ضد مجهول
لم يكن بالشقة شيء غير مألوف يلفت النظر، أو يمكن أن يفيد منه المحقق. كانت مكونة من حجرتين ومدخل، وبصفة عامة كانت غايةً في البساطة. أما ما استحق الدهشة حقًّا فهو بقاء حجرة النوم في حال طبيعية واحتفاظها بنظامها العادي، رغم أن جريمة قتل فظيعة ارتُكبت بها. حتى الفراش ظل عاديًّا، أو لم يتغير إلا بالقدر الذي يطرأ عليه عقب النوم، غير أن الراقد عليه لم يكن نائمًا، كان قتيلًا لمَّا يجفَّ دمه. وهو قد مات مخنوقًا كما يدل على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه، وتجمُّد الدم حول أنفه وفِيه. ولا أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة، سواء في الفراش أو في الحجرة أو في بقية الشقة، كل شيء طبيعي ومألوف وعادي. وقف ضابط المباحث ذاهلًا، يقلِّب عينيه المدربتين في الأنحاء، يلاحظ ويتفحَّص، ولا يخرج بطائل. إنه يقف أمام جريمة بلا شك، والجريمة لا توجد إلا بمجرم. والمجرم لا يُستدل عليه إلا بأثر. وها هي النوافذ مغلقة جميعًا بإحكام. فالقاتل جاء من الباب، ومن الباب خرج. ومن ناحية أخرى، فالرجل مات مخنوقًا بحبل؛ فكيف تمكَّن القاتل من لف الحبل حول عنقه؟ لعله تمكن من ذلك وضحيته نائم، فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أي أثَر للمقاومة. وثمة تفسير آخر، أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه، ثم أنامه في فراشه وسجَّاه وأعاد كل شيء إلى أصله، وذهب غير تارك أي أثر! أي رجل؟! أية أعصاب؟! يعمل بأناة وروية وهدوء وإحكام كما يقع في الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجريمة وعلى المكان كله، ثم يذهب في سلام! أي قاتل هذا؟! ورتب خطوات التحقيق في ذهنه، الباعث على الجريمة، التحقيق مع البواب، والخادمة العجوز، وافترض افتراضات شتَّى، وقاوم ما استطاع انفعالاته الشديدة، ثم عاد إلى التفكير في المجرم الغريب، الذي تسلَّل إلى الشقة، وأزهق روحًا، ومضى بلا أثر، كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس. وفتش الصوان والمكتب والثياب، فوجد حافظة نقود وبها عشرةُ جنيهات، كما وجد الساعة وخاتمًا ذهبيًّا. يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة، فما الباعث إذن؟!
واستدعى البواب لاستجوابه، وهو نوبي طاعن في السن، يعمل في العمارة الصغيرة بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين. وقد أدلى بأقوال لها أهميتها، فقال عن القتيل إنه مدرس بالمعاش، يُدعى حسن وهبي، فوق السبعين، يعيش وحده مذ توفِّيت زوجته، وله بنت متزوجة في أسيوط وابن طبيب يعمل في بور سعيد، وهو أصلًا من دمياط. وتقوم على خدمته أم أمينة فتَجيئه حوالي العاشرة صباحًا، وتغادره حوالي الخامسة مساءً.
– وأنت ألا تؤدي له بعض الخدمات أحيانًا؟
فقال العجوز بسرعة وتوكيد: ولا مرة في السنة، أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه.
– خبِّرْني عن يوم أمس!
– رأيته وهو يغادر البيت في الثامنة.
– ألم يكلِّفْك بتنظيف الشقة؟
فقال الرجل بشيء من العصبية: قلت ولا مرة في السنة، ولا مرة في حياته، أم أمينة تجيء في العاشرة، فتطهو طعامه وتنظف الشقة وتغسل الثياب.
– هل ترك نوافذ شقته — أو بعضها — مفتوحة؟
– لا أدري!
– ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟
– شقته في الدور الثالث كما ترى، فالأمر غير ممكن، ثم إن العمارة مُحاطة بالعمارات من ثلاث جهات، والجهة الرابعة تطل على شارع البراد نفسه!
– استَمِرَّ في حديثك.
– غادر البيت في الثامنة ثم رجع في التاسعة، وهذه هي عادته كل يوم منذ أكثر من عشر سنوات، ويبقى بعد ذلك في شقته حتى صباح اليوم التالي.
