ترجمة الثقافة الشعبية: فيلم «جنازة الرجل العظيم» للمخرج فينج خياوجانج باعتباره نصًّا متعدِّد النَّوى
على عكس الشعر أو الدراما المتميزَين بإحكام الصنعة فيما يُعتبر أدبًا رفيعًا، وهو الذي يُعلي النقاد من قيمته بسبب «قدرته على استخدام الموارد الكاملة للغة من اللغات في تقديم المعادل الفني للأنواع الدقيقة والاختلافات الرهيفة في المشاعر الفردية» نجد أن الثقافة الشعبية، وَفْق الوصف الحاذق الذي وصفَها به جون فيسك (١٩٨٩: ١٢٠-١٢١)، كثيرًا ما تتعرَّض للاتهام بأنها «ساذجة، وأنها تختزل كل شيء في أوضح ملامحه، وأنها تتجاهل التعقيد الدقيق والنسيج الكثيف للمشاعر البشرية والوجود الاجتماعي». ولكنني أسوق الحجة هنا على أن تعقيد الثقافة/الفن الرفيع يُستخدم ذريعةً مُيَسَّرَةً لتثبيت تفوُّق هذا التعقيد جماليًّا وفكريًّا، وللحفاظ كذلك على تفوُّقه على الثقافة/الفن «الخفيض المنزلة»، وذلك بهدف إضفاء الصبغة الطبيعية على الذائقة الفائقة لطبقةٍ من الطبقات أو جماعةٍ من الجماعات. وسوف تقول حُجتي في هذا الفصل إن الثقافة الشعبية، في الصين أو في الغرب، دائمًا ما تتخلَّلها شتى ألوان التناقُضات، والتعقيدات، ونقاط القلقلة التي عادةً ما تُفلِت من قيود الانضباط؛ فقد يكون نصٌّ سينمائي، على سبيل المثال، ذا ثراءٍ عميقٍ في إحالاته، وفي روابطه، بضروبٍ منوَّعة من «النصوص» الأخرى المنتمية إلى الثقافتَين «الرفيعة» و«الخفيضة».
وأقول بعبارة أخرى إن أمثال هذه النصوص كثيرًا ما تُفصِح عن قُوى الحركة الدينامية الخاصة بالطبقات أو الانتماء العِرقي أو العلاقة بين الجنسَين في مجتمع من المجتمعات، وإن التناصَّ الذي تتَّسم به كثيرًا ما يمنع وضع تفسيراتٍ قاطعةٍ لها أو حلولٍ مبسَّطة في الترجمة. ويتناول هذا الفصل فيلم دا وان (جنازة الرجل العظيم ٢٠٠٢) الذي أخرجه المخرج السينمائي «التجاري» فينج خياوجانج وشاركَت في إنتاجه أكثر من دولة، باعتباره نصًّا رئيسيًّا، ويُركِّز على مبانيه الباطنة، وهي التي يُمكِن أن نخرج منها بتفسيراتٍ أيديولوجية، وخاصةً بالتحليل النفسي، وبالسيميوطيقا الاجتماعية، وبالثقافة أيضًا. وقد استعرتُ بعض الأفكار والنظريات من الدراسات الثقافية للقيام بهذا المشروع، وهكذا فإنني أثناء تفسيري لفيلم جنازة الرجل العظيم باعتباره نصًّا متعدِّد النوى (أي به أكثر من نواةٍ واحدة) سوف أختار أمثلةً محدَّدةً من الفيلم في تحليلي للمحاكاة الساخرة والتناص، وهي من العوامل التي تخلق مستوياتٍ مختلفةً من الصعوبات التي يواجهها المترجم عندما يتصدى للعمل عَبْر الثقافات.
وكان من بين ما حدا بي إلى الشروع في كتابة هذا الفصل فكرة «القراءة باعتبارها ترجمة»، التي قالت بها جاياتري سبيفاك، إذ تقول في دراستها «المبادئ السياسية للترجمة» (٢٠٠٠: ٣٩٨–٤٠٠): «الترجمة أشد أنواع القراءة اتصافًا بالحميمية؛ فأنا استسلم للنص حين أُترجم … وإن لم يكتسب المترجم الحق في أن يصبح القارئ الحميم، فلن يستطيع الاستسلام للنص، ولن يستجيب للدعوة الخاصة التي يوجِّهها النصُّ إليه.» والحق أن كل فعلٍ من أفعال الترجمة يبدأ في اللحظة نفسها التي يبدأ المترجم فيها القراءة. وأقول بعبارةٍ أخرى إن القراءة نفسها شكل من أشكال الترجمة، وشكل من الإبداع له آلياتٌ مختلفة يبدأ تفعيلها في الوقت نفسه داخل القارئ – المترجم. ولكن، لما كانت كل قراءة تتحكم فيها القدرات اللغوية والثقافية الشاملة لكل قارئ – مترجم؛ أي «الطاقة الثقافية، والتحصيل والمهارات الجمالية» وَفْق عبارة وانج نينج (١٩٩٦: ٥١)، وكذلك القوى الخارجية/البيئية مثل الأيديولوجيا وعلاقات السلطة، فإن كل قراءة تتحول إلى فعلٍ فريد ومختلف، وتميل إلى طمس الحد الفاصل بين الشفرة التي صاغها المؤلف الأصلي في النص وما يستطيع القارئ – المترجم أن يخرج به من فك تلك الشفرة في النص، وإعادة صَوغها بلغةٍ أخرى، وهكذا يتعذَّر التمييز بين القراءة والترجمة باعتبارهما عملية تحويلٍ متواصلة. وهكذا فإن على المترجم – القارئ أن يحدد اختياراته، قبل إقامة صلته «الحميمة» بالنص أو بعدها، عندما يقوم بسد شتى أنواع الفجوات اللغوية والثقافية بسبب طبيعة النص التي لا ينفَد مَعينها. ونقول بعبارةٍ أبسطَ إن جميع ترجماتِ نصٍّ من النصوص تتجلى فيها عملية التحويل التي قام بها المترجم – القارئ؛ فما النص إلا مُستودَع للشفرات والأعراف والمؤثرات — أي آثار نصوصٍ أخرى سابقة — وهو لا يكتسب «معناه» إلا أثناء القراءة من خلال موسوعة المترجم– القارئ أو «ساحة التناصِّ الشاسعة» التي تتضمَّن الإحالات والمعارف والمقتطفات والأصداء والرسائل الوسيطة التي يحملها معه باعتباره مشاركًا في ثقافةٍ معيَّنة. وأقول بعبارةٍ أخرى إن فهمي لهذه الآلية التناصِّية يعتمد على دور القارئ ومشاركته في إنتاج النص السينمائي، ولذلك أودُّ أن يقول تعريفُ التناصِّ: إنه طريقةٌ للإدراك تُعتبر إطارًا لقراءة النص وتفسيره بعد ذلك. وهذا من المفاهيم الأساسية التي تستند إليها قراءتي لفيلم جنازة الرجل العظيم باعتباره نصًّا متعدِّد النَّوى؛ أي نصًّا يتضمن إمكانياتٍ لا تنفَد من مراكز التفسير المتعدِّدة الدينامية دلاليًّا وسيموطيقيًّا.
