قاتل
ما المخرج من هذه الوكسة؟!
منذ خروجه من السجن وهو يعيش متسولًا، قرش من هنا وقرش من هناك، بلا عمل، وبلا أمل. وهو ليس بأول سجن، ولا آخر سجن فيما يبدو، ولكن الدنيا مصممةً هذه المرة على مقاطعته. رفضَه كل دكان عرض نفسه عليه، وأعرض عنه كل رجل مأمول، حتى تجار المخدرات أبوا أن يمنحوه ثقتهم. وتمضي الأيام يومًا بعد يوم وهو يتدهور ويُجَن. ويجلس في القهوة إذا هدَّه الإعياء، طمعًا في معرفة قديمة، ولكنه يَنسى حيث جلس، لا يكلمه أحد، ولا يقرب منه نادل، وتلاحقه نظرات المعلم الممتعضة، حتى يرقَّ له قلب الصبي فيجيئه خلسة بشيء من نفايات المعسل المحروق، وغرق في الأحلام كما لم يغرق من قبل. أطعمة الخلفاء وحسان الحريم وبحور الشراب وجبال السطل. واسترجع أخيلة القصص التي كانت ترويها الرباب في قهوة خان جعفر منذ ربع قرن أو يزيد .. وهوَّمَ برأس متلبد الشعر، وليس على الجسد المتورم بالأقذار إلا جلباب متهرِّئ كالخيش تُعشِّش فيه حشرات شتى. وكان يسكن في جحر بدرب دعبس بالحسينية، حجرة في حوش ربع قديم، حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة، وهي عجوز تعيش على صدقات الفقراء من الجيران، هناك يأوي آخر الليل، وتمضي الأيام وهو لا يلتفت إليها. أما هي فلا تشعر له بوجود، ولعلها لم تعُد تذكره على الإطلاق، ولكنه لا يكفُّ عن مغازلة الأحلام، الأميرة والبحر والجبل وبحبوحة عيش لا يحسن تصورها ولو في الخيال. وتساءل كثيرًا عن المخرج من وكسته، أين يذهب؟ وماذا يفعل؟ وهو ذو الماضي الحافل بالأعمال. اشتغل شيَّالًا، وموزع مخدرات، ولصًّا. أما العراك فبسببه دخل السجن أول مرة. واستوفى الأربعين من عمره دون أن يهِنَ له عضل، وكان بوسعه أن يقتلع بيتًا من أساسه، ولكنه لا يأكل لقمة إلا حسنة الوجه الله. وهذه ثالث مرة ينطلق فيها بعد سجن، ولكنه لم يجد الدنيا من قبل مغلقة الأبواب كما يجدها هذه المرة. حتى لتحدثه هواتف نفسه اليائسة أحيانًا بأن يعود إلى السجن؛ ليستقر فيه بقية العمر. وقبيل خروجه من السجن أول مرة مات ابنه في مستشفى الحميات، وحينما كان في السجن آخر مرة اختفَتْ زوجته، لا يدري أين ذهبت ولا مع من هربت، وقليل من النساء من يسَعُهُن الإخلاص لزوج هوايته السجن. ترى ما هي المعجزة التي يمكن أن تجعل منه هارون «الرشيدي»؟ إن رأسه يدور من نشوة الأحلام الكاذبة. والدنيا فيما يظهر لم تعُد بحاجة إلى العضلات القوية. ولكن هل ضاع حقًّا وانتهى؟!
وكان يسير في الزحام شبهَ نائم، عندما ناداه صوت قوي قائلًا: ولد يا بيومي!
انتبه بعنف نحو الصوت، كأنما يستجيب للَسْعة سوط. ثم وثب نحو صاحبه باستماتة، وهو يبتسم ابتسامةً عريضةً توددًا وتذللًا. ها هو إنسان يناديه أخيرًا. وهوى على يده ليلتها وهو يقول: أهلًا وسهلًا بالحسيب .. أهلًا بالمعلم علي ركن سيد حيِّنا كله.
فسحب المعلم علي يده بخشونة، وقال وهو يحبك جبته: دعك من التواشيح يا ابن الذين، لعلك تتحسر الآن على السجن وأيامه الحلوة.
فقال بيومي في ملق: لولا وجود أمثالك في الدنيا لتحسرت فعلًا!
– ها أنت تعود إلى التواشيح!