– ألا يزوره أحد؟
– لا أذكر أني رأيت أحدًا يزوره عدا ابنه أو ابنته.
– متي زاراه لآخر مرة.
– في العيد الكبير.
– ألا يزوره اللبَّان أو بائع الجرائد؟
– الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح، أما الزبادي فتتسلَّمه أم أمينة عصرًا.
– هل تسلَّمَته أمس؟
– نعم، رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة، ورأيته ذاهبًا.
– متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟
– حوالي المغرب.
– ومتى جاءت اليوم؟
– حوالي العاشرة، ودقت الجرس فلم يفتح الباب.
– هل خرج اليوم كعادته؟
– كلا!
– متأكد؟
– لم أره خارجًا، وكنت بمجلسي عند الباب، حتى جاءت أم أمينة .. ثم عادت إليَّ بعد ربع ساعة لتخبرني بأنه لا يُجيب فصعدت معها، ودققت الجرس وطرقت الباب، ولما لم يُجِبْ ذهبنا إلى القسم.
وقال الضابط لنفسه: إن هذا البواب لا يستطيع أن يخنق دجاجةً، ولا أم أمينة، ولكنهما قد يسهِّلان إدخال شخص ما وإخراجه، لكن لمَ قُتل الأستاذ حسن وهبي؟ هل ثمة سرقة ثمينة خافية؟ .. هل تركت الحافظة سليمة للتضليل؟! وهل وجود مفتاح الشقة بدرج المكتب لعبة أخرى؟
وقالت أم أمينة إنها خدمت في بيت المدرس منذ ربع قرن، خمسة عشر عامًا، على حياة زوجه، وعشرة أعوام بعد وفاتها، ولكن المرحوم قرر أن تبيت في منزلها منذ ترمُّله. وهي أرملة، وأم لستٍّ من النساء، كلهن متزوجات من عمال وأصحاب حِرَف، وأدلت بعناوينهنَّ جميعًا.
– كان أمس بصحة جيدة، قرأ الجرائد، وتلا جزءًا من القرآن بصوت مسموع، وعندما تركتُ الشقة كان يستمع إلى الراديو.
– ماذا تعرفين عن أهله؟
– من دمياط لكنه منقطع الصلة بهم تقريبًا، ولا يزوره أحد إلا ابنه وابنته في المواسم والإجازات.
– هل تعرفين له أعداء؟
– أبدًا!
– ألا يزوره أحد في بيته؟
– أبدًا، وفي أحوال نادرة كان يجلس صباح الجمعة في القهوة مع بعض زملائه، أو مع بعض تلاميذه القدامى.
وتساءل الضابط: هل يمكن أن تقع جريمة بلا باعث ودون أثر؟ واستكمل الإجراءات الواجبة ففتش بمساعدة معاونيه مسكن البواب، وبيوت أم أمينة وبناتها الست، ثم استدعى أصحاب المرحوم القلائل، ولكن لم يُدلِ أحد منهم بشيء ذي بالٍ، وبدا مصرع الرجل لغزًا مُحيِّرًا للألباب. وشاع الخبر في الشارع، ثم نُشر في الجرائد، فعلمت به العباسية كلها وأسِف له كثيرون. وأكد الطبيب ابن القتيل أن والده لا يملك شيئًا ثمينًا على الإطلاق، وأن حسابه في البنك لا يتجاوز المائة جنيه، وفَّرها لحاجة طارئة ثم لخَرْجته آخر الأمر. وأكد أيضًا أنه ليس له أعداء، وأن قتله قد يكون نتيجة طمع في ثروة وهمية، خمَّن المجرمون وجودها في مسكنه. وجرى تحقيق دقيق مع البواب وأم أمينة، لكنه لم يؤدِّ إلى شيء فأُفرج عنهما بلا ضمان. ووجد ضابط المباحث نفسه في حيرة ضبابيَّة، وعانى إحساسًا بالهزيمة لم يمرَّ به من قبل. كان ذا تاريخ مُشرِّف في مكافحة الجرائم شهد به الريف والبنادر، وفي الجملة كان من الضباط ذوي السمعة العالية. وهذه أول جريمة ينهزم أمامها هزيمةً مطلقة بلا بارقة أمل، ولا عزاء. وبث عيونه في أوساط المشبوهين في الجبل وأطراف الوايليَّة وعَرَب المحمدي، لكنهم لم يرجعوا بفائدة. وقرر الطبيب الشرعي أن الأستاذ حسن وهبي مات خنقًا، وتفحَّص جميع ما يخصه من أشياء؛ بأمل العثور على بصمة أو شعرة أو أي أثر مما يتركه المجرمون، ولكن مجهوداته ضاعت هباءً، ووقف الجميع أمام فراغ صامت.
