الفصل الثاني عشر
كانت المعركة بين الثور وصاحبنا ومحاوراتهما قد أخذتهما بعيدًا عن مقاعدنا إلى الناحية الأخرى. والقرب والبعد مسألة مهمة، لا لإمكان متابعة الصراع عن كثب وملاحظة كل تفاصيله، ولكن لأن وجودك بعيدًا عن الصراع يقلِّل من انفعالك به دون أن تشعر، بحيث تراقبه وليس بينك وبينه مسافة مترية فقط، ولكن مسافة نفسية أيضًا تجعل الصراع يصلك وكأنه أخبار تنتقل إليك. أمَّا وجودك على مقربة من المعركة فهو يجعلك رغمًا عنك تشترك فيها وتحياها، تمامًا مثلك حين تمر بخناقة بعيدة مهما بلغت قوتها فلن يصل اهتمامك بها إلى حد التوقُّف أو التوجُّه إليها، وحين تمر بالخناقة على نفس رصيفك فإنك رغمًا عنك تتوقَّف وتصبح جزءًا منها.
وهكذا تكفَّلت المحاورات المتصلة بنقل مركز الصراع بحيث أصبح في الجزء من محيط الدائرة الرملية الذي يلاصق مقاعدنا، أصبحت المعركة بالنسبة لجمهور مدرَّجاتنا كله أكثر جديةً ورهبةً ووحشية. كان الثور حين يُقبل مهاجمًا نُحس لقربنا الشديد أنه لا يصوِّب قرنَيه إلى الميتادور وحده، ولكنه يصوِّبهما إلينا أيضًا، وكأن الميتادور متفرِّج معنا متطرِّف المقعد أو الوقفة ليس إلا. وحين كانت المعركة بعيدةً كنا نتفرَّج ونتحمَّس أو يهبط حماسنا تبعًا لما نراه من حركات.
ولكننا هنا فقدنا القدرة على التفرُّج. شُلَّت أكفُّنا وحناجرنا عن أن تصفِّق أو تهتف. أصبحنا كصاحبنا المصارع نتنهَّد فرحةً كلما نجح في الإفلات من هجمة، وتدق قلوبنا برعب حقيقي حينما يُضيِّق عليه الثور الخناق ويُقبل، وكأنما للمرة الأخيرة التي جهَّز فيها نفسه على أن يضرب الضربة القاضية وقد أصبح وجهه قريبًا باستطاعتنا رؤية تفاصيل ملامحه.
يا لَبشاعتها حين يُقبل متخذًا بها سحنة الضربة القاضية! لقد اكتشفت وأنا أتأمَّل ملامحه وأفعل هذا ربما للمرة الأولى في حياتي، ونادرًا ما يحدث لنا أن نعيد تأمُّل ملامح أي كائن من الكائنات التي تعوَّدنا رؤيتها، نادرًا جدًّا ما نُلقي نظرةً فاحصةً واعيةً نراجع بها شكل القطة في نظرنا مثلًا. هذا الثور، لقد آمنت أنه أبشع المخلوقات شكلًا، وكل ما في ملامحه كُتَل كروية بشعة اللون والتكوين، كرتان بارزتان من جانبَي جبهته ثعبانيتا اللون على هيئة عيون، وكرة ذات فتحتَين موضوعة على بُعدٍ كبير من الكرتَين لتكون الأنف، أي أنف. وفم ليس سوى شق واسع قبيح يشطر ذلك الشيء المستطيل بلا معنًى، المثلث بلا هدف، إلى شطرَين وكأنما هي كتلة خشب لا تَصلح من بشاعتها لشيء، قام نجار غبي بشقها بلا هدف أيضًا، ووسَّع الشق بإسفين، هو ذلك اللسان الممدود، ناهيك حين تنقلب هذه الملامح البشعة تحت تأثير الهياج والرغبة البدائية الوحشية في التحطيم والقتل والتخريب، حين تتفتَّح على آخرها ثقوب الأنف وتنقلب حوافها إلى أعلى وترتعش منقبضةً منبسطة. وحين تحمرُّ كرتا العينَين وينقلب الثعباني الأصفر إلى لون الدم، ويصبح الوجه المستطيل الغبي أكثر استطالةً وغباءً وحمقًا، وشق الفم أكثر اتساعًا وإسفينه اللساني قد تدلَّى وارمًا متضخِّمًا يسيل منه اللعاب. لعاب كثير يسيل من اللسان ومن الفم والأنف وحتى من العينَين، وتتساقط السوائل كغضب سائل كنقمة ذلك الوحش الكاسر تلفظها عيناه، وتتفصَّد من كل عظمة وعضلة وظلف فيه.
