الفصل العاشر
ودوَّت أصوات الأبواق عاليةً بحيث سمعها الجميع هذه المرة، ولفَّت أصداؤها أنحاء «الأرينا». ورفع مراقب المصارعة السبورة الخشبية التقليدية التي يكتبون فيها اسم المصارع. كنت أعرف ومتأكِّدًا هذه المرة أنه دور صديقي الميتادور، ولأنني استغربت أن أُكِن له كلَّ ما أشعر به وأنا لا أعرف مجرَّد اسمه؛ فقد حاولت أن أُدير رأسي مع السبورة كي أقرأ الاسم من مكاني والمراقب يلوِّح بها في كل اتجاه، ولكني لم أستطع. وعرفت حينئذٍ أن عليَّ أن أظل أجهل اسم ذلك الصديق حتى وهو يخوض للمرة الثانية مأزق الموت والحياة.
وبينما خلت الساحة تمامًا من المصارعين الذين اختفى كلٌّ منهم وراء أقرب حاجز خشبي، دوَّت أصوات الأبواق مرةً أخرى.
وفُتح باب الممرِّ المؤدِّي إلى الحظيرة.
ودخل الثور هائجًا كالعادة، مندفعًا متفجِّرًا.
ولكن دخوله قوبل بآخرِ ما كنت أتوقَّعه؛ فقد انفجرت في الحال بُقَع احتجاجات متفرِّقة، وبدأت الصيحات تنتشر وتشمل مساحاتٍ أوسع من الجمهور.
كان واضحًا أن الجمهور لا يُعجبه الثور، ويرى أنه أصغر سنًّا ممَّا يجب وأقل قوة.
وكانت الصيحات تُطالب بتغييره.
وبدأت معركة خفية بين المشرفين على «الفييستا» وبين الجمهور؛ المشرفون هدفهم الإسراع بالإجراءات التمهيدية لوضع الجمهور أمام الواقع، والجمهور يقاوم هذا بكل قوته ويطالب بتغيير الثور.
أمَّا الثور فقد كان أمره يدعو للحيرة؛ فهو في أحيان يبدو قويًّا يملك طاقةً لا حدَّ لها، وفي أحيان أخرى يتوقَّف فيظهر حجمه وسنه على حقيقتهما. وتتعالى صرخات الجمهور، بل دفعته سرعته الرعناء التي يتحرَّك بها مرةً إلى أن يتعثَّر ويسقط على أطرافه الأمامية، ولكن الاندفاع الجبَّار الذي كان قادمًا به جعله يحمل جسده كله ويقلبه إلى أمام مرتكزًا على قرنَيه ليعود ينقلب مرةً أخرى ليقف معتدلًا وينطلق وبنفس السرعة إلى هدفه لا يلوي على شيء.
وبدأ المصارعون يبرزون ويلوِّحون، والجمهور يزداد تشنُّجه وصخبه.
وكمحاولة أخيرة من المشرفين دوَّى صوت الأبواق يأمر راكبي الفرس «البيكادورز» بالدخول، وكأنما كان هذا ليس فقط إشارة البدء لدخولهم، وإنما لاستماتة الجمهور أيضًا في رفض الثور؛ فقد شملت المدرَّجات كلها موجات متعاقبة متزايدة صاخبة من المواء والصفير والهدير الغاضب.
ولكن الباب كان قد فُتح ودخل الفارسان وكلٌّ منهما قابض على حربته، ولم يلبث كلٌّ منهما أن مضى إلى النصف الخاص به من الدائرة الرملية بحيث إذا اختار الثور أن يهاجم أحدَهما انسحب الآخر.
وسكب دخولهما وقودًا جديدًا فوق النار المشتعلة، وازداد الجمهور عنفًا، وبدأت القبضات تلوح وألفاظ السباب تُسمع واللعنات من كل اتجاه تنصَبُّ على الفارسَين اللذَين تسرَّب الشحوب إلى وجهَيهما، وبدأ أحدهما يلوِّح بحربته مهدِّدًا الجمهور في حركة لا إرادية، ولكنه تهديد الخائف الشاحب. خوف يدعو للتأمُّل؛ فهذا جمهور لا قرون له ولن يُقتل غضبه، ولكن صيحاته، جئيرة. عداءه بعث في قلوب الفارسَين رعبًا دونه رعبهما من الثور والخطر الداهم بكثير.
ولم يكن هناك وقت لتأمُّلٍ أكثر، ففي هذه اللحظة دوَّت أصوات الأبواق مرةً أخرى.
حسبتها الغالبية أمرًا للفارسَين ببدء الهجوم.
ولكنه كان أمرًا من رئيس الاحتفال وقاضيه الأعلى يطلب منهما الانسحاب ومغادرة الساحة. وارتجَّت «الأرينا» بتصفيق كاصطفاق أمواج المحيط.
وفرح الفارسان وقد عادت الدماء إلى وجهَيهما بعد طول امتقاع.
وكذلك انسحب المصارعون بعباءاتهم إلى ما وراء العوارض الخشبية.
وبقي الثور وحيدًا وسط الدائرة الرملية، واقفًا وِقفة تحفُّز، ينظر في ريبة إلى السكون المفاجئ الذي شمل الدنيا فجأةً من حوله.