ومن شدة الهزيمة شعر الضابط محسن عبد الباري بالخجل، وتنغَّص عليه صفوه. وكان يقيم بشارع يشبك غير بعيد من القسم، فلما لاحظت زوجته كرْبَه، قالت له برقة: لا يجوز أن تحرق دمك بلا سبب!
فلاذ بالصمت ومضى يسلِّي همه بالقراءة. وكان مُغرمًا بقراءة الشعر الصوفي كأشعار سعدي وابن الفارض وابن العربي، وهي هواية نادرة بين ضباط المباحث؛ ولذلك أخفاها حتى عن خاصة الأصدقاء. وظل الحادث حديث العباسية، لغموضه المحير؛ ولأن المرحوم كان مُدرِّسًا لكثيرين من شباب العباسية وكهولها. ولكن بمرور أسبوع أو نحوه غاص الخبر في بحر النسيان المُخيف، وحتى محسن عبد الباري قيَّده ضد مجهول، وقال لنفسه وهو يزدرد هزيمته المرة «مجهول! .. هذا هو حقًّا المجهول!»
وبعد شهر دُعي الضابط إلى سراي قديمة بشارع العباسية العمومي؛ بسبب جريمة مُشابهة! كأن الجريمة الأولى وقعت من جديد، فلم يكد محسن يصدق عينيه. وكان القتيل لواءً قديمًا من رجال الجيش، وكان يعيش مع أسرته المكوَّنة من زوجة في الستين، وأخت أرملة في الستين أيضًا، وابنه الأصغر وهو طالب جامعي في العشرين من عمره، وكان يقيم في السراي أيضًا البوَّاب والبستاني وسائق السيارة وطاهية وخادمتان.
وُجد اللواء صباحًا في فراشه كالنائم، شأنه كل يوم، إلا أن الوقت تأخر به عن المألوف مما دفع بزوجته إلى تفقد حاله، لكنه لم يكن نائمًا، بل مخنوقًا، وأثر الحبل محفور حول عنقه، وفي عينيه جحوظ فظيع، وحول الفم والأنف دم لزِج. أما الحجرة فلم يختلَّ بها نظام، ولا الفراش نفسه، ولم يُسمع صوت في الليل ليوقظ النائمين في الطابق معه من أهله، وجملة القول أن الضابط وجد نفسه مرة أخرى أمام اللغز القاتل الذي سحَقَه منذ شهر في مسكن المدرس حسن وهبي، أمام المجهول بصمته وغموضه وغرابته وقسوته، وسخريته واستحالته.
– هل وقعت سرقة؟
– كلَّا!
– له أعداء؟
– كلَّا!
– والخدم، أكانت علاقته بهم طيبة؟
– جدًّا.
– أتشكون في أحد؟
– أبدًا!
ومضى الضابط في الإجراءات بلا أمل، عاين السراي معاينة دقيقة، واستجوب الأهل والخدم. وكان يتوجس خيفة من مجهول، ويشعر بأن مؤامرةً تُدبَّر في الظلام للقضاء على ضحايا كثيرين، وعلى سمعته وكافة القيم في حياته، وشعر أيضًا بأن ثمة لغز يُوشك أن يخنقه بثقل غموضه، وأنه إذا مُنِي بالفشل مرة أخرى؛ فلن يصلح للحياة ولن تصلح الحياة لأحد. ولخطورة شأن القتيل جاء نفر من كبار رجال المباحث؛ للإشراف على التحقيق بأنفسهم. وقال أحدهم باستغراب: توجد جريمة بلا شك، ولكن كأنها تُرتَكب بلا مجرم!
– بل المجرم موجود، ولعله أقرب إلينا مما نتصور.