(١) دفاع عن ترجمة الثقافة الشعبية
على الرغم من أن الدراسات الثقافية قد حَظيَت منذ أواخر الخمسينيات بمنزلة الاحترام إلى حدٍّ ما في الغرب، باعتبارها موضوعًا بينيًّا «سليم البنية» قائمًا برأسه بين الأكاديميِّين والمهنيِّين في مؤسَّسات التعليم العالي، فإنها ما زالت تشغل مكانًا هامشيًّا في الدوائر الأدبية الأكاديمية في الصين القارية. ويُعتبَر تدريس مناهج مثل «الثقافة السينمائية»، و«أجهزة الإعلام الجماهيرية»، و«الأدب بين الجنسَين»، بصفةٍ عامةٍ توجُّهًا «غير تقليدي» بل و«غير مقبول» في أعين الباحثين النخبويِّين في الأدب. وتنظر دوائر الترجمة في الصين إلى ترجمة الأدب بمفهومه التقليدي — مثل الشعر والدراما والقصص — باعتبارها «أعلى منزلة» من ترجمة نصوص الثقافة الشعبية. وأقول بعبارةٍ أخرى إن نقَّاد الثقافة الشعبية ومترجميها في الصين كانوا يُعتبَرون على مر التاريخ، ولا يزالون يُعتبَرون من المحترفين الذين تقل الرغبة في وجودهم ويقل استحسان عملهم، بالمقارنة بنقاد الأدب ومترجمي الأدب؛ فإعداد الترجمة المنطوقة [الدوبلاج] للفيلم أو ترجمة الحوار على الشاشة للأفلام وبرامج التليفزيون لم يكن يُعترَف بها باعتبارها ترجمةً «حقيقية» جديرة ببذل الجهد في دراستها، وهو ما استمَر حتى الآن. ولا شك أن هذا يجعل ترجمة الثقافة الشعبية تتسم بهامشيةٍ مزدوجة. ووفقًا لما أفهمه أجد أن بعض أسباب هذا التهميش المزدوج تتضمَّن التعصُّب السياسي، والهيمنة الأكاديمية، ونزعة المحافظين المنهجية في معظم الجامعات ومعاهد البحوث الصينية. وتشير الأدلة المستقاة من النتائج التي توَّصل إليها تشانج نام-فونج (٢٠٠١م) في بحثه «ماضي دراسات الترجمة الصينية ومستقبلها من منظور تعدُّد النُّظم» إلى أن عليها أن تقطع طريقًا طويلًا قبل أن نقول إنها قد انتقلَت فعلًا «من حافة الدائرة إلى مركزها» (ص٦١–٦٩). والواقع، على عكس ما يقول هارولد بلوم في كتابه الأدب الغربي المعتمَد (١٩٩٤م)، أن سلطة الأدب المعتمَد، سواء كان ذلك في دراسة الأدب أو دراسات الترجمة، ما زلنا نشعُر بوجودها القوي في كل جامعة وكل مجلةٍ علمية تقريبًا. ويُعرِب بلوم عن أسفه لأن «الجامعات والكليات التي كانت تختص بالنخبة يومًا ما لا تزال تُقدِّم عددًا قليلًا من المواد الدراسية الخاصة بشيكسبير وميلتون وأقرانهما، ولكن هذه المواد الدراسية تقتصر على أقسامٍ علمية لا تضم إلا ثلاثة باحثين أو أربعة، وهو ما يُعادِل أساتذة اللغة اليونانية القديمة أو اللاتينية» (ص٥١٩). وليس هذا هو الحال في الصين. أو قُل إننا لم نصِل بعدُ إليه.
- (١)
أنها تُقدِّم المتعة أساسًا، ولكنها نحيلة؛ إذ تَصرِف نظر الناس عن محنة عيشهم اليومي.
- (٢)
وأنها تُمثِّل خيانةً للقيم الثقافية التقليدية؛ ومن ثَم فهي المسئولة عن تدهوُر الذكاء العام، وإضعاف النسيج الأخلاقي الجماعي.
- (٣)
وأنها ليست سوى نشاطٍ تجاريٍّ ضخمٍ للرأسمالية، وأرضٍ خراب تملؤها الأعشابُ الضارة.
- (٤)
وأنها ليست المادة الحقيقية (للتحليل الفكري) ولكنها ينبغي أن تُستهلك أو تُحتمل أو تُتجاهل.
- (١)
تترك الثقافة الشعبية انطباعًا راسخًا حاسمًا في نفوس الناس (خصوصًا الشباب).
- (٢)
تُعتبَر وسيلةً أساسية من وسائل التسلية والإعلام والتعليم والأيديولوجيا.
- (٣)
يمكن أن تصبح موقعًا مهمًّا للتساؤل النقدي أو المنازعات النقدية أو لهذا وتلك معًا.
- (٤)
الطابع اليومي للثقافة الشعبية هو، على وجه الدقة، ما يمنحُها القوة في مداولات السلطة.
ومن ثَم فإن دراسة نصوص الثقافة الشعبية وترجمتها ليست مجرد عملٍ علميٍّ «صحيح» بل هي عملٌ مهم، ويُضاف إلى ذلك أن استمرار «التحوُّل إلى الثقافة» في دراسات الترجمة، إلى جانب ما أحرزَته الدراساتُ الثقافية في العقود الأربعة الماضية، سوف يؤدي إلى توسيع نطاق هذا المبحث ويدعم الأساس المنهجي لتحليل الترجمات. وكما تقول شري سايمون (١٢٩٦: ١٣٦) «فإن الدراسات الثقافية سوف تُضيف إلى الترجمة فهمَ التعقيدات الخاصة بالجنسَين وبالثقافة؛ أي إنها سوف تسمَح لنا بأن نضع النقل اللغوي داخل إطار حقائق اليوم من المذاهب المتميزة بكلمتَي «ما بعد»، ألا وهي ما بعد البنيوية، وما بعد الاستعمار، وما بعد الحداثية.»
ومع ذلك، فلا بد من الإشارة إلى مسألةٍ مهمة؛ فبعد قضاء سنواتٍ عديدةٍ في بناء الجسور بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة على أيدي باحثين من أمثال بابا (١٩٩٤م) وسنيل-هورنبي (١٩٩٥م) وباسنيت وليفيفير (١٩٩٨م) وكاتان (١٩٩٩م) وسبيفاك (٢٠٠٠م) ما تزال الروابط بينهما «هزيلة»، كما ذكَرَت سوزان باسنيت (باسنيت وليفيفير ١٩٩٨: ١٣٥–١٣٦). وعلى الرغم من تزايُد الأدلة على «وجود الاتجاه نحو الدراسات عَبْر الثقافية» التي «سبق أن رسخَت أقدامها داخل بعض المجالات مثل دراسات الجنسَين، أو دراسات الأفلام السينمائية، أو دراسات أجهزة الإعلام»، وعلى أن «التحول إلى الثقافة في دراسات الترجمة حدث منذ أكثر من عقد» بل على وجود «تغييراتٍ أساسية» سوف تتحدى «الوسطاء اللغويين» (دولروب ٢٠٠٠: ١٤٥–١٤٨) فإنني، باعتباري قادمًا من حقل الكروم الخاص بالدراسات الثقافية، لم أشهد في الواقع أدلةً كثيرةً تُثبِت صحة ما تقوله باسنيت من أن «التحول إلى الترجمة في الدراسات الثقافية قد انطلَق فقطَع شوطًا لا بأس به». والتخلُّف المشار إليه في الدراسات الثقافية أمرٌ يُؤسَف له من وجهة نظر المبحثَين. وأعتقد شخصيًّا أن عالم الدراسات الثقافية لم يتسم بالبطء فقط، بل أيضًا بانعدام الحساسية، بل حتى بالعزوف عن «الإقرار بقيمة البحث في مجال الترجمة». وإذا كنا نقبل أن «دراسة الترجمة، مثل دراسة الثقافة، تحتاج إلى تعدُّد الأصوات» كما تقول سوزان باسنيت، مُحِقَّةً (باسنيت وليفيفير ١٩٩٨م) فإن علينا قطعًا أن نخلق مساحةً أكبر لهذه الموضوعات البينية المتعدِّدة الأوجه، حتى تُرحِّب بدراسة وترجمة نصوص الثقافة الشعبية بانتهاج ما تسمِّيه باسنيت «المدخل التعاوني، بإنشاء فِرق وجماعاتٍ بحثية، وزيادة الشبكات الدولية وزيادة التواصل» (ص١٣٨-١٣٩). وعندها لن يلزمنا الدفاع عن ترجمة الثقافة الشعبية.