ولا بد أن الخطوة التالية كانت إخراجه من الساحة، والمشكلة العويصة التي وجدتها تحتلُّ كل تفكيري هي كيف ومن الذي يجرؤ وأية قوة يمكنها أن تُجبر هذا الكائن الجهنمي الطليق أن تجعله بطريقة أو بأخرى يعود إلى دخول الباب الذي خرج منه؟
وكنت على يقين أن التراث الطويل للعبة قد أوجد حلولًا لمثل هذه المواقف، ولكن أي حل؟ ذاك ما رُحت أفكِّر فيه، وكأن الموضوع لغز عليَّ أن أخمِّن له حلًّا سريعًا قبل أن أرى الحلَّ الصحيح أمامي بعد قليل.
وقد فكَّرت في طرق شتَّى، ولكني أبدًا لم أتصوَّر أن يكون الحل الذي ابتكرَته التجرِبة الطويلة والخبرة سهلًا وبسيطًا وعبقريًّا إلى هذه الدرجة.
الطريقة أنهم أدخلوا في الساحة ثلاث أو أربع بقرات من نفس الفصائل، وقد علَّقوا في رقابها علبًا من الصفيح داخلها قطع معدِنية تُحدث ضجةً كلما اهتزَّت، وقد كنت أحسب إناث هذا النوع لها نفس شراسة الذكر وطبيعته العدوانية، ولكن البقرات دخلت في هدوء وكأنها بقرات مستأنسة. وقد كنت أتصوَّر أيضًا أن الثور سينقَضُّ عليها لحظة أن يراها مثلما يفعل بالحصان أو بالخشب أو بأي ممَّا تقع عليه عيناه، ولكنه ما كاد يسمع أصوات الخشخشة حتى رفع رأسه مترقِّبًا والأبقار تُسرع إلى وسط الحلقة حيث يقف، ليس إسراعا أهوجَ متفجِّرًا أحمق، ولكنه إسراع الإناث المتأنِّي، إسراع الحياة الحريصة على استمرارها، المعقولة.
وفي ثانية كان الثور قد اختفى بينها وأصبح فردًا من قطيعها، يتحرَّك معه إذا تحرَّك وبنفس سرعته، ويقف إذا وقف وتنطبق عليه كل قوانينه، وقد زال عنه توتُّره وتحفُّزه ورعبه، وأيضًا زالت تمامًا كل رغبةٍ لديه في المهاجمة أو الانقضاض، وأصبح وكأنه الابن الضال الخائف المتوجِّس وقد عاد لأحضان أمهاته وخالاته وعمَّاته، وزالت عنه صفات الشريد المجرم لتحل محلَّها وداعة أبناء الأُسر.
وكان التغيُّر سريعًا وحادًّا وملحوظًا إلى درجة لا بد تُصيب المتتبِّع له بذهول. لكأنما عصا ساحر أشارت فاختفى الثور المرعب في ومضة وحلَّ محلَّه ثور آخر مختلف في كل شيء عنه. أتراها الأمومة؟ أم هي سحر الجماعة والقطيع؟ أم هو الإحساس بالوَنس؟ أم هذا كله مجتمعًا؟ إلى درجة لم أصدِّق فيها ما أراه حين دخلت إلى الحلقة بعد هذا فرقةٌ من ثلاثة أو أربعة فتيان غير مسلَّحين إلا بسياط تُفرقع في الهواء، وبفرقعتَين تحرَّك القطيع مسرعًا ناحية باب الخروج تحرُّكًا لا تستطيع أبدًا أن تميِّز فيه الثور المتوحِّش من البقرات المستأنسات. وهكذا وفي مثل لمح البصر انحلت المشكلة التي خُيِّل إليَّ أنها ستستغرق أزمنًا لحلِّها.
وأحسست بحاجتي أن يشاركني أحد فيما أفكِّر فيه وأتصوَّره، وليأسي من جاري الإسباني وبيننا الخندق اللغوي العميق، التفتُّ إلى جارتي الفاتنة المحتضنة زهورها والسابحة في وديان، ويبدو أني فعلت هذا في وقتٍ مناسب جدًّا وكأنها هي الأخرى كانت تهفو إلى من تشاركه، حتى خُيِّل إليَّ أني ألمح ألفاظ الحوار المتزاحمة تكاد تنزلق من تلقاء نفسها وتغادر طرف لسانها. وكادت الإنجليزية التي أُتقنها تخونني وأنا أحاول أن أجسِّد لها الخواطر التي راودتني وأنا أراهم يستعملون سلاح الأمومة للقضاء على وحشية الثور ورغبته في البطش.
ودون أن تعتدل وجدتها تقول في اعتداد كسول وبلهجة مَن تعوَّدت أن تقول رأيها ليصبح للآخرين منزلًا وقانونًا: لا أمومة هناك ولا شيء من هذا. المسألة تدريب. لقد درَّبوا الثور على أن دخول الأبقار وما يصاحبها من ضجة معناه الأمان ومعناه أن عليه أن يترك تحفُّزه وبطشه. نوعٌ من الانعكاس المشروط، ألَا تعرفه؟ ألَا تعرف الانعكاس المشروط الذي اكتشفه بافلوف؟
أعرفه؟! لقد كان باستطاعتي أن أقضي اليوم بطوله أناقشها فيه. ولكن ما فائدة أن تناقش إنسانةً لا تناقش لتقتنع أو حتى لتظلَّ على الحياد، وإنما هي تناقش فقط لتقنعك. إذا فُرض وتنازلَت هي وقبلَت مبدأ أن يستمرَّ النقاش، هكذا بدت حتى وهي هادئة تائهة سرحانة.