– كيف ارتكب جريمته؟
– يطوِّق العنق بحبل دقيق، ثم يشدُّ عليه حتى يُزهق الروح، ولكن كيف يصل إلى مكان جريمته، وكيف يذهب دون أن يترك أثرًا؟
– وما الباعث على القتل؟
– بواعث القتل متعددة تعدِّد البواعث على الحياة!
– هل يمكن أن يُقتل أحدٌ بلا سبب؟
– إذا كان مجنونًا فإنه يقتل بلا سبب، أو بلا سبب مما نقتنع به.
– ما العلاقة بين المدرس واللواء؟
– كلاهما قابل للموت!
ونُشر الخبر في الصفحات الأولى من الجرائد في عناوين مثيرة، فاهتزَّ له الرأي العام، وبصفة خاصة أهل العباسية. وكان اللواء معروفًا منذ عهد الانتخابات حيث رشَّح نفسه مرارًا، فانتُخب مرة عضوًا بمجلس الشيوخ. وجند محسن جميع المخبرين للبحث والتحرِّي، وأصدر إليهم تنبيهاته المشددة، وانكبَّ على العمل برغبة محمومة في الظفَر. وعاد إلى بيته آخر الليل خائر القوى والنفس. وصمَّم على كتم همومه عن زوجته التي بدأت في ذلك الوقت تُعاني متاعب الحبل. وكان أخشى ما يخشاه أن يُنقل من قسم الوايلي موصومًا بالهزيمة؛ ليحل محله آخر كما كان يحل هو محلَّ آخرين في الريف على عهد التوفيق والنصر. وعبثًا حاول أن يُسرِّي عن نفسه بمطالعة الشعر؛ إذ ثبت ذهنه على الجريمة التي أمست رمزًا على هزيمته.
من يكون هذا القاتل الرهيب؟ لا هو لصٌّ ولا هو منتقم ولا هو مجنون. المجنون قد يقتل ولكنه لا ينفذ جريمته بهذا الإعجاز الساحق. إنه يقف أمام لُغز قوي قهَّار لا نجاة من عبثه، فكيف يتحمَّل مسئولية حماية الأرواح حياله؟!
وملَّ الناس — وبخاصة أهل العباسية — الخوض في الموضوع، وفتر اهتمامهم به، وهدأت النفوس بعض الشيء، واستحال جزع الضابط حزنًا رزينًا منطويًا في أعماق النفس.
وإذا بالجريمة الثالثة تقع!
وجاء وقوعها بعد مصرع اللواء بأربعين يومًا، وكان مسرحها بيتًا متوسطًا بين الجناين، وضحيَّتُها شابة في الثلاثين، زوجةً لمقاول صغير وأمًّا لثلاثة أطفال. وكالعادة وُجد كل شيء على مألوف حاله، عدا أثر الحبل الملتهب حول العنق والدم حول الفم والأنف وجحوظ العينين، ولا أثرَ بعد ذلك لشيء. وأدَّى مُحسن واجبه الروتيني بروح خامد يائس، وقد آمن بأن عذابه لن ينتهي أبدًا، وبأنه نُصِّب هدفًا لقوة لا ترحم. وقالت أم القتيل وكانت تقيم معها: دخلت في الصباح لأتفقد حالها فوجدتها …
وخنقتها العبرات، فسكتت حتى انحسرت عنها موجةُ البكاء، وقالت: كانت المسكينة مريضةً بالتيفود منذ عشرة أعوام.
فهتف محسن داهشًا: مريضة؟!
– نعم، وكانت حالتها خطيرة، لكنها … لكنها لم تمت بالتيفود!
– ألم تشعري بحركة في الليل؟
– أبدًا، كان الأطفال نائمين في هذه الحجرة، ونمت أنا على هذه الكنبة على مقربة من حجرتها لأسمعها إذا نادت، وكنت آخر من نام في البيت وأول من استيقظ، فدخلت الحجرة فوجدتها يا كبدي كما ترى!
وجاء الزوج عند الظهر عائدًا من الإسكندرية على حال شديدة من الحزن. ومضى وقت قبل أن يجد نفسه في حالٍ تسمح له بالإجابة على أسئلة الضابط. ولم يكن لديه قول يمكن أن يفيد التحقيق. كان بالإسكندرية لبعض الأعمال، أمضَى نهار الأمس في القهوة التجارية مع أناس سمَّاهم، وبات ليلته عند أحدهم بالقباري؛ حيث تلقى البرقية المشئومة. وصاح الرجل وهو يتأوه: يا حضرة الضابط، هذه حال لا تُطاق، ليست الأولى، قُتل المدرس واللواء قبل ذلك، أين البوليس؟ الناس لا يُقتلون بلا قاتل، وكان عليكم أن تقبضوا عليه!
