الفصل الأول
أعرف أن هناك صداقةً مثلًا وزمالةً وعلاقات إعجاب. أعرف أن هناك عداوةً أو محبةً أو لا مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسمًا للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به. من ناحيتي كنت واحدًا من ثلاثين ألف آدمي لا تجمع بينهم إلا «الأرينا» الهائلة الحجم، ولا يلتقون إلا عند رغبة مُلِحة واحدة، رغبة من رغبات البشر التي تظل تُلح وتُصر حتى تفرض نفسها وتتحقَّق بطريقة أو بأخرى. فرد من آلاف، مجرَّد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدَّى بضع محاولات، معظمها فشل؛ لكبت انفعالي كي لا أنساق وراء المواء الجماعي إذا صدر عن الآلاف، أو إخفاء وجهي اشمئزازًا أحيانًا، أو خوفًا، أو لضعف الأعصاب.
أمَّا هو فقد كان بالنسبة لي مجرَّد وجه اختارته عيناي من بين الآلاف لتلمحه، وما تكاد تلمحه حتى تتوقَّف عنده كقطار سريع يبطئ ليعود يمضي، فإذا بإبطائه يتحوَّل إلى وقوف. لم تتوقَّف عيناي لأن الوجه كان شاحبًا. لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب بإرادته. الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقُّف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئًا هو الذي أذهب لونه، وبيَّض قمحية وجهه. شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن إدراكه أو ضبطه، ولكن كان باستطاعتي أن أُقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الآلاف وإن كانت ملامحهم لا تنجح في الكشف عنه، ولا يهديك إليه إلا نظرة لذلك الوجه. أجل هناك كعُقاب خفي داكن رابض فوق سماء «الأرينا».
عُقاب له ثلاثون ألف مخلب. في كل وجه ينشب مخلبًا وَطواطيًّا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا دون أن يعي به أو ينتبه إليه أحد، أو يترك أثرًا واحدًا يُشير إلى وجوده لولا ذلك الإحساس المبهم الذي تُحسه وتشم رائحته تتسرَّ. إحساس جامع شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، والانقباض الذي يشمل البيت إذا نعقت في غنائه بومة.
وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميِّز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقَّع. وحده الذي حين تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تُدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة «الفيستا» والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليُعلن حتمًا عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونًا عن الثلاثين ألف إنسان، وبمثل شرارة التماس لا بد أيضًا أن يدق قلبك دقَّة الخوف؛ إذ تُدرك على الفور إدراكًا غريبًا مبهمًا وكأنما يهبط عليك كالإلهام أن ثمة شيئًا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه، وأنه أبدًا لن يُغادر «الأرينا» بنفس الحال التي جاء بها.
هذه الدقة المفاجئة وما صاحَبها من انزعاج صغير عابر، حدَّدت لحظةً خطيرةً غريبةً في حياتي، لحظة الْتقائي بإنسانٍ جديدٍ لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره، فإذا بالدقة تبدأ معها علاقة، وتتعدَّى العلاقة بسرعةٍ مراحل التعارف الأولى إلى مرحلة الصداقة، بل تتعدَّاها إلى ما هو أكثر، إلى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبُّع المشفق لخطِّ مصيره.
وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتَين عامًا، وكأنني أعود أتفحَّص ملامح عزيزٍ طالت غيبته محاولًا أن أُدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه دقيقًا نحيلًا يصنع برأسه الأنيق الذي بدأ شعره من أمام يخف ويتراجع، ويستعد لتسليم الرأس — أو الجزء الأمامي منه على الأقل — لصلع قريب. كان يصنع مع وجهه النحيف مثلَّثًا رشيقًا صغيرًا، كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير. ولكل وجه في الدنيا قصة يحكيها أو معنًى أو صيحة يُطلقها ويُعلن بها عن جماله مثلًا أو ذكائه، أو عمَّا يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدَّث عن نفسها، من الوجوه التي نُحِس بها دائمًا مشغولةً بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدَّث عن شيء بالذات أو مشغولًا بشيء. كان صامتًا، صمتًا لو صبرت عليه لاستحال إلى حزن، حزنًا لا بد شفافًا كحزن الملائكة، أو ابتئاس الأطفال.
وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرَّد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يُرغمك أيضًا، ولا تدرك كيف، على أن تُحس تجاهه — ومهما كانت سنك. ولو كنت أصغر منه — بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير.