازدهار الثالثة فقد شهدَتها الفترة الواقعة ما بين حرب الأفيون الأولى (١٨٤٠–١٨٤٢) في أواخر عهد حكم أسرة قينج والسنوات الأولى لجمهورية الصين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. وكانت هذه الفترة في الواقع نقطة التحول العظيم من الإقطاع إلى شكل الحكم الأقرب إلى الديمقراطية في التاريخ الصيني، فما يزال هذا التحول، في بعض جوانبه، بعيدًا إلى حدٍّ ما عن الاكتمال. ويُمكِن تقسيم هذه الفترة إلى مرحلتَين؛ إذ استمرَّت المرحلة الأولى من حرب الأفيون الأولى في عام ١٨٤٠م حتى حركة الرابع من مايو ١٩١٨م، واستمرَّت المرحلة الثانية من ١٩١٨م حتى الثلاثينيات. وترجمات المرحلة الأولى تمثِّلها أعمال «يان فو» و«لين شو» في أواخر عهد أسرة قينج الحاكمة. وكانت الصين في هذه الفترة خاضعة لحكمٍ ملكيٍّ إقطاعي ولكنها كانت تُواجِه تحديًا خطيرًا من الدول الغربية. وهكذا فإن هذه الفترة عادةً ما يشير إليها المؤرخون الصينيون باعتبارها بداية لتحول البلد إلى نظامٍ يُوصَف بأنه شِبه إقطاعي وشِبه مستعمر. ولكنَّ الأباطرة الصينيين ورعاياهم، والمفكِّرون من بينهم بطبيعة الحال، كانوا يرفضون قبول الواقع المُهين، وهو ما قد يتسبَّب في صدمةٍ نفسية؛ إذ ظلوا دهورًا يعتقدون بأن أمتهم أقوى أمة في العالم وبأنها تُعتبَر من ثَم مركز الثقافة العالمية، على نحو ما يوحي به اسم البلد أي جونججيو (الذي يعني حرفيًّا الإمبراطورية المركزية). وكان الإيمان بأن «كل أرض تحت قبة السماء تنتمي للإمبراطور [الصيني]» عقيدةً عميقة الجذور في وعي الشعب الصيني. وهكذا، وبهذا الوعي بالتفوق الثقافي، بدأ الصينيون يدرسون العلم الطبيعي والعلوم الإنسانية والآداب الغربية. وفي هذا السياق الاجتماعي والسيكلوجي كان الأدب المترجَم يتخذ مرتبةً ثانوية، في الواقع، داخل تعدُّد النُّظم للأدب الصيني خلال هذه الفترة، على الرغم من أن الثقافة والأدب الصينيَّين كانا أضعف من نظائرهما في الغرب.
ومن الطريف حقًّا أنه عندما بدأَت الثقافة كلها «تتحول»، رفض المفكِّرون أن يروا هذا الضعف وقاوموا التحول أيضًا. وكان «يان فو»، باعتباره شخصيةً بارزةً وسط مفكِّري عصره، على وعيٍ كامل باحتقار أهل الأدب للكتابات «المارقة» مثل الترجمات بالأسلوب الغربي، فاضطُر إلى تدجين [أي إضفاء الألفة على] التعبيرات الأصلية حتى يُقنِع من يريدهم أن يقرءوا ما كتب بقبول الأفكار المتقدمة في الثقافة الغربية. وعلى نحو ما أشار وانج زيوليانج (١٩٨٩: ٤٢) لم يكن هذا إلا مثل تغليف الدواء المُر بالسكَّر، وكان السكَّر في هذه الحال الأشكال التي بُولغ في تدجينها، أو التي بدت «رشيقة»، والتي كان قُراء يان فو يفضِّلون قبولها. وفيما يلي نموذج من التدجين، مقتطف من ترجمته لكتاب التطور والأخلاق، وهو الذي كتبه هكسلي بضمير المتكلم، ولكن يان فو غيَّر ضمير المتكلم إلى «هكسولي»، وهو الاسم الذي كتبه بالحروف الصينية مُدَجَّنًا، بدلًا من اسم المؤلف هكسلي:
(١–١) ربما كان الممكن أن أفترض مطمئنًّا أنه، منذ ألفَي عام، قبل أن تطأ قدَم قيصر جنوب بريطانيا، كانت المنطقة الريفية كلها التي أُبصِرها من نوافذ الغرفة التي أكتب فيها الآن، تنتمي إلى ما يُسمَّى «حالة الطبيعة» (هكسلي).
