دنيا الله
دبَّت الحياة في إدارة السكرتارية بدخول عم إبراهيم الفرَّاش. فتح النوافذ واحدةً بعد أخرى، ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلُبٍّ شارد ودون اكتراث. واهتز رأسه بانتظام وبطء، وتحرك شدقاه كأنما يلوك شيئًا. فقلقتْ تبعًا لذلك منابت الشعر الأبيض في ذقنه وعارضَيْه، أما صلعته فلم تكُن بها شعرة واحدة. وعاد إلى المكاتب يَنفض عنها الغبار ويُرتِّب الملفات والأدوات، ثم ألقى على الحجرة — الإدارة — نظرة شاملة، ثم نقَّل بصره بين المكاتب وكأنما يرى شخوصَ أصحابها، فلاح الارتياحُ في وجهه حينًا والامتعاض حينًا، ومرة ابتسم ثم ذهب، وهو يقول لنفسه: «الآن نذهب لإحضار الفطور.»
وكان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول مَن حضر، جاء بكاهلٍ ينوء بخمسين عامًا، ووجهٍ نُقِش على صفحته امتعاض ثابت، كأنه سجل لقرَف الزمن. وتبعه السيد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة، الذي يضحك كثيرًا؛ لكنه ضحك متوتر يُداري به همومه اليومية. ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يُدْعَى في الإدارة، والجندي الذي ينُمُّ تطلُّق أساريره على أنه لم يخرجْ بعد من نِعمة الطفولة. ودخل يتبختر السيد مصطفى، أنيقًا ذهبيَّ الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة، ولحِق به حمام رقيقًا نحيفًا منطويًا على نفسه. وأخيرًا حضر سيادة مدير الإدارة، الأستاذ كامل، محوطًا بهالةٍ من وَقار، وفي يده مِسبحة. وضجت الإدارة بالأصوات وخشخشة الأوراق. ولكن أحدًا لم يشرع في عمل، حتى المدير انهمك في مكالمة تليفونية، وانطلقت صفحات الجرائد في الجو كالأعلام. وقال لطفي وهو يُتابع الأخبار بعينيه: ستكون السنة نهاية العالم.
وعلا صوت المدير وهو يقول متهلِّلًا في التليفون: وهل يخفى القمر؟
وتساءل سمير: لماذا نشقَى بالزواج والأبناء، ها هو شاب يقتُل أباه تحت بصَر أمه!
كذلك تساءل أحمد بصوت مُتحشرج: ما فائدة كتابة روشتَّة إذا كان الدواء غيرَ موجود بالسوق!
ولبِث الجندي يرمي ببصره من مجلسه إلى عيادة دكتور في العمارة المواجهة، يرصد ظهور ممرضة ألمانية شقراء في النافذة، ثم عاد لطفي يقول مؤكدًا: صدِّقوني، نهاية العالم أقرب مما تتصورون.
ثم عاد إلى المحادثة الشائقة، فلم يرفع حمام رأسه عن الجريدة، وهمس بين أسنانه «داهية في أمك!» وإذا بعم إبراهيم يعود بصينية ممتلئة. وراح يوزع سندوتشات الفول والطعمية والجبن والحلاوة الطحينية. وطحنت الأفواهُ الطعامَ وتجاوب التمطُّق في الأركان، ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف. ووقف عم إبراهيم عند مدخل الإدارة يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين، حتى هتف به أحمد بصوت يعترضه الطعام: كشف الماهيَّات يا عم إبراهيم.
فذهب الرجل. وبعد ساعة من الوقت دخل الحجرة بائع الكرافتات والروائح العطرية الذي يزور الإدارة عادةً في أول الشهر. ومر بالمكاتب عارضًا بضاعته فأقبل الموظفون يتفحَّصونها، وأخذ بعضهم ما يحتاجه منها، وغادر الرجل الحجرة على أن يعود إليها بعد قبض الماهيات. وبعد ساعة أخرى جاء بياع السمن؛ ليجمع الأقساط المستحقة، ولكن مصطفى قال له بلهجة ذات معنًى وهو يضحك: انتظر حتى يرجع عم إبراهيم.