لم يتحمل محسن الطعنات فانفجر هاتفًا: لسنا سَحَرة! .. ألا تفهم؟!
وسرعان ما ندم على ما بدَر منه. وعاد إلى القسم وهو يقول لنفسه: «الحقُّ أني أول ضحية للمجرم!» وود لو يستطيع أن يعلن عجزه. هذا المجرم كالهواء، وحتى الهواء يترك في البيوت أثره، أو إنه مثل حرارة الجو، ولكنها أيضًا تترك أثرها. وحتام تُقيَّد الجرائم ضد مجهول؟! وطوَّق العباسيةَ الفزع، وزادته الصحافة اشتعالًا. ولم يعد للمقاهي من حديث غيره، جرائم الخنق ومرتكبها الرهيب المجهول، إنه خطر داهم وليس أحد بمأمن منه، وتبددت الثقة برجال الأمن، وانحصرت الشبهة في المنحرفين والمجانين باعتبارها موضة هذه الأيام. وتبين من البحث أن أحدًا من نزلاء مصحة الأمراض العقلية لم يهرب. ووردت على القسم رسائل من مجهولين، ففُتشت بسببها بيوت كثيرة، ولكن لم يُعثر فيها على أحد ذي خطورة، وكان أكثر المصابين من الطاعنين في السن. أبلغ البعض عن شاب معروف بالهوَس والشذوذ من سكان شارع السرايات، فأُلقِي القبض عليه وسِيق إلى التحقيق، ولكن ثبت أنه في ليلة مقتل اللواء كان مقبوضًا عليه في قسم الأزبكية لتحرشه بفتاة في الطريق، فأُطلق سراحه. ضاع كل مجهود هباء، وقال محسن في أسًى: المتهم الوحيد في هذه القضية هو أنا!
هكذا كان أمام نفسه، وأمام أهل العباسية، وأمام قُرَّاء الصحف. وتطايرت إشاعات لا يدري أحد كيف تطايرت. قيل إن المتهم معروف لدى رجال الأمن ولكنهم يتسترون عليه؛ لصلته القريبة بشخصية هامة. وقيل أيضًا إنه لا يوجد متهم في الحق والواقع، ولا جريمة، ولكنه مرض خطير مجهول، وأن معامل وزارة الصحة تعمل ليلَ نهار في الكشف عن سره. وتفشَّت الحيرة والبلبلة بين الناس.
ويومًا — وكان قد مضى على مقتل السيدة شهر أو نحوه — أبلغ الشرطي الديدبان بقسم الوايلي أنه عثر على جثة في العطفة الملاصقة للقسم. خبر لم يُسمع عن مثله من قبل. وهُرع الضابط محسن عبد الباري إلى مكان الجثة، وكان بوسعه — لو أراد — أن يُعاينها من نافذة حجرته، وجد جثة رجل شبه عارٍ، متسولًا عن يقين، مُلقًى لِصْق جدار القسم، وكاد يصرخ من شدة الانزعاج حين وقعت عيناه على أثَر حبل الخنق حول الرقبة! رباه! .. حتى هذا الشحاذ؟! وتفحص جلبابه كأنما ثمة أمل في العثور على شيء. ودُعي شيخ الحارة للتعرف عليه فقرَّر أنه متسول من الوايلية الصغرى، بلا مأوًى، ويعرفه الكثيرون. وجرى التحقيق مجراه لا سعيًا وراء أمل، ولكن تغطية للهزيمة المُزرية. وسئل سُكَّان البيوت القريبة من مكان الجريمة، ولكن أي جديد ينتظر؟ .. ولمَ لا يسأل المقيمين في القِسم أيضًا وهو المُلاصق للجريمة؟! وانتشر المخبرون في مَواطن الشبهات، ولكنهم كانوا يبحثون عن لا شيء، عن خيال، عن روح. وكرَدِّ فعل للحنَق الذي غمَر النفوس سِيق المشبوهون والمنحرفون بالعشَرات إلى الحجز، حتى خلتْ منهم العباسية جميعًا، ولكن ما الفائدة؟ وزيد عدد الشرطة بالشوارع وتضاعَف عددهم بالليل. ورصدت الداخلية ألفًا من الجنيهات مكافأةً لمن يُرشد إلى القاتل الخفي. وتناولت الصحافة الموضوع بقوَّة مثيرة في صفحاتها الأولى. وتضخَّم هذا كله في نفوس أهل العباسية، حتى استحال إلى أزمة مروِّعة. ركبهم الفزع، وعذبتهم الأوهام، وانقلبت أحاديثهم إلى هذَيَان، وهجر القادر منهم حيَّه، ولولا أزمة المساكن وظروف المعيشة القاسية لخلت العباسية من أهلها. ولكن لعلَّ أحدًا لم يتعذب كما تعذب الضابط محسن عبد الباري أو زوجته الحُبلى السيئة الحظ. وقد قالت له على سبيل العزاء والتشجيع: لا لومَ عليك، هذا شيء يَعجز خيال البشر!