(من ترجمة يان، والتأكيد من عندي).
ويشير وانج إلى أن هذا التغيير يهدف، على الأرجح، إلى أن يجعل أسلوب الترجمة يُشبه المقابل أو الكتاب التاريخي، الذي عادةً ما يبدأ باسم الكاتب (ص٣٨). ويُعتبَر هذا النوع من التدجين، وفقًا لنظرية تعدُّد النُّظم، السِّمة التي تُحدِّد مكانة الترجمة باعتبارها نشاطًا ثانويًّا. وتقول حجة إيفن-زوهار إنه حين يكون الأدب المترجَم ذا مكانةٍ ثانوية، فلا بد أن يعني هذا أن أدب اللغة المستهدَفة قد وصل إلى مرحلةٍ بالغة التقدُّم في تطوُّره بحيث لا يحتاج إلا إلى «أفكارٍ جديدة»، لكنه لا يحتاج إلى أشكالٍ أجنبيةٍ جديدة. ومن المفارقات في هذه الحال أن الثقافة التي يُفترَض فيها التقدُّم الكبير لا تتضمن تقاليدَ استخدام الراوي بضمير المتكلم بالطريقة نفسها الموجودة في الأصل. وفي هذه الحالة فإن المترجم الذي يتبع استراتيجيةَ الأصل في «التمثيل» يُخاطِر بتقديم ما قد يعتبره القارئ المنشود أسلوبًا غريبًا ومن ثَم غير مقبول. والواقع أن الفكرة السائدة في زمن يان كانت تقول إن الأسلوب التقليدي أعلى الأساليب قيمة. ويؤكِّد يان في تصديره لترجمته هذه العقيدة، قائلًا إنه «من الأيسر تحقيقُ هدف السلاسة باستخدام مفرداتِ ومباني الحقبةِ السابقةِ لعهد أسرة هان الحاكمة» (يان، من ترجمة وانج ١٩٩١: ١١٥).
وقد اتخذ «لين شو» أسلوب التدجين نفسه، وهو من مشاهير المترجمين في عصر «يان»؛ ففي ترجمته لرواية غادة الكاميليا التي كتبها ألكسندر ديماس الابن، نجده يغير الإشارة بضمير المتكلم إلى الراوي، ويستبدل به اسم المؤلف الأصلي [بالصينية] أي «خياوجونجما». ويستخدم النصان المترجمان الاستراتيجية نفسها؛ لأن مترجمَيْهما يشتركان في الغرض الاجتماعي البراجماتي، وهو الذي يحدِّد بدوره الموقع الفعلي أو المكانة الفعلية للأدب المترجَم في النظم المتعدِّدة الصينية والموقف الاجتماعي السيكلوجي العام للقُراء الصينيين تجاه مكانة الثقافة الصينية في العالم.
وعلى الرغم من اقتصار الاختيار الاستراتيجي على توجُّهٍ سائدٍ واحد في تلك الفترة، فإن هذا التوجُّه مضاد لفرضية تعدُّد النظم، وهي التي تقول إن الأخذ بالتدجين يستلزم أن تكون الثقافة المستهدَفة أقوى من الثقافة المصدَر؛ أي إن الحقائق هنا تقول بالعكس. وهكذا نجد هنا تنافُرًا بين اختيار الاستراتيجية والمكانة الموضوعية للثقافة، وهو تنافُر يُعزى إلى الإدراك الذاتي للمترجم؛ فالواقع أننا إذا أخذنا في اعتبارنا الموقفَ الثقافيَّ للمترجم، وجدنا أن فرضية النُّظم المتعدِّدة تتعرض لطعنٍ خطيرٍ في صحتها.