فوقف الرجل عند الباب وشفتاه تتحركان بتلاوة مستمرَّة. وكانت الآلة الكاتبة تنقر بنشاط، على حين انتقل سمير إلى مكتب المدير؛ ليعرض أوراقًا هامةً. ودخلت الشمس لأول مرة من النافذة المطلَّة على الميدان، وما زال الجندي يختلس النظرات إلى نافذة العيادة. ونادى المدير عم إبراهيم لأمرٍ، فذكَّره مصطفى بأنه لم يرجع بعدُ من الخزينة، وعند ذاك تساءل أحمد رافعًا رأسه عن الملفات: الرجل تأخَّر! لماذا تأخر الرجل؟!
وذهب بيَّاع السمن؛ ليمر بالإدارات الأُخَر، ثم يعود. وهبَّ أحمد إلى خارج الحجرة ونظر يمنةً ويسرةً في الطُّرقة، ثم عاد وهو يقول: لا أثر له، ماذا أخَّره؟! الرجل المخرِّف!
ولما مرت ساعة ثالثة فقَدَ أحمد صبره فقام، وهو يعلن بصوت مسموع أنه ذاهب إلى الخزينة للبحث عن الرجل. ثم عاد بوجه طافح بالغيظ وهو يقول: أخذ الكشف منذ ساعة كاملة، فأين ذهب المجنون؟
فسأله لطفي: هل قبض هو مرتبه؟
فأجاب محتدًّا: نعم، قالوا لي ذلك عند شبَّاك صرف الخدم السايرة.
– لعله ذهب يتسوَّق!
– قبل أن يُسلمنا الماهيَّات؟!
– لا تستبعد ذلك، إنه يأتي كل يوم بجديد.
وارتسم الاستياء على وجوه، وقطَّب المدير — وهو درجة رابعة قديم — وساد صمت قصير، ما لبث أن قطعه مصطفى بضحكة من ضحكاته، ثم قال: تصوَّروا أنه سُرق في الطريق!
فندَّت ضحكات فاترة، فاترة جدًّا، كأنها تأوهات متنكِّرة، غير أن لطفي قال: أو وقع له حادث!
ولما آنس في الوجوه استياءً استدرك قائلًا: ما يدوس عم إبراهيم اليوم، فإنما يدوس إدارةً كاملة.
فقال أحمد بحدة: إلا مَن وراءه خزينة خاصَّة!
وارتاح الجميع إلى قوله تشفيًا، غير أن المدير نقر على مكتبه بقلمه الباركر المُهدَى إليه في مناسبة سعيدة، داعيًا الإدارة إلى ضبط النفس، وكان في الحقيقة يُداري قلقَه المُتزايد. لكن الجندي تساءل رغم ذلك: ماذا يحدث للنقود في هذه الأحوال؟
– كحال السرقة؟
ولم يضحك أحد، فعاد الجندي يتساءل: في حال الحوادث؟
– قد تُسرَق في الزحمة، وقد يُتَحَفَّظ عليها في قسم البوليس حتى تتضح الحقائق، ومُتْ يا حمار!
لكن بدا أن مملكة الضحك قد جدبت تمامًا. بدت الوجوه كالحةً، ومضى الوقت أثقل من المرض. وتساءل صوت: على وجهِ مَن أصبحنا اليوم؟! وذهب أحمد يبحث عن عم إبراهيم في المراقبة كلها، ثم عاد بوجه ناطقٍ بخيبة مَسعاه. وفكر المدير في المشكلة الغريبة التي لم تدُر لأحد في بال. إنه يأبى أن يصدِّق. سيظهر الرجل المجنون فجأةً عند الباب. ستنهال عليه الشتائم وسينتحل كافةَ الأعذار. وإلا فما العمل؟ لطفي وراءه زوجة غنية، وسمير وَغْد معروف، ولكن ثمة مساكين مثل أحمد قد يقضي عليهم الحادث! وعاد بيَّاع السمن، وقبل أن يفتح فاه، صاح به المدير: انتظر، القيامة لم تقم، ونحن في إدارة حكومية، لا في سوق.