وأشار إليه أن يتبعه، ثم مضى إلى الكارتة فاستقلها، والآخر في أثره وهو لا يصدق. وحرك المعلم اللجام، فانطلقت الفرس إلى طريق الجبل في خلاء وأمن. وأدرك بيومي أنه مقبل على شيء كبير، فلا يمكن أن يحل في هذا المقام لغير ما سبب. وكانت الكارتة تنطلق في سرعة هادئة مستعرضة جناح الجبل المتجهِّم، مثيرة وراءها ذيلًا من الغبار. وكان المعلم علي ركن يلقي ناظريه إلى الأفق، مقطبًا، مشدود عضلات الوجه، ثم تساءل بلا اكتراث: هل تقتل الحاج عبد الصمد الحباني؟!
استطال وجه بيومي من الدهش وتمتم: أقتل؟!
فقال الآخر ببرود: نعم يا ابن القديمة.
يتكلم بكل استهانة، وأقل ما يعنيه تفاهة الثمن!
– القتل شيء لم أجربه!
فشد اللجام، وهو يقول ببرود: اذهب مع السلامة.
لم يتحرك، ولكنه تساءل بوجهٍ متجهم: لحسابك يا سيد الناس؟
فأرخى اللجام، وهو يداري ابتسامةً قاسية، ثم قال: لحسابي أو لحساب المعلم الكبير، ماذا يهمك؟
المعلم الكبير! الدهل محمود! صاحب وكالة الجيش وكبير تجار الكيف! إنه يبالغ هذه المرة في إبعاد الشبهة عن نفسه وعن رجاله وقد أحسن الماكر الاختيار!
– أنا خادم المعلم الكبير وخادمك.
– دعنا من الثرثرة، هل تقتله؟
فضحك بيومي ضحكة كالزفرة، وقال: في الجنة ونعيمها!
– الله يجحمه ويجحمك.
واعتبر بيومي الدعوة نوعًا من المودة فضحك، أما المعلم علي، فتساءل بخبث: لعلك لم ترَ النقود منذ خرجت من السجن؟
– ولا قبل ذلك.
– خمسون جنيهًا!
– خمسون!
– كلمة واحدة.
– ولكنه قَتْل!
– يا ابن القديمة، أنا لا أساوم.
وهو يحاول ضبط انفعاله: سأحتاج إلى نقود كثيرة. ولا تنسَ أمي العجوز.
– أمك!
وقهقه عاليًا وهو يستخرج من جيبه ورقة من ذات الخمسة الجنيهات، ومد بها يده إليه قائلًا: عربون.
فهتف بيومي وهو يلتهمها بعينيه: لا، وشرفك يا سيد الناس.
فحدجه المعلم بنظرة قاسية، فتخاذل قائلًا: ليكن العربون عشرة جنيهات.
– أتشك فينا يا ابن المجنونة؟
– أبدًا يا معلم، ولكنها قد تكون كل نصيبي من الدنيا.
– متى تقتله؟
فكر بيومي مليًّا بسرعة ويقظة، ثم قال: أمهلني أسبوعًا .. السبت القادم.
– خبَرك أسود.
– يا سيد الناس أنا مضطر إلى هجر الحسينية؛ كيلا أثير شبهة حولي، ويجب أن أتدبر الأمر وأرسم الخطة، ولا بد أن أعيش هذا الأسبوع عيشةً هنيئة؛ فقد يكون آخر أسبوع لي في الحياة.
وأخرج المعلم ورقةً أخرى من ذات الخمسة، ومد بالورقتين يده، وهو يتساءل: أتعلم ماذا ينتظرك لو ماطلت أو تأخرت؟
فقال بيومي ضاحكًا، وهو يطوي الورقتين: لا أراك الله!
فشد اللجام حتى توقفت الكارتة، وهو يقول: مع السلامة .. لا تقترب ناحيتي أو ناحية أحد منا لأي سبب.
