الفصل الرابع عشر
في تلك اللحظات، وبخطوات لا حماس فيها، وبرعب، تقدَّم مصارع آخر، ذلك الذي فشل في قتل ثوره الأول الذي كانوا يسمُّونه البرتغالي. تقدَّم من الثور ومعه العباءة والسيف وقبل أن يتوسَّط الساحة كان الأخير قد انطلق نحوه مهاجمًا.
ومع أني ظَلِلت مشدودًا بكلي إلى الصراع الأكبر داخل حجرة المستشفى، إلا أنه رغمًا عني وبحكم وجودي وسط تلك الكتلة الحية الضخمة التي تُكوِّن جماهير «الأرينا» وجدت نفسي أتابع بإهمال شديد وبلا حماس، لا ما يدور في الدائرة الرملية ولكن ما يحدث للجماهير؛ إذ كان ما يحدث شيئًا لم أستطِع تصديقه ولا استطاع عقلي إلى الآن هضمه واستيعابه، بالتأكيد هم لم يُولوا المحاورة الدائرة في الساحة أول الأمر اهتمامًا يُذكر، ولكن بعد دقائق قليلة كان قد بدأ اهتمام، وبعد دقائق أقل كان الاهتمام قد استحوذ على عقولهم تمامًا، ولم تكد تمضي خمس دقائق حتى تصاعدت أول «أوليه». كدت أقف صارخًا محتجًّا لاعنًا هذا الجمهور الجاحد مطالبًا إياه بالعودة لتركيز إرادته وهلعه وانتباهه مرةً أخرى إلى الشاب الراقد في الداخل يصارع الموت من أجلهم، ولكن حتى لو كنت قد وقفت وصرخت ومزَّقت نفسي لَمَا كان لِمَا أفعله أثر، لكأني كنت أريد أن أقف بجسدي لأمنع ماء البحر من التدفُّق، أو لأوقف موجه العاتي، لأرغمه أن يهدأ حدادًا على سفينتي الغارقة. إن السكون حدادًا معناه الموت، والحياة والبحر والموج لا بد أن تستمر؛ ولهذا كان لا بد أيضًا أن تستمر المصارعة وتستمر الصيحات تتعالى، ويستمر الصراع يمتص انتباههم؛ فقد كانوا هم الآخرون لا يزالون أحياء. صحيح كان الحقد الهائل لا يزال ينصب على الثور، وصحيح كان جزء كبير من المتابعة هدفه أن يشهد كلٌّ منهم في النهاية بعينَيه مصرع ذلك الذي صرع بطله وحبيبه، ولكن هذا لم يمنع أنه في سبيل تلك المتابعة نسي تمامًا بطله وحبيبه.
ومع أني كنت أُتابع فقط بحكم الوجود والعدوى وبلا إرادة، إلا أن ما استرعى انتباهي حقيقةً هو الرعب العظيم الذي كان مسيطرًا على «البرتغالي»، والحقد العظيم أيضًا. كانت عمليةَ أخذٍ بالثأر أكثر منها مصارعة. كان ثمة دم قد سال ولم تعد المسألة رياضةً أو إثارة. هكذا في النهاية انكشفت اللعبة على حقيقتها العارية المجرَّدة، وأصبحت عملية قتل، إمَّا قاتل أو مقتول، هكذا بلا مواربة أو إخفاء للنوايا أو استعراض.
ومات الثور في النهاية. مات دون طعنة واحدة أصابته من البرتغالي. فجأةً توقَّف عن جريه هُنيهةً ما لبث بعدها أن سقط كتلةً واحدةً على جانبه رافعًا ساقَيه في الهواء، لافظًا أنفاسه لا بد بتأثير الطعنة التي كالها له الميتادور الأول، والتي كانت السبب في هياجه ومصرعه.
وبقلب مُفعم بالمرارة والدهشة رُحت أتابع عودة الاهتمام بالبطل الصريع في فترة الاستراحة، والمحاولات الكثيرة التي بُذلت لمعرفة مدى إصابته. وتلفَّت، كانت الفتاة قد اختفت ولم أستطِع أن أقطع إن كانت قد مرَّت أمامي في طريقها للخروج، ولكني أحسست لاختفائها بنوعٍ من عرفان الجميل؛ فعلى الأقل في وسط الجمهور المتوحِّش الحاشد ها أنا ذا أعثر على إنسانة.
ولم تُسفر محاولات الاستفسار عن جديد. كان جميع الواقفين أمام الباب المنخفض يكتفون بهز الرءوس وزم الأفواه في صمت مبيت حزين.
وحين بدأ الدور الثاني وانتهت الاستراحة، خُيِّل إليَّ من الأصوات الكثيرة التي بدأت تتصاعد من «الأرينا» والزعيق والتحفُّز الذي قوبل به دخول الثور أن الحادث قد خفَّت حدته كثيرًا، وأن بعضهم لا بد قد نسيه، وآخرين لا بد قد أرغموا أنفسهم على نسيانه؛ ربما لكيلا تُفسد ذكراه تمتُّعهم الكثير المقبل، غير أني كنت على يقينٍ أنهم إنما يفعلون هذا بقشرة وعيهم الممتدة فوق السطح، أمَّا من الداخل فهم أبدًا لم ينسَوا ولن ينسَوا.