فتراجع الرجل مذهولًا. وزار الإدارة موظفون من المراقبة يستطلعون الأحوال، وهَم بعضهم بالمداعبة، ولكنهم وجدوا جوًّا مكفهرًّا، فتلاشت الدعابات في حلوقهم، وتجسد القلق وكفَّ الجميع عن العمل. وتأوَّه أحمد قائلًا: قلبي يُحدثني بأن المسألة جد! ضِعنا يا جماعة!
ثم هب واقفًا وهو يقول: سأسأل عنه بوَّاب الوزارة. واختفى مهرولًا، ثم عاد وهو يصيح بصوت ثائر: البواب يؤكد أنه رآه يُغادر الوزارة حوالي التاسعة صباحًا!
ثم بصوت مختنق: أفظع من كارثة، لا يمكن أن يبيع حياته بمائة وخمسين جنيهًا أو مائتين، حادث؟! من يدري؟! هذا الشهر لن نعرف له نهاية يا رب السموات!
وشعر لطفي بأن بعض الأنظار تتجه نحوه من حينٍ لحين، فقال منقبضَ القلب: إنها أفظع من كارثة، لعلكم تتساءلون ماذا يهمُّني أنا؟! والحق أن زوجتي الغنية لا تنفق مليمًا واحدًا من مالها.
وانصبَّت عليه في السرِّ عشرات اللعنات، ولم يُعِرْه أحد التفاتًا. وتأوه أحمد قائلًا: أتصدقون بالله؟ والله الذي لا إله إلَّاه إني من اليوم الثاني في الشهر أذهب وأجيء، وليس في جيبي مليم واحد، لا قهوة ولا شاي ولا سيجارة ولا استعمال لأيِّ نوع من المواصلات، أولاد في الثانوي وأولاد في الجامعة، ودَين كبير بسبب الأدوية، وماذا يمكن أن أفعل يا إله الكون؟!
ولما جاوزت الساعة الواحدة وقف مدير الإدارة بوجهٍ كئيب، وابتعد عن مكتبه وهو يقول: لا بد من إبلاغ المراقب العام.
واستمع المراقب العام إلى القصة في امتعاضٍ ظاهر، ثم تساءل: ألا يجوز أن يرجع رغم الظنون؟
– الحق أني يائس تمامًا من ذلك، الساعة تدور في الثانية.
فقال المراقب العام بلهجة منتقدة: أنت تعلم أن تصرُّفَكم خاطئ، ومخالف للتعليمات.
فانجحر المدير في صمت يائس مليًّا، ثم تمتم: جميع الإدارات تفعل ذلك.
– ولو! الخطأ لا يُبرِّر الخطأ، اكتب لي مذكرةً لأرفعها لوكيل الوزارة.
ولكن المدير لم يتحول عن موقفه، وقال: الجميع في أشد الحاجة إلى مرتباتهم، هذه حالة لم تُسبق بمثيل!
– وماذا تُريدني أن أفعل؟
– نحن لم نتسلَّم المرتبات، ولم نوقِّع في الكشف.
– لا يمكن إنكار الواقعة، ولا التهرب من المسئولية.
وتكاثف الصمت وبدا المدير كرجل ضائع، وضاق المراقب به، فتشاغلَ بالنظر في أوراق على مكتبه، حتى تحوَّل المدير عن موقفه، ومضى نحو الباب في خطوات ثقيلة جدًّا. وقُبيل خروجه جاءه صوت المراقب، وهو يقول في جفاء: أبلِغوا البوليس!