وثب إلى الأرض على حين مضت الكارتة بصاحبها. وقف ينظر إليها متوقعًا أن يلتفت الرجل وراءه، فيلوِّح له تحيةً ولكنه لم يلتفت. وضغط بيده على الورقتين وكل شيء يدور. رغم الفَتْونة والمجدعة لم تقبض يده على جنيه بالكامل إلا فيما ندر، لكنه أيضًا لم يقتل. ضرب وسرق ولكنه لم يقتل. لم يقتل وإن تكن ضربته قاتلةً. وهو يحب الحياة، وإن بدت أحيانًا أمقتَ من الموت ولا يحب المشنقة. ولكن أي جدوى من التفكير وهو سَيُقتل إن لم يَقتل. فليكن حذِرًا أشد الحذر، وليرسم كل خطوة بأناة. ومهما تكن احتمالات الغد؛ فإنه يدخر له أيضًا أربعين جنيهًا، مبلغ لم يجرِ له في حسبان. وقد يساعده المعلم الدهل في الاتِّجار به فتتحقق الأحلام. وأعلن في القهوة أنه سيهاجر من الحسينية سعيًا وراء الرزق فقال له كلُّ من سمعه: «مع ألف سلامة» في أصوات عالية وشَتْ بارتياحهم للتخلص منه، فذهب وهو يقول لنفسه: لذلك فأنتم تستحقون القتل. وقصد حمام السوق، دخله هِبابًا وخرج منه إنسانًا. وابتاع جلبابًا ولاسة وثيابًا داخليةً ومركوبًا؛ لأنه لم يجد حذاء جاهزًا يتسع لقدميه الغليظتين. وجلس في محل «سيدهم الحاتي» يأكل بنهَم حتى أذهل النادل. وطاب كل شيء فقال لنفسه ليت ذلك يدوم بلا قتل. ولم يكن يعرف الحاج عبد الصمد الحباني أي نوع من المعرفة. غاية ما في الأمر أنه لمحه مرات في حياته بلا تركيز ولا اهتمام. عليه الآن أن يعرف كل شيء عنه، وبخاصة الضروري، لإنجاز مهمته. اهتدى إلى بيته الكبير القديم بدرب الجماميز، فدرس موقعه والطرق المؤدية إليه. وحام مرَّات حول وكالته بالمَبْيَضة. وتفحص الرجل عن كثب حتى انطبعت صورته في ذهنه، وبخاصة وجهه الممتلئ المتألق بالحيوية وأناقته السابغة على جبته وقفطانه. والتقت عيناهما مرة فسرعان ما غضَّ الطرف وزاغ عنه كالمطارَد. وتساءل ترى ما الأسباب التي تحمل المعلم الدهل على التخلص منه؟ أليس من حقه أن يعرف لماذا استحق هذا الرجل أن يقتله؟ لو كان سأل عن ذلك لسمع كلامًا هو الصفع أو الركل. يا لهم من عصابة كأنها القضاء والقدر! وإنه لا يكاد يحل في مكان حتى يلمح أحد رجالهم ذاهبًا أو قاعدًا أو قادمًا. وفي المساء سكر، وفي سيرك الحملاوي سهر، وعند عيوشة الفنجرية بات ليلته، وقال لنفسه مرة أخرى ليت الحياة تمضي هكذا بلا قتل، وأن يتزوج من جديد، ويخلف البنات والبنين، ويواصل الاتجار والربح، ويأخذ حذره، فلا يرى لمُخبر وجهًا. ترى ماذا ينتظره غدًا؟ ولكن ماذا كان ينتظره مذ انطلق يلعب شبهَ عارٍ في أزقة الحسينية، ومنذ انضم إلى عصابة زلمة، ومنذ اشترك في معارك الدراسة والجبل والوايلية، ومذ عمل برمجيًّا في الدروب الساهرة. ومذ غامر بتوزيع المخدرات في المقاهي، ماذا كان ينتظره؟