بل إن مسألة الإخلاص للأصل نفسها أصبحَت مثار خلاف؛ إذ طُرح سؤال يقول: ولأي شيء نُخلص؟ لنص الأصل أم لروحه؟ وكان هذا السؤال موضع مناقشةٍ حامية الوطيس في الثلاثينيات بين مدرستَين من مدارس الترجمة؛ أي بين الذين ينادون بالترجمة «السلسة» وبين الذين يُمارِسون الترجمة الحرفية. ووجد الجانب الأول من يتحدث باسمهم وهو «جاو جينجشين»، الذي قال إنه ما دام أوَّل ما يهم القُراء هو سهولة القراءة، فإنه لا مانع لديه من بعض الاختلافات عن الأصل في سبيل وضع ترجمةٍ سلسة؛ ومن ثَم فإنه يودُّ «إعادة ترتيب مبادئ «يان» الثلاثة على نحو جديد، كما يلي: التعبيرية، والأمانة أو الإخلاص، والرشاقة.» وكان من بين أنصار الجانب الثاني كاتبٌ بارز هو «لو خون»، والأيديولوجي الشيوعي «قو قيوباي»، وهما اللذان أيدا وضع الإخلاص أو الأمانة على قمة المبادئ، بل ومنحا ذلك المبدأ الأول تفسيرًا جديدًا؛ فقد قالا إنهما يودَّان معادلة الإخلاص أو الأمانة بالحرفية، وكانت الحرفية تعني لهما أيضًا تمثيل النص الصيني المترجم لبناء الجملة في الأصل وترتيب المفردات فيه …
وهكذا شَهدَت الثقافةُ الصينية آنذاك ترجماتٍ تُمثل التغريب وأخرى تُمثِّل التدجين؛ فالنسقان الأسلوبيان الناجمان عن الاستراتيجيتَين يختلفان اختلافًا شاسعًا بعضهما عن البعض، كما تدُل على ذلك مقارنة هاتَين الترجمتَين اللتَين وُضعَتا في أوائل الثلاثينيات:
وعلى العكس من ذلك يتميز المثال «٣» بالتدجين، وهكذا فليس في الترجمة غرابة تقريبًا، ويمكن للقارئ أن يعتبرها مكتوبةً باللغة الصينية أصلًا. وهكذا فإن «ليانج»، ممثل النزعة المحافظة بين المفكرين الصينيين في تلك الفترة، يحاول أن يحافظ على القيم والمعايير التقليدية للغة والأدب الصينيَّين؛ إذ كان المترجمون المنتمون إلى هذه المجموعة يحاولون وضع ترجماتٍ لا تبدو ترجماتٍ بل كتابات أصلية كتبها الكُتَّاب المحليون.
والواضح أن «لو خون» و«ليانج» يمثلان موقفَين مختلفَين تجاه الترجمة ومكانة اللغة الصينية آنذاك؛ فكان الأول يرى في الترجمة قناةً جيدةً لتقديم التعبيرات الجديدة وإثراء اللغة الصينية، واختار من ثَم الترجمة الحرفية، وأما الثاني فحاول الالتزام في ترجمته بالأعراف الثابتة للثقافة واللغة المصدرَين، وبذلك حافظ على التقاليد التي كانت الحركة الثقافية الجديدة تُحاوِل هدمها. ومن الواضح أن الاستراتيجيتَين، بجذورهما الضاربة في موقفَين ثقافيَّين مختلفَين، تؤديان إلى نسقَين متميزَين من أنساق التعبير، على نحو ما يتجلى في المثالَين السابقَين.
ويُبيِّن ما سبق أن مواقف المترجمَين — في لحظة التحول البالغة الأهمية للصين في العشرينيات والثلاثينيات — تجاه العلاقة بين الثقافة المصدَر والثقافة المستهدَفة، و/أو مكانة الأدب المترجَم في النُّظم المتعدِّدة للأدب باللغة المستهدَفة، تلعب دورًا حاسمًا في اختيارهما الاستراتيجي. والنتيجة المحتومة أن اتجاهَي الاختيار الاستراتيجي وفق تعريف فرضية تعدُّد النظم قد يتعايشان في فترةٍ ثقافيةٍ واحدة، والأرجح أن يكون ذلك في نقطة التحول الثقافي نفسها. ولكن فرضية تعدُّد النُّظم تتجاهل إمكان حدوث هذا، بل تفترض أنه من المُحال أن يُوجَد، في أية ثقافة، غير موقفٍ موضوعيٍّ واحد للثقافة، يُوصَف بالضعف أو بالقوة، أو أن يُوجَد غير موقفٍ موضوعيٍّ واحد للأدب المترجَم، يُوصَف بأنه أوَّلي أو ثانوي، ومن ثم أنه من المُحال أن يُوجَد غير اتجاهٍ شاملٍ لاستراتيجية الترجمة فهي إما استراتيجية تغريب أو استراتيجية تدجين. والواضح إذًا أنَّ تعايُش الاستراتيجيتَين في الترجمة الصينية خلال فترةٍ تاريخيةٍ معيَّنة يمثِّل أدلةً مضادة، وهي لا تقوِّض بالضرورة قاعدةَ هذه الفرضية ذات النظرة الثاقبة، ولكنها تشير إلى قصورٍ معيَّن في هذه النظرية التي لا تأخذ في اعتبارها السيكلوجية الثقافية للمترجمين. ويتجلى في قصور فرضية تعدُّد النُّظم المنظور المحدود لمبتدعها، إيفن-زوهار، الذي بنى نظريته — إلى حدٍّ كبير — على أساس ملاحظته للترجمة في وطنه إسرائيل، في ضوء علاقتها بأمريكا وأوروبا، وكان يهدف إلى وضع تفسيرٍ للثقافات التي تهمُّه، ولم تكن الثقافة الصينية من بينها.