وكان غريبًا منها، وفي ظرف كالذي كنا فيه، وفي أحرج فترة، تلك الواقعة بين إخراج الثور وإدخال الآخر الذي لا بد أنه أقوى وأكثر وعورةً وخطرًا، خطورة حتمًا سيتحمَّل وزرها وضراوتها صديقها الميتادور الذي خصَّها بعنايته والذي تحمل له الزهور. غريب منها في لحظات حرجة كتلك أن تستطرد سارحةً أيضًا وتائهة، لا لتكمل النقاش حول كيفية إخراج الثور، وإنما لكي تسألني عن شيء خاص بي أنا، عن جنسيتي. سؤال لم تصدِّق أني أقول لها الحقيقة مجيبًا عنه. وبعناد غريب يُضحك رفضَت أن تقتنع أني عربي من مصر، وحمدًا لله أنها اكتفت بهذا الرفض ولم تشأ أن تفرض بمنطقها شديد المراس المدلَّل جنسيةً أخرى. والظاهر أننا كنا لا بد سنصل عاجلًا أو آجلًا إلى الموضوع الذي تحاشيت دائمًا أن نخوض فيه؛ فقد سألتني عن رأيي في كاسترو وثورته. وكأنما كانت تتوقَّع الإجابة فلم يبدُ عليها الامتعاض الكثير الذي توقَّعتُه، وإن شعرتُ أن مجرَّد نُطقي بالرأي قد حدَّد إلى درجةٍ ما علاقتنا إلى الأبد، وجعلها تُنزل من ناحيتها حاجزًا سميكًا لا يمكن اختراقه أو تجاهله. ومن خلال الحاجزَين، ذلك الذي أسدلته من ناحيتي والذي أسدلتُه من ناحيتها، بدا أن لا محلَّ ولا مجال لأية خطوة مُقبلة نخطوها معًا؛ فالأمر عندها ليس خلافًا في الرأي أو سياسة. ليس هناك إلا واحد من اثنَين؛ إمَّا أن تكون معها فأنت حينئذٍ صديقها، أو عليها وضدها لكي تصبح عدوَّها اللدود الذي لا تتورَّع عن محاربته بكل سلاح وأي سلاح! والناس بالتالي ليسوا في نظرها بشرًا لهم حيواتهم ووجودهم وآراؤهم الخاصة، ولكنهم أيضًا إمَّا معها أو ضدها، إمَّا أعداء أو أصدقاء ولا وسط ولا حياد. والعداوة عداوة كاملة! والصداقة أيضًا ليس فيها درجات! فهي تبغضك إذا نسيت وتجاهلتها ولم تُحبَّها، تمامًا مثل بغضها لك إذا قتلتَ أباها. عداوة وصداقة ليست بالعقل ولا بالمعقول ولا تخضع لمنطقٍ أو حجج؛ فهي لا تستطيع أن تبرِّر لك عقليًّا كرهها لكاسترو، وتجد أن من الإهانة لها أن تطلب منها تفسيرًا لرأيها؛ إذ يكفي جدًّا أنها هكذا أرادت وعليك أن تَقبل وليس على العالم إلا أن يخضع لتلك الإرادة وإلا عادته وأصبح في نظرها هو ذلك العالم المقيت السخيف الذي لا معنى له.
وكم أحسست بنفسي موزَّعًا مُشتَّتًا بين كلامها الذي يكشف عن شخصية جديرة بالدراسة والتفرُّج، وبين انشغالي الأعظم بالمصارعة وبالثور الذي خرج، وبصديقي الميتادور وغريمه الذي لا ريب سيدخل حالًّا. أريد أن أترك كل شيء وأسمعها ولا أستطيع إلا أن أهب نفسي تمامًا للدقائق الرهيبة التي يضمني فيها ذاك العالم الجديد عليَّ تمامًا.
غير أن الواقع نفسه لم يلبث أن تكفَّل بضبط اهتمامي؛ فقد تصاعد صوت الأبواق يعلن فتح الباب للثور الجديد.
