صورة قديمة
فكرة ومضت فجأةً، فوعدته بالخلاص من حيرته. ومضت في رأسه عندما مرَّت عيناه بالصورة المدرسية القديمة. كان يُعاني حيرة البحث عن موضوع جديد للمجلة، كما ينبغي لصحفي مطالَب بجديد كل يوم. وفجأة ومضت فكرة، وكانت الصورة معلقة بمكانها من حجرة الجلوس منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لا تنطق ولا توحي بشيء ولا تكاد تُرى، ولكن بدا أنه آن لها أن تتكلم. ركز انتباهه بحماس في الصورة التي كاد يمحوها طول البقاء. صورة السنة النهائية بالقسم الأدبي من الجيزة الثانوية عام ١٩٢٨م، ما الرأي في دراسة صحفية عن أصحاب هذه الوجوه الفتية؟ المدرسة والحياة، ١٩٢٨ و١٩٦٠م؟ فكرة طيبة من ناحية المبدأ، فهل يستطيع أن يظفر بحقائق تصلح أساسًا لبحث طريف؟! كم من أعوام مضت دون أن يلقي نظرةً على هذه الصورة! وكم من معالم فيها انطوت إلى غير رجعة، كهذه الطرابيش، وهؤلاء المدرسين الإنجليز والفرنسيين! وكانت مجرد نظرة إلى أي وجه كافية غالبًا لتذكيره بصاحبه، وإن غاب عنه اسمه، وإن جهل كل الجهل مصيره. ولا أحد بينهم تربطه به اليوم علاقة، حتى ولا هذا الفتى المثير الذي جاوره في المسكن زمنًا طويلًا، وتفحص الوجوه مبتدئًا بالصف الأعلى، فمر بوجهين لا معنى لهما، ثم وقف عند فتًى كان من أبطال كرة القدم، ولقي حتفه في مباراة بين الجيزة ومدرسة أخرى، حادث لا يُنسى، وتراءى ضحيته في الصورة برَّاق العينين معتدًّا بنفسه منحرفَ جانبِ الفم في شبه ابتسامة، وهو اليوم عظام. وواصل مسيره من وجه إلى وجه حتى وقف عند وجه نحيل مستطيل، ذكره بموقف صاحبه فوق سلم سكرتير المدرسة، وهو يخطب خطبةً ملتهبة داعيًا الطلبة إلى الإضراب احتجاجًا على تصريح ٢٨ فبراير! وإلى جانبه مباشرة برز وجه وجيه يحمل طابع الأناقة والسلالة الممتازة، فورد اسم الأسرة على ذاكرته بسرعة — الماوردي — فسجله في مذكرته واثقًا من سهولة الاهتداء إليه، فضلًا عن أنه كان نجمًا لامعًا في الحياة السياسية منذ عشرة أعوام، فهذا أول عنصر هام في مشروع بحثه. وجرت العينان على الوجوه واحدًا بعد آخر، فلم ينطق وجه أو يبين حتى بلغَتَا وجهًا ليس من السهل نسيانه، فهو رمز التفوق المدرسي بكل سحره، أول الفصل، أول كل فصل، وأول المدرسة، الأورفلي وبفضل التفوق وغرابة الاسم بقي في الذاكرة. وفي كلية الحقوق كان له شأن، ثم عُين في النيابة العمومية أيام كان التعيين فيها حدثًا هامًّا، سيسهل عليه الاهتداء إليه بالرجوع إلى وزارة العدل، وهو ثاني عنصر هام في دراسته، الأورفلي بعد الماوردي. وتحدَّاه وجه جديد بذكرى دامية، مشاجرة نشبت بينه وبين صاحبه في حوش المدرسة، وإن لم يذكر من أسبابها شيئًا على الإطلاق. وتتابعت الوجوه صامتةً صمت الحجر حتى جاء الوجه المُثير، الجار القديم، حامد زهران مدير شركة «الهرم الدرج». ابتسم