انتقلت إدارة السكرتارية إلى نقطة البوليس، وشقُّوا طريقهم إلى حجرة الضابط بين نسوة جالسات القرفصاء، تتقدمهنَّ شرذمة من رجال متعاركين مخضبين بالدماء يسوقهم عسكري، على حين تعالى من وراء بابٍ مغلق صراخٌ أليم واستغاثات. وأفضى السيد كامل المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها إلى آخرها. وقال عن عم إبراهيم: إنه فرَّاش في الخامسة والخمسين، دخل خدمة الوزارة وهو في العاشرة عاملًا بالمطبعة، ثم نُقل فرَّاشًا لتطاوله على رئيسه، وأجره الأصلي ستة جنيهات. وقال عنه موظفو السكرتارية إنه كان طيبًا، وإن يكنْ به شذوذ محتمل كأن يشرد أحيانًا حتى وهو يُحدِّثك، أو يتدخل فيما لا يَعنيه أو يتطوع بذكر ملاحظات عامة في السياسة دون مناسبة، وعن مسكنه قيل إنه يُقيم بالبيت رقم ١١١ بدرب الحلة، ولم يسبق له أن سرق أو أتى ما يستوجب الشكَّ في ذمته. وقال الضابط بعد تحرير المحضر إن النقطة ستتأكد أولًا أنه ليس ضحيَّة لحادث من الحوادث ثم يتخذ البحث مجراه. ولم يجد الموظفون بُدًّا من الانصراف، فغادروا النقطة كالمساطيل من الذهول. واختلطت أصواتهم وهم يتبادلون التشكي والتساؤل عما يُمكن عمله إزاء مسئولياتهم الخطيرة التي تنتظرهم في البيوت. وشملتهم رغبة واحدة في أن يبقوا معًا حتى يجدوا لمشكلتهم حلًّا، غير أنهم اضطروا في النهاية إلى التفرُّق فمضى كلٌّ إلى حال سبيله. عاد مدير الإدارة إلى بيته ولا أمل له إلا في البوكر أو الكونكان. وقصد مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة محلَّ رهونات بباب الشعرية، اعتاد في الأزمات أن يقترض منه بربحٍ فاحش. أما لطفي فكانت زوجته تتكفَّل بنفقات البيت، ولكن كان عليه أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهري. الجندي — وهو شاب أعزب ويعيش في كنف أبيه — قرر أن يقول لوالده: تقبلني هذا الشهر، وكأنني ما زلت طالبًا. حمام كان عليه أن يُقنع زوجته المشتركة في جمعية توفير من الجيران بالمطالبة بنصيبها المخصَّص للكساء؛ لإنفاقه في البيت مهما كلفه ذلك من سُباب وعِراك وبُكاء. سمير بدا أمره هينًا نوعًا ما، فما إنْ خلا إلى نفسه حتى قال: لولا الرشوة؛ لوجدت نفسي في مأزق لا مخرج منه! بقِي أحمد كاتب المحفوظات الذي ظن الزملاء أن النهار لن يطلع عليه. مضى يتخبَّط في الطريق بلا أدنى وعي لما حوله من أناس ومركبات. ودخل مسكنه متأوِّهًا أزرق الوجه، فارتمى على أول مقعد وأغمض العينين. وأقبلت عليه الولية برائحة المطبخ، مُتسائلةً في انزعاج: مالك؟
فقال دون مقدمات: لا مرتَّب لنا هذا الشهر!
فقالت بدهشة: لمَ، كفى الله الشر؟! عم إبراهيم جاء بمرتبك في أول النهار!
وثب الرجل قائمًا كغريق وجد آخر الأمر متنفسًا، على حين ذهبت الولية وجاءت بلفة من الأوراق المالية وجد فيها مُرتبه كاملًا! استخفَّه الطرب لحد الجنون، فبسط يديه، وهتف من الأعماق: «الله يكرمك يا عم إبراهيم .. الله يجبر بخاطرك يا عم إبراهيم.»
وكبس البوليس بيت عم إبراهيم بدرب الحلة. وكان المسكن عبارة عن حُجرة أرضية بحوش بيت قديم تهدَّم سوره أو كاد. ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرِّئة وحصيرة، وكانون وحلة وطبق صاج، وامرأة عجوز عوراء تبيَّن أنها زوجته. ولما سُئلَت عن زوجها؛ أجابت بأنه في الوزارة، ثم أكدت أنها لا تعرف شيئًا عن اختفائه. ولم يكن له من ثياب إلا جلباب ففتَّشوه، فعثروا على قطعة حشيش صغيرة. وعادت القوة بالمرأة إلى قسم البوليس. وقالت المرأة إنها لا تدري شيئًا عن هربه أو عن السرقة المتَّهم بها. وبكت طويلًا وانتُهرت طويلًا. وقالت عن حياتهما المشتركة إنه كان في مطلع الحياة زوجًا طيبًا، وإنهما أنجبا أبناء. من هؤلاء الأبناء عامل يعمل في منطقة القنال منقطع الصلة بهم منذ سنوات. وآخر قُتل في حادثة ترام وهو في العاشرة. وبنت تزوَّجت من عامل بِناء ذهب بها إلى أقصى الصعيد، فاختفت من حياتهم كأخيها بالقنال. واعترفت بأن عم إبراهيم تغير تغيرًا خطيرًا في حياته في الأشهر الأخيرة، وبعد أن بلغ أعقل العمر، إذ ترامت إليها أنباء عن تعلقه ببائعة ناصيب عند قهوة فؤاد، وأن تلك الأنباء سبَّبت أكثر من عراك بينهما على مرأًى من حارة الحلة كلها.