واندفعت الكتلة السوداء داخله، وأسكت دخول الثور الساحة تمامًا وقضى على كل ما كان باقيًا من هَمهمات؛ فقد اختير وكأنما ليُفحم الجمهور الحاضر ويغلق أفواهه. بدا للأعين أضخم من كل ما سبقه من ثيران وأكثر قوةً وشراسة. ولم يندفع إلى الحلقة في جريِ مراهقٍ مجنون مثل سابقيه، ولا مضى بحمقٍ وإسرافٍ وبذخٍ يُبعثر قواه في سباق موهوم لا طائل من ورائه. بدا وكأنه مدرَّب محترف لا حدَّ لثقته بنفسه، يَدَّخر قواه كلها إلى اللحظة التي يلمح فيها هدفًا أو تتحرَّك أمامه عباءة. حينئذٍ وباندفاعٍ ديناميتي صاعق، وفي أقل من غمضة عين يكون قد انطلق ووصل وانقضَّ على الهدف مكتسحًا إياه بكل سرعته وكتلته، وما في جسده المحشوِّ من طاقات، وكأنه «بولدوزر» خرافي كفيل بتحريك الجبل إذا اعترضه، بل كفيل بسحقه ونسفه وتحويله إلى هباء. ثورٌ ما كاد يدخل ويلوَّح له بالعباءة مرةً أو مرتَين، ويقطع الدائرة الرملية منقضًّا، ويبدأ الناس يمعنون فيه النظر ويتأمَّلونه حتى تأكَّدت أن كلًّا منهم لا بد أصيب بنفس القشعريرة التي أحسستها، حتى وأنت واثق تمامًا ومتأكِّد أنك بعيد عنه وأنه لن يقترب منك أبدًا ومستحيل أن يُهاجمك، لا تملك إلا أن تُحس بالخوف، ذلك النوع من الخوف الذي نشعر به تجاه كلِّ شيءٍ مهول مطلق بغير حدود، تجاه كل ما ليس له ند، تجاه كل ما لا يمكن التصدي له أو مقاومته.
ولأول مرة أحسست بالقلق العظيم يتحوَّل إلى خوف حقيقي، خوف على صديقي الميتادور الذي كان عليه أن ينازل هذه القوة الغاشمة المطلقة. صحيح هو قد أثبت لي وللألوف الثلاثين ومنذ وقتٍ قليل أنه بطل وأنه حاذق، وأن باستطاعته أن يصرع الثور في لمح البصر.
ولكن ما رأيناه شيء وما كنا نراه شيء آخر.
رحت أتأمَّل الثور وأعود أتأمَّل الجزء الظاهر من جسد صاحبي الدقيق النحيف، وما من مرة أعقد المقارنة إلا وأحس أني على وشك أن أصرخ طالبًا منه أن يترك الساحة وينسحب. وكأنه سمع الصرخات التي لم تنطلق؛ ففي تلك المرحلة الأولى حيث يتناوب المصارعون محاورة الثور لدقائق قليلة لاختبار مدى قوته وإدراك نُقَط ضعفه ومعرفة طريقته في الهجوم ومبلغ تحكُّمه في جسده وأطرافه، خرج له صاحبنا يتحدَّاه ويستفزه بجسد بدا أنحف وأدقَّ ممَّا كان، ووجه يكاد يتحوَّل إلى مستطيل.
وانقضَّ الثور بكل عنفه وقواه، وببساطة غريبة تحاشى الميتادور هجمته، وانقَض ثانيةً وتحاشاه، ومرةً ثالثةً استجمع كل البدائية والتوحُّش وانقضَّ وتحاشاه، وتصاعد من «الأرينا» تصفيق كأنه علامة اطمئنان كبرى.
واسترجعت بعض أنفاسي، وتضاءل خوفي ولكنه ظلَّ هناك.
وبدأت مرحلة البيكادورز راكبي الأحصنة. مرحلة الطعن للإضعاف. ولم يُقدَّر للفارس الأول أن يفعل شيئًا؛ فبضربة واحدة من قرنَيه أطاح الثور بالفرس وألقاه كتلةً لا تتحرَّك في ناحية، وسقط الفارس في ناحية أخرى. ضربة من القوة بحيث اعتقد الناس أن الفارس والفرس قضيا، ولكن كان لا يزال في عمرهما بقية، وتكفَّل ثمانية مصارعين بشغل الثور وقتًا أمكن فيه إيقاف الفرس المكوَّم وإخراجه، وكذلك فعلوا بالفارس.
وبوجه ليموني أصفر دخل الفارس الثاني وهالةٌ من إشفاق الجمهور تحفُّه، الجمهور نفسه الذي لا يكره شيئًا قدر كرهه للفارس ودوره وقد قلب جبروت الثور عواطفه وموازينه.
والمفروض أن الثور لا يهاجم الفرس مباشرة، ولا يفعل هذا إلا بسلسلة من المحاورات يقوم بها المصارعون على التوالي ليُزحزحوا الثور من مركز الدائرة الرملية في الوسط إلى ذلك الجزء من محيطها الذي يوجد فيه الفارس. وفقط حين يحدث هذا ويلمح الثور الفرس يبدأ في مهاجمته، هذه المرة ومن مكانه في مركز الدائرة لمح الثور الحصانَ وراكبه، ولم يحتَج الأمر مناورةً أو مداورة؛ فقد أقبل في زوبعة سوداء هائلة، ولولا أن الفارس تحرَّك بفرسه قليلًا وفي الوقت المناسب لحدثت كارثة؛ إذ بهذا الانحراف القليل تفادى من الصدام المروِّع وانكشف له ظهر الثور، ولم يلبث أن غرس فيه بجماع قوته الحربة. وظلَّ الثور يدفع الفرس برأسه، والفارس بكل ما فيه من قوة وما تسلَّط عليه من رعب يدفع الحربة بين كتفَيه. الثور يدفع وهو يدفع. اللحظات نفسها التي يتأوَّه لها الجمهور تقزُّزًا وتألُّمًا لم تُحدث شيئًا من هذا الأثر؛ فالثور كان يبدو للجمهور كمارد عملاق غير محدود القوة لا يمكن أن يتألَّم أو تؤثِّر فيه طعنات. حتى حين خلع الفارس حربته ورشقها في الناحية الأخرى طاعنًا إياه طعنةً ثانية، مُصرًّا على إبقاء الحربة مغروسةً في لحمه، ودفعها بأقصى قواه وطعنه، لم يتأثَّر الجمهور أو يتململ فقد كان على استعدادٍ لتقبُّل طعنةٍ ثالثة ورابعة.