وابتدأ الشوط وانتهى، وكذلك بدأ الثالث، وفي لحظة خُيِّل إليَّ أن أحدًا من الجمهور لم يَعُد يذكر الشاب الصريع؛ فمن أعماقهم كانوا يتابعون الأشواط، وبكلِّ ذرةٍ من كِيانهم أصبحوا يلوِّحون ويهتفون، وكذلك قُل إلى درجة الانعدام الكامل عدد الواقفين أمام الباب المنخفض.
وبمصرع الثور الثالث وبلا أحداث أخرى انتهت الفييستا، وبدأ الناس، أقلية قليلة تتسابق للخروج، والأغلبية تتلكَّأ وقد عاد الحديث عن الميتادور الصريع، وكله بالطبع أسف وحسرة وتذكُّر لمواقفه وشجاعاته.
وعند الباب العاشر، أقرب باب إلى حجرة المستشفى، تجمَّع جمهور حوالي الخمسمائة أو أكثر قليلًا يهدفون أن يرَوا الميتادور حين تُقبل عربة الموتى وتنقله؛ فإلى تلك اللحظة لم يكن الباب قد فُتِح ولا تسرَّب عنه خبر.
وأخيرًا فيما يشبه الموجة انتشر بين الواقفين خبر؛ إذ كان الباب قد فُتح وأطلَّ منه رأس. الخبر كان أنه لا يزال حيًّا وإن كان يعاني من صدمة شديدة، وإن كان قد أُصيب بسبعة جروح وكسر وتهتُّك. وما كاد الخبر ينتشر حتى كان قد انصرف لسماعه نصف الواقفين، وبدأ الازدحام يخف ولم يصبح ثمة واجب كثير أمام عساكر البوليس الإسباني الخيالة الذين كانوا يتولَّون المحافظة على النظام.
وما كادت ربع ساعة أخرى تنقضي حتى كان قد انصرف أغلب الواقفين، ولم يَعُد سوى بعض المتسكِّعين وبعض من لا عمل وراءهم أهمَّ من مشاهدة خروجه.
وهنا وفي تلك اللحظة فقط لمحت الفتاة الكوبية واقفةً بجوار أحد العمدان وبصرها مسدَّد إلى الباب، وهي دائبة النظر إلى ساعتها.
ودون أن أفكِّر كثيرًا ذهبت إلى حيث تقف، وبلهفة قابلتني أنا الذي خفت أن تُشيح بوجهها عني وسألتني وذكرتُ لها ما سمعت، ولم يزِد ما ذكرته أو يقلِّل من لهفتها وتطلُّعها واضطرابها.
وفي الدقيقة التي مضت على وقوفي معها رأيتها تتطلَّع مرتَين إلى الساعة.
وحتى قبل أن أسألها أجابتني أنها للحظ السيئ لا بدَّ أن تسافر الليلة إلى لشبونة وأن طائرتها ستغادر المطار في الثامنة، وأنها لا بد أن تذهب قبل هذا لفندقها والساعة كانت السابعة إلا ربعًا. كانت حالتها تدعو للرثاء حقًّا، تمد رأسها إلى آخر ما تستطيع ناحية الباب العاشر، ثم ترتَد إلى باب المستشفى ومنه إلى الساعة، ثم إلى السيجارة تمتص دخانها بقوة وكمد وشراهة.
واندفعَت مرةً مسرعةً إلى باب الخروج، ولكنها بعد بضع خطوات توقَّفت وعادت إلى حيث كانت واستجمعت يدها ودقَّت العمود بقبضتها دقةً رنَّ لها خاتمها رنينًا مكتومًا وسقط فصه. وبضيق أشد تناولَته وقذفته بقوة داخل حقيبة يدها.
وتمنَّيت أن تبكي ولكنها لم تفعل، وحينئذٍ قلت لها لماذا لا تذهب وتلحق بطائرتها؟ وهنا وفي ضوء الشمس المتبقية من العصر لمحتُ عينَيها تحمرَّان — فقط كان احمرارًا — واختنق صوتها وهي تقول: مَن تظنني؟
وآثرت أن أسكت.
وظهرت عربة الإسعاف عند الباب، وجذبت من صدرها نفَسًا عميقًا وألقَت بسيجارتها. وعلى أطراف أصابعها شبَّت لتستطيع أن ترى عبر الرءوس الكثيرة التي تجمَّعت لا تدري من أين. وقفت لتشهد عملية نقله إلى العربة.
غير أنه لا هي ولا أحد من أصحاب الرءوس وصاحباتها أُتيح له أن يشهد شيئًا؛ فقد فُتح باب حجرة المستشفى ودخلت العربة إلى منتصفها، وظلَّت عشر دقائق على وضعها ذاك، ثم مضت مغبَّشة الزجاج لا يرى خلاله أحدٌ شيئًا.
ولا أعرف إن كانت الغمغمة التي وصلتني وهي تندفع خارجةً في أعقاب العربة كلمةَ وداع.