انقضَّ المخبرون على قهوة فؤاد، ثم رجعوا إلى القسم بمجموعة غريبة من جامعي الأعقاب بين الطفولة والمراهقة، كما جاءوا ببعض ماسحي الأحذية. وتذكروا جميعًا عم إبراهيم عند سماع أوصافه. قالوا إنه كان يجلس في الأشهر الأخيرة في آخر كرسي في الممر المتفرِّع عن الطريق العام، يحتسي القهوة ويرنو إلى الإنجليزية! وتبين أنهم يعنون بالإنجليزية بائعة ناصيب في السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين، كانت في الأصل جامعة أعقاب كذلك. واعترفوا جميعًا على وجه التقريب بأنهم كانوا على علاقات خاصة بها. وأن ذلك كان كذلك حتى مع بعض رواد القهوة من ذوي النفوس الحلوة المتواضعة! وكان عم إبراهيم شديد الاهتمام بها. رآها مرةً وهو عابر سبيل. ولما أدرك أنها من معالم قهوة فؤاد اتخذ مجلسه في نهاية الممر لمشاهدتها كل مساء، وكان يدعوها ليبتاع ورقة ناصيب في الظاهر، وليبقيها أطول مدة ممكنة معه في حقيقة الأمر. وفطنت الفتاة من أول الأمر إلى ولعه بها، فأفشت سره إليهم، فراحوا يتجسَّسون عليه يومًا بعد يوم مُتخذين إياه مزحة ودعابة، وهو غافل عنهم بهيامه. ويومًا أخبرتهم بأن الرجل يرغب في الزواج منها، وأنه يعِدُها بحياة سعيدة خالية من هموم العناء والتشرد. وضحكوا طويلًا! اعتدُّوها نكتة؛ لأن فكرة الزواج لا تطرق لهم بالًا من ناحية، ولأن الرجل أبعد ما يكون عن صورة العريس كما يتخيلونها من ناحية أُخرى. وقال أحدهم ساخرًا: إنه يبدو كأحدنا!
فقالت بتيه: بل هو رجل غني.
وضحكوا كرة أخرى. لكن الفتاة انقطعت عن المجيء إلى القهوة، واختفت من مظانها جميعًا!
وعلى العموم اطمأن البوليس إلى أنه قبض على طرَف الخيط. لكنه لم يكن يعلم أن الطرف الآخر في أبو قير. أجل كان عم إبراهيم في أبو قير. كان يجلس جلسةً مُريحة على الشاطئ يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهب النسائم. وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب، وعكست بشرته رواء. وارتدَتْ ياسمينة فستانًا أنيقًا وتجلَّت نضارتها كالماء المقطَّر. جلسة عائلية سعيدة مُريحة راضية، وإن لم يخلُ هواء أبريل من لسعة برد. والمكان شبه خالٍ، لا أحدَ من المصيِّفين جاء، وأصحاب البيوت من اليونانيين بعيدون عن الشاطئ. والحب يرفرف راقصًا حول الجلسة الجميلة. وتجلت في عينَي عم إبراهيم نظرة تشوف ودهشة، كأنه يستقبل العالم لأول مرة في طفولة بريئة. فما رأى بحرًا من قبل، بل إنه لم يجاوز أعتاب القاهرة طيلة حياته، لذلك بهرهُ البحر المصطخب، والساحل المترامي، والسماء الملفَّعة