(٢) تفهُّم الثقافة الشعبية: «جنازة الرجل العظيم» باعتباره نصًّا متعدِّد النَّوى: تعقيد نصوص الثقافة الشعبية
قبل الشروع في أي بحث نظري في الثقافة الشعبية، يجمُل بنا أن نُلقيَ نظرةً موجزةً على قصة هذا الفيلم، وهي قصةٌ معقَّدة عن التواصُل وسوء التواصُل عَبْر الثقافات.
هذا الفيلم إنتاجٌ مشتركٌ بين الصين وهونج كونج والولايات المتحدة، ويحكي قصة رجلَين يجدان أن صداقتَهما وعلاقتَهما الروحية تتجاوز الحاجز الذي يفصل بين اللغتَين والثقافتَين الصينية والإنجليزية، في معظم الأحيان. وهنا نرى دون تايلر (دونالد سذرلاند) المخرج السينمائي الأسطوري بشهرته العالمية من هوليوود، وهو يحاول استكمال إعادة إخراج الفيلم الملحمي آخر الأباطرة الذي سبق أن أخرجه بيرتولوتشي، ويتعرض لضغطٍ شديدٍ في هذا، لكن سير العمل في الفيلم يتأخر كثيرًا، وسوف يُستعاض عنه بمخرج فيديو شاب من الولايات المتحدة. ونرى «يويو» (جي يو) المصوِّر الصيني من استوديو بكين السينمائي، العاطل حاليًّا، والذي تستأجره لوسي (روزاموند كوان) وهي أمريكيةٌ صينية قضَت زمنًا طويلًا في العمل مساعدة لتايلر، وتُعتبَر بديلةً عن ابنته، لتصوير مادةٍ فيلمية من إخراج تايلر لهذه الملحمة. وتتدهور صحة تايلر ويُصاب بغيبوبة. ولكنه قبل ذلك يُعلِن آخرَ مطلبٍ له، وتُسجِّل آلة التصوير في يد «يويو» ما يوصي به في مشهدٍ خاص يُحيله «يويو» إلى «جنازةٍ كوميدية» بالأسلوب الصيني في «المدينة المحرَّمة». ويقدِّم «يويو» وعده إليه ويطلب المساعدة من صديقه لويس وانج (ينج دا) وكيل الحفلات الموسيقي. وإزاء الاهتمام الإعلامي الهائل بأغرب جنازة على الأرض، يطلب «يويو» و«لويس» الرعاية المالية للجنازة من الشركات الكبرى في شتى أنحاء العالم، مع الإعلان عن منتجاتهم الحقيقية أو الزائفة في كل مرحلةٍ من مراحل الجنازة وفي كل مكانٍ تقريبًا، بما في ذلك كل جزء من أجزاء جسد تايلر «الميت». وتتصوَّر أجهزة الإعلام الدولية أن الجنازة حدثٌ هائل لها، ولكن تايلر يستعيد وعيه بما يُشبه المعجزة وهو ما يعني عدم تشييع جنازته. ويُصاب لويس بالجنون فعلًا، ويتصنَّع «يويو» الجنون خوفًا من مطاردة الشركات الراعية له، ولكن تايلر تخطر له بعض الحيل اللوذعية الكفيلة بحل المشكلة، وذلك بإنتاج فيلمٍ طويل يقوم على فكرة «يويو» عن «الجنازة الكوميدية».
وباعتبار الفيلم هجاء ساخرًا من أجهزة الإعلام بصفةٍ عامة، فيُمكِننا أن نفسِّره تفسيرًا أساسيًّا مأمونًا قائلين إنه هجومٌ حادٌّ متزنٌ على روح المغامرة التجارية التي أُطلقَت من عِقالها أخيرًا في الصين، إلى جانب استغلال ضروب التشويش والتخبُّط الجماعي والفردي من الزوايا الأخلاقية والفلسفية والثقافية في الصين. وعلى عكس ما تقول به التصورات والاتهامات النخبوية، فقد تكون نصوص الثقافة الشعبية، مثل نص فيلم جنازة الرجل العظيم، ذات ثراءٍ عميقٍ في إحالاتها وارتباطاتها بعددٍ غيرِ محدود من النصوص الأخرى، وكثيرًا ما تُفصِح عن أمورٍ خاصةٍ بالطبقة والانتماء العِرقي والعلاقة بين الجنسَين، إلى جانب الديناميات الشكلية. ولما كانت تتميز بالتناصِّ فهي ترفض أيةَ تفاسيرَ «خالصة» وترفض الحلول «المبسطة» في الترجمة. ولنقُل هنا إن كل نصٍّ شعبيٍّ يتسم بالتناقُض دائمًا، إذ تتغَشَّاه الصراعات والتناقضات في الأفكار، والصور، والرغبات، والدوافع.
(٣) دورة المعاني من خلال التناص
يقول ميشيل فوكوه في كتابه علم آثار المعرفة ([١٩٦٩م]/١٩٧٢م): «إن حدود الكتاب لا تتسم أبدًا بالوضوح فيما بين العنوان والسطر الأول ونقطة النهاية … أي إن صورته الداخلية … يغشاها جهاز من الإحالات إلى كتبٍ أخرى، ونصوصٍ أخرى، وجُملٍ أخرى …» (ص٢٣). وهذا التناصُّ يمثِّل جوَّ النصوص الذي يعمل فيه المؤلِّف ويستقي منه مادته. وهكذا فلن نجد نصًّا يقع في فراغ أو يتحدث بلسانِه الخاص. والمعنى المضمَر لهذا أن القُراء/المترجمين لا يستطيعون القراءة والترجمة إلا على ضوء ما شاهدوه أو قرءوه أو سمعوه من قبلُ. وكما يقول يوجين نايدا (١٩٨٤: ١٣٧): «الواضح أن العلاقات مهمة بسبب معناها، ولكن لما كان من المحال تفسير المعنى إلا من خلال النظام الكلي الذي تُستخدَم فيه أمثال هذه العلامات، فلن نستطيع التأكُّد من معنى أي علامة إلا إذا رأيناها من منظور المبنى الذي وُضعَت فيه.» وأنا أرى أن «المبنى» الذي أقامه فيلم جنازة الرجل العظيم من الزاويتَين اللغوية والبصرية كيانٌ سيميوطيقيٌّ يتجاوز جميع أنواع الحدود.