كان المنظر يرعب حقًّا ويدفع الفتاة الكوبية للتشبُّث بحديد السور وكأنما تستغيث مُروَّعةً استغاثاتٍ مكتومة، لا تحاول هي وحدها بل يحاول الجميع كتمانها كلٌّ على طريقته.
وكان الثور يلهث، وهو طوال الوقت يلهث، ولهثه كان أبشع من أي شيء سمعته أو تسمعه أذناك. لا، ليس خوارًا ولا شخيرًا، وإنما شيء كالشهقات المتقطِّعة المخنوقة التي تنبعث ليس من التنفُّس وإنما من معاناة الألم العظيم. صوت خشن منخفض مكتوم متوالٍ على هيئة لهث منتظم متزايد السرعة تقشعر له الأذن نفسها حتى قبل أن تنقُله إلى مراكز الإحساس العليا ليبعث القشعريرة في الجسد كله. صوت لا بد يذكِّرك لا بشيء سمعتَه في حياتك أو حياة آبائك وأجدادك، ولكن بأصوات المخاطر البدائية الأولى حين كنت إنسان الغابة وحيث لا تزال بقايا عقلك البدائي تحتفظ بأمثال هذه الأنات وبأصدائها، وترتعش رعبًا إذا استعادتها رغم ملايين السنين من التطوُّر والتغير والتاريخ.
وكانت قد مضت عشرون دقيقة على بداية «الميوليتا» اعتبرها الإسبان المتناثرون حولنا في لحظات الراحة التي كانت تتم رغمًا عنا، وبسبب فشل أجهزتنا وقوانا في القدرة على استمرار المتابعة وتركيز الانتباه مع الانفعالات الهائلة المروِّعة التي تصاحبه، لحظات راحة تتبدَّى على هيئة تعليق طال كبته، أو آهة مسموعة تنطلق بلا أوان، أو كلمة لا معنى لها تصدر عن صاحبها بلا وعي أو هدف. اعتبرها هواة اللعبة الإسبان رقمًا يحطِّم غيره من الأرقام من ناحية الزمن، ومن ناحية القدرة اعتبروها معجزة؛ فلم يحدث في تاريخ اللعبة — أو على الأقل تاريخهم في اللعبة — أن رأوا ثورًا يستمر هذه المدة كلها يهاجم بلا توقُّف وبلا إجهاد يجبره على الاستسلام. وكذلك لم يحدث أن بقي مصارع وقتًا طويلًا كهذا حافظًا لقوته وخِفَّته وتوازنه.
وكأنما الخاطر كان يدور في العقول كلها في آنٍ واحد؛ إذ بلا مناسبة ومن غير داعٍ ودون أن يحدث في المعركة ما يستحق، دوَّت «الأرينا» كلها وفي وقتٍ واحد بموجة تصفيق مرتفعة مدوِّية تحس أنها ليست مُوجَّهةً إلى طرفٍ دون طرف، إنها موجَّهة للاثنَين معًا تحيِّيهما وتحيِّي معهما البطولة التي جاوزا بها الحد المتعارف عليه؛ إذ لولا صمود كل منهما ما ظفر الآخر. موجة تصفيق ما لبث أن انحسرت وانتهت.
ففي تلك اللحظة انزلقت قدم الميتادور وسقط على الأرض، في نفس الوقت الذي كان الثور فيه يستدير ليواجهه.
وكعربات النجدة السريعة اندفع المصارعون المختبئون خلف العوارض الخشبية.
وتحرَّك الفرسان نحو باب الدخول، وطار إلى جزء السور القريب من المعركة صبيان الملعب بالحراب الطويلة.