ولكن الأبواق دوَّت مُعلنةً انتهاء مُهمَّة الفارس.
وكذلك دوَّت الساحة بموجة تصفيق ربما المرة الأولى والأخيرة التي يُصفِّق فيها الجمهور لفارس على مُهمَّته المقيتة وعلى نجاحه في أدائها.
وانسحب البيكادور وهو يُحيِّي الجمهور ووجهه يطفح بالسعادة، وكان أقصى ما كان يتوقَّعه أن يخرج سالمًا، وإذا به يخرج بطلًا أيضًا.
وجاء دور غارس الأعلام (الباندريللوس).
وأن تفعلها مع أي ثور أمر قد يكون معقولًا، أمَّا مع هذا الثور بالذات فهو انتحار لا شك فيه؛ إذ قد بدا من تحرُّكاته الأولى أنه يملك مقدرةً هائلةً على تكييف اندفاعه وضبط تصويبه والقدرة على إيقاف نفسه في الحال والاستدارة، ثم الانطلاق بنفس سرعته الأولى المخيفة.
ولكن المرحلة تمَّت ودون أي حادث، والجمهور لا يكاد يصدِّق، وغارس الأعلام نفسه كأنه في حلم أو أُنقذ من موت محقَّق بمعجزة أو بأعجوبة.
هكذا كانت ملامحه تنطق وتوزِّع ذهولها على زملائه والثور والمدرَّجات. وبنفخة بوق طالت وامتدَّت أُعلنت بداية مرحلة الصراع الحقيقي (الميوليتا).
ومن خلف العارضة، وبقناع شامل من الثقة والشموخ، وبخطوات إرادية محسوبة تحرَّك صديقنا الميتادور آخذًا طريقه داخل الدائرة مقتربًا من الثور.
ولا بد أن خطأً كان قد وقع أو حدث؛ فقد سرت في المدرَّجات همهمة، ارتفعت داخلها أصوات سرعان ما لفَّتها نوبات دهشة واستغراب.
وزادت دهشتي حين بدأت الأنظار تتجه إلى ذلك الجزء من المدرَّج الذي كنا نجلس فيه. حركة جعلتني أُفيق من الأحداث التي جرت وامتصَّت انتباهي، وأعود أفطن إلى وجود جارتي اللاتينية الفاتنة التي لا بد أن الأنظار تقصدها، وتقصدها لسبب ما.
ووجدت نفسي أقتحمها أنا الآخر بنظراتي.
كانت الحمرة هذه المرة ليست أبدًا حمرة الخجل؛ حمرة قانية، حمرة دم محروق لا يزيده الزمن إلا سوادًا، وكانت ملامحها جامدةً أيضًا ثابتةً لا تتحرَّك، ووجهها قد انحرف ينظر إلى ناحية. نفس صورتها الأولى مع فارق أساسي واحد أن السبب فيها لم يكن الخجل؛ كان الغضب، غضب المدلَّلين الجارف العنيد؛ فقد كان مفروضًا بعد هذه التحية التي تلقَّتها منه في المرة الأولى أن يأتي إلى حيث تجلس هذه المرة ويحيِّيها قبل أن يبدأ صراعه مع الثور، علنًا وأمام الناس، ويقذف لها بقبعته مهديًا إليها عمله «الفني» الخطير الذي يوشك الإقدام عليه. ولكن شيئًا من هذا لم يحدث؛ فها هو يتجه إلى الساحة ومعه العباءة الحمراء دون أن يُهدي إليها أو يُهدي إلى أحد شيئًا، وها هي جماهير المتفرِّجين، حتى المتفرِّجين، تتذكَّر ما كان يجب عليه عمله وتلتفت إليها، بينما هو — وكأنما لم تكن — ولا حدث بينهما شيء.
كانت إحدى يدَيها تقبض على باقة الزهور بشدة، بينما الأخرى تسحق زهرةً اختارتها وأخرجتها من مكانها، ومضت تمزِّقها بأصبعَيها ووجهها أسود بالاحمرار والغيظ، غير أن هذا لم يدُم إلا للحظة تمالكَت نفسها بعدها، أو على الأقل هذا ما بدا، ووضعت الزهور جانبًا وارتكزت على الحاجز أمامها بكلتا ذراعَيها وانصرفت تمامًا، أو هكذا بدا أيضًا، إلى التفرُّج ومتابعة ما يدور في الساحة.
كنت أتمنَّى لو استجابت للضعف الأنثوي مرةً وأسقطت دمعة؛ إذ ليس أجمل من أن ترى العناد المدلَّل وهو يتحطَّم أمامك رغمًا عنه وعن صاحبته.
ولكني لم أشَأ أن أضيع الوقت في انتظار ظهور دمعتها، وعدت إلى الساحة.