فيلم «جنازة الرجل العظيم» باعتباره نصًّا متعدِّد النوى: تفسيرات «حميمية الترجمة الثقافية»
يبدو أن المخزون النصي والبصري لهذا الفيلم يعمل على جمع أكبر عدد من «الأشياء» في وحدة «معلقة»، بمعنى توافُر أكثر تنوُّع مُمكِن في نصٍّ واحد. وهذا التعدُّد «ما بعد الحداثي» في المعاني له حضورٌ نظري يختلف عن صوره المادية، ويخلق ساحات للمبادلات المتصوَّرة واللقاءات التي تفرُّ من البنان. ويبدأ إردموت وينزل هوايت مقالةً له بعنوان «رمزية الأساليب غير المباشرة: الأرائك لتوم فيليبس» (١٩٩٤م) بالفكرة التي تقول إن الصور «لا تزيد عن كونها نقاط توقُّف بين مراحل القلقلة الذهبية» ثم يدلِّل على ما يقول بتحليل لوحةٍ ذات مراحلَ بعنوان الأرائك رسمَها توم فيليبس، المخرج والشاعر والرسام والموسيقي البريطاني، مبينًا كيف يقوم الإيضاح المادي بوظيفة التذكير الغامض بالخطاب الغائب. والواقع أن عمل فيليبس، في وقت كتابتي هذا، المعروض في متحف تيت، في لندن، يستخدم وسائط بالغة التنوُّع، من بينها البطاقات البريدية، والنسيج، والرقص، والأوبرا، والقص واللصق، والسينما، وموسيقى برامز (لحن جنائزي ألماني) وصور من بواكير عصر النهضة. ويقول هوايت: «إن فيليبس … يدعو إلى قراءة تُعيد تعريف العناصر الشكلية؛ ومن ثم يلفِت الانتباه إلى التطابُق البنائي المضمَر؛ فالإجراءات الجمالية تتجاوز المعايير التعبيرية، فتُعيد صياغة المتوقَّع من النوع الفني، بل وتسمح باتخاذ مداخلَ نقديةٍ تتجاوز التفسير المقارن التقليدي» (ص١٥٨). فإذا قرأنا هذا الفيلم ذا النص المتعدِّد الطبقات بمنهجٍ مماثل، وجدنا أنه يجمع بين الطابع البصري والفكري من خلال خلق وإعادة بناء عددٍ كبير من مراكز/نوى الدلالة، وبذلك يُحوِّل نفسه إلى مجالٍ دلاليٍّ لأنواعٍ جديدةٍ من التناص. وفيما يلي عددٌ محدود من مراكز الدلالة المُشار إليها، والتي أقرأ/أفسِّر النص بها.
نزع الأسطورة عن السلطة
يميل نُقاد الثقافة الشعبية إلى نبذ الأفلام السينمائية «التجارية» أو «الشعبية» باعتبارها ذات طابعٍ محافظ في تمثيلها للواقع الاجتماعي، وذات طابعٍ ثقافي رأسمالي في إنتاجها واستهلاكها. وأقول بعبارةٍ أخرى إن مثل هذه الأفلام كثيرًا ما تُتهم بالتواطؤ في تدعيم ضروب الخطاب الاجتماعي السائدة، وممارسات الهيمنة من جانب الطبقة الحاكمة، والأشكال النمطية — اجتماعيًّا وثقافيًّا وجنسيًّا — ضد «الآخر». ولكن إحدى السمات المميزة لأفلام فينج خياوجانج تتمثل في طرائق زعزعته — بأسلوبٍ لغويٍّ دقيق ونهج من الصور القوية — لشتى ضروب خطاب الهيمنة وممارساتها في الصين. وتقول جنيفر داريك سلاك (١٩٩٦: ١١٧) في مقال لها بعنوان «نظرية الإفصاح ومنهاجه في الدراسات الثقافية.
الهيمنة هي العملية التي تستخدمها طبقةٌ مهيمنة في الإفصاح/تنسيق مصالح جماعاتٍ اجتماعيةٍ بحيث تُبدي هذه الجماعات فعليًّا «رضاها» عن مكانتها الثانوية؛ أي إن الهيمنة لا تقتصر على تأكيد علاقات السيطرة والخضوع، بل تتضمن أيضًا عملية استيعاب أيديولوجيا الهيمنة.
وفي فيلم جنازة الرجل العظيم نرى كيف ينجح فينج خياوجانج، فيما يبدو، في إفساد عملية الهيمنة المذكورة — بعد ضمان موافقة الرقابة الرسمية على الفيلم — من خلال نزع الهالة الأسطورية عمن يمثِّلون السلطة، وهم الرئيس الصيني (الإمبراطور بو يي) وصاحب العمل الأمريكي (المخرج دون تايلر ابن هوليوود). ولقد اتسمَت الأفلام الأمريكية بتأثيرها الهائل، خصوصًا منذ منتصف الثمانينيات، في صناعة السينما في الصين وأذهان الشعب الصيني. وبعض الأفلام مثل آخر الأباطرة [وقد عُرض في مصر باسم الإمبراطور الأخير]، والحديقة الجوراسية، وملك الأسود، وقائمة شيندلر، وتايتانيك، والمصارع، وملك الخواتم، والطاحونة الحمراء، وذهن جيل، قد اكتسحَت الصين جميعًا في كل مرة تُعرض فيها، فلم تقتصر على حصد أرباحٍ هائلة بل قضت على ثقة المخرجين الصينيين بأنفسهم، على الرغم من المناوشات المعبِّرة عن مقاومةٍ قصيرة الأجل (للإمبراطورية السينمائية الأمريكية التي لا تتزعزع قط) وكان من روَّاد هذه المقاومة تشين كايجي، وجانج ييمو، كما حافظ على زخمها هوانج جيانخين، وآنج لي. ولكننا نرى في هذا الفيلم أن فينج خياوجانج يقدِّم المخرج السينمائي الأسطوري دون تايلر وهو يمُر بأزمةٍ نفسيةٍ وبدنية، ويصوِّره وقد دخل إبداعُه طريقًا مسدودًا؛ إذ يجلس في كرسيٍّ متحرك وغدا تحت رحمة المصور الصيني يويو الواسع الحيلة. كما أن «يويو»، فيما يبدو، هو الشخص الوحيد في القصة الذي يستطيع إلهام أستاذ السينما الأمريكي.
ويعكس الفيلم بل يخرِّب علاقة الأستاذ الأمريكي بتلميذه الصيني، وهذا العكس أو التخريب يتميز بلمسةٍ بارعةٍ في البناء، ما دامت العلاقة ترتبط بإعادة إخراج فيلم آخر الأباطرة الذي سبق أن أخرجه برناردو بيرتولوتشي. ونلاحظ في الفيلم الذي يجري إخراجه داخل الفيلم كيف يعيد المخرج الإمبراطور بو يي إلى الشاشة، والمعروف أنه كان في الثالثة من عمره عندما أُجلس على العرش باسم الإمبراطور خوان تونج، الإمبراطور العاشر من أسرة قينج الحاكمة، و«آخر أباطرة» الصين كذلك. وفكرة إعادته إلى الشاشة في ذاتها لها دلالاتٌ خلافية إلى حدٍّ بعيد للجمهور الصيني المعاصر؛ ففي منطق «الحكمة الشعبية» للجمهور الصيني العام، لم يكن بو آخر الأباطرة، بل كان آخرهم «الرئيس ماو [زيدونج]»، الذي نجح في اكتساب الحب والهيبة طيلة عقودٍ متوالية (فتفوَّق في هذا على فريق البيتلز الإنجليزي) ولا يزال شبح هذه العبادة الإقطاعية للإمبراطور يسكُن بإصرارٍ كل ركنٍ من أركان الصين، بصورةٍ ما.