وكانت قلوبنا — نحن الملاصقين للمعركة — تقفز من صدورنا إلى الساحة حيث تمنع الكارثة.
ولكن صاحبنا كفى الجميع مئونة أية خطوة أو إجراءٍ آخر؛ فما كاد يسقط ويلامس جسده الأرض حتى كان قد اعتدل، والوقت كان كافيًا أمامه ليقف ويواجه الثور المقبل على قدمَيه، ولكنه شاء لست أدري لمَ، ربما ليزيل من النفوس لمحة الإشفاق التي صاحبت سقوطه، وربما ليستأنف المصارعة لا على نفس المستوى الذي سقط عنده، وإنما على مستوًى أعلى وكأنما ليجعل من السقطة إلى أسفل سقطةً إلى أعلى؛ ليمضي صاعدًا باستمرار في أعين جمهوره.
شاء أن يواجه الثور وهو على ركبتَيه نصف واقف.
ولكنه لم يجلب لنفسه سوى اللعنات، وما أغرب هذا الجمهور الذي يظل يطالب ويُلح في المطالبة بالمواقف الخطرة! الجمهور الذي يحرِّض على اقتحام الخطر هو نفسه الذي يستنكر أن يقوم صاحبنا بحركة خطرة كهذه، ولكن يبدو أن الفترة التي قضاها صاحبنا يصارع ذلك الثور الجهنمي، ويُبدي في صراعه آياتِ بطولة حقيقية دون أن ينتظر أحدًا ليحرِّضه على اقتحام المخاطر إنما هو من تلقاء نفسه يقتحمها ليخرج منها سليمًا ظافرًا، هذا كله جعل الجمهور يؤمن أنه أمام بطل حقيقي من أبطال المصارعة، أمام بطل نادر، بطل لم يحظَ بإعجابه فقط، ولكن ها هي ذي اللعنات التي ننصب عليه تُثبت أنه ظفر أيضًا بما هو أصعب من الإعجاب بكثير، بالحب؛ حب الجمهور له، الحب الذي وصل إلى درجة الإحساس بالتملُّك والحرص؛ فها هو الجمهور الذي يحرِّض المصارعين الذين لا يعرفهم على تعريض أنفسهم للخطر مع احتمال أن يذهبوا ضحيةً سهلةً للتحريض، ها هو نفسه أصبح يحافظ على صاحبنا ويقلق على مصيره ويحرِّضه هذه المرة على المحافظة على نفسه.
استنتاج دفعني بنوع من الزهو؛ فها هو الشيء الذي قدَّرته من أول رؤيةٍ لصاحبي، هذا الشيء الذي ربطني به من أول دقيقة ودفعني من أول دقيقة أيضًا كي أتابعه وأقلق عليه وعلى مصيره، ها هو ذا تثبت صحته ويثبت أني كنت على حق. ها هي الخيوط، ثلاثون ألف خيط تمتد من ثلاثين ألف نفس وتربطهم به، ها هو الإحساس الذي كنت أُحسه وحدي يشاركني فيه آلاف، آلافهم جميعًا، حتى الفتاة الكوبية التي سوَّد دماءها منذ هُنيهة، ها هي ذي تبدو وكأنها نسيت كل شيءٍ أو غفرت وراحت باهتمامٍ يكاد يعدل اهتمام كافة البشر تتابعه وتجن قلقًا عليه.
كانت مواجهة الثور على تلك الصورة عملًا بطوليًّا حقيقة، ولكنه يتطرَّف ليصبح نوعًا من البطولة المبالغ فيها التي هي والحمق سواء بسواء. فالثور لم يكن منهكًا أو فاقدًا الكثيرَ من طاقته، والصراع كان يدور سجالًا بينهما بحيث يبدو ألَّا حلَّ للموقف إلا أن ينتهز أيهما أية فرصة أو ثغرة يقدِّمها الآخر، والركوع على الركب يعطي الفرصة كاملةً للثور، ويهبط بقدرة المصارع إلى ما دون النصف بكثير، وهي حركة لا يجرؤ المصارعون على القيام بها إلا قرب نهاية النهاية، وحين يكون الثور قد أصبح قاب قوسَين أو أدنى من الموت تعبًا وإجهادًا.
