مندوب فوق العادة
كنت أراجع الصحف اليومية، وهو ما أبدأ به عملي عادة كل صباح، عندما فتح الباب دون استئذان عن رجل غريب. كان هائل المنظر لطوله وضخامته، فخم البدلة، وطربوشه الطويل الغامق يُضفي على وجهه الأبيض نصاعة، وفيه وجاهة تؤكدها نظارة كحلية وشارب غزير مربع كساه المشيب. كان أيضًا في الستين أو نحوها، لكنه تقدم من مكتبي في حركة قوية ثابتة قابضة يمناه على منشة عاجية بيضاء، وهو يقول بصوت حلقي غليظ: صباح الخير، مكتب الصحافة؟
فأجبته ولما أفِقْ من صدمة اقتحامه: نعم، صباح النور!
– أظنه تابع لمكتب الوزير؟
– نعم!
فأخرج حافظته، واستخرج منها بطاقة أعطاها لي. نظرت فيها فقرأت:
إسماعيل بك الباجوري
مستشار برياسة مجلس الوزراء
انفجرت «الرياسة» في رأسي، ولم يكن قد مضى على خدمتي إلا عام أو دون ذلك بأشهر، ووقفت باحترام وأنا ابتسم كالمعتذر، وقلت بتأثر ظاهر: تفضل بالجلوس يا أفندم، أنا في خدمتك!
لكنه مشى مُوغلًا في الحجرة الصغيرة المستطيلة، حتى وقف وراء النافذة في نهايتها يطل على ميدان الأزهار، ثم عاد إلى مكتبي وهو يسأل: ألم يحضر معالي الباشا؟
– كلا، معاليه يحضر حوالي العاشرة.
– ولا مدير مكتبه؟
– المدير يحضر حوالي التاسعة.
فانحرف جانب فيه الأيسر في امتعاض، ثم مد يده إلى سركي الوارد، وراح يفره بسرعة ثم قال: خانات كثيرة لم تسدد، هاك شكوى لم يردَّ عليها منذ عشرين يومًا!
فانقبض صدري وأنا أتساءل على وجه مَن أصبحت اليوم، ثم قلت: إني أوزع الشكاوى المنشورة في الصحف على الإدارات المختصة في يوم ظهور الجريدة، والإدارات هي التي تتأخر في الرد.
– ولمَ لا تستعجلها؟
– أستعجلها طبعًا، ولكن بعض الردود يستدعي التحرير إلى التفاتيش في الأقاليم.
فهز رأسه في امتعاض، ثم أشار إلى الباب وهو يقول بلهجة آمِرة: اتبعني من فضلك.
وسار في ردهات الوزارة، وأنا أسير إلى جانبه متأخرًا عنه خطوة من باب التأدب، من ردهة إلى ردهة، حتى أخذنا في طريق العودة وهو لا يمسك عن نثر الملاحظات: مكاتب خالية، أين الموظفون؟! حتى السُّعاة، والفراشون كالذباب الغائم! ما هذه الزكائب المحشوة بالأوراق؟! وهذه الزبالة؟ وتلك الأكداس المكدسة من الملفات كالمقابر؟! ورائحة الزيت والبصل؟ ما شاء الله .. ما شاء الله!
وجعلت أُبدي عن أسفي بهزِّ الرأس والتبسم الحزين، وأنا أسألُ الله أن يُنهي اليوم على خير، وإذا به يقول: كل شيء في غير محله! .. لو يعلم دولة الباشا!
وعدنا إلى الحجرة، فوقفت وراء مكتبي على حين جلس على الكنبة في شبه استلقاء، ثانيًا ساقه فوق ركبته، والظاهر أنه رحم ارتباكي فقال لي: اجلس!
فجلست متشجعًا بنبرة رقيقة انتزعتها انتزاعًا من غلظة صوته، ومضى يتفحَّصني من وراء نظارته الكحلية في غير مبالاة، ثم سألني: مِن الجامعة؟
– نعم.
– لمَ توظفت؟
فلم أحِرْ جوابًا. فقال: قل لأعيش! كلنا يُريد أن يعيش، لكن الحياة تجري على غير ما يجب!
فخفضت رأسي موافقًا، ولا شيء أحب إلي من أن يحضر مدير المكتب ليخلصني من موقفي الرهيب.
– أنا مكلف بعمل بحث شامل، مهمة شاقة، ولكن هل ثمة فائدة؟
تأثرت جدًّا لتعطفه بالبوح بمهمته الخطيرة، وازددت في الوقت نفسه حرجًا فقلت: ستجيء الفائدة حتمًا على يديك!
فتثاءب لدهشتي، وحل صمت مقلق، وكان يبدو عظيمًا جدًّا، ولعله ضاق بالصمت والانتظار، فراح يتحدث وكأنما يُحدث نفسه هذه المرة: على المرء أن يُنشد الطمأنينة والصفاء، ولكن كيف يتأتى هذا؟!