ونأتي الآن إلى فترة الازدهار الرابعة في الصين، والتي بدأَت من ١٩٧٨م واستمرَّت إلى الوقت الحاضر، بعد توقُّف دام عدة عقود بسبب الحروب والقلاقل. وتُعتبَر هذه الفترة في الواقع استمرارًا للتحول من النظام الإقطاعي إلى الديمقراطية، وهو الذي بدأ في أواخر عهد أسرة قينج الحاكمة، وقد اكتسبَت قوةً دافعةً من تنفيذ سياسات الانفتاح والإصلاح في عام ١٩٧٨م. ويتَّسِم السياقُ الثقافي الاجتماعي للترجمة في أثناء هذه الفترة بالمزيد من التعقيد؛ فمن ناحيةٍ معيَّنة، نرى أن المترجمين الصينيين في هذه الفترة قد استفادوا نظريًّا من مناقشة طبيعة الترجمة ومعاييرها، وهي التي بدأَت في أيام يان فو، وازدهَرَت في الفترة من العشرينيات إلى الثلاثينيات، ونرى من ناحيةٍ أخرى أنهم اطَّلعوا على المعارف والمعلومات الجديدة المستقاة من النظريات اللغوية والفلسفية والثقافية والأدبية للترجمة في الغرب. وفي إطار الاتصال بالعلوم والآداب الغربية، بدأ بعض المفكِّرين يتشكَّكون في القيم التقليدية لثقافتهم، وأصَر فريقٌ آخر على الإيمان بأن الثقافة الصينية هي الثقافة الفُضلى، باستثناء العلوم الطبيعية والتكنولوجيا فقط. فأما الفريق الأول، الذي أطلَق عليه خصومهم المحافظون اسم «مدرسة الاستغراب» (أي اتباع الغرب) فكان يتكوَّن من شباب الباحثين في العادة، وكان هؤلاء يُعبِّرون تعبيرًا صادقًا عن وجهة نظرهم في سلسلة برامجَ تليفزيونيةٍ خلافية بعنوان هي شانج (النهر الذي يموت في شبابه)، وهي وجهةُ نظرٍ متطرفةٌ تتخذ موقفًا سلبيًّا تمامًا تجاه قيم الثقافة الصينية التقليدية، وتدعو إلى الأخذ بأسباب الثقافة الغربية في الصين. وأما الفريق الآخر المعروف باسم مدرسة الثقافة الصينية القومية، ويتكون في معظمه من شيوخ المفكِّرين، فيوافق على أن الدول الغربية أقوى في العلم والتكنولوجيا، ولكنه يرفض الإقرار بأن الثقافة الأدبية الصينية أضعف. ويرى أفرادُه أنه لا ينبغي لمنظِّري الترجمة الصينيين أن يتعلموا من الباحثين الغربيين، بل ينبغي للباحثين الغربيين أن يتعلموا من نظرائهم الصينيين. وقد عبَّر تشين يان ذات يومٍ عن الفكرة نفسها إلى قيان جونجشو، أحد أشهر الباحثين في الجامعات الصينية الحديثة قائلًا «لا حاجة بنا لتعلُّم الأدب الأجنبي! أليس أدبنا الصيني رائعًا بما فيه الكفاية؟» (قيان ١٩٨٤: ٧٢١).