تناص (ما بعد الحداثة) الذي يمارِس الهدم والتشكيل الذاتي
يُعتبَر فيلم جنازة الرجل العظيم فيلمًا ذاتيَّ الانعكاس إلى حدٍّ بعيد؛ فهو مبنيٌّ من لَبِنَاتٍ تختلف نوعيًّا بعضها عن البعض، فنجد فيه صورة من فوق صورة، وقصة داخل قصة، وفيلمًا ممتزجًا بفيلمٍ آخر؛ إذ يتضمن مناسباتٍ عديدة، على سبيل المثال، نسمع فيها تعليقاتٍ جادة على لمحاته الفكاهية من أفواه نجوم، بقصصهم وحكاياتهم، من السينما الأمريكية، والصينية، والأفريقية، ومن هونج كونج وتايوان، ولكننا سنتوقَّف عند ذروة من ذُرا العبث الفكاهي، وهي التي نرى فيها «يويو» و«وانج» يقرِّران تقديم صورة على المسرح/الشاشة تمثِّل تجسيدًا للمخرج الأسطوري الأمريكي، أثناء مؤتمرٍ صحفي عُقد من أجل الاتفاق على توزيع الإعلانات، وكان هذا المشهد محاكاةً ساخرةً رخيصة المظهر وإن تكن مضحكةً إلى حدٍّ بالغ، لفيلم من أفلام الرسوم المتحركة عن الجنازة، يصوِّر دون تايلر وهو يطير في الفضاء إلى السماء ثم يُولد من جديد في صورة طفلٍ صيني، فإذا أنعمنا النظر في هذا المشهد فسوف نتبيَّن قدرة المخرج فينج على خلق الصور من خلال القص واللصق والاستعارة لغويًّا وثقافيًّا، باعتبار هذه الصور انعكاسًا/وسيطًا بالغ الأهمية ﻟ «العالم الجديد الجميل» لمجتمع ما بعد الحداثة، وهو الذي يزداد استنادُه إلى الصور البصرية من الزاويتَين الاجتماعية والسيكلوجية عما كان عليه في يوم من الأيام. ونحن نُواجه غزونا، غزوًا عنيفًا في حالاتٍ كثيرة، بشتى أنواع الصور أنَّى ذهبنا؛ البوسترات، والإعلانات، والتيشيرتات، واللافتات، ومعدَّات التغليف، والصحف، والمجلات، والتليفزيون، والسينما، والحواسب، وألعاب الحاسوب، وشاشات الفيديو العملاقة، وأقراص الفيديو/دي في دي، والواقع الافتراضي المزوَّد بمؤثراتٍ رقميةٍ خاصة. وأسلوب فينج يدفع المرء إلى الإحساس بالدُّوار؛ إذ يقدِّم في الفيلم نسخة للكون لا تجد فيها حقيقةً ثابتةً يمكنك الاستناد إليها في التمييز بين الواقع والخيال في تمثيله السينمائي. وأقول بعبارةٍ أخرى إن التمييز بين النظام المنطقي للواقع وبين تمثيله يهدِّد بالانهيار ﻟ «أننا» قد وقعنا في شبكة العلامات والشفرات التي اشتركَت أجهزة الإعلام والمعلومات في إغلاقها/تشكيلها/والتلاعب بها. ومن هذه الزاوية نرى أن جنازة الرجل العظيم فيلم يُشكِّل نفسه ويخرِّب في الوقت ذاته تناصَّ ما بعد الحداثة.
هجاءٌ أم تلاعب: الأجهزة الإعلامية الصينية، والمقاولات، وهوليوود
وفيما يلي ترجمتي:
إن جنون الأرباح لا يحتاج إلى شرح، ويصل إلى شفا الكوميديا السوداء أو مسرح العبث، ويُمكِن أن نرى هذا التصوير الدرامي للعبث أيضًا في تحويل فينج طقوس الوفاة إلى «احتفالية»، وهي غيرُ تقليديةٍ إلى أقصى حد ومضحكة إلى حدٍّ مقلق؛ فالإيقاع الحزين الوقور لموسيقى النعي المعتادة يتحوَّل إلى الإيقاع المرح للأغاني الفولكلورية. وأما «جثمان» تايلُر (وهو دُمية من البلاستيك) فيُعامِلها المُخرِج بروح المزج بين الجهامة والفكاهة التي أشاعها جو أورتون [الكاتب المسرحي البريطاني وأصبحَت تُنسَب إليه بالصفة «أورتوني»] ولم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ الشاشة الصينية. كما يضع المخرج على هذا «الجثمان» عددًا بالغ الكثرة من الأشياء بكل عناية وتبجيل من رأسه إلى قدمه لأغراض التسويق، مثل شامبو من ناحية على شَعره، وعدسةٍ ملتصقةٍ لإحدى العينَين، ونظارة شمس على العين الأخرى، و«كيس» شاي يتدلى ﺑ «فتلة» من فمه، وقلادة، وتي شيرت وشورت رياضي، وساعة معصم، وحذاءٍ رياضي لإحدى القدمَين، وحذاء من الجلد للقدم الأخرى، وزجاجة من حبوب الكالسيوم على صدره. ولا تكتمل الهَزْلية من دون صورةٍ بانوراميةٍ ضخمة لحي بيفرلي هيلز في هوليود تمثِّل خلفية الجنازة. ويبدو أن الفيلم كله يتضمَّن ما أسماه فريدرك جيمسون مقوماتِ ما بعد الحداثة؛ أي السطحية، وضعف الحس التاريخي، وتدهور العاطفة، ولكننا نستطيع أن نقرأ القصة المُحكَمة البناء عن تايلر قراءةً رمزية فلقد قَدِم إلى الصين لإخراج فيلم آخر الأباطرة، فاكتشَف أزمتَه الإبداعية، وفي الوقت نفسه صداقة يويو وموهبته، ثم أُصيب بسكتةٍ دماغيةٍ وغيبوبة وبعدها كان في انتظار جنازته الفكاهية. فما دام تايلر يمثِّل هوليوود، وبالتالي أمريكا، فإن الهزلية كلها الخاصة بالجنازة الكوميدية الصينية للمخرج السينمائي الأسطوري ترمُز وفق قراءتي الخاصة للرغبة الصينية القومية لتحدي هوليوود بل ودفنها، وهي الإمبراطورية الإعلامية البصرية التي تهزم الكثير من غيرها، ولكن هذه الرغبة يُصيبها الإحباط، بطبيعة الحال، بأسلوب «الخوارق»، مثل الكثير من الرغبات والأماني الصينية، فيستعيد تايلر صحته، ويرقُب كل ما يجري باهتمامٍ بالغ، بما في ذلك إصابة وانج بالجنون. وفي النهاية يستولي تايلر على فكرة «يويو» الخاصة بالجنازة الكوميدية، ويُخرِج فيلمًا آخر لهوليوود. والواقع أنه عندما تهبط موجةُ ملذات فينج التخريبية المتسمة بروحِ ما بعد الحداثة، نجد أننا «ما زلنا نواجه المشكلات الاجتماعية والثقافية التي لم تؤثِّر فيها هذه الأوهام المستوحاة من اليوتوبيا» (هاريز ٢٠٠٠: ١٣٣). ومن هذه الزاوية نجد أن القصة الساخرة لجنازة هذا الرجل العظيم تكاد تقتصر على التهكُّم على أجهزة الإعلام الصينية، وتفشِّي النزعة التجارية فيها، وخصوصًا الإعلانات وسُلطة هوليوود.