ابتسامةً باردةً. هذا هو فتى العصر، ما زال يذكر بوضوح كيف ترك الجيزة الثانوية ساقط بكالوريا، وكيف التحق بخدمة وزارة الحربية بالكفاءة، ولم تنقطع علاقته به إلا منذ عشرة أعوام حين ترك هو عطفة أبو خوذة، بعد أن فتح الله عليه في الصحافة. وترامت إليه أخبار عن استقالته من الحكومة؛ ليشغل وظيفة سكرتير لمدير شركة الهرم المدرج، ثم علم آخر الأمر بتولِّيه منصب المدير بمرتب ٥٠٠ ج.م في الشهر. يا له من معجزة، سواء في طفرته الجنونية أو في تفاهته التي لا يشك هو فيها! على أي حال سيكون عنصرًا هامًّا وذا دلالة في دراسته. دراسة طريفة كما يأمل، وستعتمد على تحليله واستنباطاته أكثر من اعتمادها على أحاديث أبطالها المجهولين؛ إذ إن الطريف حقًّا ليس أشخاصهم، ولكن دلالتهم الاجتماعية. ومهما يكن من أمر فليؤجل تقرير الصورة النهائية للبحث حتى يجمع موادَّه.
وبدأ بطلب مقابلة عباس الماوردي في عزبته بقليوب، بعد أن علم بإقامته فيها عن طريق دائرة الماوردي بميدان الأزهار. وفي الموعد المحدد كان يقطع الممشى المحفوف بأُصص الورد على الجانبين إلى السلاملك. كان القصر تحفةً من طابقين وسط حديقة، مساحتها فدَّانان اكتظَّ أديمها بأشجار المانجو والبرتقال والليمون وأعراش العنب ومربعات ومثلثات ودوائر لا عدَّ لها من الأزهار والخضرة والجداول. وهو قائم كالمارد وسط فضاء من الحقول يترامى حتى الأفق، يغشاه الصمت والهدوء والامتثال، وتتراءى عن بُعد فوق سطحه أجساد منحنية، بدت ضائعة في النبات والفضاء. وأقبل عليه عباس الماوردي يرفل في عباءة فضفاضة، بوجه ممتلئ مورد وشعر لامع منسرح فوق رأس مستدير كبير، وفي طوله وعرضه امتداد هائل جعله أشبه بتمثال متلفِّع بستار قبل إزاحته. حدجه بنظرة باسمة، لم تخلُ من دهشة حذرة واستطلاع، وقال مُرَحبًا: أهلًا وسهلًا بالأستاذ حسين منصور.
وتصافحا ثم جلسا وهو يقول: إني أُتابع نشاطك الصحفي بإعجاب، وأذكر به زمالتنا المدرسية وإن كنا لم نلتقِ منذ افتراقنا في الجيزة الثانوية.
فقال حسين باسمًا: تقابلنا مرة خطفًا في البرلمان عام ١٩٥٠ أو ١٩٥١م.
فتساءل بحاجبيه «حقًّا؟» واستسلما مليًّا لذكريات المدرسة، ثم فاتحه بمقصده من الزيارة.
فقال عباس برجاء: أليس المستحسن أن تتركني في حالي؟!
ولكن حسين قال متحمسًا: لست من رأيك، هي دراسة قد تكون خطوة أولى لمتابعة جيل بأسره، ولن أنشر كلمة عنك قبل الرجوع إليك، أعدُك بهذا، ولعلي أستغني عن ذكر الأشخاص كليةً.
لم يعترض وإن لم يبدُ متحمسًا. ولم يعلن وجهه عن شيء حتى تساءل حسين منصور بقلق عما وراءه. ترى هل آلمه الموقف وما أثار من ذكريات؟! مهما يكن من أمر ثرائه اليوم؛ فقد كان بالأمس مليونيرًا بلا جدال، وكان نجمًا سياسيًّا بازغًا، نجح في الانتخابات بالتزكية بفضل جاهه، ورشحته الأقاويل للوزارة في أواخر ١٩٥٠م.