وجاء يوم السبت الموعود. استيقظ مبكرًا؛ ليستقبل أخطر يوم في حياته. ملأ أحد جيبيه قطعًا من اللحم البارد، ووضع في الآخر زجاجة، ودس في صدرته سكِّينًا حادة النصل. أما المعلم الدهل ورجاله، فسيلتزمون الدكاكين ويخالطون الناس نفيًا للشبهات، وهو أدرى بهذه الحيل الساخرة. هؤلاء الأوغاد المجرمون يجب أن يتلقَّى منهم أربعين جنيهًا لا طعنة انتقام غادرة، واستكان وراء شجرة على مبعدة أمتار من بيت الحاج عبد الصمد الحباني. وجعل يختلس النظرات من الباب المغلق، حتى فتح وخرج منه غلامان وبنت يتأبطون الحقائب المدرسية. كان بين الثلاثة شبَه ملحوظ، ولكن الذي لفت نظره بصفة خاصة هو الشبه الحاد بين الغلام الأكبر وبين المعلم عبد الصمد نفسه. وتذكر ابنه المتوفي الذي لم يشهد وفاته، وتذكر حزنه الشديد عليه، وأحزان الحياة جملة. وما لبث أن بدا المعلم عبد الصمد، وهو يتقدم من الداخل إلى نقطة وسط الحوش، ثم وقف مستندًا إلى عصاه وهو يفتل شاربه. واستدار إلى الوراء وراح يُخاطب شخصًا لا يراه هو من موقفه ثم لوَّح له بيده، ثم اتجه نحو الباب متمهلًا، ووجهه الممتلئ يتألق بما يشبه الابتسام. وتساءل عما يجعله يبدو مبتهجًا بل وطيِّبًا؟! ولكن من أدراه أنه ليس كالآخرين! كلهم مناكيد لا يبتسمون ابتسامةً حلوةً إلا لذويهم. مأمور السجن مثلًا، يا إلهي، هل يمكن أن يُنسى هذا الرجل! مع ذلك دُعي مرة إلى حجرته، فوجده يُمازح ابنه الذي جاء لزيارته، ويغرقان في الضحك معًا كأنما هو آدمي كالآدميين! تبع الرجل عن بعد، وهو يشعر بقلقٍ ودَّ معه لو ينتهي كل شيء في غمضة عين. والرجل يسير في اطمئنان عجيب، فلا يمكن أن يخطر له ببال أنه لن يرى أسرته وأولاده مرةً أخرى، وأن هذا اليوم هو آخر عهده بالحياة، وأن الرجل المسكين الذي يتبعه وهو غافل عن وجوده .. هذا الرجل هو الذي سيقضي عليه، هو الوحيد الذي يستطيع أن يتنبأ بمصيره القريب، الذي ارتضى أن يُنفَّذ فيه القضاء نظير خمسين جنيهًا لا غير، فكم يملك الرجل الذي يسير أمامه من مضاعفات هذا المبلغ الذي بِيع به؟!
وتخلص من أفكاره منتبهًا إلى الطريق فتساءل أين يمضي الرجل؟ ليس هذا هو السبيل إلى المبيضة، لعله يقصد إلى درب سعادة، لمَ لَم يذهب إلى وكالته؟ إنه ذاهب إلى هذا البيت الذي يقيمون سرادقًا أمامه. جاء الرجل ليشيِّع جنازة. هذا واضح، فيا له من صباح!
وفعلًا قصد الحاج عبد الصمد بيت الميت فعزى أهله بحرارة، ثم توارى وراء الباب. واستمر بيومي في سيره نحو نهاية الطريق، وعيناه تفتشان عن مكان يستقر فيه إلى حين. وامتدت يده إلى اللحم البارد المكوَّم في جيبه كالتين المجفف، فتناول قطعة وراح يمضغها. ونازعته نفسه إلى جرعة كونياك، ولكنه قاوم ذلك وأجَّله إلى الساعات الحاسمة. وترامى إليه الصوات في موجات متقطعة، وبدرجات متفاوتة بين الشدة والاعتدال، لكنه اشتد جدًّا حوالي الحادية عشرة، منذرًا باختفاء إنسان نهائيًا من الدنيا. وخرج النعش محمولًا على الأعناق، ومشى الحاج عبد الصمد وراءه في الصف الأول، وهو يجفف عينيه بمنديل كبير، وتوقف بيومي عن التفكير مأخوذًا بشدة الصراخ واكْفِهرار الوجوه ورهبة المنظر.
وتخفف من مشاعره في الطريق، ونظر إلى صاحبه وهو ما زال يجفف عينيه، ثم تساءل مرةً أخرى لمَ يريدون قتله؟! لو مات الآن لكفاه قتله، لكن تضيع الأربعون، بل وربما طُولب بالعربون! ولم يشأ أن يتبع النعش حتى المدفن، فوقف عند أول الطريق.