وتستند القراءات/التفسيرات الخاصة بجنازة الرجل العظيم أساسًا إلى فكرة التناص، وهي التي يقول تعريفُها: إنها مجموعة النصوص التي يكتشفها القارئ كلما عاد إلى قراءة الفيلم. وعلى الرغم من أن الفيلم تحكُمه الضرورات النصية، من الناحية النظرية، فإن العملَ المتناصَّ في ذاته قد يستدعي إلى الذهن كتاباتٍ لا حدود لها. و«تعدُّدية الكتابة» المشار إليها، وهي التي تجعل الصدارة لمعانٍ ثورية وهامشية ومتناقضة ونصِّية وأيديولوجية من منظورات النقد النسوي/التحليلي النفسي/ما بعد الاستعمار، ذات تأثيرٍ إطاريٍّ محدَّد في الترجمة الفعلية للنص. ويُعتبَر مدخل التناصِّ المذكور إلى حدٍّ ما — إلى جانب تركيزه على التفسير الاجتماعي الثقافي لنصٍّ من النصوص — تطويرًا لمدخل «المشاهد والأطُر» الذي اقترحه تشارلز فيلمور، وهو الذي لا يعتمد على الألفاظ والمباني وحسب، بل أيضًا على «المبدأ الكلي للعناصر النصية المتداخلة، وعلى الخبرة والإدراك والأوضاع القائمة في الخلفية» (سنيل-هورنبي ١٩٩٥: ٨١). ولقد كنتُ في قراءتي لهذا الفيلم واعيًا أشدَّ الوعي بالنموذج الاستراتيجي ذي الطبقات الأربع الذي وضَعه ليو ميقنج (١٩٩٩م) ألا وهو «فك الشفرة» والتقويض، والتشريح، والتكامل» والخاص بالنقل من النص باللغة المصدَر إلى النص باللغة المستهدَفة في الترجمة الثقافية (ص١٨٩–٢٠٦). والواقع أننا عندما نستكشف «بيئة بعض التقاليد التاريخية الثقافية المحدَّدة، والأنساق الجيواقتصادية، والجيوسياسية، والجيواجتماعية» التي تُشكِّل نصًّا معينًا وإنتاج معناه في الترجمة، فلا بد أن ننظر إلى القراءة/الترجمة باعتبارها نظامًا مفتوحًا في التواصل عَبْر الثقافي.
(٤) ترجمة الثقافة الشعبية: المحاكاة الساخرة في فيلم فينج
جنازة الرجل العظيم نص يحمل شحنةً ثقيلة ويتلاعب بمفاهيم ما بعد الحداثة وما أظهرَته في سياق ما بعد الاستعمار. وأهم ما نَلحظُه تلاعُب فينج بأفكارٍ شتَّى مثل الحداثة، والهوية، والتراجيديا، والكوميديا، والصداقة، والترجمة، والخيانة، والاستغلال، والسيطرة، واللون، والاستشراق، والسلطة، والأداء، والجنون، والبارانويا [جنون العظمة والإحساس بالاضطهاد] والانتماء العِرقي، واقتصاد الإنترنت. والواقع أن هذا الفيلم يتصدى لعددٍ كبيرٍ من قضايا الدراسات الثقافية؛ مثل مسألة الهوية القومية والثقافية والجنسية (كما في حالة لون بشرة تايلر وذكورته عند تناسُخه، والإشارة إلى لوسي باسم «امرأة الموز») ومسائل التعدُّد الثقافي (الصراعات والمفاوضات بين التيار الرئيسي السائد للثقافة الصينية، والثقافة الغربية/الأمريكية، وثقافة الأقلية العِرقية، وثقافة الشباب) ومسائل التعدُّدية اللغوية (فالشخوص يتكلمون لغاتهم الأصلية وتتولى لوسي الترجمة/التلاعب بالمعاني) ومسائل العلاقة بين الجنسَين (علاقات السلطة بين الشخوص الأبوية والنساء). ويخلُق كل هذا مشكلاتٍ هائلةً للقارئ/المترجم. ونظرًا لضيق المساحة، سوف أُركِّز على المحاكاة الساخرة التي يقوم بها فينج خياوجانج في هذا الفيلم، وهي التي لم ترسخ في الصين ولا تتفق مع الثقافة الرسمية الصينية، وإن كانت سوف تصدم عددًا كبيرًا من الناس.
إن كان لنا أن نُحدِّد خصيصةً تميِّز أبناء بكين [البيكينيين] قلنا إنهم أهل كلام وفكاهة فلديهم حِسٌّ فكاهيٌّ هائل. ونحن نتمتَّع بمزيةٍ نتفوَّق بها على أماكنَ أخرى مثل شنغهاي أو جوانجزو؛ فالبيكينيون لا يستطيعون الاعتماد دائمًا على حلولٍ ماديةٍ لمشاكلهم؛ ومن ثَم يعتمدون على حسهم الفكاهي، وقدرتهم على التهوين من ظروفهم، باعتبار ذلك وسيلةً لهضم سوء حظِّهم … وحين يُواجِه البيكيني موقفًا مزعجًا، سرعان ما يجد مخرجًا مريحًا له من خلال براعته اللغوية واستعداده للتندُّر بأحوال الحياة.
وأجد في «قراءاتي» لفيلم جنازة الرجل العظيم أن فينج خياوجانج يستخدم المحاكاة الساخرة في المقام الأول، فيما يبدو، باعتبارها أسلوبًا سينمائيًّا يستهدف التأثير الفكاهي والسخرية. وتقول ليندا هتشون في كتابها نظرية المحاكاة الساخرة (١٩٨٥: ٩٣) إن القُراء «يشاركون مشاركة فعلية في خلق نص المحاكاة الساخرة بطريقةٍ أشدَّ سفورًا، وربما تكون أشدَّ تعقيدًا، من مشاركتهم في قراءة سائر النصوص وَفْق حجة أصحاب النقد القائم على استجابة القارئ.» ولما كان المعنى متعدِّد الوجوه فإن توليده من خطاب المحاكاة الساخرة يعتمد اعتمادًا كاملًا تقريبًا على القدرة اللغوية والثقافية الشاملة للقارئ – المشاهد – المترجم، وكذلك على إحاطته بأشكال التناصِّ الخفية. ويمثِّل هذا صعوباتٍ هائلةً للمترجم وكذلك للجمهور خارج إطار الثقافة الصينية. فلننظر أولًا كيف يُجري فينج محاكاته الساخرة من الخطاب (الاشتراكي/الماوي) الصيني الرسمي.