فقلت وأنا في شك من سلامة تدخلي في الحديث: ربنا يهب سعادتك الصحة!
فأنزل ساقه عن ركبته قائلًا: الصحة! ما هي الصحة؟ هي كمال التوازن والتوافق والتعاون في الكائن، ولكن هيهات أن تتحقق إذا كانت الصحة العامة معتلة، خذ مثلًا صحة الوزارة! خانات لم تسدد، موظفون لا يحضرون، روتين، وما الرأي فياغرا هذا الغلاء الفاحش؟
فقلت وأنا أتابعه بجهد وأي جهد: شيء لا يُطاق!
العالم أيضًا صحته معتلة، هتلر ورم خبيث، والحلفاء ورم آخر، والأوقاف عندكم لماذا يستحق بعض الأوباش هذه الألوف المؤلفة؟!
فقلت رغم دبيب الدوار في رأسي: فلنأمل خيرًا ما دام دولة الباشا مهتمًا بهذه المسائل!
فنهض بغتةً وهو يقول: ولكن متى يأتي الوزير؟ .. الساعة العاشرة! ومتي يأتي مدير مكتبه؟ .. الساعة التاسعة.
ونظر في الساعة ثم جلس مكفهرَّ الوجه، واتجهت عيناه نحو التقويم المثبت بالجدار، الأربعاء ٢ يونيه، ٢٩ جمادي الأولى، ٢٥ بشنس، وتساءل في ملل: كم ورقة يجب أن تمضي حتى تصبح الصحة على ما يُرام؟
ثم حدجني بنظرة متحرشة هرب لها قلبي، ولكن سرعان ما حلت محلها نظرة دعابة وهو يسأل: ماذا تريد من الدنيا؟
فارتبكت مؤثرًا الصمت، ولما آنست انتظاره لجوابي تكلمت يدي بإشارات مبهمة سابقة لساني، ثم قلت: أشياء كثيرة!
– تكلم!
فاستجمعت شجاعتي قائلًا: مرتب حسن.
– والصحة؟
– لا بأس بها!
– وكم من النقود تُريد؟
– ما يكفيني.
– يكفيك لأي شيء؟
– حسبي الضروريات، والكماليات الهامة، وأن أتمكن من تكوين أسرة.
– والآخرون ألا ينبغي لهم ذلك أيضًا؟
– نعم، لمَ لا؟!
– عند ذاك ترتاح النفوس من الانفعالات الخبيثة.
فقلت بارتياح حقيقي: نعم يا أفندم.
فقال بحدة ساخرة: كلا! لا يكفي هذا كله، سيظل هناك هتلر، وتشرشل أيضًا، هذه هي العقدة المحيرة، لقد كلفت بالبحث، ولكنني كلما وجدت حلًّا لمشكلة عرضت مشكلة أخرى، وكلما أزلت دُمَّلًا ظهر دُمَّل جديد، كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم كله!
فغمغمت بذهول: العالَم!
– نعم، العالم! راقب آثار الحرب في بلادنا إن كنت في حاجة إلى دليل، أمور كثيرة معقدة، ومشاكل لا حصر لها، فكر في أن تنعم بالجبال في سويسرا؛ فسيقال لك إنها مهددة باجتياح الجيوش الألمانية، أو أن تستظل بشجرة بوذا في الهند؛ فستجد جوًّا مشحونًا بالتعصب والانفجار، وقد تتطلع إلى زيارة موسكو، ولكنك لن تعود، والغلاء؟ ألم يبلغ حدًّا لا يتصوره عقل؟!
ولهث خيالي في إعياء، ولم أعد أفهم شيئًا، ولكني عكفت على النزر اليسير الذي وجدت له معنًى فقلت: الغلاء فاحش جدًّا، والطماطم نادرة الوجود، أما البطاطس فبات أسطورة.
ولاح في نظرته الكحلية تفكير، وشيء من الحزن والفتور، فتساءل: أتحل هذه المشاكل إذا حددنا المرتبات؟
– أي مرتبات يا فندم؟
– يصدر مرسوم بأن أعلى مرتب لا يجوز أن يزيد عن كذا.
– كذا؟
– ألا تنتشر تبعًا لذلك الطماطم؟ ويظهر البطاطس، وتهبط أجور المساكن؟
– ولكن الدنيا ليست موظفين فحسب، هناك تجار، ورجال صناعة وأصحاب أراضٍ، وهناك أيضًا الأجانب!
فهز رأسه كالمتعب وقال: ويوجد هتلر وموسوليني وتشرشل، وأكاذيب لا حصر لها، وصرخات زنوج تصم الآذان.