بالسحب البيضاء في صفاء الورد. ومضى يُصغي إلى الهدير المتقطع، وهو يبتسم ابتسامة فرحة سعيدة لا تُفارق شفتيه. بدا أنه انطلق من أغلال الهموم، وأنه يحلِّق في حلم، وأنه يستمتع بأنغام الحب الشجية التي ترددها أعماقه النشوَى. أما الفتاة فتمددت أمامه في استرخاء واكتنفها صمت راكد، حتى ثقلت جفونها بما يَشي بالملل. وكان السيد لطفي الموظف بالسكرتارية هو الذي عرَّفه دون قصد بأبي قير. كان يُصيف كل عام في ذلك المصيف ويحكي عن جماله وهدوئه وأسماكه للزملاء قبل السفر وعقب العودة، فامتلأ خيال عم إبراهيم بالمصيف، ثم عرف أخيرًا سبيله إليه. وجاءه مزوَّدًا بما يحتاجه شهر العسل من ثياب وأدوات زينة، وهدايا ولوازم المزاج والكيف. وكان يومه كله ينقضي بين الحجرة المفروشة التي اكتراها وبين الساحل، لا شاغلَ له إلا الحب والمشاهدة والتدخين والأكل والشرب والأحاديث. وأنفق في أسبوع ما لم يُنفقه من قبلُ في عام، ولم تكن المحبوبة تكف عن الطلب، وما أسرع ما كان يُلبِّي طلباتها، وكانت غريبةَ الأطوار، فحتى الخمر والمخدرات طالبت بها. وكانت صريحةً إلى حد الإيذاء، فسألته مرةً: من أين لك بالنقود؟
فقال ضاحكًا: أنا من الأعيان!
فقالت بارتياب وقد ضرَّجت الخمر وجنتيها: أنا فاهمة!
– الله يسامحك!
وضحكت ضحكةً بلهاء وهي تقول: ليس في فيك إلا أربعُ أسنان، واحدة فوق وثلاث تحت!
وضحك متسامحًا. ربما حام حوله كدر، ولكنه كان مُصممًا على السعادة، السعادة التي يُدرك أكثر من غيره كم هي زائلة! لم يكن يطمع في أكثر من الاحتفاظ بما نال من سعادة إلى حين، وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعي بإنفاق آخر مليم مما يملك. لذلك أصرَّ على السعادة، رغم ما يبدو من محبوبته من مُشاكسة. وتاقت نفسها إلى رؤية الإسكندرية لكنه رفض بإصرار، فعادت تقول بمكر موروث عن الأرصفة: قلت لك إني فاهمة!
فكان جوابه أن ابتاع لها حليةً لطيفةً. ووضع بين يديها فاكهةً وشرابًا وسجائر محرمة، وقَبل خدها المتورد، وابتسم لها في حنان قائلًا: انظُري إلى البحر والسماء، واسعَدي بما بين يديك، وليكن ريقك شهدًا!
أراد لها أن تسعد كما يسعد، وكان من قبل يسير مُطرِق الرأس، لا يرى من الدنيا إلا التراب والطين. أو لا يرى إلا شواغله وهمومه. أما هُنا فرأى ما لم يكن يراه؛ رأى الفجر في طلعته السحرية، والغروب في عجائب ألوانه التي تنساب عن الشفق، ورأى النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللامتناهية. رأى ذلك كُله بقوة الحب الخالقة حتى عجِب كيف يوجد بعد ذلك النكد!