ويرتبط استخدام فينج للمحاكاة الساخرة الأيديولوجية ارتباطًا وثيقًا بهدم أسطورة السلطة الذي سبقَت مناقشتُه في هذا الفصل. وحتى لو لم يبذل المتفرج العادي للسينما في الصين أية جهود فلن تفوتَه ملاحظةُ نماذجَ كثيرةٍ في فيلم جنازة الرجل العظيم للمحاكاة الساخرة التي يقدِّمها فينج لضروب «الخطاب الاشتراكي» والمقتطفات الماوية أو شِبه الماوية. وأنا أحاول في ترجمة أمثال هذه المحاكاة الساخرة أن أنتفعَ ببعض الاستراتيجياتِ المشار إليها مثل الإضافة، والحذف، وقلب الأبنية اللغوية، والتكرار والمبالغة، في الألفاظ وبناء الجملة والأسلوب؛ فعلى سبيل المثال، عندما يتناقش «يويو»، ولوسي، و«وانج» بأسلوب المناظرات الوهمية في البرلمان/مجلس الشعب حول لون البشرة الذي يعود به الوليد تايلر إلى الدنيا بعد وفاته، إن كان ينبغي أن يكون اللون أصفر أو أسود أو أبيض، تجري المناقشة الفكهة على النحو التالي:
وفيما يلي ترجمته:
ولا شك أن الجُمل/العبارات المطبوعة بالبُنط الأسود سوف تثير السخرية عند سامعيها الصينيين الذين سوف يتذكَّرون أمثال هذه القوالب اللفظية الرسمية في بيانات السياسة الخارجية الصينية، وخصوصًا العبارات الخاصة بمؤازرة «القضية «الشجاعة» لإخواننا الأفارقة» في إبَّان الحقبة الماوية؛ إذ كان أبناء الصين الذين يعانون الفقر الروحي والمادي بسبب الثورة الثقافية يُضطَرون إلى «شد الأحزمة على بطونهم» من أجل تدعيم إخوانهم من الأفارقة الذين كانوا لا يزالون يكافحون «في مياهٍ عميقة ونيرانٍ حارقة» ضد مستعمريهم الأوروبيين. وكان من المعتاد أن يقدِّم الصينيون العون لأولئك «الإخوة الأفارقة» (ولم تكن الأخوات الأفريقيات يُذكَرن قَط بطبيعة الحال!) في بناء السكك الحديدية، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، والمزارع، وأيضًا في علاج الأمراض بأدويةٍ صينية. ولكن الذي نراه في فيلم فينج هو أن الدعم يُقدَّم إلى السينما الأفريقية، وأن الأسلوب الرمزي لها — أي جعل دون تايلر الوليد «المتناسخ» ذا بشرةٍ سوداء — حدثٌ إعلامي يمكن القيام به وإن لم يزد عن كونه دعمًا لفظيًّا. وبطبيعة الحال لا يبدو أن فينج وزملاءه الفنانين يعرفون أن نيجيريا أنتجت ٦٥٠ فيلمًا في عام ٢٠٠١م وحده؛ أي أكثر مما أنتجَتْه هوليوود ﺑ ٢٥٠ فيلمًا. حقيقةٌ مذهلةٌ فعلًا! ولن يحظى «الدعم الأخوي» بالتقدير الذي يستحقه. وأما تعبير «أي مكان يحتاج إليه» فهو محاكاةٌ ساخرة مباشرة للشعار الماوي الذي يشجِّع من يسمون «صغار المتعلمين» (تلاميذ المدارس الثانوية) في المدن في شتى أرجاء الصين على الذهاب إلى الريف لتلقي ما كان يُسمَّى «إعادة التعليم من الفلاحين الفقراء وأبنا الطبقة الوسطى الخفيضة» أثناء الثورة الثقافية. وكان معيار «الذهاب والعمل حيثما تحتاج إليك أرض وطنك أقصى احتياج» — ولا يزال إلى حدٍّ ما — من المعايير التي يُحكم بها على إمكان تحوُّل الفرد إلى «شخصٍ جديد في الحقبة الاشتراكية الجديدة» والمعروف أن بعض الكلمات مثل «الصداقة» و«الشعب» من أكثر الكلمات التي أُسيء استعمالها في ضروب الخطاب الرسمي الخاص ﺑ «الديمقراطية» و«اللياقة الاجتماعية».
ونحن نعرف جميعًا أن المترجم، باعتباره وسيطًا، دائمًا ما يبذل قصارى جهده للحفاظ على بؤرة المعلومات في هيكل النص الجديد في موقعها في النص الأصلي، ولكنه لا بد أن يذكُر عند ترجمة نصٍّ من نصوص الثقافة الشعبية زاخر بضروب المحاكاة الساخرة، أنه يتعامل مع إطارٍ عريض مُركَّب يسمَّى الثقافة، وأن جميع الاتصالات التي تُجرى في هذا الإطار وجميع النصوص التي قد تُخاطِب بعضها بعضًا تتسم بالمفارقة؛ أي إن علينا أن نفهم أن استخدام المحاكاة الساخرة في نصوص الثقافة المعاصرة، مثل السينما، قد تكون مؤشرًا مهمًّا على الطابع الثنائي للتجاوز اللفظي الذي يُولِّد شتى أنواع المفارقة والغموض والقلقلة. «وهكذا فإن نزعة ما بعد الحداثة في المحاكاة الساخرة تدُل على عجزها عن بلوغ أي معنًى نهائي، وتذكِّرنا بصورةٍ صريحة أن المعنى دائمًا سيالٌ متنقل» (هاريز ٢٠٠٠: ١٣٣).
(٥) الخاتمة: ترجمة الثقافة الشعبية في سياق «عولمحلي»
ما دامت الرأسمالية قد أصبحَت الآن نظامًا عالميًّا، فإن البضائع ورءوس الأموال والأفراد والمعارف والصور والجرائم والثقافات والملوِّثات والمخدِّرات والأزياء والعقائد تتدفَّق جميعًا عَبْر الحدود الجغرافية والوطنية والسيكلوجية. ويقول أرجون أبا دوراي (١٩٩٠: ١–١٥): إن لهذه التدفُّقات الثقافية العالمية خمسة أبعاد وهي (١) الساحة العِرقية؛ أي تدفُّقات المهاجرين واللاجئين والمنفيين والسيَّاح والعمال الأجانب والطلاب عَبْر الحدود القومية؛ و(٢) الساحة التقنية؛ أي تدفُّقات الآلات والمصانع التي تدفعها الشركات المتعدِّدة الجنسيات والهيئات الحكومية؛ و(٣) الساحة المالية؛ أي تدفُّقات رءوس الأموال في البورصات وأسواق العملات؛ و(٤) الساحة الإعلامية؛ تدفُّقات الصور والمعلومات التي تدفعها الأفلام والتليفزيون والإذاعة والصحف والمجلات والطرق الإلكترونية؛ و(٥) الساحة الفكرية؛ أي تدفُّقات الأفكار والمعتقدات والقيم التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأجهزة الإعلام. ويبدو أن هذه الأبعاد الخمسة قد أنتجَت اليوم «سياسةً كبرى» تقوم على الرغبات الإمبريالية المُهيمِنة، وهي التي تتوسَّل بها ضروب الخطاب الغربي في زيادة فرض تشكيلاتها الثقافية وساحاتها في المجتمعات غير الغربية. ونحن نتحدث هنا عن مكانة الترجمة في السياق العالمي الذي يكشف، كما يبيِّن لورنس فينوتي (١٩٩٨ب: ١٥٨–١٨٩)، عن «اختلالات في المبادلات والثقافة» و«الظروف المريبة لهيمنة [كبرى البلدان الناطقة بالإنجليزية]» والبلدان النامية باعتبارها «مواقع لاستراتيجيات الترجمة»، «مواقع للتنازع بين التشابه والاختلاف ثقافيًّا»، وساحات ﻟ «التهجين» و«المقاومة».