وقد أدى هذان الموقفان تجاه مكانة الثقافة الصينية، والثقافة الأدبية الصينية خصوصًا، بطبيعة الحال، إلى نشأة حالة تبدو فيها الثقافة الأدبية الصينية — في أعين مدرسة الثقافة الصينية القومية — بالغةَ القوة، وأنه «لا حاجة لتعلُّم الأدب الأجنبي»؛ ومن ثَم يجوز للمترجم، في إطار هذه المقولة، أن ينظر إلى ترجمته، عن وعي أو دون وعي، باعتبارها نشاطًا ثانويًّا أو هامشيًّا، ويصدُق عكس هذا بالنسبة لمدرسة الاستغراب. وهكذا نرى من جديد أن فترةً ثقافيةً واحدة تمُر بلحظة التحول قد جمعَت بين موقفَين تجاه الثقافة الأدبية المستهدَفة؛ إذ يعتبر فريق من المترجمين أن الترجمة نشاطٌ أوَّلي، ويعتبرها الفريق الآخر نشاطًا ثانويًّا. وأما من حيث اختيار استراتيجية الترجمة، فإن الفريق الأول يميل إلى التركيز على مضمون النص الأصلي ويستخدم التعبيرات والمباني الجاهزة في اللغة المستهدَفة، على حساب الأشكال الأصلية، ولكن الفريق الأخير يُبدي اهتمامًا أكبر بالدلالة الأسلوبية للأشكال الأصلية أثناء محاولة نقل المعلومات. ويُبيِّن هذا التفاوُت مرةً أخرى أن مواقف المترجمين تجاه الثقافة قد تختلف في أي موقفٍ ثقافيٍّ موضوعي، وهذا هو السبب الذي يوضِّح منطقيًّا وجود توجُّهَين للاختبار الاستراتيجي في فترةٍ ثقافيةٍ محددة، والأغلب أن يكون ذلك في «لحظات التحول»، ولنقارن هاتَين الترجمتَين اللتَين تنتميان إلى هذه الفترة:
ولنقارن هذَين النصَّين أيضًا:
وإلى جانب هذا علينا أن نُدرك أن المترجمين اليوم أشد وعيًا بالنظريات من أسلافهم؛ إذ إن النظريات المستحدثة في علم اللغة، والفلسفة، والأدب، والثقافة، والترجمة وغير ذلك من المجالات المتصلة بها، قد عمَّقَت كثيرًا من فهم المترجمين لطبيعة الترجمة ووظيفتها الثقافية، وللعلاقة الدينامية بين الشكل والمضمون. ونقول باختصار إن المترجمين اليوم يختارون استراتيجيات الترجمة بأسلوبٍ يتسم بالمزيد من العقلانية والمنهجية، بدلًا من الاعتماد على الحس اللغوي أو الحَدْس وحده.
ولنا أن نرى في هذه الظروف الجديدة أن التعايش بين التوجُّهَين الاستراتيجيَّين — التدجين والتغريب — قد أصبح في الواقع المسار المعتاد للترجمة في الصين منذ زمنٍ طويل، ومن الممكن أن يُعزى أصلُه إلى فترة التاريخ شِبه الاستعماري وشِبه الإقطاعي الممتد من آخر حرب الأفيون الأولى عام ١٨٤٢م إلى تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام ١٩٤٩م. ويتجلى في هذا التعايش توترٌ خفيٌّ بين قوتَين ثقافيتَين، الأولى هي الثقافة التقليدية الصينية، أو الثقافة الإقطاعية، والثانية هي الثقافة الغربية الرأسمالية. ومن الجدير بالذكر أننا لا نستطيعُ تفسيرَ مثل هذه الظاهرة على ضوء نظرية تعدُّد النُّظم وحسب، وهي التي تميل إلى أن تعتبر أن مكانة ثقافةٍ من الثقافات، أو مكانة الأدب المترجَم في إطار تعدُّد نُظم أدبٍ معيَّن، العاملُ الشامل أو العاملُ الذي يتسم بثباتٍ نسبيٍّ الذي يحدِّد الاختيار الاستراتيجي للمترجمين. وقد اتضح من الحالة الخاصة للترجمة الصينية أن التوجُّهَين الاستراتيجيَّين يُمكِنهما أن يتعايشا في فترةٍ ثقافيةٍ واحدة عندما تحين لحظة «التحوُّل» الثقافي؛ فالواضح هنا أن العبرة ليست بالمكانة الموضوعية للثقافة أو للأدب المترجَم داخل إطار تعدُّد النُّظم الأدبية، ولكن بالإدراك الذاتي للمترجمين للعلاقة بين ثقافة المصدَر والثقافة المستهدَفة.