– إني أُقيم هنا بصفة دائمة، ولذلك أرسلت ابني الجامعي إلى عمته بالقاهرة، ولا أكاد أُغادر العزبة إلا فيما ندر!
ولانت فرامله فاستفاض حديثه. قال إنه يزرع أرضه بنفسه مستعملًا أحدث الآلات الزراعية، وإنه يُعنى عنايةً خاصةً بتربية الماشية والدواجن، وإنه أعد لأوقات الفراغ مكتبةً كبيرة، واختار ركوب الخيل هواية ورياضة. إنه قابع في مملكة صغيرة استغنى بها عن العالم كله، ويود لو يمضي عمره في حدودها لا يجاوزها. وإذا بالآخَر يسأله عن الفلاحين!
– أنا فلاح أيضًا، وكذلك كان أبي، ولا أجد صعوبةً في التعامل معهم، إنهم قوم طيبون.
وعاد حسين يتساءل، ولكنه عدل عن الموضوع بلباقة: ألم تُرشح نفسك للاتحاد القومي؟
فقال بتوكيد: اقترح عليَّ كثيرون ذلك، ولكنني سعيد هكذا!
تخيل حسين تلك الحياة الجامعة للفطرة والحضارة معًا، المُنعمة بكل طيب، المنطوية في عزة وكبرياء، المتعزية باللذائذ الدنيوية والفكرية، الهائمة بالليل والقمر والبار الأمريكاني والغرزة البلدي.
– وأصدقاء الماضي؟
– مَن؟! الخاصة يمضون عندي نهاية الأسبوع، أما الآخرون فلا أدري عنهم شيئًا.
وأبى أن يتكلم كلمةً واحدة عن أمر من الأمور العامة، فلم يُلح عليه وسأله: ألا تشتاق أحيانًا إلى السينما مثلًا؟
– عندي صالة عرض خاصة، لا ينقصني شيء!
وعرض عليه الصورة المدرسية القديمة؛ لعله يدلُّه على أحد منها فتصفحها باسمًا. ثم أشار إلى وجه قائلًا: عليُّ سليمان، أُصيب برصاصة في صدره على عهد صدقي، وبسببها عُين في السلك السياسي بعد تخرجه، ثم خرج أخيرًا في التطهير.
وأشار حسين إلى صورة حامد زهران فهز الآخر رأسه نافيًا، فقال: حامد زهران، مدير شركة، ٥٠٠ ج. م. شهريًّا!
فتساءل بحاجبيه: «حقًّا؟» ولم ينبس، والتمعت عيناه بنظرة ارتياب حائرة، فأنهى الآخر الحديث.
وفي وزارة العدل اهتدى إلى مقر أول المدرسة الأستاذ إبراهيم الأورفلي المستشار بالجنايات. رصده أمام بناء المحكمة حتى خرج متبوعًا بالحاجب الذي راح ينادي التاكسي، فأقبل نحوه مبتسمًا. رمقه المستشار بنظرة داهشة، ثم ما لبث أن تعرف عليه، فمد إليه يده مُصافحًا. ولما أدرك مقصده بصفة أولية دعاه إلى الغداء معه، فحملهما التاكسي إلى مسكنه بشارع ماهر. دخلا مسكنًا محترمًا لكنه عادي في جملته مما أدهش حسين منصور، ولكن عندما تحلَّق السفرةَ معهما ثمانية من الأبناء متقاربي السن زايلته الدهشة.
– نشاطك الصحفي يلفت الأنظار حقًّا!