ووردت على ذهنه فكرة غريبة، وهي أن يعمل تُرابيًّا. هي مهنة رابحة فيما يظن، ولن يُسأل — فيما يظن أيضًا — إذا تقدم لها عن ماضيه، ولن يجد صعوبة في زيادة دخله بتجارة الكيف، وما أروجه بين القبور! ومضى يحلم من جديد مستعينًا بذلك على قتل الوقت، حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعًا، ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة، فمال إلى قهوة عند رأس الطريق وجلس. احتسى الشاي ودخن أكثر من جوزة، وأكل عددًا من قطع اللحم، وهو يُراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبًا. ورأى شخصًا يُغادرها فلم يصدِّق عينيه. المعلم الدهل محمود نفسه! الرجل الرهيب الذي لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة، رآهما يتبادلان الضحكات، وتواصل ذلك حتى استقر المعلم الرهيب في عربته وانطلقت به. إذن لم تنقطع بينهما المودة! يا له من وغدٍ ذلك الجبار الرهيب! هو جبار بلا ريب، لكنه لا ريب كذلك في أنه يفكر فيه — هو المسكين — طيلة وقته. ينتظر على قلق نتيجة عمله، يتمنى له النجاح والتوفيق، يجري اسمه على لسانه مرات، ويطوف بذهنه عشرات المرات، ألا ما أخطر شأنك يا بيومي هذه الأيام! واليوم أخطرها جميعًا وهو آخرها أيضًا، أما الغد؟! وشدت قبضة على قلبه. غدًا سيكون شيئًا من آلاف الأشياء، من ملايينها، أو لا شيء! وإذا فشل سيجد نفسه هدف نقمة وانتقام، وستضيق به الأرض. والمسألة في حقيقتها العارية أنه سيقتُل رجلًا لا يعرفه، ولم تتصل بينه وبينه الأسباب على أي وجه كان لحسابِ أناس يمقتهم لحد المرض.
لبث في القهوة حتى الرابعة مساء، وهنالك صدرت عن الوكالة حركة تُنذر بالختام. دخلت إليها عربات اليد، وتتابع خروج العمال، وأُغلقت النوافذ، ثم خرج الحاج عبد الصمد يتبعه أربعة من الموظفين. تأهب بيومي للقيام، ولكنه رأى الجماعة مقبلة نحو القهوة، ثم جلسوا على بُعد أذرع من مجلسه والحاج يقول: فكرة، أستريح هنا قليلًا، قبل أن أذهب إلى المأتم.
وجاءت المشروبات وراحوا يحتسون القهوة والشاي، ثم تنهَّد الحاج عبد الصمد وقال: الله يرحمك يا سي عبده، مَن يتصور أنك دُفنت اليوم!
فقال أحد رجاله وهو يتحلب ريقه: كان بالأمس يجلس بيننا في مثل هذه الساعة.
– وكان ذلك كل يوم.
واسترق بيومي إليه نظرة، فرآه حزينًا مكتسبًا من الذكرى كآبة واضحة، غير أن صحته بدت قادرةً على جرف الأحزان جميعًا. وله وجه مليء وعنق مكتظ وكرش ضخمة، فلن يجد صعوبة في إصابته. سينتهي كل شيء آخر الليل، عند عودته من المأتم، وفي الموضع الذي اختاره بعناية بعد معاينة مسكنه، والطريق المُفضية إليه.
وتساءل أحد رجاله: أسافر غدًا إلى الصعيد؟
فقال الحاج: نعم إنها صفقة تزن ثقلها ذهبًا، ولم نكن نحلم بها.
– ولحد كم أدفع؟
– كما اتفقنا بصفة عامة، ولك أن تزيد حتى المائة. إنها صفقة مضمونة.
وابتسم ابتسامةً متألقة، وكأنما نسي الحزن. وإذا برجل يقوم، وهو يقول في اعتذار: آن لي أن أذهب؛ حتى لا تفوتني المغرب.
فقال له: مع السلامة، حرمًا، ولا تَنْسَ موعدنا غدًا.
– الساعة الخامسة!
– الساعة الخامسة، وإن تأخرت لا تقلق، سألحق بك حتمًا.
واضطرب بيومي كلما تكلم الحاج عن يقين، أو ضرب موعدًا، أو عكست عيناه الطمأنينة والثقة. لماذا يقتل هذا الرجل؟ إنه لا يعرفه، لم تكد تستقر صورته في ذهنه، لا يكرهه، ولا يحنق عليه، ولا يأتيه أي ضرر من ناحيته، فلماذا يقتله؟ لكنه إذا لم يقتله قُتل، وإذا قتله ابتسمت له الدنيا، أو هكذا وُعِد. يحسن به ألَّا يستسلم للأفكار المثبطة للهمَّة. وليطمئن إلى أنه سينجو من الاتهام تمامًا. أي سبب يدعوهم إلى الاشتباه في أمره؟ أي سبب هناك يدعوه إلى قتل هذا الرجل؟ الحق أن اختياره لقتله هو في ذاته عمل بارع يدل على عَراقة المجرمين في الإجرام.