– لم يعُد لبقائي في وظيفتي معنًى!
فقالت بجزع: دُلني على تقصيرك!
– يستوي المجهود الضائع والتقصير، ما دام لا يحفظ روحًا ولا يدفع أذًى!
– ستنتصرون في النهاية كالعادة.
– أشكُّ في ذلك، فهذا شيء خارق للعادة.
ولم ينهم تلك الليلة. ظل ساهرًا يفكر، ونازعَتْه رغبةٌ في الهرَب إلى عالمِ شِعره الصوفي. حيث الهدوء والحقيقة الأبدية .. حيث تذوب الأضواء في وحدة الوجود العليا، حيث العزاء عن متاعبِ الحياة وفشلِها وعبَثِها. أليس عجيبًا أن ينتسب إلى حياة واحدةٍ عابدُ الحق وهذا المجرم الضاري؟ إننا نموت؛ لأننا نفقد حياتنا في الاهتمامات السخيفة. ولا حياةَ ولا نجاةَ لنا إلا بالتوجُّه إلى الحق وحده!
ولم يكد يمضي أسبوعان حتى وقع حادث لا يقلُّ غرابةً عن سابقة؛ إذ سقط جسم من آخر عربة للترام رقم ٣٣ أمام شارع عشرة آخر الليل. وأوقف الكمساري الترام، ومضى نحو مصدر الصوت، ولحق به السائق، فرأَيَا أفنديًّا ممددًا على الأرض. ظنَّا أنه سكران أو مسطول أو عثَرت به القدم، وسدد السائق نحوه بطاريته اليدوية، وسرعان ما ندَّت عنه صرخة، ثم صاح وهو يشير إلى عنق الرجل: انظر …
فنظر الكمساري فرأى أثَر الحبل المشهور. وارتفع صوتاهما فهُرع إليهما عدد من الشرطة والمخبرين المنتشرين في الزوايا والأركان. وفي الحال تم القبض على شخصين تصادَفَ مرورُهما قريبًا من مكان الحادث وسِيق الجميع إلى القسم. وكان للحادث رجة فظيعة، وكان على محسن أن يبذل مجهودًا عنيفًا يائسًا آخر للضياع. وأُفرج عن أحد المقبوض عليهما؛ إذ تبين أنه ضابط جيش بملابس ملكية، وجرى التحقيق مع الثلاثة الآخرين دون أن ينتهي إلى شيء. وذاق محسن مرارة الهزيمة والخيبة للمرة الخامسة، حتى خُيل إليه أن المجرم يتقصَّده هو بالذات بألاعيبه الجهنمية. وذكرته شخصية المجرم برجل الروايات الخفي، أو مخلوقات الأفلام السينمائية التي تهبط إلى الأرض من الكواكب الأخرى. وقال لزوجته وهو يغلي بأحزانه: من الحكمة أن تذهبي إلى بيت والدك بالهرم، بعيدًا عن هذا الجو المشحون بالعذاب والرعب.
لكنها تساءلت في احتجاج: أليس من المُخجِل أن أتركك على هذه الحال؟
فقال وهو يتأوَّه: ليتني أجد سببًا وجيهًا لإلقاء اللوم على نفسي، أو على أي من معاونيَّ!