فشكره وهو يسترق النظر إلى جسده النحيل وعينيه اللامعتين المتعبتين. كم تمتع في المدرسة بصيت التفوق الساحر! اليوم لا يعلم باسمه أحد خارج دائرة القضاء. ولما ألمح على مهمته بشيء من التفصيل قال الأورفلي بسرعة: لا شأن لعملي بالصحافة! عندما كنت رئيس نيابة، وفي أثناء التحقيق في قضية مشهورة، حاولت الصحافة دفعي إلى الأضواء، ولكنني أبيت عليها ذلك، الشهرة لا تعني شيئًا للقاضي، والمتهمون إما أبرياء يجب صيانتهم أو مذنبون تعساء لا يجوز التشهير بهم!
فقال حسين بثقة: لا تخشَ النشر، إني أقوم بدراسة عن المدرسة والحياة، وإذا شئت رمزت إلى اسمك بحرف، وقد أستغني حتى عن هذا!
– وهو الأفضل، ولكن ماذا تُريد على وجه التحديد؟
فحدجه بنظرة إغراء صحفية، وهما يحسوان القهوة في الصالون منفردَيْن، ولم يبقَ من الأولاد إلا طنين يقتحم باب الحجرة المغلق من آنٍ لآن.
– أُريد أن أُسجل رأيك في جيلنا وفي هذا الجيل، أهم القضايا التي فصلت فيها، فلسفتك عن عملك والحياة.
ومضى يُفصح عن آرائه في تمهل وفي شيء من الحياء! .. كان متحيزًا للجيل الماضي كأفراد، وللحاضر كفلسفة. وبدا مُعجبًا بمهنته راضيًا عنها رغم ما تقتضيه من جهد متواصل، ثم أخذ يروي عجبًا من القضايا التي صادفته.
– أنت كنت الأول علينا دائمًا!
– وكنت أول البكالوريا في القطر كله.
ففكر مليًّا، ثم قال: أرى في وجهك صفاء غريبًا رغم كل شيء!
– رغم ماذا؟
فقال برقة: إن مَن يحكم بالإعدام على إنسان …
فقاطعه بتوكيد: ما دمت مرتاح الضمير؛ فإني لا أعرف للقلق معنًى!
– الحق أن صفاءك غير عادي!
فضحك عاليًا وهو يقول: اعتبرني من الصوفية إذا شئت!
فتجلت الدهشة في عيني حسين، وتوثب إلى مزيد من المعرفة، ولكن سرعان ما بدا على الآخر ما يشبه الندم على ما فرط منه، وأبى أن يزيد كلمةً واحدة.
– يبدو أن عملكم شاقٌّ حقًّا.
– حياتنا تفنى بين أوراق القضايا.
واضح جدًّا أنه مرهق بالعمل، كما كان وهو طالب، رهبنة نبيلة وكفاح مُتصل، وثمانية أولاد، وتصوف!
– مع ذلك يرى الموظفون في كادر القضاء جنة النعيم!
فقال مبتسمًا: لنا الجنة!
وعرض عليه الصورة المدرسية، فنظر فيها باهتمام، فأشار حسين إلى حامد زهران متسائلًا: ألا تذكر هذا الطالب؟
– كلَّا!
– حامد زهران، من ساقطي البكالوريا، مدير شركة، ٥٠٠ ج. م. شهريًّا.
فحملق في الصورة كأنما يُحملق في طبق طائر، فقال حسين: ظننت الخبر لا يهز الصوفي!
وانطلقا معًا يضحكان. وسأله عمن يعرف في الصورة من زملاء الدراسة، فجرى ببصره عليها، ثم وضع إصبعه على وجه في الصف الثاني، وهو يقول: محمد عبد السلام، كاتب بالنيابة، وعمل معي أول عهدي بالخدمة في أبو تيج، ولا أدري الآن عنه شيئًا!