وقال الحاج عبد الصمد: في رمضان القادم وعليكم خير، سيرتفع حظنا بإذن الله إلى مداه الأعلى.
رمضان القادم؟ شدَّ ما يؤثر صوت الرجل في أعصابه. إنه يخشى أن يظل يسمعه حتى بعد الموت.
ووقف الحاج وهو يقول: آن لي أن أذهب إلى المأتم، سلام عليكم ورحمة الله.
وتبعه عن بعد حتى دخل السرادق بدرب سعادة، فذهب بعيدًا عن أضواء المصابيح، ثم قبع في ركن مظلم. كان على ثقة من أن صاحبه لن يغادر السرادق إلا في آخر زمرة تغادره، فمضى يأكل قطع اللحم ويحتسي الكونياك. وهو إذا شرب توهَّجت أعصابه وتوثب قلبه، وفارت جراثيم العدوان في دمه. وترامت إليه التلاوة من مُقرِئ حسن الصوت، فأمعن في الأكل والشرب وغرق في دوامة من الهذيان الباطني. وجاء شرطي يتبختر فانقبض صدره. إنه يستطيع أن يعرفه بأكثر حاسَّة، بالعين والأذن وبالأنف أيضًا. ذلك أنه ينفث رائحة جلدية خاصة تذكره بنقطة البوليس، والصفع واللعنات، وزنزانة السجن، والجرادل، والبرش، والظلمة المغرقة. مرَّ به، ثم عاد، وتريث قبالته لحظة، ملقيًا بثقله على ساقٍ واحدة، ثم تأبَّط بندقيته وذهب. وتتابع الوقت حتى لم يبقَ في السرادق إلا آحاد. عند ذاك نهض، وكل شيء يبدو أحمر في عينيه، ومضى في سبيل درب الجماميز وهو يتحسَّس السكين في صدرته. البيت وما حوله خالٍ نائم، لا دكاكين ولا مارَّة، وثمة حارة بين شارع السمهري والدرب، غير قصيرة، ضيقة، مظلمة، خالية، فعند أولها لبَدَ، وفي مخبأ يرى بوضوح شارع السمهري والقادمين منه، على حين تخفيه الظلمة عن الأعين، وقف يتربص ويده قابضة على السكين، والوقت يمر كحز الألم.
وعندما دقت ساعة قديمة الواحدة لاح الحاج من بعيد، ولكن كان بصحبته آخر. فترت دقَّات قلبه. وقال لنفسه إنه إذا لم يجهز عليه الآن؛ فلن يعود إلى المحاولة مرة أخرى، وسيطارده الموت إلى الأبد. تقدم الرجلان حتى توسَّطا شارع السمهري، وما زالا يتقدمان حتى غص بالقنوط. أوشك أن يتقهقر من مَكمنه مغلوبًا على أمره، ولكن الرجلين توقفا عن السير، ثم تصافحا، ومال الآخر إلى عطفة جانبية، وتقدم وحده عبد الصمد. شدَّ على أعصابه مرة أخرى، وهو يسدد نحوه النظر، وتحفز بكل قوة وجارحة. وكان الحاج يسير متمهلًا، يد قابضة على العصا، والأخرى تعبث بسلسلة الساعة، والهدوء يكسو وجهَه وما يشبه التعب أو الضجر. وخُيل إليه أن ابتسامة خفيفة انسابت لحظة بين شفتيه. وما زال يتقدم حتى دخل الحارة المظلمة فاختفت معالمه، واستحال شبحًا يسير في الظلام. ولم يعد يفصل بينهما إلا خطوة. استلَّ السكين من صدرته، واشتدت عليها قبضته، واستجمع كل قواه، ثم انقض عليه بسرعة خاطفة، وطعنه طعنةً قاسيةً، لا مهادنة فيها ولا أمَل، ندت عن الرجل صرخة خافتة، وترنَّح جسده الضخم مرة ثم سقط.
واندفع بيومي هاربًا وهو ينتفض، ناسيًا السكين في صدر الرجل، ملوث العنق والجلباب — وهو لا يدري — بالدم.