ونوقشت المسألة في الصحف على نطاق واسع في مقالات مُسهبة بأقلام علماء النفس ورجال الدين. أما العباسية فقد اجتاحها الذعر، وأمسَتْ تُقفِر مع المغرب من سكانها سواء في المقاهي أو في الطرق، وبات كلٌّ وكأنه ينتظر دوره. وبلغت الأزمة ذروتها عندما وُجدت طفلة بمدرسة البنات الابتدائية مختنقة في دورة المياه.
وتابعت الأحداث بصورة مرعبة، وتلقاها الناس بذهول. لم يعُد أحد يهتم بالتفاصيل المملة عن التحقيق والبحث وآراء الباحثين في الصحف. انحصر التفكير في الخطر الداهم الذي يزحف غير مكترث لشيء، ولا يفرِّق بين شيخٍ وشابٍّ، وغنيٍّ وفقير، رجل وامرأة، صحيح ومريض، في بيت أو في الترام أو في الطريق. مجنون؟ .. وباء؟ .. سلاح سرِّي؟ .. خرافة من الخرافات؟! وغشِيَ الحزن الحي شبه المهجور، وأنهكه الذعر، وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذها، ولم يعُد لأحد من حديث غير الموت.
وكان محسن عبد الباري يتجوَّل في الحي كالمجنون، يتفقد الشرطة والمخبرين، ويتفحص الوجوه والأماكن، ومضى في يأسٍ تام. ويُناجي يأسه طويلًا، وهزيمته المريرة، ويود لو يقدم عنقه إلى المجرم شرط أن يعفي الناس من حبله الجهنمي. وزار مستشفى الولادة حيث ترقد زوجته. جلس إلى جانب فراشها قليلًا وهو يرنو إليها وإلى الوليد، مفترَّ الثغر عن ابتسامة. ابتسامة لأول مرة منذ عهد غير قصير، ثم لثم جبينها وذهب. عاد إلى الدنيا التي يود ألا يراه فيها أحد، ووجد ما يشبه الدوار. الحياة التي يقضي عليها حبلٌ مجهول فتصبح لا شيء. لكنها شيء بلا ريب وشيء ثمين، الحب والشعر والوليد. الآمال التي لا حد لجمالها. الوجود في الحياة .. مجرد الوجود في الحياة. أهناك خطأ يجب أن يُصلَح؟ ومتى يُصلَح؟ واشتد الدوار كما يحدث عند يقظة مفاجأة عقب نومٍ عميق.
ونمت أنباء إلى مأمور القسم بأنه تقرر نقل الضابط محسن عبد الباري، وإحلال آخر محله. استاء المأمور استياءً شديدًا، ومضى من فوره إلى حجرة الضابط الذي يقدِّره خير قدره. رآه مستلقيَ الرأس على المكتب كالنائم، فاقترب منه، وهو يقول بلطف: محسن …
ناداه فلم يرد، وكرر النداء ولكنه لم يرد، هزَّه ليوقظه فمال رأسه ميلة غريبة. عند ذاك لمح المأمور نقطة دم فوق السومان. نظر نحو زميله بفزعٍ فرأى أثر الحبل الجهنمي حول العنق، وزُلزل القسم ومَن فيه!
وحدثت سلسلة اجتماعات خطيرة في المحافظة، واتُّخِذت قرارات هامة وعاجلة. واستدعَى المدير العام جميع معاونيه وقال لهم بقوة وحماس: سنعلن حربًا لا هوادة فيها، حتى يُقبض على المجرم!
وتفكر قليلًا ثم استطرد: هنالك شيء لا يقل خطورة عن المجرم نفسه، وهو الذعر الذي اجتاح الناس.
– نعم يا أفندم!
– يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة.
وتجلى التساؤل في الأعين المستطلعة فقال المدير: لن تنشر كلمة واحدة عن الموضوع في الصحف.
وآنس من الأعين فتورًا، فقال: الحق أن الخبر يختفي من الدنيا إذا اختفى من الصحف.
وقلَّب عينيه في الوجوه ثم قال: لن يدري أحد بشيء ولا سكان العباسية أنفسهم.
ثم ضرب مكتبه بقبضته، وقال: لا حديث بعد اليوم عن الموت، يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة، ولن نكف عن البحث.