مرحلة الميوليتا بالذات، قمة اللعبة وأروع ما فيها، مرحلة لها كِيانها المستقل وخصائصها. الميتادور يكون قد اشترك مع زملائه فيما قبلها من مراحل وخبر الثور وعرف الكثير عنه، ولكنه لا يبدأ يعرفه معرفةً حقيقيةً إلا هنا، حين تخلو الساحة تمامًا إلا منهما، حين تُصبح عليه وحده مسئولية مواجهته؛ ولهذا فدقائقها الأولى مليئة بالتوتُّر والأعصاب المشدودة وكل الظواهر المصاحبة لبداية العمل الخطير، ولكنها مظاهر وظواهر لا تبدو إلا لعين خبيرة؛ فالمصارع يحرص بوعي شديد — ولعله العمل الواعي الوحيد الذي يقوم به المصارع عن إرادةٍ وإدراكٍ خلال تلك الدقائق — يحرص على إخفاء حالته تمامًا في ثوب الكبرياء الذي يرتديه، والبطء النسبي الذي يتحرَّك به. لكأنه يقدم لغريمه أول مرة ويحرص على أن يبدو أمامه على هيئة المترفِّع المتعالي الذي يتنازل ويَقبل مصارعته. هكذا يبدو الميتادور وهو واقف وِقفته التقليدية مُعوَج العنق، رافعًا ذقنه في شموخ، نافخًا صدره، متراجعًا برأسه إلى الوراء، داقًّا الأرض بقدمه دقاتٍ تتلوها وتسبقها أصوات منادية مستفزة يتحدَّى بها الثور أن يهاجمه كاشفًا له الوجه الأحمر للعباءة ليثيره ويدعوه إلى الانقضاض.
والحقيقة لا تكون هناك حاجة لاستثارته أو دعوته؛ فهو المبادر دائمًا بالحركة، المندفع، يهاجم في كل اتجاه، المثير في غريمه كل ذلك الاضطراب الأول، والتوتُّر وشدة الأعصاب.
وكل هجمة من الثور تزيد من اضطرابه وضعف ثقته بنفسه.
وكل حركة من المصارع يحشد لها كل طاقته المشتَّتة، ويضع فيها كل حذقه ليردَّ بها على الهجوم، وكل حركة كهذه تصدر عنه ولا تظفر من الجمهور بتحية أو ترتفع لها «أوليه» تزيد الموقف تعقيدًا والأعصاب المشدودة توتُّرًا.
يظل الميتادور هكذا واجف القلب فاقدة الثقة ضائعًا بالكاد يستطيع التماسك والوقوف، خائفًا من الثور خوفًا يضيف إلى وجهه كل جزء من الثانية طبقةَ صُفرةٍ جديدة، يظل هكذا إلى أن يحدث ويأتي بحركةِ ردٍّ يخرج بها من مأزق وعر، فتُفلت من الجمهور رغم عنه آهة الاستحسان الأولى. فقط حين تتصاعد هذه «الأوليه» الأولى، وتصاعدها بالمناسبة ليس أمرًا سهلًا؛ ففي دقائق البداية يقف الجمهور دائمًا من الميتادور موقف المتحفِّظ الكابح لجماح انفعاله بحيث يظل بإرادته يؤجِّل إظهار استحسانه إلى حركة أروع وأخطر.
وإذا ترك الأمر لإرادته فمن المحتمل جدًّا أن تنتهي المصارعة دون أن تظهر بادرة استحسان، ولأن إظهارها أمر مهم وهو الذي يجعل المصارعة تَحمى والمصارع يقوى وينتصر. بغير مشاركة هذا العنصر المهم فلن توجد اللعبة أو قد توجد على هيئة محاورات باردة لا تثير أية متعة أو انفعال؛ ولهذا فصيحة الاستحسان الأولى تأتي دائمًا لا إرادية، أكثر من هذا، تأتي رغم إرادة الجمهور الكابت لرغبته كلما انتابته الرغبة لإظهار الاستحسان.
هذه «الأوليه» الأولى هي الشرارة التي تحدث وتُضرم النيران.
فعلى أثرها تنتهي تمامًا كل مظاهر اضطراب البداية ويتحوَّل المصارع من طرف سلبي هَمُّه أن يدافع عن نفسه ضد هجمات الثور حتى وإنْ بدا أنه هو الذي يستفزه للهجوم، إلى الطرف الإيجابي الذي يسيطر على المصارعة ويحرِّكها ويزيد سرعتها ويبطئها. الطرف الذي يحرِّك الثور في الاتجاه الذي يريد، فيضيِّق عليه الخناق أو ينصب له الشرَك، صاحب اليد العليا.
وهنا وحين تتخطَّى مرحلة الميوليتا هذا الطور الأول ينسى الميتادور شكله المتكبِّر المترفِّع الذي يُحب أن يبدو به أمام الثور وأمام الناس، ويبدأ يتحرَّك بحرية وبلا أي تقيُّد بالمظهر، وهمُّه كله أن يستغل قدرته على التحرُّك السريع وخفته كي يتغلَّب بها على شدة مراس خصمه وقدرته الجبارة على الجري والاندفاع.