واضطر إلى السفر إلى المنيا؛ ليقابل محمد عبد السلام في مقر عمله الأخير. بدا له أكبر من سنه بعشرة أعوام على الأقل، ووجد في هيئته الرثة وشعره الأبيض الأشعث وثنيتيه المفقودتين ما يذكِّر بالخرابات. ولم يتذكره الرجل ولم يقتنع بدعواه حتى أطلعه على الصورة القديمة. وجلسا في حجرة استقبال سائبة المفاصل في شقة قديمة مكتظَّة بالذرية.
– لا أعرف أحدًا في هذه الصورة، طول مدة خدمتي، وأنا أتنقل من بلد إلى بلد.
ووجد حسين في قلبه نغز ألم، وشعر نحو الرجل برثاء واحترام عميقين، وسأله عن درجته، فقال: الدرجة الخامسة منذ عام، اكتب هذا يا أستاذ، ويا حبذا لو تنشر صورتي مع الأولاد، ست بنات وأربعة أولاد، ما رأيك؟ أليس من الجائز أن يكون الله قد أرسلك لي فرجًا بعد الشدة؟!
ووعده بكل خير! واستدرجه للحديث عن ذكريات العمل، ورجاه أن يكتب له بالتفصيل ميزانية أسرته في عام مثلًا. وأشار إلى صورة حامد زهران قائلًا: هذا الزميل القديم يتقاضى اليوم ٥٠٠ ج. م. شهريًّا.
فذُهل الرجل حتى خُيل إليه أن وجهه ازداد شحوبًا، وتساءل: ماذا يعمل؟
– مدير شركة.
– ولكن الوزير لا يقبض نصف هذا القدر!
– هذا شيء وذاك شيء!
– فتساءل في دهشة: كيف وفيمَ يُنفقها؟
فابتسم حسين ولم يجب، فسأله الآخر: وما شهادته؟
– الكفاءة!
– يا خبر أسود، أنت تمزح.
– كلا، العبرة ليست بالشهادة.
– العبرة بماذا؟ دُلني كيف يصل إنسان إلى هذا الحظ؟ .. ها هو يقف معي في صف واحد في الصورة، فخبرني كيف بلغ هذه المرتبة؟!
فقال ملاطفًا: هنالك شيء اسمه الحظ.
فهز الآخر رأسه في حزن وقال بيقين: لا يوجد عمل في بلادنا يستحق هذا القدر من المال، وإلا فلماذا لم نصل إلى القمر؟
وضحك حسين قائلًا: على أي حال أنتم أحسن حالًا من الملايين.
فقال محتجًّا: الملايين! أنا عارف هذا، ولكن حامد زهران هو المشكلة.
ولم يجد صعوبة في الاتفاق على مقابلة مع جاره القديم حامد زهران. ولما كانت الشركة ليست بالمكان المناسب للمقابلة الحرة؛ فقد دعاه إلى مسكنه بالدقي. وتطلع حسين إلى الفيلَّا القائمة في أحضان الصفصاف بإعجاب، وسرعان ما ذكرته بقصر عباس الماوردي في عزبة قليوب، الهندسة الرائعة والحديقة السابغة وأنفاس العز العطرية. تُرى أي صورة يتراءى فيها اليوم ذلك الجار القديم؟ .. فإنه لا يحتفظ منه إلا بالعود النحيل والوجه الشاحب، العابث في ضحكه، شبه الجائع، وهي صورة لا تتلاءم بحال مع هذه الفيلَّا المثيرة. الله يرحم أيام زمان يا حامد، أيام الشلن تقترضه بشتى الحيل، ولا ترده ولا بالطبل البلدي، ليت الزمن لم يفرِّق بيننا، إذن لرأيت عن كثب كيف تقع هذه الزلازل البشرية!
– أهلًا حسين، أين أنت يا رجل؟
كان في كامل زيه كالكبراء في بيوتهم، وكان الصالون يخطف الأبصار بالأضواء والمرايا والتحف، أما هو فقد اخضرَّ عوده وجرى فيه ماء الحياء.
– أنا أحتج على هذه الزيارة النفعية، كان يجب أن يكون هذا البيت بيتك، حتى التهنئة الواجبة لم أتلقَّها منك في حينها!