وأقبل الثور بأسرع ممَّا يتوقَّعه أحد، وكأنما غذت سرعته فرحة القرب من لحظة الفوز، وبدا الموقف خطيرًا إلى أبعد درجات الخطورة، وكأنما الميتادور نفسه قد أدرك مدى خطورته وسخافة إقدامه على الحركة. وتصاعدت صيحات التحذير والتأوُّه والاستغاثة، ولمحت المئات يضربون جباههم بأيديهم تعاسةً ويأسًا وإحساسًا بالخسارة، ودقَّات القلوب، الثلاثون ألف قلب وهي تتلاحق وتتعالى مضت تنطق بما لم تكن الألسنة تجرؤ على البوح به بأنه ضاع وانتهى؛ إذ أين المفر؟ وكيف النجاة؟ والثور ينقَض ولا وقت للعدول عن الحركة ولا وقت للوقوف ولا أمل في النجاة.
شيءٌ واحدٌ فقط يطمئنني، أن إلهامي لم يهمس لي أنه سيموت.
دليل تافه وغير علميٍّ وسخيف، ولكنه كان كل ما لديَّ في تلك اللحظة لأتمسَّك به.
وانقضَّ الثور على العباءة محنيًا رأسه.
وانثنى الشاب بآخر ما يستطيع من مدى إلى ناحية انثناءة جعلت ساقه اليسرى تستقيم.
وهكذا مرَّ الثور هذه المرة دون أن يصيبه بأذًى.
ولكن هذا كان أمرًا شبه متوقَّع؛ فالخطورة في الحركة التالية حين يستدير الثور في طرفة عين ويُقبل مهاجمًا من الناحية الأخرى؛ إذ حينئذٍ سيأتي الهجوم من ناحية ظهره بينما هو راكع على الأرض غير قادر على الحركة أو الاستدارة. إن الرد الوحيد أن يقف ويستدير ويواجهه ليستطيعَ أن يحدِّد اتجاه هجومه ويتنحَّى عنه، ولكنه ردٌّ مستحيل؛ فالوقت الذي سيأخذه للقيام بكل هذه الحركات أضعاف الوقت الذي سيستغرقه الثور للاستدارة والهجوم.
هكذا كان يبدو الأمر للجمهور، وهكذا حدث لنا ذلك الصمَم الغريب وكأن الآذان نُفخت بهواءٍ ساخنٍ مضغوط.
ولم نعرف، ويبدو أننا لن نعرف إلى الأبد كيف حدث هذا؛ إذ في نفس اللحظة التي كان الثور يستدير فيها كان الميتادور الشاب قد وقف على ساقَيه. وهكذا حين أقبل الثور مهاجمًا وجد أمامه المصارع محدِّدًا خط هجومه مستعدًّا للتنحي في الوقت المناسب. خُيِّل إليَّ أنه في تنحية الأول حين استقامت ساقه اليسرى وقد مرَّ الثور ارتكز على اليمنى وحشد كل قواه حتى ارتفعت به عضلاتها وكأنها آلة رافعة إلى مستوى الوقوف. ولكنه مجرَّد فرض؛ فالقيام بحركة كهذه في حاجة إلى قوة عظمى تسري في الساق في تلك اللحظة، قوة خارقة كالمعجزة لا يمكن لإنسان ما مهما بلغت قوة إرادته أن يستحضرها، لا بدَّ لها أن تأتي إن كانت ستجيء من تلقاء نفسها، كأي معجزة لا تواتي الإنسان إلا في حالة الضرورة الحيوية القصوى التي يستدعيها لانتشال نفسه من لحظة موت مؤكَّدة.
ولم تجتح «الأرينا» كما توقَّع الجميع موجةُ تصفيقٍ عارم، لم يتصاعد هتاف فالناس تصفِّق وتهتف للبطولة، أمَّا المعجزة فالرد الوحيد عليها هو الانبهار والذهول.
واستمرَّت الميوليتا.