ومع ذلك، فقد أدى الاتجاه الثقافي الشامل للعولمة — وهو الذي استتبع الغزو الثقافي الغربي الذي لا يُقاوَم للصين — إلى جانب التوجُّه النظري العام الذي يؤكِّد دَور الشكل في الثقافة والأدب، إلى الزيادة المطردة لاتجاه نظرية الترجمة الصينية واستجابة قُراء الترجمة الصينيين اعتبارًا من التسعينيات نحو الالتزام [بالنص] المصدَر. وقد أثبت البحث الذي أُجري في استجابة القُراء الصينيين لعدة ترجماتٍ لعملٍ فرنسي عنوانُه الأحمر والأسود أن القُراء الصينيين يرفضون بصفةٍ عامة الترجماتِ التي تُبالِغ في التدجين (خو جون ١٩٩٦: ٩٨–١٠١). كما جرت مناقشةٌ نقديةٌ شهيرة لحالاتٍ معيَّنة تمثِّل استراتيجية التدجين في الترجمة، مثل استعمال التعبير الصيني «فوخيو إير قو» (الذي يعني «إلقاء الأكمام والمغادرة» وهو تعبير يتضمن الإحالة إلى الرداء ذي الأكمام الطويلة في الصين القديمة) وتعبير «هون جوي لي هين تيان» (ويعني حرفيًّا «الروح تذهب إلى السماء الخالية من الكراهية» كناية عن الموت، وهي استعارةٌ مأخوذةٌ من رواية حُلم القصور الحمراء)، وتعبير «هودي مينج» (أي «حُلم فراشة»، وهو عنوان إحدى ترجمات روبيكا ويتضمن إحالةً إلى جوانجزي). ونقتصر على هذه الأمثلة التي طُرحَت في المناقشة النقدية الشهيرة المشار إليها، بين مُنظِّري الترجمة في الصين؛ فهي تُشير إلى تفضيل الالتزام بالنص المصدَر في نظرية الترجمة المعاصرة وممارستها أيضًا. وقد وجد هذا الاتجاه دعمًا له في نظرية فينوتي (١٩٩٥م) التي تُدين تقاليد التدجين الشائعة أو التي تسود الترجمات الأنجلوأمريكية باعتبارها «إمبرياليةً ثقافية» (ص٢٠)؛ لأن الترجمات المدجَّنة لا تحترم الهُويَّات الثقافية للأمم الصغرى أو الثقافات الأضعف. وهو يرى أن السلاسة الناتجة عن منهج التدجين باهظة التكاليف، ومن ثم يدعو إلى مناهضة السلاسة، أو تطبيق استراتيجيات مقاومة، كما يُفضِّل أن يسمِّيها.
وعادةً ما يُقال وفق نظرية الترجمة التقليدية إن العوامل التي تؤثِّر في الاختيار الاستراتيجي للمترجم هي تطوُّر اللغة المستهدَفة، والميول الجمالية أو الأسلوبية للمترجمين، وما يسترشد به المترجم من بعض النظريات مثل نظريات علم اللغة، والدراسات الأدبية، وعلم الترجمة، والأعراف السائدة للترجمة. وأما إسهام فرضية النُّظم المتعدِّدة في دراسات الترجمة المعاصرة فيتمثَّل في أنها تُقدِّم منظورًا جديدًا وتكشف عن عاملٍ جديدٍ في تفسير أسباب اختلاف استراتيجيات الترجمة عمليًّا، ولكن هذه الفرضية تشوبُها بعضُ أوجه القصور. وهكذا فعند تفسير الاختيار الاستراتيجي للمترجم ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا لا المكانة الموضوعية للثقافة المستهدَفة وحسب بل أيضًا موقف المترجم تجاهها؛ فكلا العاملَين يُمكِن أن يؤثِّر في الاختيارات الاستراتيجية للمترجم.