وهكذا مضى صديقي الميتادور وكل أعصابي وانتباهي وتركيزي قد أصبحت جميعها معه وكأنني أخوض المعركة بجواره. مضى يحاور الثور الذي بدا، بارتفاع منطقة أكتافه الأمامية وعنقه ورأسه عن بقية جسده، كأسد بقري متوحِّش أُحضر لتوِّه من الغابة. أسد لم يتكفَّل جسده العاري من كل فروة أو شعر بتخفيف حِدة مظهره أو كتلته، وكأنه مصنوع من صخر أسود كثيف ثقيل أو من حديد حي، الضخم ضخامةً لا بدَّ تبعث على الدهشة والذهول إذا قورنت بسرعتِه وقدرتِه على الاندفاع من الصفر إلى سرعة أكثر من المائة كيلومتر فجأة، وقدرته الأخرى الخارقة على التوقُّف فجأةً أيضًا، والهبوط من المائة إلى الصفر مرةً واحدة. وليس توقُّفًا فقط، ولكنه التوقُّف والدوران دورةً كاملةً ثم معاودة الاندفاع من الصفر إلى المائة، وكل هذا يحدث في لمح البصر ويصدر عن هذه الكتلة الثقيلة الرهيبة الضخمة.
وفي مقابله كان صديقي الميتادور عوده له مثل رشاقة ملامحه. ليس فارع الطول ولكنك لا تُحس به قصيرًا، وساقاه تبدوان في سرواله الضيِّق اللاصق بهما رفيعتَين كنبُّوتَين من نبابيت «الصعايدة» عندنا، ولكنهما أيضًا تبدوان غير هشَّتَين بالمرة وكأنما صُنعتا من خشب الرمان، سريعتَي الحركة بطريقة لا تكاد تراهما وهما تتحرَّكان حتى لتظهرا وكأنهما ثابتتان، ولا وجه للمقارنة بين حجمه وحجم الثور. لا يكاد حجمه أو وزنه يعادل طرفًا واحدًا من أطراف الثور الأربعة، ولعل هذا ما كان يدفع الثور إلى الجنون وإلى الهجوم بجنون على ذلك الشيء الصغير الواقف أمامه في الساحة يتحدَّاه، ويقف إذا هاجمه ولا يهرب منه أو يخاف، مستغلًّا الفارق البسيط الذي ميَّزَته به الطبيعة أبرع وأروع استغلال؛ فالثور رغم كل جبروته وضخامته يتحرَّك على أربع، مسألة قد تبدو غير مهمة إذا كان الثور منطلقًا في جريه إلى الأمام، أمَّا حين يتطلَّب الأمر استدارةً أو انحرافًا أو تغييرًا للاتجاه تصبح الأطراف الأربعة كارثةً معوقة، ويبدو الثور عندها وكأنه العربة بلا «دركسيون» إذا كان عليها أن تنحرف فلا بد أن تصنع قوسًا كبيرًا.
وإذا كان عليها أن تستدير لا تفعل هذا بنقطة كما يفعل الإنسان في الطريق. إنه يستدير في دائرة، ويُغيِّر اتجاهه بمنحنًى، وينحرف بقوس، ولا يملك كما لا يملك كل بني مملكته إلا أن يفعل هذا إلا إذا ملك القطار أن يتحرَّك بلا قضبان.
وعلى هذه النقطة التي تبدو بسيطةً هيِّنةً بُنيت لعبة مصارعة الثيران بكل مهرجاناتها وتاريخها وآلاف السياح الذين يأتون من آلاف الأمكنة وينفقون آلاف الملايين من الدولارات لرؤيتها. أجل قدرة الإنسان على أن يستدير حين يريد في نقطة وعدم قدرة الثور على الاستدارة إلا في دائرة. هذا الفرق بين النقطة والدائرة، بين المركز والمحيط، هو الذي يصنع منطقة الأمان التي يحتمي بها المصارع ويضمن ضمانًا أكيدًا ألَّا يمَسه الثور طالما هو داخلها لا يتعدَّاها. وكل ما يفعله ليحقِّق هذا الغرض أن الثور حين يُقبل مهاجمًا وهدفه العباءة الحمراء يظل المصارع واقفًا في مكانه ثابتًا إلى أن يصبح الثور على مسافة نصف قطر الدائرة التي يصنعها الثور إذا دار حول محوره؛ أي الدائرة الكائنة بين ساقَيه الأماميتَين والخلفيتَين. على المصارع أن ينتظر إلى أن يصبح الثور منه على هذه المسافة؛ لأنه لو تحرَّك والثور على بُعدٍ أكبر ففي استطاعة الثور أن يُغيِّر اتجاهه وينحرف ويصيبه، أمَّا حين تكون بينهما هذه المسافة وينحرف المصارع فإن الثور إذا انحرف فهو لا يستطيع مطلقًا أن يصل إليه أو يصيبه؛ لأن الثور حينئذٍ يكون قد اجتاز المكان الذي انحرف إليه المصارع حتى أصبح المصارع يواجه منتصف بطنه. وبفرض أن الثور استطاع أن يوقف اندفاعه فورًا فهو لا يملك أيضًا أن يصيب الرجل، وعليه لكي يفعل أن يستدير ليواجهه برأسه.