وفي أوائل يونيو ظهرت على الساحل أول أسرة جاءت مبكرةً للتصييف، فانقبض قلب عم إبراهيم، وشعر بدنو الشقاء كالأجل. ستوَلي السعادة قريبًا وإلى الأبد. وزاده ذلك إصرارًا على السعادة المُتاحة، فأشعل سجائره تباعًا. ويومًا كان عند البقال، فلمح في آخر الطريق السيد لطفي الموظف بالسكرتارية بصحبة سمسار من سماسرة المساكن. سقط قلبه خوفًا، فمضى مُسرعًا إلى عطفة جانبية، ثم تسلل منها إلى حُجرته. جاء لطفي ليؤجر مسكنًا لشهرَي يوليو وأغسطس كعادته كل صيف. وما هي إلا أسابيع حتى يجوب الشاطئ بالطول والعرض، ولا يبقى له هو مكان. إن يد الخيبة تطرق بابه ولن يجد له مكانًا. سينقضي الحلم مثل هذه السحابة المُسرعة. وستغادره محبوبته كزفيره. محبوبته التي يُحبها رغم تململها وحدَّتِها ولسانها المفلفل. يُحبها، ويشكر لها ما وهبته من سعادة، ونفخت فيه من روح الشباب. فليسامحها الله وليُسعدها الله. ووجد نفسه في حجرته منفردًا، فراح يعد ما تبقَّى من النقود ثم لفَّها حول صدره. وسمع حركة عند الباب، فالتفت نحوه فرآها قادمةً. تساءل ترى هل رأته؟ وقرأ في عينيها نظرةً ماكرةً؛ لذلك طار النوم من عينيه عندما استلقى إلى جانبها على الفراش. ومضى الليل في أرَق وفكر، وسمع صوتًا حنونًا في أعماقه يقول له: أوهبها النقود وسرحها. فقال له: لم تزل لي أيام. فقال له: أوهبها النقود وسرحها. الطفلة الجميلة المُشردة! من أبوها؟ .. مَن أمها؟ قالت له مرة بكل بساطة: لا أحدَ لي في الدنيا!
كذلك هو! وأحسَّ بشيء يلمسه كثعبان في الظلام. تركز إحساسه في يدها المتلصِّصة. تسعى إلى سرقته! ألذلك بالغت في إنهاكه الماكرة حتى يغرق في النوم؟! يا للتعاسة! وقبَض على يدها. ندَّت عنها شهقة في الظلام، ثم ساد الصمت. وتساءل بحزن: لمَ؟
ثم مُعاتبًا: متى رفضت لكِ طلبًا؟
وهوَت على يده فعضَّتها بوحشية، حتى تأوَّه ودفعها بقوة. كانت أول حركة قاسية تبدر منه نحوها. ووثب إلى مفتاح الكهرباء، فأضاء الحُجرة. نظر أولَ ما نظر إلى معصمه المُلطخ بالدم، وقال: صغيرة، وبك هذا الشر كله؟!
رمقته بنظرة مستخزية لحظة، ثم ولَّتْه ظهرها. وتساءل: كيف تسعَيْن إلى سرقة مالك؟
فقطبت تقطيبةً نمَّت عن حنَق وضيق، لكنها لم تنبِسْ. فعاد يقول: لا مطمعَ لي في أكثرَ مما نلت!
وضحك ضحكةً مريرةً وقال: ليجزِكِ الله عني خير الجزاء!
وفي الصباح أعطاها أكثر ما تبقَّى لديه من مال، وحزم متاعها ووصلها إلى المحطة.
ومن ثم أقفرت أبو قير. وتغير الحال رويدًا وتقاطر المُصيفون. وانتقل إلى الإسكندرية ليَهيم على وجهه دون مبالاة. ومرة وجد نفسه أمام جامع أبي العباس فدخل. صلى ركعتين تحية للمسجد، ثم جلس موليًا وجهه نحو الجِدار. كان يُعاني حُزنًا جليلًا ويأسًا رائعًا. وناجَى ربه همسًا: لا يمكن أن يرضيك ما حصل لي، ولا ما يحصل في كل مكان. صغيرة وجميلة وشريرة أيرضيك هذا؟! وأبنائي أين هم؟ .. أيرضيك هذا؟ والعالم يُطاردني لا لشيء إلا أنني أُحبك فهل يُرضيك هذا؟ وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة .. أيرضيك هذا؟ وأجهش في البكاء. ولما أخذ يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادي: «عم إبراهيم!» فالتفت مندهشًا بلا إرادة، فرأى جبَّارًا يتقدم منه في ظفَر وتشفٍّ، فأدرك من منظره أنه مُخبر فتوقف مُستسلمًا. قبض الرجل على منكبه، وهو يقول: أتعبتَنا في البحث عنك .. الله يتعبك!
ولما وجده — وهو يسوقه أمامه — مُستسلمًا مُحمر العينين، قال: تقدر تقول لي ماذا دفعك إلى تلك الفعلة، وأنت في هذا العمر؟!
ابتسم عم إبراهيم، ثم رفع أصبعه إلى فوق وهو يغمغم: الله!
ندت عنه كالتنهُّدة …