ولكنها في لمح البصر قد اختفت.
وبخطوات مثقلة وكأنما بحديد مضيت إلى الخارج. وكنت أحسب المصارعين أناسًا يحيَون بين العربات الفاخرة والسهرات والفيللات؛ فقد فجعت حقيقةً وأنا أرى بعد عربة الإسعاف بدقائق سيارتَين من سيارات التاكسي قد وقفتا أمام الباب وشُحن فيها المصارعون وصبيانهم كل ستة في عربة، واعتقدت أنهم ذاهبون لا بدَّ إلى المستشفى، وخطر لي أن أستقلَّ عربةً وأتبعهم لأعرف أي مستشفًى هو، لكن الفكرة بدت لي في لحظتها شاذة وغير معقولة.
وأنا في الطريق من الحلبة إلى الشارع الرئيسي المؤدِّي إلى وسط المدينة وجدتني وجهًا لوجه أمام عوض، كنت قد تركته في المغرب وها هي الصدف المحضة تجمَّعنا في مدريد.
ولو كنت قد قابلته في فرصة أخرى لفرحت للقائه كما لم أفرح في سفرتي كلها؛ فليس أحبَّ إلى قلب الإنسان من أن يصادف صديقًا في غربة، فما بالك إذا كان الصديق عوض أخفَّ أهل الأرض دمًا وأكثرهم مرحًا وتفتُّحًا للحياة واستمتاعًا بها. إذا غصت معه إلى الأعماق غاص معك وإن شئت أن تعبث وتطفو إلى السطح سبقك.
سألني عمَّا بي وقد رآني واجمًا، ولكني لم أستطِع إجابته فالحقيقة لم أكن أعرف.
وابتلعتنا مدريد الهائلة بشوارعها وأناسها وسياحها وأمسيتها تلك وليلتها. ولم أستطِع أبدًا أن أنسى، بل كان يحز في نفسي أن كل هؤلاء الناس لا يذكرون أن عوض مرح، وأنه يعتبر مصارعة الثيران عملًا وحشيًّا لا يليق بعالم اليوم، عالم القرن الحادي والعشرين.
وافترقنا في الثانية صباحًا على موعد أن ألقاه في الصباح.
وحين أصبحت وحدي في الحجرة الضيِّقة التي عثرت عليها في ازدحام فنادق مدريد بمثل ما تعثر على الإبرة في كومة القش، حجرة مليئة بصور القديسين، وهناك صورةٌ كبيرةٌ نوعًا للعذراء أسفلها مصباح كهربائي، ولكن بلاتينه الداخلي يضيء بنورٍ أحمر خافت على هيئة صليب، جعل حركة رسم الصليب قبل الدخول إلى الساحة تعود تدق على ذاكرتي وتدق. حين احتوتني الحجرة شعرت برغبة في البكاء، رغبة لا علاقة لها البتة بحادث اليوم، ولكنها مجرَّد شجن خاص وضيق. ولكنني استسخفت الرغبة، بل استسخفت المسألة كلها. ما هذا الجنون؟ ولماذا أحمل وحدي تلك الجنازة السوداء الخانقة في صدري؟ وهل أنا مسئول عن أرواح الناس وما يحدث لهم؟ وماذا كان باستطاعتي أن أفعل ولم أفعله لأوقف الكارثة؟
إن ما حدث قد حدث، وإذا كان الناس قد نسوه وتفرَّقوا بعد الاحتفال إلى لهوهم وحياتهم، بينما مضت به وحده عربة الإسعاف بين الموت والحياة إلى المستشفى؛ فتلك هي لا بد سُنَّة الناس هنا، بل هي سُنَّة الحياة! فليس مفروضًا أن تتوقَّف لأن أحدهم مات أو أصيب ولو كان الميت بطلًا.
خواطر وردود على الخواطر كنت أقولها لنفسي محاولًا أن أُبعد شبح ما حدث عن تفكيري، محاولًا أن أُبعد هذا الإنسان النحيف الرقيق عن وعيي بلا جدوى، كانت الصور تعود وتُصر على العودة كنُتَف متفرِّقة من فيلم طازج لا تزال عالقةً به أملاح التحميض، ونمت.
وفي الصباح صحوت، وكان أول ما فعلته بعد تناول الشاي في المقهى القريب أني اشتريت الجرائد ورحت أقلِّب صفحات أُولاها إلى أن وصلت إلى ما خُيِّل إليَّ أنه صفحة الرياضة، وأنا لا أعرف الإسبانية، ولكني من جذورها المشتركة مع الإنجليزية والفرنسية استطعت التعرُّف على الخبر. كان في ركن من الصفحة بعنوان على ثلاثة أعمدة ولم أجد فيه ذكرًا لكلمة الموت.
وفي جريدة ثانية كان الخبر منشورًا على عمود في الصفحة الأولى ومعه صورة، ومرةً أخرى عاودتني خيبة الأمل. كنت أتوقَّع أن أصحو فأجد الخبر قد عمَّ المدينة، ولا حديث للناس والجرائد إلا عنه، وها هم أناس يزدحم بهم المقهى يتناولون إفطارهم في صمت جاهل وقور.