ومع ذلك فالصين بلدٌ يتسم بالتنوع الثقافي والأخلاقي، ما دمنا سنجمع بين الروابط ما بين الثقافات من ناحية، وبين الروابط داخل الثقافة نفسها من ناحيةٍ أخرى؛ ومن ثَم نرى أن العوامل التاريخية المحتومة — سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا — لم تقتصر على تشكيل الساحات المادية بل أعادت رسم «ساحاتنا الفكرية» أيضًا. وقد أدَّت هذه التغييرات إلى الظهور «القوى» لجماعات وثقافاتٍ معيَّنة أصبحَت مهيمنةً آخر الأمر، وكذلك إلى فقدان بعض القبائل والمجتمعات المحلية، تدريجيًّا، وهي التي أصبحَت هامشية، بل وفقدَت أصواتها؛ أي إن ما علينا أن نستكشفه هو العلاقة بين «المحلي» و«العالمي»، وهي التي يُشار إليها الآن بكلمة «العولمحلي» [الجديدة المنحوتة] (روبرتسون ١٩٩٥م). وقد تعني «العولمحلية»، حسبما أفهم، إعادة تأكيد الهيمنة والسيادة الغربية، من ناحية، بسبب الأنواع الخمسة من «التدفُّقات» التي يشير إليها أرجون أبا دوراي؛ ومن ثَم فقد تؤدي إلى مقابلاتٍ جديدة بين الثقافات وقبول التنوُّع الاجتماعي السياسي والثقافي من ناحيةٍ أخرى. وفي غضون عملية «العولمحلية» غير المسبوقة المشار إليها، نجد أن الحدود الثقافية بين مختلف الأمم والمجتمعات المحلية والجماعات العِرقية تستحق المزيد من الاحترام الذي يتناسب مع تعبيرها عن إرادة الشعوب الملتزمة بها. ولا شك أن هذه التغيُّرات تُشكِّل الصور اللغوية والثقافية التي تمثِّلنا وتمثِّل الآخرين؛ أي إن علينا، باختصار، أن نُعالِج قضية ترجمة الثقافات في سياق ما بعد الاستعمار.
تلتقي النظرية النسوية بالترجمة في تأكيد تعدُّد أصوات النص المترجَم؛ فالنص يُبرِز العناصر الذاتية للغة مَن يعيد الكتابة وفكره … فالترجمة النسوية تهتم بكون المترجمة امرأة، وتسعى من ثم إلى إزالة آثار السيطرة الاجتماعية والثقافية للرجل، مستخدمةً لغة تلفِت النظر إلى أنساق القهر الأبوي … والمترجمات النسويات يقدِّمن عملَهن ويعلِّقن عليه ويُظهِرن وعيًا متزايدًا بأن هُوياتهن الأنثوية قد دخلَت عملَهن … وقد نجحَت الترجمة النسوية في إصلاح بعض المفاهيم مثل الاختلاف والأمانة والتعادل في الترجمة وتحدِّي الرأي القائل باختفاء المترجم. وهكذا لا تغدو الترجمة نقلًا لغويًّا سلبيًّا من لغة إلى أخرى بل تغدو عمليةً إيجابيةً تتأثر بهُوية المترجمة، وآرائها في الدنيا وفي البيئة.
وهكذا أقول، بعبارة أخرى، إن تكويننا الأيديولوجي والنفسي والثقافي سوف يتسلَّل، عن وعي أو من دون وعي، إلى المُنتَج النهائي للتواصُل عَبْر الثقافي، وهذه هي المرحلة التي تتدخل فيها هوية المترجم في العمل. وكما يقول يوجين تشين إيويانج (١٩٩٦: ٦٧-٦٨): «إن دراسة الترجمة تتضمن جميع أشكال النشاط الفكري، مثل الاستقراء، والتحليل، والاستنباط، والحَدْس … ولا تقل غاية دراسات الترجمة عن اختبار كفاءة تفكيرنا، وتقييم جودة فكرنا.»
(٦) تذييل: متعة ترجمة الثقافة الشعبية
في غضون حديث أندرو تيودور (١٩٩: ١٦٥-١٦٦) عما يسمِّيه «صعود نجم القارئ»، نجده يستعير بعض أفكار أنطوني جيدنز (١٩٨٤م) ويعترف بشتى القيود التي تفرضها مختلف المباني على تفسيرات النصوص، ويبيِّن كذلك النسبية الاجتماعية للنظم السيميوطيقية، وقدرتها الكامنة على تعدُّد المعاني، والقدرات الابتكارية للأفراد الممثِّلين للمجتمع الذين استخدموا هذه النُّظم استخدامًا إبداعيًّا.
تتولى الثقافة تخزين الموارد وتسليمها إلى أفراد المجتمع الذين ينتفعون بها في جعل دنياهم ذات معنًى معقول، وفي هذا الصدد تضع الثقافة الحدود، وتعريفات الألفاظ، وتفرض القيود على الحياة الاجتماعية، ولكن الثقافات أيضًا معقَّدة ومتناقضة وغامضة، وتسمح لمن يستخدمونها بإعادة تكوينها باستمرار، وهم بطبيعتهم، متلاعبون فعَّالون بالمواد الثقافية. وقد تكون الثقافة حقًّا مستودعًا نستقي منه ما يُشكِّل النشاط الاجتماعي، ولكنها أيضًا كيانٌ يعكس صورة النشاط المذكور ويتسبَّب في انكسار صورتها، في دائرةٍ متصلةٍ من الإنتاج وإعادة الإنتاج.
من بين الحجج التي أُلِح على تقديمها في هذا الفصل أن العلاقات بين النصوص والقُراء تعتمد في إبرازها على الوساطة العميقة لقوى الخطاب والتناص؛ فعلى نحوِ ما يُبينه توني بينيت وجانيت وولاكوت (١٩٨٧: ٢٦٢) تُعتبر النصوص والقُراء والقراءات من ثمار الثقافة، وعلينا أن نفحَص تكوينها باعتبارها مجموعةً مُركَّبة من المفاوضات والعلاقات المتداخلة، فإذا نظرنا إلى نصوص الثقافة الشعبية، مثل نص فيلم جنازة الرجل العظيم، وجدنا أنها يُمكِن — من خلال التحليل الدقيق — أن تقبل استخدامها بصورةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وجماليةٍ مختلفة؛ لأن المخرجين السينمائيين من أمثال فينج خياوجانج ينقشون، واعين أو من دون وعي، مستوياتٍ شتى من الوعي الأيديولوجي والسينمائي في نصوصهم. وهكذا فإن قراءة نصٍّ شعبيٍّ مثل نص الفيلم المذكور وتفهُّمه يمثِّلان جهدًا بالغ الإمتاع والتحدي. ونقول بعبارةٍ أخرى إن النصوص الشعبية تقدِّم معاني ومسرَّاتٍ شعبية تُماثِل ما تقدِّمه النصوص الثقافية «النخبوية» في حالاتٍ كثيرة. «فتعدُّد معاني النص يصعد إلى السطح ويُثير مُتَعًا مختلفة، ويحقِّق توقعاتٍ متفاوتة، ويقبل تفسيرات شتى» (ماكروبي ١٩٨٤: ١٥٠)؛ ومن ثَم فإن قراءة وترجمة نصوص الثقافة الشعبية تُعتبَر صراعًا متناصًّا للمتعة بين القوى اللغوية والاجتماعية والثقافية الداعية إلى «إغلاق» النص و«انفتاحه»، وبين سُلطة التنظيم الفريدة وضروب المقاومة المتعدِّدة لهذه السلطة، وبين الانصياع [للمعيار السائد] وهدمه. ولكن المناخ الثقافي لما بعد الحداثة، على نحو ما يقول به جراهام ألين (٢٠٠٠: ١٩٤)، يتطلب منا أن «نبتعد بمسافةٍ ما عما نرسمه من صور وما نقوله من أقوال أو أن نجعلها ساخرةً حتى تُؤخَذ مأخذ الجِد.» وفي الوقت نفسه علينا أن نتذكَّر ما يقوله كاتان (١٩٩٩: ١٥٤): «إن أحد أهداف المترجم باعتباره وسيطًا ثقافيًّا أن يساعد القارئ على أن يكتسب نظرةً ثاقبة في ثقافةً أخرى.» وأعتقد أن هذا يمثِّل تحديًا هائلًا من الزوايا المعرفية والنقدية بل والمهنية لمترجم نصوص الثقافة الشعبية.