وارتبك حسين قليلًا، لكنه قال بلباقة: لن يشفع لي عذر! .. لذلك أطلب العفو!
وضحك حامد قانعًا. ونسِيَا في حديث الذكريات الحاضر وقتًا غير قصير، ثم تحفز الصحفي للعمل. وتجنب حسين الأسئلة التي قد يُشتَمُّ فيها تعريض أو سخرية، قاصرًا تحرياته على النجاح وكيف تيسر له، وعن سياسته في الشركة وآرائه في جيله … إلخ.
– كانت تربطني بالمدير السابق علاقة العمل، قبل أن يتولى إدارة الشركة فاختارني سكرتيرًا له ثم مديرًا لمكتبه، فهو قد اختارني عن خبرة سابقة.
خبرة سابقة! الحق أنك فتحت بيتك القديم نادي قمار للسادة من رؤسائك، نادي قمار وغُرزة أيضًا، ولكن من المقطوع به أنك ذكي نهَّاز للفرص!
– وفي مدة خدمتي في مكتبه درست كل كبيرة وصغيرة مما يتصل بالعمل، وتعرفت على جميع الكبار من المتعاملين مع الشركة.
– في هذا يوجد الفرق بين العبقري والعادي من السكرتاريين.
– ومديري هو الذي رشحني للوظيفة عند نقله منها إلى الخارج.
– نِعْم الترشيح! ولكن ما هي السياسة التي رسمتها للمستقبل؟
وأفاض في الحديث عن ذلك بثقة واعتداد، ودوَّن الآخر خلاصة وافية للكلام، وهو يُراقبه عن كثب، ويسجل في ذاكرته حركاته وسكناته، وعندما انتهى التحقيق قام زهران، وقال وهو يتجه إلى الداخل: انتظر حتى أقدِّمك إلى زوجتي!
آه .. فايقة! .. الجارة القديمة! .. تُرى كيف أصبحت اليوم؟! تزوجها زهران أيام التلمذة، وكان جارًا لأبيها عم سلامة سائق الترام. ترى كيف تتبدى اليوم في هذه الفيلَّا؟!
ورجع حامد زهران يسير بين يدي فتاة في العشرين، حلية براقة، ووجه مستعار السمات من الشرق والغرب. ربَّاه أهي زوجة جديدة؟!
وتم التعارف، وجرى الحديث بالإنجليزية أكثر الوقت، وكانت المباهاة تصرخ في وجه زهران الضاحك. ولكن أين فايقة؟ .. ماتت أم طُلقت؟!
لم تكن الصورة لتتم حتى يتأكد من هذه النقطة. ومضى من توِّه إلى عطفة الكرماني بباب الشعرية، إلى مسكن عم سلامة القديم. وفي أول العطفة علم من كوَّاء بلدي بأن عم سلامة تُوفي من سنوات، وأن ابنته فايقة فاتحة دكان سجائر وحلوى أسفل البيت. واقترب من البيت منفعل الصدر، وهو يُحاذر أن تراه حتى وقع عليها بصره وهي جالسة وراء الطاولة، لا يبدو منها سوى وجهها وعنقها. وكانت تُدخن سيجارة وقد بدا وجهها أكبر من سنِّه بعشر سنوات على الأقل، كوجه محمد عبد السلام كاتب نيابة المنيا. بدت شاردة الطَّرْف متجهمة ومستسلمة للمقادير. وتذكَّر كم كانت مثالًا للصبر والحيوية. والأمل فشعر بأن أنبل ما في صدره ينحني لها رثاءً واحترامًا.
وغادر عطفة الكرماني ضيقَ الصدر بعَكَارة الجو. ومضى يفكِّر فيما جمع من مواد لدراسته، ويحللها تحليلًا أوليًّا وهو يتساءل: تُرى أي معنًى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة؟!