ولو كان يستدير كالإنسان في نقطة؛ أي هو واقف في محله؛ لأمكنه فعلًا أن يسدِّد إليه الإصابة، ولكنه لا يستطيع أن يستدير إلا إذا صنع بجسده دائرةً كاملة، وحين يُتم الدائرة ويتهيَّأ للانقضاض لا يجد المصارع هناك أيضًا؛ إذ يكون الأخير قد انتظر حتى استدار الثور ثم غيَّر من موقفه بطريقة على الثور فيها أن يصنع دائرةً كاملةً أخرى حول المصارع، دائرةٌ المصارع مركزها، المصارع الذي ينتظره حتى يقارب إكمال الدائرة ليندفع بسرعة وخِفة وينحرف جانبًا مُغيِّرًا من مركز الدائرة، مطالبًا الثور أن يعود ليصنع دائرةً جديدةً وهكذا.
سلسلة من المواقف تُكوِّن سلسلةً من الدوائر التي يدور فيها الثور محاولًا في كل مرة أن يواجه المصارع ليسدِّد له طعناته بينما المصارع لا يُنيله غرضه، بحيث كلما قارب الثور إتمام الدائرة والهجوم غيَّر المصارع من موقفه قليلًا لكي يتحتَّم على الثور أن يصنع دائرةً أخرى ليواجهه، ولا يتحقَّق هدفه أبدًا لأن المصارع يغيِّر دائمًا من موقفه في اللحظة المناسبة.
ذلك هو الأساس أو المبدأ الذي منه تتشعَّب المباغتة في المصارعة، ويختلف الميتادور عن غيره، بحيث إن أبرعهم جميعًا هو ذلك الذي يجعل الثور يتحرَّك أكثر وأقوى حركة في مقابل أقل حركة ممكنة منه.
ولذا كلما انتظر الميتادور حتى اللحظة الأخيرة لإكمال الدائرة ليغيِّر موقفه أصبح على الثور أن يتحرَّك أكثر؛ إذ لا بد أن يصنع دائرةً كاملةً ثانية، في حين أنه لو تحرَّك في وقت مبكِّر ففي استطاعة الثور أن يوفِّر الجهد فلا يضيعه في إكمال الدائرة الأولى، ومن فوره يشرع في صنع الثانية. وكذلك كلما قربت المسافة بين موقف المصارع الأول وبين الموقف الذي ينتقل إليه، ضاقت الدائرة التي على الثور أن يصنعها، وبالتالي بذل جهدًا أكبر كي يجعل كتلته الضخمة تلك تتحرَّك دائرةً داخل هذا النطاق الضيِّق المحدود.
وهكذا يُعتبر المصارع المثالي هو المصارع الذي يستطيع أن يتأخَّر في حركته إلى أن يكاد الثور يلامسه، وإذا تحرَّك مغيِّرًا موقفه تحرَّك أقل مسافة، أو أروع وأروع حين لا يتحرَّك بالمرة، وحين يظل واقفًا في مكانه بحيث تتضاءل المسافة التي يتحرَّكها حتى يصبح الفرق بين مواجهة الثور بصدره ومواجهته له بجانبه.
إن الهدف من مرحلة الميوليتا كلها هو إرهاق الثور إلى درجة الاستسلام.
وهذه الحركات الدائرية المحدودة أشد إرهاقًا للثور من أي جري منطلق في أنحاء الساحة؛ ولهذا فبعد بضع حركات كهذه يبلغ الإرهاق بالثور المطعون قبلًا، النازف اللاهث المغروس في ظهره ستة أعلام تنخر عظمه وتؤلمه، يبلغ الإرهاق به إلى حد أن يكف عن الهجوم أصلًا ويقف في مكانه لا يتحرَّك، وحينئذٍ تصل ثقة الميتادور بنفسه وبما ألحقه بالثور من إرهاق حدَّ أن يغادره موليًا إياه ظهره محيِّيًا الجمهور الذي تُدوِّي الساحة بهتافاته.
وكنت قد رأيت مرحلة الميوليتا تمر بهذه الخطوات أو معظمها. رأيت الثور يدخلها كتلة حياة تنفجر بالحركة والوحشية والنشاط، وبطريقة يبدو وكأنها ستظل هكذا إلى الأبد وكأن لا شيء هناك قادر على النيل منها. ويظل الأمر كذلك إلى أن يدخل الثور فخَّ الدوائر اللانهائية، ولا تكاد تمضي بضع دقائق عليه فيها حتى ينقلب لهثه إلى فحيح مسموع وزبد، وحتى يمتد لسانه شبرًا من فمه تعبًا وإجهادًا، وحتى يكاد يسقط من تلقاء نفسه إعياءً. بضع دقائق فقط يتولَّى هو بنفسه قتل نفسه فيها تعبًا وإرهاقًا، وتتكفَّل رغبته الغاشمة البدائية في مهاجمة كل أحمر أمامه، تلك التي تدفعه للجري المهلك حاشرًا نفسه داخل دوائر أضيق فأضيق ساعيًا وراء سراب العباءة الحمراء، تتكفَّل هذه كلها بإحالته من كتلة حياة متفجِّرة إلى حياة خامدة، إلى مجرَّد حيوان متعب لاهث لا فرق بينه وبين الكلب أو الخنزير. رأيت هذا يحدث للثور الأول والثاني والثالث، أمَّا هذا الثور الرابع ومع صاحبي الميتادور؛ فقد رأيت ما لا يكاد يصدَّق.