يا له من شخص غريب، ليس له جبروت المستشارين، ولا جلال الرياسة المخيف، بل وفيه جانب لطيف لا يكاد يفصله عن … ماذا أقول؟ عن التهريج إلا خطوة؟! بيد أني قررت أن أستمسك بالحذر الشديد حتى النهاية. وقلت برقة ورجاء: هذه أمور محيرة، ولا سبيل إلى حل مشاكلها، أو أنه سبيل طويل لا يُعلم مداه، ولكن هناك سبيل ميسور قريب المنال لو أقنعت صاحب الدولة مثلًا بزيادة علاوة الغلاء؟!
فحدجني بنظرة استغراب وهو يقول: أتريد أن تحول مهمتي الخطيرة إلى مجرد مسعًى شخصي لتحسين حالتك؟
فاحترق وجهي بالخجل وقلت متلعثمًا: لا أقصد ذلك، ولكن …
فقاطعني بقوة: ولكن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا ولا شيء غير أنفسنا .. ونظر في الساعة وهو يقول متسخطًا: الوزير في الساعة العاشرة، مدير المكتب في التاسعة، ضاع سُدًى جميع ما قصدته من التبكير!
وتذكرت بغتة واجبًا فاتني لشدة ارتباكي، فهتفت: لم أطلب لسعادتك القهوة!
ومددت يدي نحو الجرس، ولكنه أوقفها بحركة آمرة وساخطة، وقال بحدة: نحن في مقبرة لا قهوة!
ثم بشيء من الهدوء: قلت إن عيبنا أننا نفكر في أنفسنا، ولا شيء غير أنفسنا، الحق أن لي من القدرة ما أستطيع به أن أبلغ الصفاء، عليَّ فقط أن أعتزل العالم وهمومه، وهو صفاء حقيقي أسمع في سكونه الأبيض موسيقي النجوم، عليَّ فقط أن أعتزل العالم وهمومه، لكني لا أستطيع، لا أريد، للهموم أيضًا أنغامها التي يلتقطها القلب، فإما صحة عامة أو لا صحة على الإطلاق. هذه هي عقيدتي النهائية، ولذلك كلفت بالمهمة!
وراح يعبث بشعر المنشة فداخلني شعور بالحيرة، وتساءلت عما يعني الرجل، ماذا وراء هذه النظارة الكحلية؟ وعند ذاك فتح الباب وظهر الساعي، وهو يقول لي كعادته: البك المدير وصل.
واستأذنت من المستشار، فمضيت من فوري إلى المدير، وقلت له: إسماعيل بك الباجوري المستشار برياسة مجلس الوزراء في مكتبي.
وانتفض المدير واقفًا وهو يتساءل: إسماعيل بك الباجوري؟
وفي اللحظة التالية كان يُصافحه باحترام بالغ مقدمًا نفسه إليه، ثم ذهبَا معًا إلى حجرة مدير المكتب. ولبثت وحدي أفكر، ولما يذهبْ عني روع المقابلة وشجونها.
وواصلت عملي في مراجعة الصحف وأنا مشتت الفكر، لا يتركز انتباهي في شيء مما بين يدي. ومضت نصف ساعة أو نحوها، وإذا بالباب يفتح ويدخل مدير المكتب مهرولًا. أقبل نحو التليفون وهو يسألني: هل تعرف هذا المستشار؟
فأجبت نفيًا. وأدار قرص التليفون: آلو، رياسة مجلس الوزراء؟ أنا علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، من فضلك هل يوجد في الرياسة مستشار اسمه إسماعيل الباجوري؟
– …
– سعادتك متأكد يا فندم! عندنا شخص بهذا الاسم وهذه الصفة، كما هو واضح في بطاقته.
– …
– آسف على إزعاجكم، وسأفعل ما أشرتم به.
ووضع السماعة دون أن ينظر إلى وجهي الضائع، ثم أدار القرص ثانية: آلو، سعادتك المأمور؟
– …
– علي عباس مدير مكتب وزير الأوقاف، عندنا شخص ينتحل شخصية مستشار بالرياسة، يتحدث حديثًا غريبًا ويطلب مقابلة معالي الوزير، وبالنظر للظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد؛ فأخشى أن يكون من الإرهابيين.
– …
– الواقع أن مظهره مخالف لهذا النوع من الشباب، ولكني أخاف المفاجآت.
– …
– في انتظارك يا فندم، أرجو السرعة.
وأعاد السماعة وغادر الحجرة وأنا في حال، ووضح الأمر في القسم. لم يكن الرجل إرهابيًّا، ولكن كان به لطف. واستُدعيت أسرته، واتخذت الإجراءات المتبعة، وقد سمعته وهو يقول للمأمور في كبرياء غاضب: الحق عليَّ، ما كان أسهل أن أنعم براحة البال، والحق علي!